مستند الشّيعة - ج ١٥

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٥

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-041-2
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٩٠

والظاهر ـ كما صرّح به جماعة (١) ـ عدم اشتراط بقاء الرطوبة بعد الامتزاج أولا ، فيحرم رطبه ويابسه.

وتدلّ عليه صحيحة معمّر : ما يروي الناس في أكل الطين وكراهته؟

قال : « إنّما ذاك المبلول وذاك المدر » (٢) والمدر : هو الطين اليابس ، كما صرّح به أهل اللّغة (٣).

ومنه تظهر حرمته بعد اليبوسة أيضا.

ويمكن إثباتها باستصحابها أيضا وإن أمكن الخدش فيه. فما لم يمتزج أولا بالماء أو لم يعلم فيه ذلك لم يكن حراما ، كما صرّح به المحقّق الأردبيلي ، ثمَّ قال : والمشهور بين المتفقهة أنّه يحرم التراب والأرض كلّها حتى الرمل والأحجار (٤). انتهى.

وقد يستدلّ على حرمة التراب بما في الأخبار من استثناء طين قبر الحسين عليه‌السلام ، فإنّ المراد منه ترابه فكذا المستثنى منه ، وبأنّ التراب أيضا مضرّ بالبدن قطعا ، فيكون لا محالة حراما.

وفيهما نظر ، أمّا الأول فلأنّ في القبر المقدّس أيضا طينا كما نشاهد من التربة الشريفة المأخوذة ، فإنّ ما رأيناه من المدر في الأغلب ، فيمكن أن يكون هو المراد من المستثنى ، مع أنّ في تقديرها بالحمّصة ورأس الأنامل إشعارا بالمدريّة أيضا.

__________________

(١) منهم المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة ١١ : ٢٣٥ ، المحقق السبزواري في الكفاية : ٢٥١ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٨٧.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٦ ـ ٧ ، التهذيب ٩ : ٨٩ ـ ٣٧٩ ، معاني الأخبار : ٢٦٢ ـ ١ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨ ح ١.

(٣) لسان العرب ٥ : ١٦٢ ، القاموس المحيط ٢ : ١٣٦.

(٤) مجمع الفائدة ١١ : ٢٣٥.

١٦١

وأمّا الثاني ، فلأنّه يختصّ التحريم حينئذ بما يوجب الضرر ، فلا يحرم نصف مثقال منه مرّة ، بل في كل سنة مثقال ، والمطلوب أعمّ من ذلك.

وبالجملة : القدر الثابت هو تحريم الطين والمدر ، وأمّا التراب والرمل والحجارة وأنواع المعادن فلا دليل على حرمة الغير المضرّ منها ، والأصل مع الحلّية ، والقياس باطل ، فلا بأس في تراب الدبس وما تستصحبه الحنطة وما يقع على الثمار ، مع أنّ هذه مستهلكة.

فائدة : قد عرفت استثناء طين قبر الحسين عليه‌السلام‌ ، وهو أيضا إجماعي ، والأخبار فيه بلغت حدّ التواتر ، وقد روى في كامل الزيارة بإسناده المتّصل إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « في طين قبر الحسين الشفاء من كلّ داء ، وهو الدواء الأكبر » (١).

فلا شكّ في استثنائه ، ولكن يشترط في استثنائه أمران :

الأول : أن يكون لأجل الاستشفاء ، فلا يجوز لغيره بلا خلاف أجده ـ إلاّ من شاذّ ـ للمرويّ في المصباح المنجبر ضعفه بالاشتهار : « من أكل من طين قبر الحسين عليه‌السلام غير مستشف به فكأنّه أكل لحومنا » الحديث (٢).

المؤيّد بتعليل التحليل في أكثر الأخبار بأنّ فيه شفاء من كلّ داء وأمانا من كلّ خوف ، ولا يصلح ذلك دليلا للاشتراط ، كما أنّ قوله في مرسلة الواسطي : « ومن أكله بشهوة لم يكن فيه شفاء » لا يدلّ عليه أيضا ، لأخصّيّة الأكل بالشهوة عن الاشتراط ، وعدم دلالته على الحرمة.

__________________

(١) كامل الزيارات : ٢٧٥ ـ ٤ ، مستدرك الوسائل ١٠ : ٣٣٠ أبواب المزار وما يناسبه ب ٥٣ ح ٣.

(٢) مصباح المتهجد : ٦٧٦ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٩ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٩ ح ٦.

١٦٢

خلافا للمصباح ، فجوّز الأكل منه تبرّكا (١) ، ولكن رجع عنه في سائر كتبه.

وقد يستدلّ له برواية النوفلي المروية في الإقبال : إنّي أفطرت يوم الفطر بطين وتمر ، فقال : « جمعت ببركة وسنّة » (٢).

وفيه : أنّه قضيّة في واقعة ، فلعلّه كان مستشفيا أيضا ، إلاّ أن يعمّم بترك الاستفصال ، ولكن مع ذلك لا يفيد ، لضعف الرواية.

كما لا تضرّ رواية الحسين بن أبي العلاء : « حنّكوا أولادكم بتربة الحسين عليه‌السلام » (٣) ، لأنّ التحنيك لا يستلزم الأكل.

كذا لا يثبت جواز الأكل للأمان من الخوف بالتعليل به في كثير من الأخبار ، إذ ليس فيها إلاّ أنّه أمان ، وأمّا أنّه في أكله أو استصحابه فلا ، بل في رواية الحرث بن المغيرة ـ المرويّة في أمالي الشيخ ـ تصريح بالأخير ، حيث قال فيها ـ بعد قوله عليه‌السلام : « إنّ فيه شفاء من كلّ داء وأمنا من كلّ خوف » وبيان كيفيّة أخذه ـ قلت : قد عرفت جعلت فداك الشفاء من كلّ داء فكيف الأمن من كلّ خوف؟ فقال : « إذا خفت سلطانا أو غير سلطان فلا تخرجنّ من منزلك إلاّ ومعك من طين قبر الحسين عليه‌السلام » الحديث (٤).

الثاني : أن لا يتجاوز قدر الحمّصة المتوسّطة المعهودة ، كما صرّح به المحقّق (٥) وجماعة (٦).

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٧١٣.

(٢) الإقبال : ٢٨١ ، الوسائل ٧ : ٤٤٥ أبواب صلاة العيد ب ١٣ ح ١.

(٣) كامل الزيارات : ٢٧٨ ـ ٢ ، الوسائل ١٤ : ٥٢٤ أبواب المزار وما يناسبه ب ٧٠ ح ٨.

(٤) أمالي الشيخ الطوسي : ٣٢٥.

(٥) الشرائع ٣ : ٢٢٤.

(٦) منهم الشهيد الثاني في الروضة ٧ : ٣٢٦ ، المسالك ٢ : ٢٤٤ ، صاحب الرياض ٢ : ٢٩٠.

١٦٣

للمرويّ في مكارم الأخلاق : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن كيفية تناوله ، قال : « إذا تناول التربة أحدكم فليأخذ بأطراف أصابعه ، وقدره مثل الحمّصة ، فليقبّلها وليضعها على عينيه وليمرّها على سائر جسده وليقل : اللهمّ بحقّ هذه التربة ، وبحقّ من حلّ بها وثوى فيها ، وبحقّ أبيه وامّه وأخيه والأئمّة من ولده ، وبحقّ الملائكة الحافّين به إلاّ جعلتها شفاء من كلّ داء ، وبرءا من كلّ مرض ، ونجاة من كلّ آفة ، وحرزا ممّا أخاف وأحذر. ثمَّ ليستعملها » (١).

وفي كامل الزيارة ومصباح المتهجّد : ما تقول في طين قبر الحسين عليه‌السلام؟ فقال : « يحرم على الناس أكل لحومهم ويحلّ لهم أكل لحومنا ، ولكنّ اليسير منه مثل الحمّصة » (٢).

وفي المرويّ في مصباح الزائر في رواية طويلة : « ويستعمل منها وقت الحاجة مثل الحمّصة » (٣).

والمرويّ في مصباح المتهجّد : إنّي سمعتك تقول : « إنّ تربة الحسين عليه‌السلام من الأدوية المفردة ، وإنّها لا تمرّ بداء إلاّ هضمته » فقال : « قد كان ذلك أو قد قلت ذلك ، فما بالك؟ » قال : إنّي تناولتها فما انتفعت ، قال : عليه‌السلام : « أما إنّ لها دعاء فمن تناولها ولم يدع به لم يكد ينتفع به » فقال له : ما أقول إذا تناولتها؟ قال : « تقبّلها قبل كلّ شي‌ء وتضعها على عينيك ولا تناول منها أكثر من حمّصة ، فإنّ من تناول منها أكثر من ذلك فكأنّما أكل لحومنا‌

__________________

(١) مكارم الأخلاق ١ : ٣٦١ ـ ١١٧٩.

(٢) كامل الزيارة : ٢٨٦ ، مصباح المتهجد : ٦٧٦ ، التهذيب ٦ : ٧٤ ـ ١٤٥ ، الوسائل ١٤ : ٥٢٨ أبواب المزار وما يناسبه ب ٧٢ ح ١.

(٣) مصباح الزائر : ٩٧.

١٦٤

ودماءنا ، فإذا تناولت فقل : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ الملك الذي قبضها ، وأسألك بحقّ النبيّ الذي خزنها ، وأسألك بحقّ الوصيّ الذي حلّ فيها أن تصلّي على محمّد وآل محمّد وأن تجعله شفاء من كلّ داء وأمانا من كلّ خوف وحفظا من كلّ سوء. فإذا قلت ذلك فاشددها في شي‌ء وأقرأ عليها سورة إنّا أنزلناه ، فإنّ الدعاء الذي تقدّم لأخذها هو الاستئذان عليها ، وقراءة إنّا أنزلناه ختمها » (١).

إلاّ أنّ في رواية أخرى مرويّة في كامل الزيارة بسنده المتّصل إلى أبي عبد الله عليه‌السلام : « لو أنّ مريضا من المؤمنين يعرف حقّ أبي عبد الله الحسين بن عليّ عليهما السّلام وحرمته وولايته أخذ من طين قبر الحسين عليه‌السلام مثل رأس أنملة كان له دواء » (٢).

ولكنّه لا يدلّ على أكل قدر رأس الأنملة ، فالأحوط ـ بل الأظهر ـ عدم التجاوز عن الحمّصة.

فروع :

أ : مقتضى الأصل ـ ولزوم الاقتصار على المتيقّن من ماهيّة التربة المقدّسة والمستفاد من مطلقات طين القبر ـ هو ما أخذه من قبره أو ما جاوره عرفا ، إلاّ أنّ في رواية ابن عيسى المرويّة في الكافي (٣) ومرسلة سليمان بن عمرو المروية في كامل الزيارة وفي مصباح المتهجّد وعن مصباح الزائر أنّه :

__________________

(١) مصباح المتهجّد : ٦٧٧ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٩ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٩ ح ٧.

(٢) كامل الزيارات : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ـ ٨ ، الوسائل ١٤ : ٥٣٠ أبواب المزار ب ٧٢ ح ٤.

(٣) الكافي ٤ : ٥٨٨ ـ ٥ ، مستدرك الوسائل ١٠ : ٣٣٣ أبواب المزار وما يناسبه ب ٥٣ ذيل الحديث ١٠.

١٦٥

« يؤخذ طين قبر الحسين عليه‌السلام من عند القبر على سبعين ذراعا » (١).

وفي رواية أخرى مرويّة في الكامل أيضا أنّه : « يؤخذ على سبعين باعا » (٢).

وفي أخرى مرويّة فيه أيضا ، وفي المكارم : « إنّ طين قبر الحسين عليه‌السلام فيه شفاء وإن أخذ على رأس ميل » (٣).

وكذا أخرى في الكامل ، قال : « لو أنّ مريضا من المؤمنين يعرف حقّ أبي عبد الله عليه‌السلام وحرمته وولايته أخذ من طينه على رأس ميل كان له دواء وشفاء » (٤).

وفي أخرى مرويّة فيه أيضا : « يستشفى بما بينه وبين القبر على رأس أربعة أميال » (٥) ، وقريبة منها مرسلة أخرى فيه أيضا ، وفيه : وروي فرسخ في فرسخ (٦).

وفي بعض كتب الأصحاب : وروي إلى أربعة فراسخ ، وروي ثمانية (٧). ولم أعثر على حديث يدلّ عليهما.

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٦٧٦ ، مصباح الزائر : ٩٦ ، الوسائل ١٤ : ٥١١ أبواب المزار وما يناسبه ب ٦٧ ح ٣ ، ولم نعثر عليها بهذا النص في كامل الزيارات.

(٢) كامل الزيارات : ٢٧٩ ـ ٢ ، والباع : هو مسافة ما بين الكفّين إذا بسطهما يمينا وشمالا ـ المصباح المنير : ٦٦.

(٣) كامل الزيارات : ٢٧٥ ـ ٥ ، مكارم الأخلاق ١ : ٣٦٠ ـ ١١٧٥ ، الوسائل ١٤ : ٥١٣ أبواب المزار ب ٦٧ ح ٩.

(٤) كامل الزيارات : ٢٧٩ ـ ٦ ، مستدرك الوسائل ١٠ : ٣٣١ أبواب المزار وما يناسبه ب ٥٣ ح ٧.

(٥) كامل الزيارات : ٢٨٠ ـ ٥ ، مستدرك الوسائل ١٠ : ٣٣٢ أبواب المزار وما يناسبه ب ٥٣ ح ٩.

(٦) كامل الزيارات : ٢٧١ ـ ٢ ، الوسائل ١٤ : ٥١٠ أبواب المزار وما يناسبه ب ٦٧ ح ٢.

(٧) انظر الرياض ٢ : ٢٩٠.

١٦٦

نعم ، ورد في الحائر الشريف أنّه خمس فراسخ (١).

وفي إثبات الحلّية بهذه الأخبار الضعيفة الغير المنجبرة إشكال جدّا ، والاقتصار على المفهوم العرفي هو مقتضى الأصل ، إلاّ أنّه يشكل حينئذ أيضا بأنّه يوجب عدم بقاء شي‌ء من تلك البقعة المباركة ، لكثرة ما يؤخذ منها في جميع الأزمنة وسيؤخذ إن شاء الله تعالى إلى يوم القيامة.

قيل : إلاّ أن يؤخذ من المواضع المذكورة ويوضع على القبر أو الضريح ، فيقوى احتمال جوازه (٢).

ولكن في صدق طين القبر عليه مع ذلك نظر ، وعليه يشكل الأمر ، للعلم بتغيّر طين القبر في تلك الأزمنة المتطاولة التي تناوبت عليه أيدي العامرين له ، والله أعلم.

وروى في الكافي وكذا الكامل عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّ عند رأس الحسين بن عليّ عليهما السّلام لتربة حمراء فيها شفاء من كلّ داء إلاّ السام » قال الراوي : فاحتفرنا عند رأس القبر فلمّا حفرنا قدر ذراع انحدرت علينا من عند رأس القبر شبه السهلة حمراء قدر درهم. الحديث (٣).

ثمَّ إنّه يشكل أيضا الاكتفاء بما يأتون به كثير من الزوّار وأخذوه من بعض أهل تلك الديار ، إلاّ أن يقبل فيه قول ذي اليد إذا أخبر بكونه التربة المقدّسة. ولو احتاط من لم يأخذه بنفسه أو بواسطة ثقة أخذه كذلك أو مطلقا فحلّه في ماء أو شربة اخرى بحيث يخرج عن صدق الطين ويشرب‌

__________________

(١) انظر البحار ٨٦ : ٨٩.

(٢) الرياض ٢ : ٢٩٠.

(٣) الكافي ٤ : ٥٨٨ ـ ٤ ، كامل الزيارات : ٢٧٩ ـ ١ ، مستدرك الوسائل ١٠ : ٣٣١ أبواب المزار وما يناسبه ب ٥٣ ح ٨.

١٦٧

كان أولى ، فقد روي في الكامل عن محمّد بن مسلم حديثا طويلا ، فيه إرسال أبي جعفر عليه‌السلام له شربة لوجعه فشرب وبرئ ، وقال : « يا محمّد ، إنّ الذي شربته فيه من طين قبور آبائي ، وهو أفضل ما أستشفي به ، فلا تعدلنّ به ، فإنّا نسقيه صبياننا ونساءنا ونرى فيه كلّ خير » الحديث (١).

ب : هل يختصّ ذلك بالتربة الحسينيّة ، أو يعمّ تربة سائر الأئمّة أيضا؟

مقتضى الأصل : الأول ، وبه صرّح في المرويّ في العيون بسنده المتّصل عن موسى بن جعفر عليهما السّلام : « لا تأخذوا من ترتبتي شيئا لتتبرّكوا به ، فإنّ كلّ تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين عليه‌السلام » الحديث (٢).

وفي المرويّ في العلل : « من أكل طين الكوفة فقد أكل لحوم الناس » (٣).

نعم ، في رواية الكامل المتقدّمة بعضها ـ بعد قوله : « على رأس أربعة أميال » ـ : « وكذلك طين قبر جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك طين قبر الحسين وعليّ ومحمّد ، فخذ منها ، فإنّها شفاء من كلّ سقم ، وجنّة ممّا يخاف » الحديث (٤).

وحملها المحدّث المجلسي على مجرّد الأخذ والاستصحاب دون الأكل (٥) ، ولا بأس به.

__________________

(١) كامل الزيارات : ٢٧٥ ـ ٧ ، وفيه : « من طين قبر الحسين عليه‌السلام » ، بدل : « من طين قبور آبائي ».

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٢ ـ ٦ ، الوسائل ١٤ : ٥٢٩ أبواب المزار ب ٧٢ ح ٢.

(٣) علل الشرائع : ٥٣٣ ـ ٤ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨ ح ١٥.

(٤) كامل الزيارات : ٢٨٠ ـ ٥ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٧ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٩ ح ٣.

(٥) البحار ٥٧ : ١٥٦ ذ. ح ٢٢.

١٦٨

وأمّا ما في رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة من قوله : « من طين قبور آبائي » فمع أنّ آخرها يدلّ على أنّه من قبر أبي عبد الله عليه‌السلام لا يضرّ لدخوله في التربة.

ج : قد وردت في الأخبار لأخذه واستعماله آداب وشرائط وأدعية ، وفي بعضها : أنّه لا شفاء إلاّ بها ، وكذا في ضبطه واستصحابه إلى المنزل ، وأنّه ينبغي أن يكتم به ، ويكثر ذكر الله عليه ، ولا يجعل في الخرج الجوالق ونحوها وفي الأشياء الدنسة والثياب الوسخة ، وأنّه لو فعل به ذلك لذهب منه الشفاء والبركة (١).

د : هل يستثنى الطين الأرمني أيضا ، أم لا؟

ظاهر بعضهم : العدم (٢) ، للأصل.

واستثناه في الدروس واللمعة والروضة (٣) ، للمنفعة.

وتدلّ عليه المرسلة المرويّة في المصباح والمكارم : عن الطين الأرمني يؤخذ للكسير أيحلّ أخذه؟ قال : « لا بأس به أما إنّه من طين قبر ذي القرنين » (٤).

والمسندتين المرويّتين في طبّ الأئمّة ، الدالّتين على جواز أكل سفوفه دواء (٥).

__________________

(١) كامل الزيارات : ٢٨١ ، الوسائل ١٤ : ٥٢١ أبواب المزار وما يناسبه ب ٧٠ وص : ٥٣٠ ب ٧٣ ، وج ٢٤ : ٢٢٧ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٩ ح ٣ و ٧ ، مستدرك الوسائل ١٠ : ٣٢٩ ، ٣٣٨ أبواب المزار وما يناسبه ب ٥٣ و ٥٦.

(٢) كصاحب الرياض ٢ : ٢٩٠.

(٣) الدروس ٣ : ١٤ ، اللمعة ( الروضة ٧ ) : ٣٢٧.

(٤) مصباح المتهجد : ٦٧٦ ، مكارم الأخلاق ١ : ٣٦٢ ـ ١١٨٢ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٠ ح ٣.

(٥) طب الأئمّة عليهم‌السلام : ٦٥ و ٦٦ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٠ ح ١ و ٢.

١٦٩

وردّت ـ بعد التضعيف ـ بالحمل على حال الاضطرار ، مضافا إلى عدم صراحة الأول في الأكل ، فلعلّه للضماد أو الطلاء.

نعم ، يمكن أن يقال بعدم انصراف الإطلاق إلى مثل ذلك الطين ، سيّما مع كونه نافعا ، وتعليل حرمة الطين في بعض الأخبار بالضرر (١).

ومنه يظهر جواز استثناء الطين المختوم أيضا ، مضافا فيهما إلى عدم تيقّن كونهما طينا وإن سمّيا به ، كما يستفاد من آثارهما وخواصّهما ، ولصوقهما باللسان ، وقول الأطبّاء بأنّ الأول حارّ ، مع أنّ كلّ طين بارد.

المسألة الثالثة : يحرم من الجوامد ما كان منه مسكرا‌ ، كالبنج ونحوه من المعاجين المسكرة ، لأنّ كلّ مسكر حرام إجماعا فتوى (٢) ونصّا (٣).

وما كان منه نجس العين ـ كالخرء والعذرة ـ أو متنجّسا غير قابل للتطهير ـ كالعجين الذي عجن بالماء النجس ، وبعض الحبوبات المنقوعة في المائع النجس ، فإنّها غير قابلة للتطهير على الأقوى ، كما مرّ في بحثه ـ أو متنجّسا قابلا له قبل تطهيره ، أو مضرّا بالبدن ، أو خبيثا ، أو مغصوبا.

والوجه في الكلّ ظاهر ممّا مرّ.

وما عدا ذلك من الجوامد باق على أصل الإباحة ، داخل في العمومات ، ولا يحرم منها شي‌ء ، فتحلّ النباتات من الحشائش والأوراد والأوراق والأخشاب ، حتى أصول العنب والزبيب والفحم ما لم يضرّ ، وغير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى كثرة.

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ٢٢٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨.

(٢) القواعد ٢ : ١٥٩ ، الروضة ٧ : ٣١٦ ، الرياض ٢ : ٢٩٠.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٢٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٥.

١٧٠

الفصل الثاني

في المائعات

وفيه أيضا مسائل :

المسألة الاولى : من المائعات المحرّمة : ما مرّ من فضلات الحيوانات ، من الدم والبول واللبن‌ ، على التفصيل المتقدّم.

ومنها : المائعات النجسة الغير القابلة للتطهير ، كغير الماء مطلقا على الأظهر ، والقابلة له قبل التطهير ، وجميع ما كان مضرّا بالذات أو بالعارض ، أو مغصوبا ، كما مرّ جميعا.

المسألة الثانية : من المائعات المحرّمة : الخمر‌ ، وحرمته إجماعيّة ، بل ضرورة دينيّة ثابتة بالكتاب والسنّة ، ويلحق به كلّ مسكر في الحرمة ، بالإجماع والنصوص المستفيضة ، بل المتواترة : كرواية الصيداوي ، وفيها : « كلّ مسكر حرام » (١).

ورواية أبي الربيع الشامي : « إنّ الله حرّم الخمر بعينها ، فقليلها وكثيرها حرام ، كما حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير ، وحرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشراب من كلّ مسكر ، وما حرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد حرّمه الله تعالى » (٢).

وموثّقة سماعة : عن التمر والزبيب يطبخان للنبيذ ، قال : « لا » وقال :

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٠٧ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ١١١ ـ ٤٨٣ ، الوسائل ٢٥ : ٣٢٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٥ ح ٣.

(٢) الكافي ٦ : ٤٠٨ ـ ٢ ، التهذيب ٩ : ١١١ ـ ٤٨٠ ، الوسائل ٢٥ : ٣٢٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٥ ح ٤.

١٧١

« كلّ مسكر حرام » وقال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ ما أسكر كثيره فقليله حرام » (١).

ورواية عطاء : « كلّ مسكر حرام ، وكلّ مسكر خمر » (٢).

وفي صحيحة ابن وهب : « كلّ مسكر حرام ، فما أسكر كثيره فقليله حرام » قلت : فقليل الحرام يحلّه كثير الماء؟ فردّ عليه بكفّه مرّتين : لا ، لا (٣).

ورواية كليب : « ألا إنّ كلّ مسكر حرام ، ألا وما أسكر كثيره فقليله حرام » (٤) ، إلى غير ذلك.

والمدلول عليه من تلك الأخبار وغيرها ممّا يطول الكلام بذكره والمتّفق عليه بين العلماء الأخيار أنّ المعتبر في التحريم إسكار كثيرة ، فما أسكر كثيره حرم قليله ولو قطرة منه وإن مزجت بغيره وغلب الغير عليها ، كما صرّحت به صحيحة ابن وهب.

وفي صحيحة البجلي : « إنّ ما أسكر كثيره فقليله حرام » ، فقال له الرجل : فأكسره بالماء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « لا ، وما للماء يحلّ الحرام ، اتّق الله ولا تشربه » (٥).

ورواية عمر بن حنظلة : ما تقول في قدح من المسكر يغلب عليه‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٠٩ ـ ٨ ، الوسائل ٢٥ : ٣٣٨ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٧ ح ٥.

(٢) الكافي ٦ : ٤٠٨ ـ ٣ ، التهذيب ٩ : ١١١ ـ ٤٨٢ ، الوسائل ٢٥ : ٣٢٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٥ ح ٥.

(٣) الكافي ٦ : ٤٠٨ ـ ٤ ، التهذيب ٩ : ١١١ ـ ٤٨١ ، الوسائل ٢٥ : ٣٣٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٧ ح ١.

(٤) الكافي ٦ : ٤٠٨ ـ ٦ ، الوسائل ٢٥ : ٣٣٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٧ ح ٢.

(٥) الكافي ٦ : ٤٠٩ ـ ١١ ، الوسائل ٢٥ : ٣٣٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٧ ح ٧.

١٧٢

الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره؟ فقال : « لا والله ولا قطرة تقطر منه في حبّ إلاّ أهريق ذلك الحبّ » (١).

ويلحق بالمسكر : الفقّاع قليله وكثيره مطلقا وإن لم يكن مسكرا ، بلا خلاف بين الأصحاب ، بل عليه الإجماع عن الغنية والسرائر والتحرير والقواعد والدروس والمسالك (٢) ، وغيرها من كتب الجماعة (٣) ، بل هو إجماع محقّق ، فهو الحجّة ، مضافا إلى النصوص المستفيضة المطلقة من غير تقييد بالإسكار.

ففي صحيحة الوشّاء : « كلّ مسكر حرام ، وكلّ مخمّر حرام ، والفقّاع حرام » (٤).

وفي المستفيضة : أنّه يقتل بائعه ويجلد شاربه (٥).

المسألة الثالثة : ومن المائعات المحرّمة : العصير العنبي إذا غلى‌ ، بأن يصير أسفله أعلاه وأعلاه أسفله ، وهذا هو المراد من القلب الوارد في بعض الروايات الآتية ، بلا خلاف فيه ، بل بالإجماع المحكيّ مستفيضا (٦) ، والمحقّق ، وهو الحجّة فيه مع النصوص المتكثّرة الدالة منطوقا أو مفهوما.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٠ ـ ١٥ ، التهذيب ٩ : ١١٢ ـ ٤٨٥ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٨ ح ١.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨ ، السرائر ٣ : ١٢٨ ، التحرير ٢ : ١٦١ ، القواعد ٢ : ١٥٨ ، الدروس ٣ : ١٦ ، المسالك ٢ : ٢٤٤.

(٣) الرياض ٢ : ٢٩١ ، مفاتيح الشرائع ٢ : ٢١٩.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢٤ ـ ١٤ ، التهذيب ٩ : ١٢٤ ـ ٥٣٦ ، الاستبصار ٤ : ٩٥ ـ ٣٦٥ ، الوسائل ٢٥ : ٣٦٠ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٧ ح ٣.

(٥) الوسائل ٢٥ : ٣٦٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٨.

(٦) انظر المسالك ٢ : ٢٤٤ ، كشف اللثام ٢ : ٨٩ ، الرياض ٢ : ٢٩١.

١٧٣

ففي صحيحة حمّاد : « لا يحرم العصير حتى يغلي » (١).

وفي روايته : عن شرب العصير ، فقال : « اشربه ما لم يغل ، فإذا غلى فلا تشربه » قال : قلت : جعلت فداك فأيّ شي‌ء الغليان؟ قال : « القلب » (٢).

وفي موثّقة ذريح : « إذا نشّ العصير أو غلى حرم » (٣).

أقول : النشّ : صوت الماء وغيره إذا غلى.

وفي صحيحة ابن سنان : « كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (٤).

ورواية أبي بصير : عن الطّلاء ، فقال : إن طبخ حتى يذهب منه اثنان ويبقى منه واحد فهو حلال ، وما كان دون ذلك فليس فيه خير » (٥).

أقول : الطّلاء : ما طبخ من عصير العنب.

وصحيحة ابن سنان : « إنّ العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فهو حلال » (٦).

وابن أبي يعفور : « إذا زاد الطّلاء على الثلث فهو حرام » (٧).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٩ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ١١٩ ـ ٥١٣ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٧ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٩ ـ ٣ ، التهذيب ٩ : ١٢٠ ـ ٥١٤ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣ ح ٣.

(٣) الكافي ٦ : ٤١٩ ـ ٤ ، التهذيب ٩ : ١٢٠ ـ ٥١٥ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣ ح ٤.

(٤) الكافي ٦ : ٤١٩ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ١٢٠ ـ ٥١٦ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ١.

(٥) الكافي ٦ : ٤٢٠ ـ ١ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٦.

(٦) الكافي ٦ : ٤٢٠ ـ ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٨ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٥ ح ١.

(٧) الكافي ٦ : ٤٢٠ ـ ٣ ، التهذيب ٩ : ١٢٠ ـ ٥١٩ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٨.

١٧٤

ورواية عقبة : في رجل أخذ عشرة أرطال من عصير العنب فصبّ عليه عشرين رطلا من ماء ، ثمَّ طبخها حتى ذهب منه عشرون رطلا وبقي عشرة أرطال ، أيصلح شرب ذلك أم لا؟ فقال : « ما طبخ على ثلثه فهو حلال » (١).

ورواية محمّد بن الهيثم : عن العصير يطبخ في النار حتى يغلي من ساعته فيشربه صاحبه؟ قال : « إذا تغيّر عن حاله وغلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (٢).

ومقتضى إطلاق أكثر هذه الأخبار وفتاوى الأصحاب وصريح جماعة ـ كالشرائع والتحرير والمسالك والروضة (٣) وغيرها (٤) ـ عدم الفرق في الحكم بتحريمه بالغليان بين كونه بالنار أو غيرها.

ويدلّ عليه صريحا الرضوي : « اعلم أنّ أصل الخمر من الكرم ، إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تصيبه النار فهو خمر ، ولا يحلّ شربه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (٥) ، وضعفه بالعمل مجبور.

ولا يضرّ عموم المفهوم في صحيحة ابن سنان الأولى ، لأنّه مفهوم وصف لا حجّية فيه.

وكذا مقتضاه عدم الفرق في ذهاب الثلاثين بين الأمرين.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢١ ـ ١١ ، التهذيب ٩ : ١٢١ ـ ٥٢١ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٨ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٩ ـ ٢ ، التهذيب ٩ : ١٢٠ ـ ٥١٧ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٧.

(٣) الشرائع ٣ : ٢٢٥ ، التحرير ٢ : ١٦١ ، المسالك ٢ : ٢٤٤ ، الروضة ٧ : ٣٢٠.

(٤) كالكفاية : ٢٥١ والمفاتيح ٢ : ٢٢٠.

(٥) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٨٠ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ٥.

١٧٥

ولا يعارضه مفهوم الشرط في رواية أبي بصير ، لأنّ الطّلاء لا يكون إلاّ مطبوخا.

نعم ، يعارضه مفهوم صحيحة ابن سنان الأخيرة بالعموم من وجه ، ومقتضاه الرجوع إلى استصحاب الحرمة.

وتوهّم عدم اعتبار المفهوم ـ لأنّ التقييد من جهة أنّ الغالب أنّ ذهاب الثلاثين لا يكون إلاّ بالنار ، بل هو المتبادر منه ـ يوجب الخدش في الإطلاقات أيضا ، لانصرافها إلى الذهاب بالنار.

فالقول بالتفرقة في التثليث ـ كما هو ظاهر التحرير ، حيث قال بعد التصريح بعدم التفرقة في الغليان : فإن غلى بالنار وذهب ثلثاه فهو حلال ـ (١) كان جيّدا لو لا مظنّة انعقاد الإجماع على خلافه لندرة القائل.

مع احتمال كون كلامه أيضا واردا مورد الغالب ، بل احتمال كون ذهاب الثلاثين في كلامه مطلقا ويكون التقييد للغليان ، يعني : إذا حصل الغليان الناري ـ الذي هو أحد سببي التحريم ـ وذهب الثلثان بأيّ نحو كان فهو حلال.

ولكنّه بعيد. والأحوط اعتبار الذهاب الناري في الجملة.

وقد يتوهّم تصريح رواية ابن سنان بكفاية غير الناري ، حيث قال : « العصير إذا طبخ حتى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف ثمَّ يترك حتى يبرد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه » (٢) ، لأنّ تتمّة الثلاثين في الرواية قد ذهبت بعد الترك.

وفيه : أنّ الطبخ وإن ترك ولكنّ الحرارة النارية باقية ، وهي أوجبت‌

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٦١.

(٢) التهذيب ٩ : ١٢٠ ـ ٥١٨ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٥ ح ٧.

١٧٦

ذهاب تتمّة الثلاثين.

ثمَّ إنّ ما ذكر من التبادر والغلبة جاريان في الغليان أيضا ، إلاّ أنّ عدم ظهور قائل بالفرق ـ بل تصريح بعضهم بعدم الخلاف فيه (١) ، وكون الاحتياط فيه موافقا لعدم التفرقة ـ يوهن التفرقة فيه جدّا.

وأمّا ما ذكره بعضهم (٢) من أنّ مقتضى انصراف المطلق إلى الغالب وإن كان تخصيص الغليان بالناري أيضا ، إلاّ أنّ تصريح موثّقة ذريح المتقدّمة وتنصيصها بالتحريم بغير الناري أيضا أوجب عدم الفرق فيه.

وليت شعري من أين فهم تصريحها بذلك؟! مع أنّ كلاّ من النشيش والغليان مطلقان ، بل قيل : إنّ النشيش هو الصوت الحاصل بالغليان (٣). إلاّ أن يستند إلى ما قيل من أنّ النشيش هو صوت الغليان الحاصل من طول المكث (٤) ، ولكنّه غير ثابت.

وكذا مقتضى الإطلاقات كفاية مجرّد الغليان في حصول التحريم من غير اعتبار أمر آخر ، وهو ظاهر فتاوى الأكثر.

خلافا للفاضل في الإرشاد ، فاشترط أيضا الاشتداد (٥) ، وهو الغلظة والثخن والقوام الغير الحاصلة إلاّ مع تكرار الغليان ، فالقول بالتلازم ـ كما عن الشهيد (٦) ـ غير سديد ، كما أنّ اشتراط الإرشاد خال عن السداد ، لعدم المقتضي له.

ويمكن أن يستدلّ له بمرسلة محمّد بن الهيثم : عن العصير يطبخ في‌

__________________

(١) الرياض ٢ : ٢٩١.

(٢) الرياض ٢ : ٢٩١.

(٣) المفاتيح ٢ : ٢٢٠ ، الرياض ٢ : ٢٩٢.

(٤) الرياض ٢ : ٢٩٣.

(٥) الإرشاد ٢ : ١١١.

(٦) الذكرى : ١٣.

١٧٧

النار حتى يغلي من ساعته فيشربه صاحبه؟ قال : « إذا تغيّر عن حاله وغلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » ، فإنّه لا تغيّر في الحال بعد الغليان سوى الاشتداد مشروطا قطعا.

وفيه : أنّ الظاهر أنّ قوله : « وغلى » بيان لتغيّر الحال ، فالمراد بالتغيّر : تأثّره بحيث يصير أعلاه الأسفل وبالعكس ، ولا أقلّ من الاحتمال المسقط للاستدلال.

وكذا مقتضى تعليق الحكم بالحرمة على العصير ـ وفاقا لظاهر الكفاية (١) ـ قصر التحريم على ما إذا صدق عليه العصير عرفا.

وأمّا بدون ذلك ـ كما إذا كان الماء في الحبّ ولم يعصر بعد ـ فلا وجه للحكم بتحريمه ـ كما هو ظاهر بعضهم (٢) ، بل ظاهر قول الأردبيلي أنّه قول كثير ، حيث عبّر بلفظ : قالوا (٣) ـ لعدم صدق العصير عليه ، وإرادة ما يصلح أن يكون عصيرا خلاف الأصل ، مع أنّ في صدق الغليان عليه أيضا نظرا ، ولو سلّم صدقه فانصراف المطلق عليه بعيد غايته.

فالظاهر حلّية حبّة العنب الداخلة في الماء أو المرق ولو غلى الماء أو المرق وطبخت فيه ، وكذا الزبيب الداخل فيه ، على القول بحرمة العصير الزبيبي بالغليان أيضا ، إلاّ أن يعلم انشقاق الحبّة وخروج مائها ومزجها مع المرق مثلا وغليانه ، بل في حصول التحريم حينئذ أيضا نظر ، لأنّ باستهلاكه في المرق يخرج عن صدق غليان العصير ، فتأمّل.

ودعوى الإجماع البسيط أو المركّب في أمثال المقام مجازفة جدّا.

__________________

(١) الكفاية : ٢٥١.

(٢) حكاه في الحدائق ٥ : ١٥٣ عن بعض مشايخه وهو الشيخ سليمان البحراني.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢٠٠.

١٧٨

بل قيل : إنّ في رواية رواها الحلّي في السرائر ـ عن كتاب مسائل محمّد بن علي بن عيسى : عندنا طبيخ يجعل فيه الحصرم ، وربما جعل فيه العصير من العنب وإنّما هو لحم يطبخ به ، وقد روي عنهم عليهم‌السلام في العصير أنّه إذا جعل على النار لم يشرب حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، وأنّ الذي يجعل في القدر من العصير بتلك المنزلة ، وقد اجتنبوا أكله إلى أن نستأذن مولانا في ذلك ، فكتب بخطّه : « لا بأس بذلك » (١) ـ دلالة على أنّه إذا صبّ العصير في الماء وغلى الجميع حلّ أكله ، ولا يشترط فيه ذهاب الثلاثين (٢). انتهى.

وهو حسن ، إلاّ أنّه تعارضها الأخبار العديدة المشترطة للذهاب ، مع تضمّنها لمزج العصير بالماء من غير استهلاك ، فتأمّل.

ثمَّ إنّه قد عرفت تصريح الأخبار بحصول الحلّية بذهاب الثلاثين ، وهو أيضا إجماعي ، بل ضروري.

ولو انقلب العصير المذكور دبسا أو خلاّ قبل الذهاب فهل يحلّ ، أم لا؟

قال المحقق الأردبيلي ـ بعد ذكر كلام ـ : فقد ظهر المناقشة في حصول الحلّ بصيرورة العصير دبسا أو بانقلابه خلاّ ، فإنّ الدليل كان مخصوصا بذهاب الثلاثين ، إلاّ أن يدّعى الاستلزام ، أو الإجماع ، أو أنّه إنّما يصير خلاّ بعد أن يصير خمرا ، وقد ثبت بالدليل أنّ الخمر يحلّ إذا صار خلاّ ، أو يقال : إنّ الدليل الدالّ على أنّ الدبس والخلّ مطلقا حلال يدلّ‌

__________________

(١) مستطرفات السرائر : ٦٩ ـ ١٦ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٨ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٤ ح ١.

(٢) البحار ٦٣ : ٥٠٤.

١٧٩

عليه (١). انتهى.

وظاهر كلامه : كون عروض الحلّ بالخلّية أو الدبسيّة مظنّة الإجماع.

وصرّح بعض سادة مشايخنا المحقّقين بأنّه مذهب بعض الأصحاب ، ولكنّه نسب عدم الحلّ إلى المشهور ، قال في رسالته المعمولة في حكم العصير في طيّ بعض مطالبه : هذا إن اشتراطنا في حلّية العصير ذهاب ثلثيه مطلقا كما هو المشهور ، فلو قلنا بالاكتفاء بصيرورته دبسا يخضب الإناء ـ كما ذهب إليه بعض الأصحاب ـ زال الإشكال من أصله. انتهى.

وكيف كان ، فاحتمال الحلّية قويّ جدّا ، لما أشير إليه من عمومات حلّية الخلّ المعارضة لعمومات حرمة العصير الذي غلى قبل ذهاب الثلاثين بالعموم من وجه ، فيرجع إلى أصل الإباحة وعمومها.

ولا يتوهّم الرجوع إلى استصحاب النجاسة ، لتغيّر موضوعها ، فإنّ النجاسة ثابتة في الأخبار للعصير ، فهذا من باب استحالة النجس الذاتي ، التي لا تستصحب معها النجاسة ، دون المتنجّس ، الذي يستصحب على التحقيق ، مع أنّه لعلّ في الأخبار ما يشعر بالحلّية أيضا.

فإنّ في رواية سفيان بن السمط : « عليك بخلّ الخمر فاغمس فيه الخبز فإنّه لا يبقى في جوفك دابّة إلاّ قتلها » (٢).

وفي حسنة سدير : ذكر عنده خلّ الخمر ، فقال : « إنّه ليقتل دوابّ البطن ويشدّ الفم » (٣).

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢٠١ ، وفيه : .. إلاّ أن يدّعى الاستلزام لو لا الإجماع ..

(٢) الكافي ٦ : ٣٣٠ ـ ١١ ، المحاسن : ٤٨٧ ـ ٥٥١ ، الوسائل ٢٥ : ٩٣ أبواب الأطعمة المباحة ب ٤٥ ح ٣.

(٣) الكافي ٦ : ٣٣٠ ـ ٨ ، المحاسن : ٤٨٧ ـ ٥٤٩ ، الوسائل ٢٥ : ٩٣ أبواب الأطعمة

١٨٠