مستند الشّيعة - ج ١٥

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٥

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-041-2
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٩٠

معناه الأصلي كما عرفت ، حتى تكون الثلاثة أقرب إليه من الواحدة ، وإطلاق بعض الفقهاء لا يجدي نفعا ، ونحن لا نقول ، : إنّ العصير حقيقة في العنبي خاصّة وضعا أوليّا أو ثانويّا ، ولا إنّه مستعمل فيه كذلك ، بل نقول : إنّا نعلم أنّه موضوع أو مستعمل في معنى يصدق على العنبي قطعا ، ولا نعلم غيره.

وممّا ذكرنا يظهر دفع بعض ما قيل في ذلك المقام من أنّ اختصاصه بالعنبي يحتاج إلى هجر غيره وهو غير معلوم ، أو إلى ارتجال وعدمه معلوم ، وأنّه لو سلّم أحدهما فأصالة تأخّر الحادث تقتضي تأخّره عن صدور الروايات ، ونحو ذلك ممّا لا يصلح للركون إليه بعد ما ذكرنا ، وإن صلح بعضها لتأيّد بعض المطالب لو تمَّ أصلها ومبناها.

ومنها : ما دلّ على حرمة كلّ شراب لم يذهب ثلثاه‌ ، كصحيحة علي : عن الرجل يصلّي إلى القبلة لا يوثق به أتى بشراب زعم أنّه على الثلث فيحلّ شربه؟ قال : « لا يصدّق إلاّ أن يكون مسلما عارفا » (١) ، وروى مثله في قرب الإسناد (٢).

وموثقة الساباطي : عن الرجل يأتي بالشراب فيقول : هذا مطبوخ على الثلث ، فقال : « إن كان مسلما ورعا مأمونا فلا بأس أن يشرب » (٣).

والجواب عنه ـ مضافا إلى ما مرّ من إيجابه تخصيص الأكثر لو جعل من باب العموم والخصوص ـ أنّ الأولى غير دالّة على عدم جواز التصديق ،

__________________

(١) التهذيب ٩ : ١٢٢ ـ ٥٢٨ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٤ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٧ ح ٧.

(٢) قرب الإسناد : ٢٧١ ـ ١٠٧٨ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٤ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٧ ح ٧.

(٣) التهذيب ٩ : ١١٦ ـ ٥٠٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٤ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٧ ح ٦.

٢٠١

لمكان الجملة الخبريّة.

ولو سلّم فغايته عدم التصديق في الطبخ على الثلث ، وهو لا يستلزم التحريم ، إذ لعلّه للحكم بالكراهة ـ كما حكي عن جماعة ـ فلا يجوز الحكم بالإباحة بالمعنى الخاصّ.

وهما معارضتان مع الأخبار الكثيرة الدالّة على اعتبار قول ذي اليد ، وائتمان الصانع في عمله ، وجواز الأخذ من سوق المسلمين ، وعدم وجوب التفتيش والسؤال (١) ، ونفي الحرج في الدين (٢) ، بل لإجماع المسلمين ، حيث يأخذون الدبس في الأسواق خلفا وسلفا ، مع أنّ صنّاعه غالبا ليسوا ورعين مأمونين ، ولا يتفحّصون عن حال الصانع.

وأمّا ما حكي عن جماعة من أصحابنا ـ من عدم جواز أخذ العصير من المتّهم باستحلاله قبل التثليث ـ فهو مخصوص بالمتّهم بالاستحلال لا مطلقا ، كما هو مورد الروايتين ، وسائر الأخبار الواردة في الباب أيضا مخصوص بالمستحل ، فالروايتان مطروحتان من هذه الجهة.

وكذا تعارضان بمثل رواية مولى حرّ بن يزيد : إنّي أصنع الأشربة من العسل وغيره وأنّهم يكلّفونني صنعتها فأصنعها لهم ، فقال : « اصنعها وادفعها إليهم وهي حلال من قبل أن يصير مسكرا » (٣).

هذا كلّه مع أنّ السؤال والجواب في الروايتين مسوقان لحكم قبول قول مثل ذلك الشخص وعدمه ، دون حكم اشتراط ذهاب الثلاثين وعدمه ،

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٩٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٧ ، وص ٣٨١ ب ٣٨ ح ٣ ، الوسائل ٣ : ٤٩٠ أبواب النجاسات ب ٥٠.

(٢) الحجّ : ٧٨.

(٣) التهذيب ٩ : ١٢٧ ـ ٥٤٨ ، الوسائل ٢٥ : ٣٨١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣٨ ح ٣.

٢٠٢

ومثل ذلك لا يفيد في إطلاق حكم الشراب عند جمع من المحقّقين.

وأيضا إنّا نعلم قطعا أنّ علي بن جعفر وعمّار الساباطي كانا يعلمان أنّ الشراب على قسمين : قسم تتوقّف حلّيته على ذهاب الثلاثين ، وقسم لا تتوقف ، فسؤالهما إنّما هو عن القسم الأول قطعا ، يعني : أنّ الشراب الذي تتوقف حلّيته على ذهاب الثلاثين هل يكفي قول ذي اليد فيه ، أم لا؟

فلا عموم في الروايتين.

ومنها : عموم مفهوم قوله : « ما طبخ على الثلث فهو حلال » في رواية عقبة بن خالد : في رجل أخذ عشرة أرطال من عصير العنب فصبّ عليه عشرين رطلا من ماء ، ثمَّ طبخها حتى ذهب منه وبقي عشرة أرطال ، أيصلح شرب ذلك أم لا؟ فقال : « ما طبخ على الثلث فهو حلال » (١).

وجوابه : ما مرّ من لزوم تخصيص الأكثر ، بل هنا أشدّ ، لعدم اختصاصه بالشراب والعصير.

هذا ، مضافا إلى منع العموم في المنطوق ، لظهوره في عصير العنب الذي هو مورد السؤال ، ومنع حجّية ذلك المفهوم ، الذي هو مفهوم الوصف.

ومنها : الأخبار الواردة في بيان ما يحلّ من النقيع والنبيذ وما يحرم منهما‌ ، وأنّ الذي يحلّ هو ما ينقع غدوة ويشرب عشيّة أو بالعكس.

كصحيحة الجمّال : أصف لك النبيذ ، فقال عليه‌السلام لي : « بل أنا أصفه لك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مسكر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام » فقلت : هذه نبيذ السقاية بفناء الكعبة ، فقال عليه‌السلام لي : « ليس هكذا كانت‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢١ ـ ١١ ، التهذيب ٩ : ١٢١ ـ ٥٢١ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٨ ح ١.

٢٠٣

السقاية ، إنّما السقاية زمزم ، أفتدري من أول من غيّرها؟ » قال : قلت : لا ، قال : « العبّاس بن عبد المطّلب كانت له حبلة ، أفتدري ما الحبلة؟ » قلت : لا ، قال : « الكرم ، كان ينقع الزبيب غدوة ويشربونه بالعشي وينقعه بالعشي ويشربونه من الغد ، يريد أن يكسر غلظ الماء عن الناس ، وإنّ هؤلاء قد تعدّوا فلا تشربه ولا تقربه » (١).

وحسنة حنّان : ما تقول في النبيذ؟ فإنّ أبا مريم يشربه ويزعم أنّك أمرته بشربه فقال : « صدق أبو مريم ، سألني عن النبيذ فأخبرته أنّه حلال ولم يسألني عن المسكر » إلى أنّ قال : هذا النبيذ الذي أذنت لأبي مريم أيّ شي‌ء هو؟ فقال : « أمّا أبي عليه‌السلام فإنّه كان يأمر الخادم فيجي‌ء بقدح ويجعل فيه زبيبا ويغسله غسلا نقيّا ثمَّ يجعله في إناء ثمَّ يصبّ عليه ثلاثة مثله أو أربعة ماء ثمَّ يجعله بالليل ويشربه بالنهار ويجعله بالغداة ويشربه بالعشي ، وكان يأمر الخادم بغسل الإناء في كلّ ثلاثة أيّام لئلاّ يغتلم ، فإن كنتم تريدون النبيذ فهذا النبيذ » (٢).

ورواية أيّوب بن راشد : عن النبيذ ، فقال : « لا بأس به » فقال : إنّه يوضع فيه العكر ، فقال عليه‌السلام : « بئس الشراب ، ولكن انبذوه غدوة واشربوه بالعشي » قال : فقال : جعلت فداك هذا يفسد بطوننا ، قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « أفسد لبطنك أن تشرب ما لا يحلّ لك » (٣).

دلّت تلك الروايات على أنّ الذي يحلّ من النقيع والزبيب هو ما ينقع‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٠٨ ـ ٧ ، التهذيب ٩ : ١١١ ـ ٤٨٤ ، الوسائل ٢٥ : ٣٣٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٧ ح ٣.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٥ ـ ١ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٢ ح ٥.

(٣) الكافي ٦ : ٤١٥ ـ ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٧٤ أبواب الأشربة المباحة ب ٣٠ ح ١.

والعكر : درديّ الزيت ودرديّ النبيذ ونحوه مما خثر ورسب ـ مجمع البحرين ٣ : ٤١١.

٢٠٤

عشيّة ويشرب غدوة أو بالعكس ، وأنّ ما عدا ذلك حرام ، وظاهر أنّ مضيّ هذه المدّة لا يقتضي تحريما ، فهو إمّا لكونه مظنّة للنشيش والغليان ، أو لحصول الإسكار ، وبمجرّد هذا المكث لا يحصل إسكار بيّن ، فوجب كونه للنشيش ، فإنّه كثيرا ما يحصل معه ذلك في البلاد الحارّة.

والجواب عنه :

أولا : أنّ غاية ما تدل عليه تلك الأخبار أنّ ما ينقع غدوة ويشرب عشيّة أو بالعكس فهو حلال ، وأنّ ما عدا ذلك حرام مطلقا ، فلا تدلّ عليه بوجه.

فإنّ الأولى تدلّ على أنّ ما تعدّوا فيه هؤلاء فهو حرام ، وأمّا أنّ تعدّيهم في أيّ شي‌ء وبأيّ قدر فلا. قال في الوافي : إنّ الجبابرة تعدّوا وغيّروه بإكثار الزبيب والتمر فيه ، وإطالة مدّة النقع ، حتى صار نبيذا مسكرا (١).

فيمكن أن يكون تعدّيهم إلى حدّ الإسكار.

وأمّا ما ذكره بعض مشايخنا في رسالته المعمولة في هذه المسألة ، من أنّه لا يمكن أن يكون ذلك التعدّي بالغا حدّ الإسكار ، إذ من المستبعد جدّا ـ بل المستحيل عادة ـ تظاهر الناس بشراب النبيذ المسكر في زمن الصحابة والتابعين في المسجد الحرام بفناء الكعبة مع فتاوى الفقهاء وأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحظر ، وأنّ ما يسكر كثيره فقليله حرام.

ففيه ـ مع أنّه لم يكن في زمن الصحابة بل ولا التابعين إلاّ ما شذّ منهم وندر ، ومع أنّهم قد تظاهروا على أمور كثيرة هي أشدّ ممّا ذكر وأشنع‌

__________________

(١) الوافي ٢٠ : ٦٢٦ أبواب المشارب ب ١٥٦.

٢٠٥

وأفضح ـ : أنّه يظهر من أخبارنا أنّهم كانوا متظاهرين بشرب النبيذ المسكر ، ففي رواية عمرو بن مروان : إنّ هؤلاء ربّما حضرت معهم العشاء فيجيئون بالنبيذ بعد ذلك فإن أنا لم أشربه خفت أن يقولوا : فلانيّ ، فكيف أصنع؟ قال : « اكسره بالماء » قلت : فإذا أنا كسرته بالماء أشربه؟ قال : « لا » (١).

ولعلّ معنى جزئه الأخير : إنّي إذا كسرته أشربه مطلقا ولو من غير ضرورة أيضا. وظاهر أنّ المراد بكسره : كسر شدّته وإسكاره ، كما صرّح به في أخبار أخر ، كرواية عمر بن حنظلة (٢) ، ورواية كليب الآتية.

ويظهر من قوله : خفت أن يقولوا : فلانيّ ، أنّ فتاوى فقهائهم أيضا كانت على الحلّية.

بل يظهر من أخبارنا أنّ من أصحابنا أيضا من كان يزعم حلّية النبيذ المسكر إذا انكسر سكره بالماء ، فيمكن أن يكون المتظاهر عليه في المسجد النبيذ المنكسر ، ففي رواية كليب : كانوا أبو بصير وأصحابه يشربون النبيذ يكسرونه بالماء ، فحدّثت بذلك أبا عبد الله عليه‌السلام ، فقال لي : « وكيف صار الماء يحلّل المسكر؟! مرهم لا يشربوا منه قليلا ولا كثيرا » قلت : إنّهم يذكرون أنّ الرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحلّه لهم ، قال : « وكيف كان يحلّون آل محمّد المسكر؟! » الحديث (٣).

ويظهر من بعض أخبارنا الأخر أنّهم كانوا يقولون بحلّية قليل ما يسكر كثيره ، فلعلّهم كانوا متظاهرين بشرب القدر الذي لا يسكر ، كما ورد‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٠ ـ ١٣ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٨ ح ٣.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٠ ـ ١٥ ، التهذيب ٩ : ١١٢ ـ ٤٨٥ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٨ ح ١.

(٣) الكافي ٦ : ٤١١ ـ ١٧ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٨ ح ٢.

٢٠٦

في رواية يزيد بن خليفة ، المتضمّنة لحكاية دعوة جماعة كلّ جمعة وشربهم النبيذ مصلّيا على محمّد وآل محمّد ، حتى بلغ ذلك أبا عبد الله عليه‌السلام ونهاهم لأجل أنّ ما يسكر كثيره فقليله حرام (١).

وفي صحيحة البجلي : إنّما سألتك عن النبيذ الذي يجعل فيه العكر فيغلي حتى يسكر ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مسكر حرام » فقال الرجل : أصلحك الله ، فإنّ من عندنا بالعراق يقولون : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما عنى بذلك القدح الذي يسكر ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إنّ ما أسكر كثيره فقليله حرام » (٢).

وفي رواية مسعدة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « كان عند أبي قوم فاختلفوا في النبيذ ، فقال بعضهم : القدح الذي يسكر فهو حرام ، وقال قوم : قليل ما أسكر وكثيره حرام » الحديث (٣).

وأمّا الثانية ، فغاية ما تدلّ عليه أنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يشرب نقيع الليل بالنهار وبالعكس ، ولا دلالة لها على انحصار الحلال في ذلك ، بل في العدول عن الجواب عمّا أذن فيه إلى بيان فعل أبيه عليهما السّلام دلالة واضحة على عدم الانحصار ، فإنّه لو كان يقول : إنّ المأذون فيه هو ذلك ، ربّما كان يوهم الانحصار.

وأمّا قوله : « فإن كنتم تريدون النبيذ » فلا يفيد الحصر ، بل مثل ذلك الكلام متداول في العرف في مقام التنبيه على فساد النيّة ، فإنّ من يريد‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١١ ـ ١٦ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٠ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٧ ح ٩.

(٢) الكافي ٦ : ٤٠٩ ـ ١١ ، الوسائل ٢٥ : ٣٣٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٧ ح ٧.

(٣) الكافي ٦ : ٤٣٠ ـ ٦ ، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٤٤ ، الوسائل ٢٥ : ٣٣٨ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٧ ح ٦.

٢٠٧

ابتياع فرس ويردّ ما يعرض عليه فيؤتى له بفرس حسن ، ويقال : إن كنت تريد الفرس الحسن فهذا الفرس الحسن ، وإن كنت تريد أمرا آخر فأنت وشأنك ، ولا دلالة لذلك على انحصار الفرس الحسن ، ومقصود الإمام : أنّه إن كنت تريد النبيذ الذي نحن نشربه أو ينفع بعد الطعام فهذا هو ، وإن كنت تريد أمرا آخر من نشاط وإطراب أو متابعة الناس في أنبذتهم فهو أمر آخر.

وأمّا الثالثة ، فغاية ما تدلّ عليه : أنّ في الأنبذة ما لا يحلّ شربه ، وظاهرها أنّ ما يوضع فيه العكر ، وسيأتي أنّه مسكر ، فلا يفيد.

وثانيا : أنّا لو سلّمنا النهي عن غير ما ذكر ولكنّه لا يعلم كونه لأجل الغليان ، فلعلّه كان لأجل الإسكار ، بل هو الظاهر من صدر صحيحة الجمّال وحسنة حنّان ، وأظهر منه قوله في حسنة أخرى لحنّان ـ بعد قوله : ويزعم أنّك أمرته بشربه ـ فقال : « معاذ الله أن أكون آمر بشرب مسكر » (١).

قول المستدلّ : مضيّ تلك المدّة لا يوجب إسكارا.

قلنا : إن أراد أنّه على سبيل الإطلاق لا يستلزم الإسكار فهو مسلّم ، ولكن الغليان أيضا كذلك ، فإنّ مجرّد مضيّ تلك المدّة لا يوجب الغليان ، سيّما في الخريف والشتاء ، سيّما في البلاد الغير الحارّة ، سيّما إذا كان الماء كثيرا وما نبذه فيه قليلا ، كما ذكر في حسنة حنّان (٢) : أنّ الماء أربعة أمثال الزبيب.

بل في رواية الكلبي النسّابة أكثر من ذلك بكثير ، وهي : عن النبيذ ، فقال : « حلال » قلت : إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر وما سوى ذلك ، فقال : « شه شه تلك الخمرة المنتنة » قلت : جعلت فداك فأيّ نبيذ تعني؟ فقال : « إنّ أهل المدينة شكوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغيّر الماء وفساد طبائعهم فأمرهم أن‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٠ ـ ١٢ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٢ ح ٣.

(٢) المتقدّمة في ص : ٢٠٤.

٢٠٨

ينبذوا ، فكان الرجل منهم يأمر خادمه أن ينبذ له ، فيعمد إلى كفّ من تمر ، فيلقيه في الشنّ ، فمنه شربه ومنه طهوره » فقلت : وكم كان عدد التمرات التي كانت تلقى؟ قال : « ما يحمل الكفّ » قلت : واحدة واثنتين؟ فقال : « ربّما كانت واحدة وربّما كانت اثنتين » فقلت : وكم كان يسع الشنّ ماء؟

قال : « ما بين الأربعين إلى الثلاثين إلى ما فوق ذلك » فقلت : بأيّ الأرطال؟

فقال : « أرطال بمكيال العراق » (١).

وإن أراد أنّه يمكن حصول الغليان بمضيّها ، فلا شكّ أنّ مجرّد الإمكان أو الحصول في بعض الأحيان لا يوجب التحريم المطلق ، مع أنّ الإسكار أيضا كذلك ، فإنّه ربّما يحصل بذلك الإسكار سيّما في الهواء الحارّ والإكثار في الزبيب أو التمر.

والظاهر أنّ التخصيص بما نقع أو نبذ غدوة وعشيّا لأجل أنّه مع فتح باب الإنباذ والنقيع مطلقا يؤدّي إلى ما يحصل معه المحرّم من الغليان أو الإسكار بتكثير المنقوع والمنبوذ وتطويل المدّة ، فلذا خصّ ذلك بالذكر ، ولا يعلم أنّه مظنّة التعدّي حتى يحصل الغليان ، بل لعلّه مظنّة التعدّي حتى يحصل الإسكار.

بل يظهر من بعض العامّة استلزام ذلك الغليان للإسكار ، فإنّه روى مسلم في صحيحه عن عائشة : إنّا كنّا ننبذ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غدوة فيشربه عشيّا ، وننبذه عشيّا فيشربه غدوة (٢).

وروى فيه أيضا عن ابن عبّاس : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينقع له‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٦ ـ ٣ وفيه : « ما بين الأربعين إلى الثمانين » ، الوسائل ١ : ٢٠٣ أبواب الماء المضاف ب ٢ ح ٢. والشنّ : القربة الخلق ـ مجمع البحرين ٦ : ٢٧٢.

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٥٩٠ ـ ٨٥.

٢٠٩

الزبيب ، فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ، ثمَّ يأمر به فيسقى أو يهراق (١).

قال ابن حجر بعد ذكر الروايتين : الشراب في المدّة التي ذكرتها عائشة يشرب حلوا ، وأمّا القضيّة التي ذكرها ابن عبّاس فقد ينتهي إلى الشدّة والغليان ، لكن يحمل ما ورد من أمر الخدم بشربه على أنّه لم يبلغ ذلك ولكن قرب منه ، لأنّه لو بلغ ذلك لأسكر ، ولو أسكر لحرم تناوله مطلقا ، وقد تمسّك بهذا الحديث من قال بجواز شرب قليل ما أسكر كثيره (٢). انتهى.

وأمّا جعل سبب النهي عن شرب ما مضت عنه أزيد من تلك المدّة الإسكار الخفيّ الغير البيّن ، وجعل كاشفة الغليان ، فهو ممّا لا يصلح الإصغاء إليه في الأحكام الشرعيّة.

ومنها : الأخبار المتضمّنة لحرمة النبيذ الذي يتحقق فيه الغليان مطلقا.

كمرسلة أبي البلاد : كنت عند أبي جعفر فقلت : يا جارية ، اسقيني ماء ، فقال لها : « اسقيه من نبيذي » فجائتني بنبيذ مريس (٣) في قدح من صفر ، قال : فقلت : إنّ أهل الكوفة لا يرضون بهذا ، قال : « فما نبيذهم؟ » قلت : يجعلون فيه القعوة ، قال : « ما القعوة؟ » قلت : اللاذي (٤) ، قال : « فما اللاذي؟ » فقلت : ثفل التمر يضرى به في الإناء حتى يهدر النبيذ ويغلي ثمَّ يسكن فيشرب ، فقال : « هذا حرام » (٥).

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ١٥٨٩ ـ ٨١.

(٢) فتح الباري ١٠ : ٤٧ وفيه : وأمّا الصفة التي ذكرها ابن عبّاس ..

(٣) في الكافي : من بسر. ومرست التمر وغيره : دلكته بالماء حتى تتحلّل أجزاؤه ـ مجمع البحرين ٤ : ١٠٦.

(٤) كذا في النسخ ، وفي الكافي والوسائل : الداذي.

(٥) الكافي ٦ : ٤١٦ ـ ٤ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥٣ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٤ ح ١.

٢١٠

وخبر إبراهيم بن أبي البلاد ، وفيه : فقال : « وما نبيذهم؟ » قال : قلت : يؤخذ التمر فينقى وتلقى عليه القعوة ، قال : « وما القعوة؟ » قلت : اللاذي (١) ، قال : « وما اللاذي؟ » قلت : حبّ يؤتى به من البصرة فيلقى في هذا النبيذ حتى يغلي ويسكن ثمَّ يشرب ، فقال : « هذا حرام » (٢).

والجواب عنه : أنّ النسخ في الحديثين مختلفة ، ففي طائفة منها : « ويسكر » بدل : « يسكن » فيخرج عن محل النزاع ، ومع الاختلاف لا يبقى الاعتماد على النسخة الأخرى ، مع أنّ في بعض الأخبار تصريحا بكون ذلك مسكرا ، كرواية عبد الله بن حمّاد المتقدّمة في أدلّة الحلّ (٣) ، وكصحيحة البجلي : عن النبيذ ، فقال : « حلال » فقال : أصلحك الله إنّما سألت عن النبيذ الذي يجعل فيه العكر فيغلي حتى يسكن ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مسكر حرام » (٤).

ومنها : الروايات الدالّة على أنّ ما يحصل من الكرم سواء كان عنبا أو زبيبا ثلثاه لإبليس ـ لعنه الله ـ لمنازعته مع آدم ونوح على نبيّنا وعليهما السّلام ، وأنّ ذلك علّة تحريم الثلاثين وتحريم الخمر.

كصحيحة زرارة (٥) ، وروايات سعيد بن يسار (٦) وأبي الربيع (٧) وخالد‌

__________________

والثفل : الدقيق والسويق وحثالة الشي‌ء ـ مجمع البحرين ٥ : ٣٢٩.

والضري : اللطخ ـ القاموس ٤ : ٣٥٧.

(١) كذا في النسخ ، وفي الكافي : الدازي ، وفي الوسائل : الدادي.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٦ ـ ٥ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥٤ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٤ ح ٣.

(٣) الكافي ٦ : ٤١٧ ـ ٧ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٤ ح ٦.

(٤) الكافي ٦ : ٤١٧ ـ ٦ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٤ ح ٥.

(٥) الكافي ٦ : ٣٩٤ ـ ٣ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٤ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٤.

(٦) الكافي ٦ : ٣٩٤ ـ ٤ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٤ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٥ ، في النسخ : سعد بن يسار ، والصحيح ما أثبتناه.

(٧) الكافي ٦ : ٣٩٣ ـ ١ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٢.

٢١١

ابن نافع (١) وإبراهيم (٢) المرويّة جميعا في الكافي ، وروايات محمّد بن مسلم (٣) ووهب بن منبّه (٤) وأبي الربيع (٥) المرويّة في العلل ، ورواية سعيد ابن يسار المرويّة في تفسير العيّاشي (٦).

وجه الاستدلال : أنّ المذكور في تلك الأخبار هو الحبلة والكرم وما في معناهما ، والمراد منها : ما يحصل منها دون نفس الشجرة ، كما يقتضيه تثليث الحاصل ، ولا ريب أنّ الحاصل يعمّ الزبيب أيضا.

والجواب عنه : أنّ الثلاثين اللذين هما نصيب الشيطان قد ذهبا في الزبيب بالجفاف فلا يبقى بعده.

والقول ـ بأنّ ذهاب الثلاثين المعتبر في حاصل الكرم إنّما هو بعد حصول الغليان المحرّم ـ فقد مرّ جوابه في طيّ أدلّة الحلّية.

والحاصل : أنّه إن أريد أنّ ذهاب ثلثي الشيطان يعتبر فيه ذلك فلا دليل عليه ولا تصريح به في تلك الأخبار ، بل [ مطلقا ] (٧).

نعم ، في رواية وهب بن منبّه : « فما كان فوق الثلث من طبخها فلإبليس وهو حظّه » ولكن الضمير في : « طبخها » لحبلة العنب أو لعصيرها ، فإنّهما المذكوران في الكلام ، وظاهر أنّه ليس المراد طبخ الحبلة ولا عصير الحبلة ، بل طبخ عنبها أو طبخ عصير عنبها ، فلا يشمل الزّبيب. وجعل المقدّر طبخ حاصلها أو عصير حاصلها لا دليل عليه ، مع أنّ العصير‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٣٩٣ ـ ١ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٢.

(٢) الكافي ٦ : ٣٩٣ ـ ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٣ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٣.

(٣) العلل : ٤٧٧ ـ ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ١٠.

(٤) العلل : ٤٧٧ ـ ٣ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ١١.

(٥) العلل : ٤٧٦ ـ ١ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٢.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٢٦٢ ـ ٤٠.

(٧) في النسخ : مطلق. والصحيح ما أثبتناه.

٢١٢

المطلق أيضا لا يعلم صدقه على المستخرج من الزبيب كما عرفت.

ومنه يظهر حال ما تضمّن لفظ العصير من تلك الأخبار ، كصحيحة زرارة.

والحاصل : أنّ تلك الأخبار بين أربعة أقسام : قسم يصرّح بذهاب الثلاثين بنار روح القدس ، وعدم فائدته للمخالف ظاهر.

وقسم يدلّ على أنّ الثلاثين مطلقا نصيب الشيطان ، وعدم دلالته على حال الزبيب ـ لكونه أنقص من الثلث ـ أيضا واضح.

وقسم يدلّ على حرمة عصير الحبلة ( أو عصير عنب الحبلة ) (١) بعد الطبخ قبل ذهاب الثلاثين.

وقسم يدلّ على حرمة مطلق العصير كذلك.

وحالهما أيضا قد ظهر.

وقد عرفت استدلال بعض المحلّلين على الحلّية بتلك الأخبار كما مرّ.

ومنها : الرضويّ المتقدّم في مسألة العصير العنبي ، الدالّ على أنّه إذا أصابت النار الكرم ـ أي حاصله ـ لا يحلّ شربه حتى يذهب ثلثاه (٢).

والجواب عنه ـ مضافا إلى عدم حجّيته ـ أنّه إذا لم يمكن إرادة نفس الكرم من ضمير أصابته فمن أين علم إرادة مطلق حاصله؟! بل لعلّه عنبه ، مع أنّه يظهر من بعضهم أنّ الكرم هو نفس العنب (٣) ، وهو الظاهر من‌

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « س ».

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٨٠ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٥.

(٣) الحدائق ٥ : ١٦٠.

٢١٣

صحيحة البجلي المتضمّنة لخمسة أقسام الخمر (١).

ومنها : رواية علي : عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه‌ ، ثمَّ يؤخذ ذلك الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث ، ثمَّ يرفع ويشرب منه السنة؟ قال : « لا بأس به » (٢).

قد ذكرها بعض مشايخنا في طيّ أدلّته ، ولا أرى لدلالتها وجها ، فإنّها إمّا لتقييد السؤال بالطبخ على الثلاثين ، أو لأجل نفي البأس في الجواب عن ذلك المقيّد فيثبت البأس فيما عداه بالمفهوم ، وضعف الوجهين في غاية الظهور.

أمّا الأول ، فلأنّه لا يتعيّن أن يكون تقييد السائل لاعتقاده الحرمة بدونه وأنّه لرفع الحرمة الحاصلة بالغليان ، فلعلّه لأجل حفظه في السنة ليصلح للمكث في تلك المدّة ولا يتسارع إليه الإسكار المستند إلى المائيّة المغيّرة ، بل الظاهر أنّه لذلك وأنّ السؤال باعتبار الشرب منه في السنة.

ولو كان لأجل رفع الحرمة الحاصلة بالغليان لما احتاج إلى سؤال ، إذ من يعلم أنّ العصير الزبيبي بالغليان يحرم حتى يذهب ثلثاه فيحلّ فمن أيّ شي‌ء يسأل؟! سيّما مثل عليّ بن جعفر ، الذي هو بمكان رفيع من فقه الأحكام ، ولو كان سمع الحرمة بالغليان ولم يسمع الحلّ بذهاب الثلاثين فمن أين قيّده بذلك؟! بل كان عليه أن يسأل عن كيفيّة حلّه ، وأيضا لو كان لذلك لما ذكر شرب السنة.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٣٩٢ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ١٠١ ـ ٤٤٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٧٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢١ ـ ١٠ ، التهذيب ٩ : ١٢١ ـ ٥٢٢ ، قرب الإسناد : ٢٧١ ـ ١٠٧٧ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٨ ح ٢.

٢١٤

والتخصيص بذهاب الثلاثين في عدم التغيّر في السنة ـ مع أنّه يحصل ذلك المطلوب بذهاب الأقل من الثلاثين والأكثر ـ فلعلّه لوقوع الطبخ على الثلاثين لأجل كراهته قبل ذلك.

واتّصال هذه الرواية في قرب الإسناد (١) بما مرّ في صدر الدليل الثاني من أدلّة المحرّمين وكونه سؤالا عن الحلّية لا يدلّ على أنّ ذلك أيضا كذلك ، لأنّ ذلك الاتّصال إنّما هو من الحميري دون علي ، ولو كان منه أيضا لا يفيده ، لأنّه مسألة أخرى.

والقول بأنّ مثل علي بن جعفر العارف بالأحكام لو لم يعلم أنّ هذا شرط في الحلّية لم يقيّده في سؤاله.

فيه : أنّه لو علم ذلك وعلم حصوله فمن أيّ شي‌ء سؤاله؟! سلّمنا أنّ تقييد السائل إنّما هو لذلك ، ولكنّه لا حجّيّة في اعتقاده ، وتقرير الإمام له لا يفيد ، إذ لا دليل على حجّية التقرير على مثل تلك الاعتقادات ، كما بيّنّا في الأصول.

وأمّا الثاني ، فظاهر جدّا ، لأنّ إرجاع الضمير إلى المسؤول عنه المقيّد لا يدلّ بوجه على التقييد في الجواب أصلا ، وقد وقع مثل ذلك السؤال والجواب بعينه في ماء السفرجل الذي لا يحرم بالغليان قطعا في رواية خليلان بن هشام ، فسأله عن ماء السفرجل يمزج بالعصير المثلّث فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه أيحلّ شربه؟ فكتب : « لا بأس به ما لم يتغيّر » (٢).

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٧١ ـ ١٠٧٧ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٨ ح ٢.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢٧ ـ ٣ ، الوسائل ٢٥ : ٣٦٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٩ ح ٣.

٢١٥

ومنها : الأخبار الواردة في بيان ما يحلّ من المعتصر من الزبيب بالخصوص وما لا يحلّ ، كموثّقة الساباطي : عن الزبيب كيف طبخه حتى يشرب حلالا؟ فقال : « تأخذ ربعا من زبيب فتنقيه ، ثمَّ تطرح عليه اثنى عشر رطلا من ماء ، ثمَّ تنقعه ليلة ، فإذا كان من الغد نزعت سلافته ، ثمَّ تصبّ عليه من الماء بقدر ما يغمره ، ثمَّ تغليه بالنار غلية ، ثمَّ تنزع ماءه فتصبّه على الماء الأول ، ثمَّ تطرحه في إناء واحد جميعا ، ثمَّ توقد تحته النار حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث وتحته النار ، ثمَّ تأخذ رطلا من عسل فتغليه بالنار غلية وتنزع رغوته ، ثمَّ تطرحه على المطبوخ ، ثمَّ تضربه حتى يختلط به ، واطرح فيه إن شئت زعفرانا ، وطيّبه إن شئت بزنجبيل قليل » قال : « فإذا أردت أن تقسّمه أثلاثا لتطبخه فكله بشي‌ء واحد حتى تعلم كم هو ، ثمَّ اطرح عليه الأول في الإناء الذي تغليه فيه ، ثمَّ تجعل فيه مقدارا وحدّه حيث يبلغ الماء ، ثمَّ اطرح الثلث الآخر ، ثمَّ حدّه حيث يبلغ الماء ، ثمَّ تطرح الثلث الأخير ، ثمَّ حدّه حيث يبلغ الآخر ، ثمَّ توقد تحته بنار ليّنة حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (١).

وقريبة منها الأخرى وصدرها : وصف لي أبو عبد الله عليه‌السلام المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالا ، وفي آخرها : « وإن أحببت أن يطول مكثه عندك فروّقه » (٢).

ورواية الهاشمي : شكوت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قراقر تصيبني في معدتي وقلّة استمرائي الطعام ، فقال لي : « لم لا تتّخذ نبيذا نشربه نحن وهو‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٥ ـ ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٠ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٥ ح ٣.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢٤ ـ ١ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٥ ح ٢.

روّقه : الترويق : التصفية ـ القاموس المحيط ٣ : ٢٤٧.

٢١٦

يمرأ الطعام ويذهب بالقراقر والرياح من البطن؟ » قال : فقلت له : صفه لي جعلت فداك ، فقال : « تأخذ صاعا من زبيب فتنقي حبّه وما فيه ، ثمَّ تغسل بالماء غسلا جيّدا ، ثمَّ تنقعه في مثله من الماء أو ما يغمره ، ثمَّ تتركه في الشتاء ثلاثة أيّام بلياليها وفي الصيف يوما وليلة ، فإذا أتى عليه ذلك القدر صفّيته وأخذت صفوته وجعلته في إناء وأخذت مقداره بعود ، ثمَّ طبخته طبخا رقيقا حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، ثمَّ تجعل عليه نصف رطل عسل وتأخذ مقدار العسل ، ثمَّ تطبخه حتى تذهب تلك الزيادة ، ثمَّ تأخذ زنجبيلا وخولنجانا ودار صيني والزعفران وقرنفلا ومصطكى تدقّه وتجعله في خرقة رقيقة وتطرحه فيه وتغليه معه غيلة ، ثمَّ تنزله ، فإذا برد صفّيته وأخذت منه على غذائك وعشائك » قال : ففعلت فذهب عنّي ما كنت أجد وهو شراب طيّب لا يتغير إذا بقي إن شاء الله (١).

والجواب عنها ـ مع ما في الثانية من التعقيد والإجمال في المتن ، وفي الأخيرة من عدم الدلالة على توقّف الحلّيّة على ذهاب الثلاثين والتحريم بدونه أصلا ـ : أنّه لا يلزم من الأمر بطبخه على الثلث أن يكون ذلك لأجل حلّيّته بعد حرمته بالغليان ، بل يجوز أن يكون لئلاّ يصير مسكرا ، كما يدلّ عليه قوله في آخر الرواية الأخيرة : وهو شراب لا يتغيّر إذا بقي.

ولا ينافيه قوله في آخر الثانية : « وإن أحببت أن يطول مكثه » إلى آخره ، إذ يمكن أن يكون ذلك لعدم فساده بنحو آخر غير الإسكار ، أو أن يكون المراد بطول المكث : المكث في المدّة الطويلة ، وبقوله : إذا بقي ، في‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٦ ـ ٣ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٠ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٥ ح ٤.

٢١٧

الأخيرة أقلّ من ذلك.

ويجوز أن يكون لأجل أنّ الخاصيّة والنفع المترتّب عليه لا يحصل إلاّ بطبخه على الوجه المذكور ، كما ورد مثله في رواية خليلان المتقدّمة ، المتضمّنة لطبخ ماء السفرجل على الثلاثين ، مع أنّه ليس للحلّيّة قطعا.

ويدلّ عليه الأمر بالطبخ حتى يذهب العسل الزائد في رواية الهاشمي المتقدّمة ، مع أنّه غير محتاج إليه في الحلّية البتّة ، بل يدلّ عليه أمر الأطبّاء بذلك ، كما ورد في رواية إسحاق بن عمّار : شكوت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام بعض الوجع وقلت : إنّ الطبيب وصف لي شرابا آخذ الزبيب وأصبّ عليه الماء للواحد اثنين ، ثمَّ أصبّ عليه العسل ، ثمَّ أطبخه حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث فقال : « أليس حلوا؟ » قلت : بلى ، فقال : « اشربه » ولم أخبره كم العسل (١).

وكذا يدلّ عليه ما ورد في النضوح ـ كما يأتي ـ مع أنّه للتطيّب لا للأكل.

والقول ـ بأنّ وظيفة الإمام بيان ما له مدخليّة في الأحكام دون غيرها ـ معارض بأنّ وظيفة الطبيب بيان ما له مدخليّة في الآثار دون غيرها ، مع أنّ أكثر ما ورد في تلك الأخبار الثلاثة ممّا ليس له تعلّق بالأحكام ، بل الأخيرة مسوقة لبيان الفوائد.

فإن قيل : إنّ قوله : كيف يطبخ حتى يصير حلالا ، في الثانية ، أو : حتى يشرب حلالا ، في الأولى يدلّ على التحريم بدونه ، وكذا قوله في الثانية : « وإذا كان في أيّام الصيف وخشيت أن ينشّ جعلته في تنوّر » إلى‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٦ ـ ٤ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٥ ح ٥.

٢١٨

آخره ، فإنّ النشيش : هو صوت الغليان ، والظاهر من المحافظة عليه بأن لا ينشّ ليس إلاّ لخوف تحريمه بالغليان.

قلنا : مع أنّ قوله : حتى يصير ، أو : يشرب حلالا ، من قول الراوي في سؤاله ـ ولا حجّيّة فيه إلاّ من حيث تقرير المعصوم له على فهمه ، وقد بيّنّا في موضعه أنّه ليس بحجّة ـ أكثر ما ذكر في الكيفيّة ، بل كلّه ـ عدا الغلي حتى يذهب الثلثان ـ لا دخل له في الحلّية قطعا ، فلا بدّ في الكلام من ارتكاب تجوّز إمّا في كلام السائل بمثل إرادة أنّه كيف يطبخ حتى يبقى على الحلّية ولا يصير مسكرا ، أو حتى تحصل فيه فوائد النبيذ وخواصّه المطلوبة منه من دون عروض إسكار ، أو غير ذلك من المعاني ، بل الأول هو الظاهر من قوله : حتى يشرب حلالا.

والقول : بأنّ العدول عن الظاهر في غير ذهاب الثلاثين لوجود الصارف القطعي لا يقتضي العدول عنه في الذهاب أيضا مع انتفاء الصارف عنه ، بل يجب إبقاؤه على ظاهره.

مردود بأنّ هذا ليس من باب تخصيص العامّ حتى يقتصر فيه على المتيقّن ، بل من باب ارتكاب أحد التأويلين أو التجوّزين ، وعدم وجود مرجّح لأحدهما ، بل وجوده لما يخالف مطلوب المستدلّ.

وأمّا قوله : « حتى لا ينشّ » فإنّ فيه : أنّ بعد ذلك أمر بغليانه حتى يذهب ثلثاه فهو وإن حرم بالنشيش فلا مانع منه ، لتعقّبه بالغليان الموجب للتحليل بعد ذلك ، وحينئذ فلعلّ المحافظة عليه من النشيش إنّما هو لغرض آخر ، لا لأنّه يحرم بعد ذلك ، فإنّه وإن حرم لكن لا منافاة فيه بعد غلية إلى ذهاب الثلاثين المأمور به ثانيا ، وحينئذ فلا فرق في حصول التحريم فيه في وقت النشيش ولا وقت الغليان أخيرا.

٢١٩

ومنها : ما رواه في البحار ، عن كتاب زيد النرسي‌ أنّه قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الزبيب يدقّ ويلقى في القدر ، ثمَّ يصبّ عليه الماء ويوقد تحته ، فقال : « لا تأكله حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث ، فإنّ النار قد أصابته » قلت : فالزبيب كما هو يلقى في القدر ويصبّ عليه ، ثمَّ يطبخ ويصفّى منه الماء ، فقال : « كذلك هو سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء وصار حلوا بمنزلة العصير ثمَّ نشّ من غير أن تصيبه النار فقد حرم ، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد » (١).

والجواب عنه : أنّها لا تصلح لمقاومة ما ذكرنا من أدلّة الحلّية ، فإنّ الكتاب المنسوب إلى زيد النرسي مطعون فيه ، حكى الشيخ في الفهرست عن الصدوق أنّه لم يرو أصل زيد النرسي ، وكذا حكى عن شيخه محمّد بن الحسن بن الوليد ، بل كان يقول : إنّه موضوع وضعه محمّد بن موسى الهمداني المعروف بالسمّان (٢).

مضافا إلى أنّ كتابه غير معروف بتواتر ونحوه في زمن صاحب البحار ، وليس إلاّ مجرّد إسناد إليه من غير اتّصال السند في الكتاب المخصوص ، فمن أين يعلم أنّه كتاب النرسي الذي روى عنه المتقدّمون على أرباب الكتب الأربعة؟! فإنّه مهجور في تلك الأزمنة المتطاولة.

ومن ذلك يندفع ما قيل من تضعيف حكاية الصدوق وشيخه ومعارضتها بتغليط ابن الغضائري لابن بابويه (٣).

ومنها : ما ورد في النضوح ، كموثّقتي الساباطي ، إحداهما : عن‌

__________________

(١) البحار ٧٦ : ١٧٧ ـ ٨ ، وهو في كتاب زيد النرسي ( الأصول الستة عشر ) : ٥٨.

(٢) الفهرست : ٧١.

(٣) انظر مجمع الرجال للقهپائي ٣ : ٨٤.

٢٢٠