مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

الحمد لله ، والصلاة على رسول الله ، ثمَّ على أهل بيت رسول الله.

كتاب القضاء والشهادات‌

وفيه مقصدان‌ :

٥
٦

المقصد الأول

في القضاء

وهو : ولاية حكم خاص ـ أو حكم خاص ـ في واقعة مخصوصة وعلى شخص مخصوص ، بإثبات ما يوجب عقوبة دنيويّة شرعا ، أو حقّ من حقوق الناس بعد التنازع فيه ، أو بنفي واحد منهما.

وفي هذا المقصد مقدّمة وأربعة مطالب.

أمّا المقدّمة ففي بيان فضله ، وشرفه ، وعظم خطره ، ووجوبه. وفيها ستّ مسائل :

المسألة الأولى : القضاء منصب عال عظيم ، وشرفه جسيم. ولعلوّ مرتبته وسموّ شأنه جعل الله سبحانه تولية ذلك إلى الأنبياء والأوصياء من بعدهم صلوات الله عليهم ، ثمَّ إلى من يحذو حذوهم ، ويقتدي بهم ، ويسير بسيرهم ، من العلماء الآخذين علومهم منهم ، المأذونين من قبلهم بالحكم بين الناس بقضائهم.

٧

وكفى بجلالة قدره تولية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه بنفسه الشريفة الزكيّة لأمّته ، ثمَّ تفويضه إلى سيّد الأوصياء بعده ، ثمَّ إلى أوصيائه القائمين مقامه ، وخصّصهم بذلك دون سائر الناس ، وكذلك من قبله من الأنبياء وخلفائهم.

ولعظم شأنه جعل الله يده فوق رأسه ، وأهبط إليه الملك يسدّده. قال أبو عبد الله عليه‌السلام في خبر السكوني : « يد الله فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة ، فإذا حاف وكله الله تعالى إلى نفسه » (١).

وفي خبر آخر : « إذا جلس القاضي أو اجلس في مجلسه هبط إليه ملكان يسدّدانه ويرشدانه ويوفّقانه ، فإذا جار عرجا وتركاه » (٢).

المسألة الثانية : خطر القضاء عظيم ، وأجره جسيم‌ ، فإنّ القاضي لفي شفا جرف هار ، فإن جار في الحكم أو حكم بغير علم انهار به في نار جهنّم ، وإن عدل وحكم بما أنزل الله عالما به متّبعا لسنّته فقد فاز فوزا عظيما ، ونال نيلا جسيما.

ولذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من جعل قاضيا ذبح بغير سكّين » (٣).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في رواية إسحاق بن عمّار : « يا شريح ، قد جلست مجلسا لا يجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ » (٤).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام ـ كما في مرفوعة البرقي ـ : « القضاة أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٠ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٥ ـ ١٣ ، التهذيب ٦ : ٢٢٢ ـ ٥٢٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٤ أبواب آداب القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) كنز العمال ٦ : ٩٩ ـ ١٥٠١٥ ، غوالي اللئالي ٣ : ٥١٥ ـ ١.

(٣) المقنعة : ٧٢١ ، الوسائل ٢٧ : ١٩ أبواب صفات القاضي ب ٣ ح ٨.

(٤) الكافي ٧ : ٤٠٦ ـ ٢ ، الفقيه ٣ : ٤ ـ ٨ ، المقنع : ٢ ، التهذيب ٦ : ٢١٧ ـ ٥٠٩ الوسائل ٢٧ : ١٧ أبواب صفات القاضي ب ٣ ح ٢.

٨

قضى بجور وهو لا يعلم أنّه قضى بجور فهو في النار ، ورجل قضى بحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة » (١).

وفي مرسلة الفقيه : « من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ فقد كفر بالله ».

وفي أخرى : « من حكم في درهمين فأخطأ كفر ».

وفي ثالثة : « إذا كان الحاكم يقول لمن عن يمينه ولمن عن يساره : ما ترى؟ ما تقول؟ فعلى ذلك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » (٢).

وفي صحيحة أبي بصير : « من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله فهو كافر بالله العظيم » (٣).

وفي رواية أنس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لسان القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس ، فإمّا في الجنّة ، وإمّا إلى النار » (٤).

وفي رواية سعيد بن أبي الخضيب : أنّه قال أبو عبد الله عليه‌السلام لابن أبي ليلى القاضي : « ما تقول إذا جي‌ء بأرض من فضّة وسماء من فضّة ، ثمَّ أخذ رسول الله بيدك فأوقفك بين يدي ربّك ، فقال : يا ربّ إنّ هذا قضى بغير ما قضيت؟ » (٥) الحديث ، إلى غير ذلك.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٠٧ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٣ ـ ٦ ، المقنعة : ٧٢٢ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ ـ ٥١٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢ أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ٦.

(٢) الفقيه ٣ : ٣ ـ ٦ ، وص ٥ ح ١٤ ، وص ٧ ح ٢٠.

(٣) الكافي ٧ : ٤٠٨ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٢١ ـ ٥٢٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣١ أبواب صفات القاضي ب ٥ ح ٢.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٩٢ ـ ٨٠٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٤ أبواب آداب القاضي ب ٢ ح ٣.

(٥) الكافي ٧ : ٤٠٨ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٢٠ ـ ٥٢١ ، الوسائل ٢٧ : ١٩ أبواب صفات القاضي ب ٣ ح ٩ ، بتفاوت يسير فيها.

٩

المسألة الثالثة : القضاء واجب على أهله ، بحقّ النيابة للإمام في زمان الغيبة في الجملة بإجماع الأمّة ، بل الضرورة الدينيّة.

لتوقّف نظام نوع الإنسان عليه.

ولأنّ الظلم من طبائع هذه الأشخاص واختلاف نفوسهم المجبولة على محبّة الترفّع والتغلّب وإرادة العلوّ والفساد في الأرض ( وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) (١) ( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) (٢) ، فلا بدّ من حاكم بينهم ينتصف من الظالم للمظلوم ويردعه عن ظلمه.

ولما يترتّب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وللأمر به في الكتاب والسنّة ، قال الله سبحانه ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (٣).

وقال تعالى شأنه ( إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) (٤).

وفي رواية معلّى بن خنيس : « وأمرت الأئمّة أن يحكموا بالعدل ، وأمر الناس أن يتبعوهم » (٥).

وفي مرسلة ابن أبي عمير : « ما تقدّست امّة لم يؤخذ لضعيفها من‌

__________________

(١) البقرة : ٢٥١.

(٢) سورة ص : ٢٤.

(٣) سورة ص : ٢٦.

(٤) النساء : ١٠٥.

(٥) الفقيه ٣ : ٢ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٢٣ ـ ٥٣٣ ، الوسائل ٢٧ : ١٤ أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٦.

١٠

قويّها بحقّه غير متعتع » (١) ، وغير ذلك من الأخبار.

المسألة الرابعة : إنّ القابل للحكومة والأهل للقضاء في البلد أو في مكان لم يتعسّر الوصول إليه إمّا واحد باعتقاد ذلك القابل وسائر أهل البلد بعد بذل جهدهم ، أو متعدّد.

فعلى الأول : يكون القضاء واجبا عينيّا على ذلك القابل ، والوجه ظاهر.

وعلى الثاني : فإمّا يكون القابل متعدّدا باعتقاد الجميع ، أو لا يكون كذلك.

فعلى الأول : يكون القضاء على كلّ من المتعدّدين واجبا كفائيّا ، ووجهه أيضا ظاهر.

وعلى الثاني : فإمّا يكون الأهل ـ باعتقاد واحد ممّن له الأهليّة ـ متعدّدا ، دون اعتقاد الرعيّة ، بل هم لا يعتقدون الأهليّة إلاّ لهذا الشخص.

أو يكون بالعكس ، أي لا يعتقد ذلك الأهل أهليّة غير نفسه ، والرعيّة يعتقدون أهليّة غيره أيضا.

فعلى الأول : فإنّ علم ذلك الأهل أنّ عدم اعتقاد المعتقدين للغير ليس مستندا إلى تقصيرهم في الفحص ، بل هوأمّا منبعث عن الفحص ، أو هم قاصرون عن الفحص ـ أي غير متمكّنين من المعرفة ، لعدم شياع واستفاضة مفيدين للعلم لكلّ أحد ، وعدم دليل آخر لهم ـ فيكون القضاء‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥٦ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ١٨٠ ـ ٣٧١ ، الوسائل ١٦ : ١٢٠ أبواب الأمر والنهي ب ١ ح ٩ ، غير متعتع : أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه أو يزعجه ( مجمع البحرين ٣ : ٣٠٩ ) وفي التهذيب ونسخة من الوسائل : متضع ، وفي أخرى منها : متصنّع.

١١

عليه واجبا عينيّا ، للانحصار فيه حقيقة ، لأنّه لا يكفي في الأهل وجوده الواقعي ، بل اللاّزم وجوده بحسب علم المكلّف.

وإن علم أنّ عدم اعتقادهم في الغير ناشئ عن التقصير في الفحص مع تمكّنهم منه ، لا يجب عليه عينا ، بل يكون واجبا كفائيّا عليه.

وعلى الثاني : فإن لم يعلم انبعاث اعتقادهم عن تقصير أو قصور ، لا يجب عليه أيضا عينا ، بل يكون كفائيا ، وإن علم ذلك يجب عليه عينا.

ومنه يظهر الحكم في الصورتين الأخيرتين إذا اختلفت الرعيّة في اعتقاد الغير وعدمه ، فتكون العينيّة والكفائيّة لذلك الأهل بالنسبة إلى القضاء لكلّ بعض كما ذكر.

وإن كان هناك أهل للقضاء باعتقاد نفسه دون اعتقاد الرعيّة كلاّ أو بعضا ، فيعتقدون عدم أهليّته إمّا علما أو عدالة ، أو لا يعتقدون أهليّته :

فإنّ علم ذلك الأهل أنّ اعتقادهم العدم أو عدم اعتقادهم منبعث عن الفحص والسعي ، لا يجب عليه قضاؤهم أصلا ، لأنّ حكمه ليس نافذا عليهم شرعا ، فلا يترتّب عليه أثر ، بل ربّما يحرم عليه لو علم عملهم بحكمه لعدم المبالاة في الدين ، لكونه إعانة عليهم في تأثيمهم ، بل هو ليس أهلا شرعا ، إذ عرفت أنّه من كان كذلك باعتقاد المكلّف.

بل وكذلك الحكم إذا لم يعلم ذلك ، أو علم انبعاثه عن التقصير أو القصور ، لأنّهم ما داموا كذلك لا يجب عليهم قبول حكمه ، بل لا يجوز لهم ، فتأمّل.

المسألة الخامسة : وجوب القضاء على من له الأهليّة‌ ـ عينا أو كفاية على التفصيل المتقدّم ـ إنّما هو بعد الترافع إليه ، فلا يجب بدونه ، للأصل ، وعدم الدليل. فليس عليه الفحص عن وجود التخالف والتنازع بين‌

١٢

الناس ، ولا عليه المحاكمة لو علمه ولم يترافع إليه.

نعم ، لو علم وجود النزاع والتشاجر ، وعلم ظلم أحدهما على الآخر عدوانا أو جهلا بالمسألة ، يجب عليه رفع النزاع بأيّ نحو كان من باب النهي عن المنكر ، وكذا لو علم ترتب منكر آخر على تنازعهم.

وإذا ترافعا إليه ، أو طلبه المدّعي ـ مع اجتماع شرائط الوجوب كما تقدّم ـ يجب عليه عينا مع الانحصار ، وكفاية مع التعدّد.

ولا يجب عينا عليه مع التعدّد باختيار المتداعيين أو المدعي إيّاه ، للأصل ، وعدم الدّليل.

نعم ، لو لم يعلما أو أحدهما التعدّد ، يجب عليه أحد الأمرين : إمّا القضاء ، أو الإرشاد إلى التعدّد.

ولو لم يرضيا أو المدّعي منهما بالترافع إلى غيره : فإن كان لادّعائه العلم بعدم أهليّة الغير ، يجب عينا عليه إن لم يمكن ردعه عن اعتقاده ، وإن جوّزه يجب عليه إمّا إثبات أهليّته له أو الحكم.

وإن كان لعدم علمه بالأهليّة ، يجب عليه إمّا الحكم أو أمرهما بالفحص عن حاله مع إمكانه. بل يمكن أن يقال بعدم وجوب شي‌ء عليه إذا علم استناد عدم علمهما إلى تقصير.

ولو لم يرضيا بالفحص أو بالترافع إلى الغير مع العلم بالأهليّة ففيه إشكال ، سواء لم يعلم ذلك الغير بالتنازع بينهما ومطالبة الحقّ ولم يمكن له إعلامه ، أو علم به الغير أيضا ، أو أمكن إعلامه ولكن لم يترافع إليه المدّعي ، والأصل يقتضي عدم العينيّة ، ولا إثم على أحد ، لتقصير المتداعيين.

المسألة السادسة : على العينيّة أو الكفائيّة ، هل هو على الفور ، أم‌

١٣

يجوز التراخي؟

الظاهر : عدم الفوريّة ، للأصل ، والإجماع ، وما ورد من بعض قضايا أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأخير الحكم والدخول في الصلاة أو إلى الغد.

نعم ، الظاهر عدم جواز التأخير بقدر يوجب تضييع حقّ لو كان. والأولى أنّه لو أراد التأخير بدون عذر يستمهل من المدّعي.

ثمَّ الوجوب عينا أو كفاية إنّما هو مع احتمال نفوذ حكمه وعدم مظنّة الضرر فيه ، وإلاّ لم يجب ، والوجه ظاهر.

١٤

المطلب الأول

في تعيين القاضي وما يتعلّق به من الشرائط ، والآداب ، والأحكام‌

وفيه ثلاثة أبحاث :

البحث الأول

في تعيين القاضي وشرائطه‌

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنّ القاضي يغاير المفتي والمجتهد والفقيه بالاعتبار.

فيسمّى الشخص قاضيا وحاكما : باعتبار إلزامه وحكمه على الأفراد الشخصيّة بالأحكام الشخصيّة.

ومفتيا : باعتبار مجرّد الإخبار عن حكم الله ولو كليّا.

ومجتهدا : باعتبار مجرّد الاستدلال ، وردّ الفروع إلى الأصول ، واستخراج الأحكام من مئاخذها ، واستفراغ وسعه فيه.

وفقيها : باعتبار علمه الحاصل بالأحكام من ذلك الاستخراج والاستفراغ.

فهذه الألفاظ الأربعة متّحدة مصداقا ، متغايرة حيثيّة ومفهوما.

المسألة الثانية : لمّا كان وجوب الحكم والقضاء على شخص من الرعيّة ، بل جوازه ، ووجوب قبول حكمه والتزام إلزامه ، أمرا مخالفا للأصل. أمّا وجوب الحكم والقبول فظاهر ، وأمّا الجواز فللإجماع ،

١٥

والمستفيضة ، كرواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة (١).

وصحيحة سليمان بن خالد : « اتّقوا الحكومة ، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين ، لنبيّ أو وصيّ نبيّ » (٢).

والمرويّ في مصباح الشريعة المنجبر بعمل الكلّ : « الحكم لا يصح إلاّ بإذن الله » (٣) ، إلى غير ذلك.

فلا بدّ ـ في كون شخص قاضيا وجواز القضاء له ووجوب القبول منه ـ من دليل مخرج له من الأصل ، ومثبت لمنصب القضاء له ، ولهذا اجتمعت كلمتهم قاطبة على أنّ من شرائطه إذن الإمام.

ومرادنا من الدليل المخرج : هو الدالّ على ذلك الإذن.

ثمَّ الدليل إمّا يختصّ بواحد معيّن شخصا ، فيسمّى ذلك الشخص بالنائب الخاص ، أو وصفا ، فيسمّى بالنائب العام.

ولمّا لم يكن تحقّق الأول إلاّ في زمان الحضور ، فلا فائدة في التعرّض لبيان شرائطه ، وإن تكلّم الأكثر في أحواله أيضا. بل المهمّ لنا التكلّم في الثاني ، وتحقيق أنّه من هو؟ وما شرائطه وآدابه؟

ولمّا عرفت أنّه لا يكون واحد من الرعيّة قاضيا إلاّ بعد إقامة الدليل على ثبوت هذا المنصب وتحقّق الإذن له ، فاللاّزم أولا ذكر الأدلّة المرخّصة في القضاء لطائفة من الرعيّة ، الآمرة بالتزام أحكامهم.

وإذ لا يمكن الإذن للموجودين في زمن الغيبة لشخص معيّن ، بل‌

__________________

(١) في ص : ٨.

(٢) الكافي ٧ : ٤٠٦ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٤ ـ ٧ ، التهذيب ٦ : ٢١٧ ـ ٥١١ ، الوسائل ٢٧ : ١٧ أبواب صفات القاضي ب ٣ ح ٣.

(٣) مصباح الشريعة : ٣٥٢.

١٦

يكون التعيين بالوصف ، فلا محالة يكون في أدلّة الإذن إطلاق أو عموم.

وتلك العمومات أيضا ليست باقية على حالها من العموم أو الإطلاق ، بل لاشتراط بعض الشرائط خرج منها بعض أفرادها بالأدلّة المقيّدة أو المخصّصة لها ، فلذا يلزم علينا الفحص ثانيا عن المقيّد والمخصّص ، وتخصيص المنصب بمن لم يخرج عن تحت العموم.

وبذلك يظهر أنّه يشترط في القاضي دخوله تحت أدلّة الإذن أولا ، وعدم خروجه بسبب المخصّصات ثانيا.

المسألة الثالثة : إذا عرفت أنّه لا بدّ في القاضي من ورود الإذن في شأنه ، فنقول : إنّه قد ورد ذلك من سلاطين الأنام ، وولاة الأمر من جانب الملك العلاّم ، للعلماء بأحكام أهل البيت عليهم‌السلام ، بالإجماع القطعي ، بل الضرورة ، والمعتبرة المستفيضة :

كمرفوعة البرقي المصرّحة بأنّ : « من قضى بحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة » (١).

وكصحيحة أبي خديجة : « انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضيا ، فتحاكموا إليه » (٢).

والأخرى : « اجعلوا بينكم رجلا ممّن عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته قاضيا » (٣).

ووصف الروايتين بعدم الصحة ـ مع أنّه غير ضائر عندنا مع‌

__________________

(١) المتقدمة في ص ٨ و ٩.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٢ ـ ٤ ، الفقيه ٣ : ٢ ـ ١ وفيهما قضائنا بدل قضايانا ، التهذيب ٦ : ٢١٩ ـ ٥١٦ ، الوسائل ٢٧ : ١٣ أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٥.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٠٣ ـ ٨٤٦ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٩ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٦.

١٧

وجودهما في الأصول المعتبرة ، وانجبارهما بالإجماع المحقّق والمحكيّ مستفيضا ، وفي المسالك : أنّهما والمقبولة الآتية مشتهران بين الأصحاب ، متّفق على العمل بمضمونهما (١) ـ غير جيّد ، لأنّ أولاهما رواها في الفقيه ، عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة ، وطريق الفقيه إلى أحمد صحيح ، كما صرّح به في الروضة (٢) ، وأحمد نفسه موثّق إماميّ (٣).

وأمّا أبو خديجة ـ وهو سالم بن مكرم ـ وإن ضعّفه الشيخ في موضع (٤) ولكن وثّقه في موضع آخر (٥) ، ووثّقه النجاشي (٦) ، وقال أبو الحسن عليّ بن الحسن : كان صالحا (٧) ، وعدّ في المختلف في باب الخمس روايته من الصحاح (٨) ، وقال الأسترابادي في رجاله الكبير في حقّه : فالتوثيق أقوى.

ومقبولة بن حنظلة : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما بحكم الله استخف ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله تعالى ، وهو على حدّ الشرك بالله » (٩).

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٥٢.

(٢) روضة المتقين ١٤ : ٤٥.

(٣) راجع رجال النجاشي : ٩٨ ـ ٢٤٦ ، ورجال الكشي ٢ : ٦٥٣.

(٤) الفهرست : ٧٩.

(٥) نقله عن العلامة في الخلاصة : ٢٢٧.

(٦) راجع رجال النجاشي : ١٨٨ ـ ٥٠١.

(٧) رجال الكشي ٢ : ٦٤١.

(٨) المختلف : ٢٠٧.

(٩) الكافي ٧ : ٤١٢ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ ـ ٥١٤ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٦ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١.

١٨

وتضعيف هذه الرواية (١) ـ مع انجبارها بما مرّ حتّى اشتهرت بالمقبولة ـ غير جيّد أيضا ، إذ ليس في سندها من يتوقّف في شأنه ، سوى داود بن الحصين ، ووثّقه النجاشي (٢) ، فلو ثبت ما ذكره الشيخ (٣) وابن عقدة (٤) من وقفه فالرواية موثّقة لا ضعيفة ، وعمر بن حنظلة ، وقد حكي عنه توثيقه (٥).

هذا ، مع أنّ في السند قبلهما صفوان بن يحيى ، وهو ممّن نقل إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه.

والتوقيع الرفيع المرويّ في إكمال الدين للصدوق ، وكتاب الغيبة للشيخ ، والاحتجاج للطبرسي : « وأمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواه حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم » (٦).

ومرسلة الفقيه المرويّة في معاني الأخبار وغيره أيضا : « اللهمّ ارحم‌

__________________

(١) كما في المسالك ٢ : ٣٥٢.

(٢) رجال النجاشي : ١٥٩ ـ ٤٢١.

(٣) رجال الشيخ : ٣٤٨.

(٤) نقله عنه العلاّمة في الخلاصة : ٢٢١.

(٥) يعود ضمير « عنه » إلى المضعّف وهو صاحب المسالك وقد وثّقه في شرح الدراية ، وإن كان مقتضى السياق عوده إلى النجاشي أو الشيخ أو ابن عقدة إلاّ أنه لم يرد عنهم التوثيق ولم ينسبه إليهم أحد. قال الشهيد الثاني في شرح الدراية : ٤٤ : « وعمر بن حنظلة لم ينص الأصحاب بجرح ولا تعديل لكن امره عندي سهل لأني قد حقّقت توثيقه من محلّ آخر ». قال صاحب الرياض ٢ : ٣٨٨ ـ بعد نقل كلام المسالك في تضعيف الرواية ـ « وعمر بن حنظلة وهو ممن حكى عنه بأنه وثقه. » أي الشهيد الثاني ، والمظنون أن المصنّف أخذ العبارة من الرياض كما هو الملاحظ كثيرا في الكتاب.

(٦) إكمال الدين : ٤٨٤ ، كتاب الغيبة للشيخ : ١٧٧ ، الاحتجاج : ٤٧٠ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٠ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٩.

١٩

خلفائي ، قيل : يا رسول الله ، من خلفاؤك؟ قال : الذين يأتون بعدي ، ويروون حديثي وسنّتي » (١).

والمرويّ في الفقه الرضوي : « منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل » (٢).

وفي كنز الكراجكي عن مولانا الصادق عليه‌السلام : « الملوك حكّام على الناس ، والعلماء حكّام على الملوك » (٣).

والمرويّ في تحف العقول للشيخ الجليل محمّد بن الحسن بن عليّ بن شعبة ، وفيه : « مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله ، الامناء على حلاله وحرامه » (٤).

والمرويّ في غوالي اللئالي : « الناس أربعة : رجل يعلم ، وهو يعلم أنّه يعلم ، فذاك مرشد حاكم فاتّبعوه » (٥).

وتدلّ عليه أيضا الأخبار الآتي بعضها ، الآمرة بالرجوع إلى الأعدل ، أو الأعلم ، أو الأفقه ، عند الاختلاف.

وتدلّ عليه أيضا قاعدتان متّفقتان ذكرناهما في كتاب عوائد الأيّام (٦).

وتؤيّده الأخبار المتواترة المتضمّنة لـ : أنّ العلماء ورثة الأنبياء ، وأنّهم‌

__________________

(١) معاني الأخبار ١ : ٣٧٤ ـ ١ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٩ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٧.

(٢) فقه الرضا «ع» : ٣٣٨.

(٣) كنز الفوائد : ١٩٥ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣١٦ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١٧.

(٤) تحف العقول : ٢٣٨ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣١٥ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١٦.

(٥) غوالي اللئالي ٤ : ٧٩ ـ ٧٤.

(٦) عوائد الأيّام : ١٨٧.

٢٠