مستند الشّيعة - ج ١٥

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٥

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-041-2
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٩٠

الباب الأول

في الصيد‌

والمراد الصيد بالمعنى الثاني ، أي إزهاق روح الحيوان الوحشي من غير ذبح ، بل بمجرّد الاصطياد ، الذي هو أحد أفراد التذكية.

وأمّا الصيد بمعنى إدراك المصيد حيّا ثمَّ ذبحه فهو وإن كان اصطيادا عرفا أيضا إلاّ أنّه الصيد بالمعنى الأول مع التذكية الذبحيّة ، فهو مركّب من الصيد بالمعنى الأول والذبح ، والكلام فيه من جهة الصيد إنّما هو من حيث التملّك دون التذكية ، وأمّا من حيث التذكية فبعينها أحكام الذبيحة.

ثمَّ الكلام في هذا الباب إمّا في آلة الصيد ـ أي فيما تحصل التذكية للحيوان مع إزهاق روحه به من دون ذبح ـ أو في المصيد ـ أي ما يقبل الاصطياد بهذا المعنى من الحيوانات ـ أو في الصائد ، أو في شرائط الصيد ، أو في أحكامه ، فهاهنا خمسة فصول‌ :

٢٨١

الفصل الأول

في الآلة التي تتحقّق بها التذكية الاصطياديّة‌ ويحلّ مقتولها من غير ذبح ، وهي إمّا حيوان ، أو جماد ، فهاهنا بحثان :

البحث الأول

في الآلة الحيوانيّة

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الآلة الحيوانيّة التي يحلّ مقتولها وتحصل التذكية بها : الكلب المعلّم مطلقا ، سلوقيّا (١) كان أو غيره ، أسود كان أم غير أسود ، بمعنى : أنّ ما أخذه وجرحه وأدركه صاحبه ميّتا يحلّ أكله.

ويقوم جرح الكلب المذكور بعد إرساله ـ في أيّ موضع كان الجرح ـ مقام الذبح ، بلا خلاف فيه كما في الكفاية (٢) وغيره (٣) ، بل بالإجماع كما في المسالك (٤) وشرح الإرشاد للأردبيلي (٥) ، ونقل عن جماعة أيضا (٦) ، وكأنّهم‌

__________________

(١) السلوق : قرية باليمن ينسب إليها الدروع والكلاب ـ مجمع البحرين ٥ : ١٨٧.

(٢) الكفاية : ٢٤٤.

(٣) كالرياض ٢ : ٢٦٢.

(٤) المسالك ٢ : ٢١٧.

(٥) مجمع الفائدة ١١ : ٦.

(٦) نقله صاحب الرياض ٢ : ٢٦٢.

٢٨٢

لم يلتفتوا إلى خلاف الإسكافي في الكلب الأسود (١) ، لشذوذه ، وهو كذلك ، فهو إجماع محقّق حقيقة ، فهو الدليل عليه.

مضافا إلى قوله سبحانه ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ ) (٢).

وفي صحيحة الحلبي : « في كتاب عليّ عليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ : ( وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ) قال : هي الكلاب » (٣).

وإلى السنّة المتواترة معنى (٤) ، منها : صحيحة محمّد وغير واحد ( عنهما عليهما السّلام جميعا أنّهما قالا ) (٥) في الكلب يرسله الرجل ويسمّي ، قالا : « إن أخذه فأدركت ذكاته فذكّه ، وإن أدركته وقد قتله وأكل منه فكل ما بقي ، ولا ترون ما ترون في الكلب » (٦).

وصحيحة حكم بن حكيم : ما تقول في الكلب يصيد الصيد فيقتله؟ قال : « لا بأس بأكله » الحديث (٧). وسيأتي تمامه.

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف : ٦٧٥.

(٢) المائدة : ٤.

(٣) الكافي ٦ : ٢٠٢ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ٢٢ ـ ٨٨ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣١ أبواب الصيد ب ١ ح ١.

(٤) ليست في « ق ».

(٥) ما بين القوسين ليس في « ح ».

(٦) الكافي ٦ : ٢٠٢ ـ ٢ ، التهذيب ٩ : ٢٢ ـ ٨٩ ، الاستبصار ٤ : ٦٧ ـ ٢٤١ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤١ أبواب الصيد ب ٤ ح ٢. وفي بعض المصادر : ولا ترون ما يرون.

(٧) الكافي ٦ : ٢٠٣ ـ ٦ ، التهذيب ٩ : ٢٣ ـ ٩١ ، الاستبصار ٤ : ٦٩ ـ ٢٥٣ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٣ أبواب الصيد ب ٢ ح ١.

٢٨٣

وصحيحة جميل : عن الرجل يرسل الكلب على الصيد فيأخذه ولا يكون معه سكّين يذكّيه بها ، أيدعه حتى يقتله ويأكل منه؟ قال : « لا بأس ، قال الله تعالى ( فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) ولا ينبغي أن يؤكل ممّا قتل الفهد » (١).

ورواية (٢) عبد الله بن سليمان : عن رجل أرسل كلبه وصقره ، فقال : « أمّا الصقر فلا تأكل من صيده حتى تدرك ذكاته ، وأمّا الكلب فكل منه إذا ذكرت اسم الله عليه ، أكل الكلب منه أو لم يأكل » (٣) ، إلى غير ذلك ممّا يأتي في طيّ المسائل الآتية.

وإطلاق الآية والأخبار ـ كفتاوى العلماء الأخيار ـ يقتضي عدم الفرق بين الكلب السلوقي وغيره ، حتى الأسود ، وهو كذلك.

خلافا للإسكافي ، فخصّه بما عدا الأسود ، تبعا لبعض الشافعيّة (٤) وأحمد (٥) ، لخبر السكوني (٦) الضعيف دلالة ـ لموضع ما يحتمل الجملة الخبريّة ـ ومتنا ـ للشذوذ ـ ومقاومة للإطلاقات ، لما ذكر ولموافقة العامّة.

المسألة الثانية : يشترط في حلّية صيد الكلب ومقتوله ـ كما أشرنا إليه ـ : أن يكون معلّما‌ ، بالإجماع ، والكتاب ، والسنّة المستفيضة :

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٠٤ ـ ٨ ، التهذيب ٩ : ٢٣ ـ ٩٣ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٤ أبواب الصيد ب ٦ ح ٢.

(٢) في « ح » و « س » : وصحيحة ..

(٣) الكافي ٦ : ٢٠٧ ـ ٣ ، الوسائل ٢٣ : ٣٥٠ أبواب الصيد ب ٩ ح ٦.

(٤) نسبه ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ٩ : ٤٩٤ إلى إسحاق والظاهر أنّه إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه أحد أئمّة الفقه والحديث ومن أصحاب الشافعي.

(٥) كما في بداية المجتهد ١ : ٤٥٦ ، والمغني والشرح الكبير ١١ : ١٣.

(٦) الكافي ٦ : ٢٠٦ ـ ٢٠ ، التهذيب ٩ : ٨٠ ـ ٣٤٠ ، الوسائل ٢٣ : ٣٥٦ أبواب الصيد ب ١٠ ح ٢.

٢٨٤

منها : حسنة محمّد بن قيس : « ما قتلت من الجوارح مكلّبين وذكر اسم الله عليه فكلوا من صيدهنّ ، وما قتلت الكلاب التي لم تعلّموها من قبل أن تدركوه فلا تطعموه » (١).

وصحيحة الحضرمي : عن صيد البزاة والصقور والكلب والفهد ، فقال : « لا تأكل صيد شي‌ء من هذه إلاّ ما ذكّيتموه إلاّ الكلب المكلّب » قلت : فإن قتله؟ قال : « كل ، لأنّ الله تعالى يقول ( وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ) الآية (٢).

ورواية زرارة في صيد الكلب ، وفيها : « فإن كان غير معلّم فعلّمه في ساعته حين يرسله ، وليأكل منه » (٣).

ورواية أبي بصير : عن قوم أرسلوا كلابهم ، وهي معلّمة كلّها ، وقد سمّوا عليها ، فلمّا أن مضت الكلاب دخل فيها كلب غريب لم يعرفوا له صاحبا ، فاشتركن جميعا في الصيد ، فقال : « لا تأكل منه ، لأنّك لا تدري أخذه معلّم أم لا » (٤).

وصحيحة سليمان بن خالد : عن كلب المجوسي يأخذه الرجل المسلم ، فيسمّي حين يرسله ، أيأكل ممّا أمسك عليه؟ قال : « نعم ، لأنّه‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٠٣ ـ ٥ ، التهذيب ٩ : ٢٣ ـ ٩٠ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٦ أبواب الصيد ب ٧ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٢٠٤ ـ ٩ ، التهذيب ٩ : ٢٤ ـ ٩٤ ، تفسير علي بن إبراهيم ١ : ١٦٢ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٨ أبواب الصيد ب ٩ ح ١.

(٣) الكافي ٦ : ٢٠٥ ـ ١٤ ، الفقيه ٣ : ٢٠١ ـ ٩١١ ، التهذيب ٩ : ٢٤ ـ ٩٨ ، الاستبصار ٤ : ٦٨ ـ ٢٤٦ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٦ أبواب الصيد ب ٧ ح ٢ ، بتفاوت يسير.

(٤) الكافي ٦ : ٢٠٦ ـ ١٩ ، التهذيب ٩ : ٢٦ ـ ١٠٥ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٣ أبواب الصيد ب ٥ ح ٢.

٢٨٥

مكلّب ذكر اسم الله عليه » (١) ، دلّ التعليل على أنّ علّة الحلّية : التكليب ، الذي هو التعليم.

وخبر عبد الرحمن بن سيابة : إنّي أستعير كلب المجوسي فأصيد به ، فقال عليه‌السلام : « لا تأكل من صيده إلاّ أن يكون علّمه مسلم فتعلّمه » (٢).

ورواية السكوني : كلب المجوسي لا تأكل صيده إلاّ أن يأخذه المسلم فيعلّمه ويرسله » (٣) ، إلى غير ذلك.

وبهذه الأدلّة يقيّد إطلاق الكلب في الأخبار المتقدّمة في المسألة الاولى وسائر المطلقات التي لم تذكر.

المسألة الثالثة : اختلفوا فيما يعتبر في صيرورة الكلب معلّما‌ ، فمنهم من اعتبر ثلاثة أمور ، ومنهم من اعتبر أمرين. ثمَّ اختلفوا في أحد هذين الأمرين هل هو مطلق أو مقيّد على التفصيل الآتي.

وليعلم أولا : أنّ شأن الفقيه في الألفاظ الواردة في كلامهم عليهم‌السلام إذا لم يرد منهم بيان في معانيها ـ كما هو كذلك في مفروض المسألة ـ الرجوع إلى العرف إن كان ، وإلاّ فإلى اللغة ، فاللازم في معرفة المعلّم وفي تفسير قوله سبحانه ( ما عَلَّمْتُمْ ) الرجوع إليهما.

ومعنى اللفظين ـ بحسب العرف واللغة ـ واضح جدّا ، فإنّ تعليم شي‌ء للغير : تكريره لمن لا يعلمه حتى يأخذه ويعلمه ، والمعلّم : من كرّر غيره له‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٠٨ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٢٠٢ ـ ٩١٣ ، التهذيب ٩ : ٣٠ ـ ١١٨ ، الاستبصار ٤ : ٧٠ ـ ٢٥٤ ، الوسائل ٢٣ : ٣٦٠ أبواب الصيد ب ١٥ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٢٠٩ ـ ٢ ، التهذيب ٩ : ٣٠ ـ ١١٩ ، الاستبصار ٤ : ٧٠ ـ ٢٥٥ ، الوسائل ٢٣ : ٣٦١ أبواب الصيد ب ١٥ ح ٢.

(٣) الكافي ٦ : ٢٠٩ ـ ٣ ، التهذيب ٩ : ٣٠ ـ ١٢٠ ، الاستبصار ٤ : ٧١ ـ ٢٥٦ ، الوسائل ٢٣ : ٣٦١ أبواب الصيد ب ١٥ ح ٣.

٢٨٦

شيئا لا يعلمه حتى يعلمه ويأخذه ، فلا إبهام في معنى التعليم والمعلّم.

نعم ، لو كان الأمر الذي يطلب تعليمه معيّنا من جهة الطالب واقعا ولم يعلم أنّه أيّ شي‌ء ، يحصل الإجمال من هذه الجهة. وأمّا لو لم يكن دليل على تعيينه من جهته فهو مطلق يتحقّق بكلّ ما يصلح للتعليم ، كما في قولك : أكرم المعلّم ، وليس لفظ التعليم بالنسبة إلى ما علم إلاّ كنسبة الأكل إلى المأكول ، فلو قال : رأيت الآكل ، أو : أكرم الآكل ، لم يكن فيه إجمال ، وليس هناك دليل أو قرينة على أنّ مراد الله سبحانه من المعلّم بصيغة المفعول شي‌ء خاص لا نعلمه حتى يحصل الإجمال من تلك الجهة.

ولا يتوهّم أنّ قوله جلّ شأنه ( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللهُ ) يوجب إجمالا.

لأنّ المعنى : بعض ما علّم الله سبحانه للإنسان ولا يعلمه الكلب ، ومصاديق ذلك المعنى واضحة لكلّ أحد ، ومقتضى الإطلاق عدم تعيّن ذلك البعض.

نعم ، حصل بالقرائن والإجماع اعتبار بعض الأمور ـ التي هي أيضا من أفراد ما يعلم ـ فيجب الحكم باعتباره ، ونفي غيره بالأصل.

وأمّا الأخبار فلا يثبت منها اعتبار شي‌ء مخصوص في التعليم ، لأنّ غايتها ذكر أنّ الكلب الفلاني يؤكل صيده أو لا يؤكل ، وهذا لا يدلّ على أنّه لأجل اعتباره في التعليم وعدمه ، كما أنّه ورد أكل صيد كلب المجوسي والأسود والمغصوب ، أو المنفرد والمشارك مع غيره أو عدم الأكل ، وليس ذلك إلاّ كاعتبار التسمية ونحوها.

وممّا ذكرنا ظهر لك ما في كلام المحقّق الأردبيلي ، حيث قال : وظاهر الآية أنّه لا بدّ من كون ما يصير به معلّما شيئا علّمنا الله إيّاه في تعليم الكلب‌

٢٨٧

حتى يكون معلّما ، وما عرفنا أيّ شي‌ء ذلك من القرآن ولا من السنّة ، إلاّ ما في كلام العلماء ، ولم يعلم إجماعهم أيضا ، لما عرفت من الإجمال والخلاف ، فتأمّل حتى يفتح الله (١). انتهى.

فإنّ ظاهر الآية ليس أنّه شي‌ء خاصّ معيّن في تعليم الكلب ، بل مطلق ما علّمنا الله ، ولا بأس بزيادة شي‌ء له مدخليّة في تعليم الكلب للصيد بدلالة القرينة الحاليّة كما يأتي ، وهو أيضا مطلق بين أمور معلومة لنا من الاسترسال والانزجار والإمساك والقتل ونحوها.

وظهر ممّا ذكر صدق الكلب المعلّم على كلّ كلب علّم أمرا وأكثر ممّا لا يعلمه الكلب بنفسه وطبعه ، ويتوقف تعلّمه على تعليم الإنسان ، كما في سائر الحيوانات التي يتعلّمون عملا خاصّا ، فيقال : القرد المعلّم ، والفرس المعلّم ، والشاة المعلّمة ، والهرّة المعلّمة ، وغيرها.

نعم ، المستفاد من القرائن الحاليّة ـ بل من العرف والعادة ـ أنّ من يطلب حيوانا معلّما على الإطلاق أو ترتّب عليه حكما نظره إلى تعليم بعض ما يتعلّق بما يطلب من ذلك الحيوان ، إمّا مطلقا أو في موضع خاص ، فإذا قال : ابتع لي فرسا معلّما ، يطلب ما تعلّم أمرا من الأمور المتعلّقة بالعدو والمشي والركوب ، والوقوف عند سقوط راكبه ، وأخذ شي‌ء سقط من يده على الأرض وإعطائه ، وفي القرد المعلّم ما يتعلّق باللعب ، وفي الكلب المعلّم في مقام الصيد ما يتعلّق بذلك ، وفي مقام الحفظ والحراسة ما يتعلّق بهما زائدا على ما يعلمه بالطبع ، وفي مقام دفع العدوّ كذلك ، وهكذا.

__________________

(١) مجمع الفائدة ١١ : ٣٥.

٢٨٨

فالظاهر من القرائن من الكلب المعلّم في مقام الصيد : ما له مدخليّة في الاصطياد ، زائدا على ما يعلمه وتقتضيه خلقته وطبعه من الاسترسال والانزجار والقتل والإمساك ، وأن لا يكون بحيث لا يطلب الصيد إلاّ حال الجوع ، وأن لا يجرحه ويتركه ويمضي منه ، ونحو ذلك.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ غاية ما اعتبروه في معلّمية الكلب أمور ثلاثة :

أحدها : أن يسترسل وينطلق بإرسال صاحبه ، يعني : إذا أغرى بالصيد هاج وإن كان شبعانا.

وثانيها : أن ينزجر ويقف عن الذهاب والاسترسال إذا زجر عنه.

وثالثها : أن يمسك الصيد ولا يأكله حتى يصل صاحبه.

ولا ريب في أنّ المعلّمية للكلب في مقام الاصطياد تتحقّق بتعليم هذه الثلاثة لغة وعرفا ، ولا كلام في ذلك والإجماع عليه منعقد.

وإنّما الكلام في أنّه هل يكفي بعضها كما هو كذلك بحسب اللغة والعرف ، أو تعتبر الثلاثة؟

فنقول : لا شكّ في اعتبار الأمر الأول مطلقا ، ولا في الثاني في الجملة ، لانتفاء الخلاف في اعتبارهما ، بل انعقاد الإجماع عليه ، كما صرّح بهما بعض الأجلّة (١) ، بل تحقّقا عند التحقيق والدقّة ، فهما الحجّة فيهما ، مضافا إلى عدم معلوميّة صدق المعلّم العرفي بدونهما لو لم ندّع معلوميّة العدم.

وهل اعتبار الثاني مطلق ـ كما هو المحكي عن الأكثر (٢) ـ أي ينزجر‌

__________________

(١) الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٧٢.

(٢) كالشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢١٨ ، والمحقق السبزواري في الكفاية : ٢٤٥ ، وصاحب الرياض ٢ : ٢٦٢.

٢٨٩

عن الذهاب مطلقا إذا زجر عنه ولو كان ذاهبا إلى الصيد مشاهدا له قريبا منه؟

أو يقيّد بما إذا لم يكن بعد إرساله إلى الصيد ورؤيته له ، كما قيّده الشهيدان في الدروس والمسالك (١) ، والفاضل في التحرير (٢) ، واستحسنه بعض من تأخّر عنهم (٣) ، استنادا إلى أنّه لا يكاد يقف بعد ذلك كلب أصلا ، فمع اشتراطه لا يتحقّق كلب معلّم إلاّ نادرا ، وقد أخبر بذلك جمع من الصائدين؟

وهو حسن ، لما ذكر ، ولصدق المعلّم عرفا بعد تحقّق الأمر الأول والثاني في الجملة ، ولا دليل على وجوب اعتبار الزائد.

وأمّا الأمر الثالث ، فالمشهور اعتباره كما صرّح به جماعة (٤) ، بل عن الانتصار (٥) وظاهر المختلف وكنز العرفان (٦) الإجماع عليه.

وذهب الصدوقان (٧) والعماني (٨) وجمع آخر إلى عدم اعتبار ذلك الشرط ، واختاره من المتأخّرين المحقّق الأردبيلي (٩) وصاحب الكفاية‌

__________________

(١) الشهيد في الدروس ٢ : ٣٩٣ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢١٨.

(٢) التحرير ٢ : ١٥٤.

(٣) كالفيض في المفاتيح ٢ : ٢١٠.

(٤) منهم العلامة في المختلف : ٦٧٥ ، والسيوري في التنقيح ٤ : ٧ ، والمحقق السبزواري في الكفاية : ٢٤٥ ، وكشف اللثام ٢ : ٢٥٢.

(٥) الانتصار : ١٨٣.

(٦) المختلف : ٦٧٥ ، كنز العرفان ٢ : ٣٠٩.

(٧) كما في المقنع والهداية : ١٣٨ ، وقد حكاه عنهما في المختلف : ٦٨٩.

(٨) حكاه عنه في المختلف : ٦٨٩.

(٩) مجمع الفائدة ١١ : ٣٥.

٢٩٠

والمفاتيح (١) وشارحه ووالدي المحقّق العلاّمة قدس‌سره في بعض حواشيه على المسالك ، قال ـ طاب ثراه ـ :

إنّ أقرب المحامل وأمتنها هو حمل الأحاديث التي تدلّ على عدم الجواز على التقيّة ، والحمل الأول للشيخ لا تحمله صحيحة جميل بن درّاج كما أفاده الشارح ، وكذا حمل ابن الجنيد لا يخلو عن شي‌ء ، لأنّ ترك الاستفصال موضع الحاجة دليل العموم ، وبالجملة : الحمل على التقيّة أقوى وأصحّ. انتهى.

ويحتمله كلام الشيخ في كتابي الأخبار أيضا (٢) كما ذكره الأردبيلي (٣).

حجّة الأولين : توقّف صدق المعلّمية على ذلك.

وقوله سبحانه ( مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ).

وصحيحة الحذّاء : عن الرجل يسرح كلبه المعلّم ويسمّي إذا سرحه ، فقال : « يأكل ممّا أمسك عليه » (٤).

دلّتا بالمفهوم على عدم الأكل ممّا لم يمسك عليه ، وإذا اعتاد الأكل لا يكون ممسكا على صاحبه ، كما ورد في الأخبار أيضا.

والمستفيضة من المعتبرة الدالّة على النهي عن أكل بقيّة ما أكله الكلب :

منها : صحيحة رفاعة : عن الكلب يقتل ، فقال : « كل » فقلت : أكل منه ، فقال : « إذا أكل منه فلم يمسك عليك ، إنّما أمسك على نفسه » (٥).

__________________

(١) الكفاية : ٢٤٥ ، المفاتيح ٢ : ٢١١.

(٢) التهذيب ٩ : ٢٨ ، الاستبصار ٤ : ٦٩.

(٣) مجمع الفائدة ١١ : ٣٥.

(٤) الكافي ٦ : ٢٠٣ ـ ٤ ، التهذيب ٩ : ٢٦ ـ ١٠٦ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٠ أبواب الصيد ب ٤ ح ١.

(٥) التهذيب ٩ : ٢٧ ـ ١١١ ، الاستبصار ٤ : ٦٩ ـ ٢٥٢ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٨ أبواب الصيد ب ٢ ح ١٧.

٢٩١

وصحيحة أحمد : « الكلب والفهد سواء ، فإذا هو أخذه فأمسكه فمات وهو معه فكل ، فإنّه أمسك عليك ، وإذا أمسكه وأكل منه فلا تأكل ، فإنّما أمسك على نفسه » (١) ، ونحوها صحيحة ابن المغيرة (٢).

وموثّقة سماعة المضمرة ، وفيها : « لا بأس أن تأكلوا ممّا أمسك الكلب ما لم يأكل الكلب منه ، فإذا أكل الكلب منه قبل أن تدركه فلا تأكل منه » ، قال : وسألته عن صيد الفهد وهو معلّم للصيد ، فقال : « إن أدركته حيّا فذكّه وكله وإن قتله فلا تأكل منه » (٣).

ودليل الآخرين : أصالة عدم الاعتبار ـ كما يعلم وجهه ممّا ذكرنا في صدر المسألة ـ والصحاح وغيرها من المستفيضة جدّا ، بل المتواترة معنى ، منها : صحيحة محمّد وغير واحد ، وصحيحة جميل ، ورواية عبد الله بن سليمان ، المتقدّمة جميعا في المسألة الاولى (٤) ، وإن أمكن الخدش في دلالة الثانية بجعل قوله : ويأكل منه ، عطفا على قوله : يدعه ، دون : يقتله.

وصحيحة حكم بن حكيم المتقدّم صدرها هناك ، وتمامها : قال :

قلت : فإنّهم يقولون : إنّه إذا قتله وأكل منه فإنّما أمسك على نفسه فلا تأكله ، فقال : « كل ، أو ليس قد جامعوكم على أنّ قتله ذكاته؟ » قلت : بلى ، قال : « فما يقولون في شاة ذبحها رجل أذكّاها؟ » قال : قلت : نعم ، قال : « فإن السبع جاء بعد ما ذكّاها فأكل منها بعضها أتوكل منها البقيّة؟ فإذا‌

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٢٨ ـ ١١٣ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٨ أبواب الصيد ب ٢ ح ١٨.

(٢) التهذيب ٩ : ٢٩ ـ ١١٦ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٥ أبواب الصيد ب ٦ ح ٦.

(٣) التهذيب ٩ : ٢٧ ـ ١١٠ ، الاستبصار ٤ : ٦٩ ـ ٢٥١ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٤ أبواب الصيد ب ٦ ح ٣.

(٤) في ص : ٢٨٣ و ٢٨٤.

٢٩٢

أجابوك إلى هذا فقل لهم : كيف تقولون : إذا ذكّى ذلك فأكل منها لم تأكلوا؟! وإذا ذكّاها هذا وأكل أكلتم؟! » (١).

وصحيحة الحلبي ، وفيها : « أمّا ما قتلته الطير فلا تأكل إلاّ أن تذكّيه ، وأمّا ما قتله الكلب وقد ذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه » (٢).

وصحيحة محمّد الحلبي : عن الكلب يصطاد فيأكل من صيده أنأكل من بقيّته؟ قال : « نعم » (٣).

ورواية سالم الأشلّ : عن الكلب يمسك على صيده وقد أكل منه ، قال : « لا بأس بما أكل ، وهو لك حلال » (٤).

واخرى : عن صيد كلب معلّم قد أكل من صيده ، فقال : « كل منه » (٥).

ورواية يونس بن يعقوب : عن رجل أرسل كلبه فأدركه وقد قتل ، قال : « كل وإن أكل » (٦).

ورواية أبي بصير : « إن أصبت كلبا معلّما أو فهدا بعد أن تسمّي فكل ممّا أمسك عليك ، قتل أو لم يقتل ، أكل أو لم يأكل ، وإن أدركت صيده‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٠٣ ـ ٦ ، التهذيب ٩ : ٢٣ ـ ٩١ ، الاستبصار ٤ : ٦٩ ـ ٢٥٣ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٣ أبواب الصيد ب ٢ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٢٠٥ ـ ١٥ ، التهذيب ٩ : ٢٥ ـ ٩٩ ، الاستبصار ٤ : ٦٨ ـ ٢٤٧ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٦ أبواب الصيد ب ٢ ح ٩.

(٣) التهذيب ٩ : ٢٧ ـ ١٠٩ ، الاستبصار ٤ : ٦٩ ـ ٢٥٠ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٧ أبواب الصيد ب ٢ ح ١٥.

(٤) الكافي ٦ : ٢٠٣ ـ ٣ ، التهذيب ٩ : ٢٧ ـ ١٠٨ ، الاستبصار ٤ : ٦٨ ـ ٢٤٩ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٤ أبواب الصيد ب ٢ ح ٣.

(٥) الكافي ٦ : ٢٠٥ ـ ١٢ ، التهذيب ٩ : ٢٤ ـ ٩٦ ، الاستبصار ٤ : ٦٧ ـ ٢٤٤ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٥ أبواب الصيد ب ٢ ح ٦.

(٦) الكافي ٦ : ٢٠٤ ـ ٧ ، التهذيب ٩ : ٢٣ ـ ٩٢ ، الاستبصار ٤ : ٦٧ ـ ٢٤٢ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٣ أبواب الصيد ب ٢ ح ٤.

٢٩٣

وكان في يدك حيّا فذكّه ، فإن عجّل عليك فمات قبل أن تذكّيه فكل » (١).

ورواية سعيد : « كل ممّا أمسك الكلب وإن أكل ثلثيه » (٢).

ومرسلة الفقيه : « كل ما أكل الكلب وإن أكل ثلثيه ، كل ما أكل الكلب وإن لم يبق منه إلاّ بضعة واحدة » (٣).

وموثّقة البصري : عن رجل أرسل كلبه فأخذ صيدا فأكل منه ، آكل من فضله؟ قال : « كل ما قتل الكلب إذا سمّيت عليه ، فإن كنت ناسيا فكل منه أيضا ، وكل فضله » (٤).

وحسنة زرارة : في صيد الكلب أرسله الرجل وسمّى « فليأكل كلّ ما أمسك عليه وإن قتل ، وإن أكل فكل ما بقي » الحديث (٥).

والمرويّ في قرب الإسناد : « إذا أخذ الكلب المعلّم الصيد فكله ، أكل منه أو لم يأكل ، قتل أو لم يقتل » (٦).

والرضوي : « وإن أدركته وقد قتله كلبك فكل منه وإن أكل بعضه ، لقوله تعالى ( فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) (٧).

وأجاب الأولون عن تلك الأخبار بالحمل على صورة الندرة ، فإنّ‌

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٢٨ ـ ١١٢ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤١ أبواب الصيد ب ٤ ح ٣.

(٢) الكافي ٦ : ٢٠٤ ـ ١٠ ، التهذيب ٩ : ٢٤ ـ ٩٥ ، الاستبصار ٤ : ٦٧ ـ ٢٤٣ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٤ أبواب الصيد ب ٢ ح ٥.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٠٢ ـ ٩١٢ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٦ أبواب الصيد ب ٢ ح ١٠.

(٤) الكافي ٦ : ٢٠٥ ـ ١٣ ، التهذيب ٩ : ٢٤ ـ ٩٧ ، الاستبصار ٤ : ٦٨ ـ ٢٤٥ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٥ أبواب الصيد ب ٢ ح ٨.

(٥) الكافي ٦ : ٢٠٥ ـ ١٤ ، الفقيه ٣ : ٢٠١ ـ ٩١١ ، التهذيب ٩ : ٢٤ ـ ٩٨ ، الاستبصار ٤ : ٦٨ ـ ٢٤٦ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٥ أبواب الصيد ب ٢ ح ٧.

(٦) قرب الإسناد : ١٠٦ ـ ٣٦١ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٦ أبواب الصيد ب ٢ ح ١٢.

(٧) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٩٦ ، مستدرك الوسائل ١٦ : ١٠٤ أبواب الصيد ب ٢ ح ٢.

٢٩٤

المراد بعدم الأكل : الاعتياد به ، ولازمه ترك الأكل غالبا ، ولا ينافيه الأكل النادر ، جمعا بينها وبين أخبار المنع ، مع أنّه لولاه أيضا لترجّحت أخبار المنع أيضا ، لموافقتها ظاهر الكتاب من وجهين : من جهة التعليم ومن جهة الإمساك ، ومعاضدتها بالإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة ، التي هي من أعظم المرجّحات الاجتهاديّة ، بل المنصوصة.

أقول : أمّا الحمل المذكور فحمل بلا شاهد ، ومثله عندنا فاسد.

وأمّا ترجيح أخبار المنع بما رجّحوها به فغير صحيح.

أمّا الوجه الأول من وجهي موافقة الكتاب ، فلأنّه موقوف على توقّف صدق المعلّمية على ذلك ، وهو ممنوع جدّا ، وقد ظهر سنده ممّا ذكرنا في صدر المسألة.

وأمّا الوجه الثاني ، فلأنّه مبنيّ على أن يكون معنى قوله سبحانه : ( مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) من الصيد الذي أمسكن تمامه عليكم ، وهذا تخصيص لا دليل عليه من عرف أو لغة أصلا. بل المعنى : فكلوا ممّا أمسكن عليكم وحفظه لكم ، سواء كان تمام الصيد أو بعضه ، فإنّ ما أبقاه الكلب ولم يأكله يصدق عليه أنّه ما أمسك عليه ، سواء كان كلاّ أو بعضا.

وتدلّ على ذلك من الأحاديث صريحا روايات الأشلّ وسعيد وزرارة والرضويّ ، حيث اثبت فيها الإمساك مع تحقّق أكل البعض ، وظهر من ذلك أنّ موافقة إطلاق الكتاب إنّما هي لأخبار الحلّية.

وأمّا الإجماع المنقول فلا يصلح لترجيح بعض الأخبار على بعض ، كيف؟! ومن يقول بحجّيته ينزّله منزلة خبر صحيح ، وضمّ خبر واحد لا يصير مرجّحا لما ضمّ معه أصلا.

وأمّا الشهرة ، فالشهرة التي تصلح للترجيح هي الشهرة في الرواية‌

٢٩٥

دون الفتوى ، وشهرة الرواية إنّما هي مع الأخبار الأخيرة قطعا.

وقد ظهر من ذلك ترجيح روايات الجواز باعتبار الكثرة والشهرة بين الرواة ، التي هي من المرجّحات المنصوصة ، فإنّها تكاد تبلغ حدّ التواتر.

بل تترجّح عليها بموافقة إطلاقات الكتاب من وجوه :

أحدها : كون الكلب الجامع للأمرين الأولين من أفراد ما علّم ممّا علّمنا الله.

وثانيها : من جهة كون الباقي من الأكل من أفراد ما أمسك عليه.

وثالثها : من جهة عمومات الحلّ.

وتترجّح أيضا بموافقة الأصل وعمومات السنّة بحلّية كلّ شي‌ء ، وبمخالفة العامّة قطعا ، التي هي أيضا من المرجّحات العظيمة ، كما صرّح به في صحيحة حكم.

وأمّا ما قيل من أنّ في بعضها المنع من أكل صيد الفهد ـ كما في موثقة سماعة ـ وهو ينافي الحمل على التقيّة ، لتحليل العامّة لصيد الفهد (١).

فضعيف غايته ، أمّا أولا : فلأنّه إنّما يصحّ إذا كانت الفقرتان حديثا واحدا ، وهو غير معلوم ، بل خلافه ظاهر ، حيث فصّل بين الجزئين بقوله : وسألته.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الترجيح بمخالفة العامّة لم يعلم أنّه لأجل الحمل على التقيّة.

هذا ، مع ما في أخبار المنع من ضعف الدلالة ، أمّا صحيحة رفاعة (٢) فلعدم اشتمالها على المنع من الأكل ، وإنّما غايتها أنّه إذا أكل لم يمسك ،

__________________

(١) رياض المسائل ٢ : ٢٦٣.

(٢) المتقدّمة في ص : ٢٩١.

٢٩٦

وأمّا أنّه حرام فلا ، فيمكن أن يكون المراد أنّه ليس ممّا صرّح بحلّيته الكتاب وإن لم يكن فيه منع أيضا ، وتقييد الكتاب ليس صريحا في المنع كما يأتي. ويمكن أن يكون المراد أنّه حينئذ يكون ممّا يمنع عنه العامّة ، حيث يقولون : إنّه ليس ممّا أمسك عليه ، كما صرّح به في صحيحة حكم (١).

وأمّا البواقي (٢) ، فلعدم اشتمالها على النهي الصريح ، بل يتضمّن الكلّ ما يحتمل الجملة الخبريّة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا ضعف الاحتجاج للمنع بالأخبار جدّا.

وقد ظهر ممّا مرّ في مطاوي ما سبق ضعف الدليلين الأولين ، من توقّف صدق المعلّمية على عدم الأكل ، ومن الآية والخبر المشتملين على الإمساك.

مضافا إلى ما في الأخيرين من أنّ دلالتهما على عدم أكل ما لم يمسك ـ لو سلّم بالتقريب الذي توهّموه ـ إنّما يكون بمفهوم الوصف ، هو ليس حجّة عند أهل التحقيق.

هذا كلّه ، مع أنّه لو سلّمنا دلالة الآية وتماميّة الأخبار حجّية لعدم جواز الأكل من صيد أكله الكلب فلا دلالة لها على كون عدم الأكل معتبرا في المعلّمية أصلا ، فيمكن أن يكون هذا شرطا آخر ، كالتسمية وعدم كون الكلب من الكافر ومغصوبا على رأي.

وتظهر الفائدة في الاعتياد وعدمه ، فعلى اعتباره في المعلّمية يعتبر اعتياده بذلك ، وعلى عدمه لا يعتبر ، فيحلّ صيد ما لم يأكل في بعض‌

__________________

(١) المتقدّمة في ص : ٢٩٢.

(٢) راجع ص : ٢٩١ و ٢٩٢.

٢٩٧

الأوقات حين لم يأكل وإن أكل في سائر الأوقات مساويا أو غالبا.

فالحقّ الحقيق بالاعتبار : عدم اعتبار ذلك في المعلّمية ولا في الحلّية مطلقا ، والمسألة واضحة بحمد الله سبحانه.

كما يتّضح بطلان قول الإسكافي ـ بالفرق بين أكل الكلب من الصيد قبل موته وبعده ، وجعل الأول قادحا في التعليم دون الثاني (١) ـ لعدم الدليل عليه رأسا ، إلاّ الجمع بين الأخبار ، وهو جمع مردود ، لأنّ الشاهد عليه بالمرّة مفقود.

نعم ، هنا أمر آخر لا يبعد اعتباره ـ بل الظاهر اعتباره ـ في المعلّمية ، وهو أن لا يكون معتادا بأكل تمام الصيد ، فيأكل تمامه دائما أو غالبا ، فإنّه إن كان كذلك لا يكون معلّما للصيد قطعا وإن كان معلّما في الجملة.

ولعلّهم لم يذكروه لندرة مثل ذلك الفرد ، بل عدم تحقّقه ، لأنّه يستدعي زمانا طويلا حتى يأكله الكلب بتمامه ويشتهيه ولم يصل إليه الصاحب ، أو لشمول اعتياد (٢) عدم الأكل مطلقا لذلك أيضا.

فروع :

أ : لا بدّ من تكرّر الأمرين الأولين ـ بل الثالث على القول باعتباره في المعلّمية ـ مرّة بعد اخرى ، حتى يغلب على الظنّ تأدّب الكلب بها ، ويصدق عليه في العرف كونه معلّما.

والأولى أن لا تقدّر المرّات بعدد ـ كما فعله جماعة (٣) ـ بل يرجع إلى‌

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف : ٦٧٥.

(٢) في « س » : اعتبار ..

(٣) منهم العلامة في القواعد ٢ : ١٥٠ ، والشهيد في المسالك ٢ : ٢١٨ ، والفيض في المفاتيح ٢ : ٢١١ ، وصاحب الرياض ٢ : ٢٦٣.

٢٩٨

العرف وأهل الخبرة ، فإنّه يمكن إتيانه بهذه الأمور ـ بالتعدّد الذي ذكروه ـ في أزمنة قليلة متقاربة ولم يفعلها بعده لعدم التعلّم. إلاّ أن يقال : إنّه يكون في زمان الإتيان بها معلّما ، ولو لم يأت بها بعده يخرج عن التعليم ، وذلك أوفق بما مرّ في المسألة الثانية من روايتي زرارة والسكوني (١) المتضمّنتين للتعليم ساعة الإرسال ، فيتعلّمه حينئذ بالتكرار مرّات وإن لم يجعل له ملكة راسخة ، فإنّ التعليم أمر والصيرورة ملكة أمر آخر.

ب : لو كان الكلب بحيث يأتي بالأمرين أو الثلاث بمقتضى طبعه وخلقته ، فهل يكفي ذلك في كونه معلّما ، أم لا‌ ، بل يشترط أن يكون ممّا علّمه الإنسان؟

ظاهر الآية ومقتضى لفظ المعلّم : الثاني.

ج : لو صدق كونه معلّما ولكن تعلّم غير الأمرين أو الثلاثة ـ كبعض الكلاب الروسيّة الذي يأخذ الشمعة باليد ، ويقوم في المجلس إلى الصبح ، أو يدخل الماء ويخرج منه ما وقع فيه ـ فهل يحلّ صيده لو لم يعلم الأمرين المذكورين؟

الظاهر : لا ، للإجماع على اعتبار الأمرين كما مرّ ، ولدلالة القرينة الحاليّة على إرادة المعلّمية للصيد.

د : الظاهر اعتبار بقاء المعلّمية ، فلو صار معلّما في زمان ونسي ما علّم وخرج عن التعليم لم يحلّ صيده.

المسألة الرابعة : المشهور بين الأصحاب عدم تحقّق الصيد بالمعنى الثاني ـ أي التذكية ـ بغير الكلب من جوارح البهائم والسباع ، كالفهد والنمر‌

__________________

(١) في ص : ٢٨٥ و ٢٨٦.

٢٩٩

وغيرهما ، ولا من جوارح الطير ، كالصقر والباز والعقاب ونحوها ، معلّما كان أو غير معلّم. بل يتوقّف الحلّ في الجميع ـ غير الكلب في الاصطياد ـ بإدراك التذكية ، وحكاية الشهرة عليه متكثّرة (١) ، بل عن الخلاف والانتصار والغنية والسرائر (٢) الإجماع عليه.

واستدلّ له بظاهر الآية الشريفة (٣) ، فإنّ المكلّب ـ بالكسر ـ هو معلّم الكلب لأجل الصيد ، فالمعنى : أحلّ لكم الصيد حال كونكم معلّمين للكلب ، فيكون الجارح ـ الذي هو آلة الصيد ـ مخصّصا بالكلب ، فلا يحصل بغيره ، وإلاّ لكان تقييده سبحانه بذلك خاليا عن الفائدة.

وتدلّ صحيحة الحلبي المتقدّمة في المسألة الأولى أيضا على اختصاص الجوارح في الآية بالكلب (٤).

وكذا موثّقة سماعة المتقدّمة في المقدّمة ، حيث قال فيها : « وليس هذا في القرآن » (٥).

وكذا رواية زرارة ، وفيها : « وما خلا الكلب ممّا يصيد الفهد والصقر وأشباه ذلك فلا تأكل من صيده إلاّ ما أدركت ذكاته ، لأنّ الله تعالى يقول : ( مُكَلِّبِينَ ) فما كان خلاف الكلب فليس صيده ممّا يؤكل إلاّ أن تدرك ذكاته » (٦).

__________________

(١) راجع المسالك ٢ : ٢١٧ ، مجمع الفائدة ١١ : ٦ ، والكفاية : ٢٤٥.

(٢) الخلاف ٢ : ٥١٥ ، الانتصار : ١٨٣ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٧ ، السرائر ٣ : ٨٢.

(٣) المائدة : ٤.

(٤) راجع ص : ٢٨٣.

(٥) راجع ص : ٢٧٤.

(٦) تفسير العياشي ١ : ٢٩٥ ـ ٢٩ ، البرهان ١ : ٤٤٨ ـ ١١ ، الوسائل ٢٣ : ٣٥٥ أبواب الصيد ب ٩ ح ٢١.

٣٠٠