مستند الشّيعة - ج ١٥

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٥

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-041-2
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٩٠

بعد ذلك ، فإنّ آية الحلّ مكّية وآيتا الحرمة مدنيّتان ، فهما نازلتان بعد الاولى ، فلا تنافي بينهما أصلا ، وحمل حرف التعريف في الآيتين على المعهود خلاف الأصل.

مع أنّه لو لم تحمل الآية الأولى على ما ذكرنا وحملت على نفي التحريم المطلق لزم الحكم إمّا بنسخها ، فلا تكون حجّة ، أو تخصيصها إلى أن لا يبقى ما يقرب مدلول العام ، وهو يخرج عن الحجّية.

ثمَّ ممّا ذكرنا ظهر حرمة العلقة ودم البيضة ، لصدق الدم ، مضافا إلى ما مرّ من نجاستهما في بحث الطهارة.

المسألة الرابعة : لا شكّ في حرمة أبوال ما لا يؤكل لحمه ممّا له نفس‌ ، لنجاستها.

وأمّا ما يؤكل لحمه ففي حلّية بوله وحرمته قولان :

الأول : للسيّد والإسكافي والحلّي والنافع والمعتبر والشرائع والأردبيلي والكفاية وإليه يميل كلام المسالك (١) ، وعن الأول الإجماع عليه.

للأصل ، والعمومات ، وحصر المحرّمات ، ورواية الجعفري : « أبوال الإبل خير من ألبانها » (٢).

والثاني : لظاهر الشيخ في النهاية وصريح ابن حمزة ومطاعم الشرائع والإرشاد والتحرير والقواعد والمختلف والدروس وظاهر الروضة (٣) ،

__________________

(١) السيّد في الانتصار : ٢٠١ ، حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٦٨٦ ، الحلّي في السرائر ٣ : ١٢٥ ، المختصر النافع ٢ : ٢٥٤ ، المعتبر ١ : ٤١١ ، الشرائع ١ : ٥١ ، مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢١٤ ، الكفاية : ٢٥٢ ، المسالك ٢ : ٢٤٧.

(٢) الكافي ٦ : ٣٣٨ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ١٠٠ ـ ٤٣٧ ، الوسائل ٢٥ : ١١٤ أبواب الأطعمة المباحة ب ٥٩ ح ٣.

(٣) النهاية : ٥٩٠ ، ابن حمزة في الوسيلة ( الجوامع الفقهية ) : ٧٣٣ ، الشرائع ٣ :

١٤١

واختاره بعض مشايخنا المعاصرين عطّر الله مرقده (١).

للقطع بالاستخباث.

أو احتماله الموجب للتنزّه عنه من باب المقدّمة ، فإنّ التكليف باجتناب الخبيث ليس تكليفا مشروطا بالعلم بخباثته ، بل هو مطلق.

والأولويّة المستفادة من أدلّة حرمة الفرث والمثانة التي هي مجمع البول.

ولمفهوم موثّقة عمّار : عن بول البقر يشربه الرجل ، قال : « إن كان محتاجا إليه يتداوى به شربه ، وكذلك بول الإبل والغنم » (٢).

وفي الكلّ نظر ، أمّا الأول فلمنع الخباثة جدّا ، وتنفّر بعض الطباع أو جلّها غير الخباثة المحرّمة ، فإنّ تنفّرها عمّا تغسل فيه اليد الدنسة ـ أو يوطأ بالرّجل الدنسة ، أو تمرس فيه اللحية الكثّة ، أو تدخل فيه الذباب أو القمل الكثيرة ثمَّ تخرج ـ أكثر بكثير من ذلك ، مع أنّه ليس بحرام قطعا ولا يعدّ من الخبائث شرعا ، مع أنّه لو كان [ لكان ] (٣) لعدم الاعتياد أو مظنّة الحرمة ، ولولاهما لم أر فرقا بين لبنها وبولها بالمرّة ، كيف؟! وصرّح الإمام بكون بول الإبل خيرا من لبنها كما عرفت ، وما أظنّ فيها تنفّرا إلاّ من إحدى الجهتين المذكورتين.

وأمّا الثاني ، فلمنع عدم كون التكليف باجتناب الخبيث مشروطا بالعلم ، ولولاه لزم التكليف بما لا يعلم ، فإنّه يصير المفاد حينئذ : حرّمت‌

__________________

٢٢٧ ، الإرشاد ٢ : ١١١ ، التحرير ٢ : ١٦١ ، القواعد ٢ : ١٥٨ ، المختلف : ٦٨٦ ، الدروس ٣ : ١٧ ، الروضة ٧ : ٣٢٤.

(١) وهو صاحب الرياض ٢ : ٢٩٥.

(٢) الوسائل ٢٥ : ١١٣ أبواب الأطعمة المباحة ب ٥٩ ح ١.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المتن.

١٤٢

عليكم الخبائث ، سواء علمتم خباثتها أو علمتم عدم خباثتها أو لم يعلم شي‌ء منهما ، وهذا باطل قطعا ، ويلزم الإثم بأكل ما ظنّ طيّبا وكان خبيثا واقعا وهو خلاف الإجماع.

سلّمنا أنّه ليس مشروطا بالعلم ، ولكن لا يجب تحصيل العلم بالاجتناب عنه ، إذ لا دليل على ذلك الوجوب واجتناب المحتمل مقدّمة لذلك.

وأمّا الثالث ، فلمنع الأولويّة ، وكون المثانة مجمعا للبول لا يوجبها ، وإلاّ لزم حرمة الكليتين المصرّح في الرواية بأنّهما مجمع البول (١).

وأمّا الرابع ، فلأنّ المفهوم لا يثبت أزيد من المرجوحيّة ، مع أنّ الاحتياج للتداوي أعمّ من الضرورة المبيحة للأشياء المحرّمة.

وقد يستدلّ بوجوه أخر ضعيفة.

المسألة الخامسة : المشهور بين الأصحاب تبعيّة لبن الحيوان للحمه حلاّ وكراهة وحرمة ، وعليه الإجماع في الثالث عن الغنية (٢) ، ونفي الخلاف فيه وفي الثاني في كلام بعض الأجلّة (٣) ، والإجماع في الجميع في شرح المفاتيح.

والإجماع في الأول محقّق ، ومرسلة داود ـ المتقدّمة في المسألة الثامنة من الفصل الأول (٤) المنجبرة بالعمل ـ عليه دالّة.

والشهرة والإجماع المنقول كافيان لإثبات الثاني ، لتحمّله المسامحة.

__________________

(١) تقدّمت في ص : ١٣٧.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨.

(٣) كصاحب الرياض ٢ : ٢٩٥.

(٤) في ص : ٧٠.

١٤٣

ولا ينافيها ورود الرخصة في أكل شيراز الأتن (١) في بعض المعتبرة (٢) ، لأنّها تجتمع مع الكراهة.

وأمّا الثالث ، فإن ثبت الإجماع عليه ـ كما هو المحتمل ـ فهو ، وإلاّ فلا دليل عليه ، والأصل يقتضي الحلّية.

وغاية ما استدلّ بعضهم (٣) عليه الإجماع المنقول.

ومفهوم المرسلة المشار إليها.

واستصحاب الحرمة ، حيث إنّ اللبن كان قبل الاستحالة دما محرّما.

والجزئيّة لما يحرم كلّه ، فبحرمة الكلّ يحرم هو أيضا ، إذ لا وجود للكلّ إلاّ بوجود أجزائه ، فتحريمه في الحقيقة تحريم لها.

والكلّ مردود جدّا :

أمّا الأول : فبعدم الحجّيّة.

وأمّا الثاني : فلأنّه مفهوم وصف وليس بحجّة.

وأمّا الثالث : فلتغيّر الموضوع ، مع أنّ حرمة ذلك الدم المستحيل لبنا غير معلومة أولا ، فإنّ المعلوم حرمته هو الدم المسفوح.

وأمّا الرابع : فبمنع حرمة الكلّ ، بل المحرّم لحمه وسائر أجزائه الثابتة حرمته.

نعم ، لو ثبتت أولا حرمة الكل ـ الذي من أجزائه اللبن ـ يمكن استصحاب حرمته ، وأين ذلك وأنّى؟! فالتأمّل في التبعيّة في الحرمة‌

__________________

(١) الشيراز : اللبن الرائب يستخرج منه ماؤه ، وقال بعضهم : لبن يغلي حتى يثخن ثمَّ ينشف حتى ينتقب ويميل طعمه إلى الحموضة.

والأتن : جمع أتان : الأنثى من الحمير ـ راجع المصباح المنير : ٣ : ٣٠٩.

(٢) الوسائل ٢٥ : ١١٥ أبواب الأطعمة المباحة ب ٦٠.

(٣) وهو صاحب الرياض ٢ : ٢٩٥.

١٤٤

ـ كالمقدّس الأردبيلي ، وصاحب الكفاية (١) ـ في موقعه جدّا ، ولو لا مظنّة الإجماع لحكمنا بالحليّة قطعا ، ولكنّها تخوّفنا من الحكم الصريح.

المسألة السادسة : قد علم حكم الأجزاء التي عدّوها ممّا لا تحلّه الحياة ممّا يؤكل وممّا لا يؤكل ، وكذا حكم البول والفرث والدم واللبن والبيض ، وبقيت أشياء أخر ، كالقيح ، والوسخ ، والبلغم ، والنخامة ، والبصاق ، والعرق ، والرجيع ممّا لا يسمّى فرثا (٢) وروثا.

أمّا الأربعة الأولى فالظاهر ظهور حرمتها مطلقا ، لظهور خباثتها جدّا ، بحيث لا يستراب فيها أبدا.

وأمّا الخامس والسادس ، فنسب إلى المشهور حرمتهما أيضا (٣) ، واستدلّ بعضهم (٤) لهما بالخباثة.

وفيه نظر ، سيّما في البصاق ، بل قد يستطاب بصاق المحبوب ، ويمصّ فمه ولسانه ، ويبلع بصاقه بميل ورغبة.

والتنفّر عن بصاق بعض الأشخاص ـ لتنفّره بنفسه ـ لا يوجب الحرمة ، كيف؟! وليس البصاق أظهر خباثة من اللقمة المزدردة (٥) ، وهي محلّلة قطعا ، وقد ورد في الأخبار : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى لقمته من فيه إلى من طلبها (٦) ، مع أنّها ممزوجة بالبصاق قطعا.

__________________

(١) الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢١٥ ، الكفاية : ٢٥٢.

(٢) في « ح » : بولا.

(٣) الرياض ٢ : ٢٩٥.

(٤) الدروس ٣ : ١٧.

(٥) في « ق » و « س » و « ح » : المردودة.

(٦) الكافي ٦ : ٢٧١ ـ ٢ ، المحاسن : ٤٥٧ ـ ٣٨٨ ، الوسائل ٢٥ : ٢١٨ أبواب الأطعمة المباحة ب ١٣١ ح ١.

١٤٥

وقد وردت النصوص بمصّ الحسين عليه‌السلام لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه نشأ من لعاب فمه (١) ، وأنّ الحسين عليه‌السلام مصّ لسان عليّ بن الحسين عند غلبة العطش يوم الطف (٢).

ووردت نصوص ظاهرة في حلّ بصاق المرأة والبنت (٣) ، فالحكم بحلّيّته ـ كما هو ظاهر الأردبيلي (٤) ، وصاحب الكفاية ـ قويّ جدّا ، وكذا العرق.

وأمّا السابع ـ فيما كان ممّا لا يؤكل ممّا له نفس ـ فنجس محرّم قطعا ، وأمّا في غيره فلا دليل فيه على الحرمة سوى الخباثة ، وإثباتها بالكلّية مشكل غايته ، سيّما في مثل فضلات الديدان الملصقة بأجواف الفواكه والبطائخ ونحوها ، ولكن لا يبعد ظهورها في البعض ، كذرق الدجاجة والسلحفاة والضفادع ، فالوجه الإناطة بها فيها ، والحكم بالحلّية فيما لم تعلم خباثته منها.

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٦٥ ذيل الحديث ٤ ، البحار ٤٤ : ١٩٨ ـ ١٤.

(٢) البحار ٤٥ : ٤٣.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٠٢ أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ب ٣٤.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢١٤.

١٤٦

الفصل السادس

في حكم المشتبه من الحيوان وأجزائه

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنّ الاشتباه على أربعة أقسام :

الأول : أن يعلم أنّ هذا الجزء من أيّ حيوان ، ويعلم أنّ هذا الحيوان مأكول أو قابل للتذكية ، ولكن شكّ في أنّه هل ذكّي أم لا.

الثاني : أن يعلم أنّ هذا الحيوان مأكول أو قابل ، وهذا ليس بمأكول ولا قابل ، ولكن لم يعلم أنّ هذا الجزء من أيّ الحيوانين المعلوم حالهما.

الثالث : أن يعلم أنّ هذا الجزء من هذا الحيوان المشاهد أو المسمّى بالاسم الفلاني ، ولكن لم يعلم أنّ هذا الحيوان هل هو مأكول أو قابل أم لا.

الرابع : أن يعلم أنّ هذا الجزء ليس من الحيوانات المعروفة له (١) حكما ، ولم يعرف الحيوان الذي هو منه مشاهدة ولا اسما ، ولم يعلم أنّ الذي هو منه هل هو مأكول أو قابل أم لا.

والفرق بين ذلك وسابقة في مجرّد تعيّن الحيوان ، الذي هو منه شخصا أو اسما وعدمه.

وإن شئت جعلت الأقسام قسمين ، لانّ الجهل إمّا يتعلّق بنفس التذكية وعدمها ، وهو القسم الأول ، أو بالحيوان الذي هذا الجزء منه ، وله الأقسام الثلاثة الأخيرة.

__________________

(١) كذا ، والظاهر زيادتها.

١٤٧

ثمَّ على التقادير المذكورة يكون البحث عنها إمّا للشكّ في الطهارة والنجاسة ـ وهذا إنّما يكون فيما تحلّه الحياة من أجزاء الحيوان خاصّة ـ أو للشكّ في جواز الصلاة وعدمه ، أو للشكّ في حلّية الأكل وعدمها.

ثمَّ إنّه قد تقدّم الكلام في البحث في الأول عن القسم الأول في بحث الجلود من كتاب الطهارة ، وهو وإن كان مخصوصا بالجلود إلاّ أنّه يتعدّى إلى غيرها من الأجزاء الموقوفة طهارتها على التذكية بالإجماع المركّب ، كما أشير إليه في البحث المذكور ، مع أنّ كثيرا من أدلّتها شامل للّحم وغيره أيضا.

وممّا ذكر هناك يعلم حقّ الكلام فيما يتعلّق بالبحث في الثاني عن القسم الأول ، بل يعلم الحكم بما يتعلّق بالبحث في الثالث أيضا عن هذا القسم ، وأنّه يحكم فيه بالتذكية والحلّية في كلّ ما عرفت أنّه يحكم فيه بالطهارة ، وأمّا فيما عداه فلا.

والحكم بأصالة الحلّية هنا في جميع الموارد ما لم تعلم الحرمة ، لعمومات أصالة الحلّية ، مثل قوله : « كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » (١) ونحوه ، ومثل ما دلّ على جواز الصلاة في كلّ شي‌ء ما لم يعلم أنّه ميتة ، وغير ذلك.

غير مفيد ، لأنّ دلالة جميع هذه الأدلّة من باب الأصل الذي يندفع ويزال البتّة باستصحاب عدم التذكية ، الموجب للعلم الشرعيّ بكونه ميتة ، فالمناط إنّما هو الأدلّة المذكورة المزيلة للاستصحاب في مواردها.

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢١٦ ـ ١٠٠٢ ، التهذيب ٩ : ٧٩ ـ ٣٣٧ ، مستطرفات السرائر : ٨٤ ـ ٢٧ ، الوسائل ١٧ : ٨٧ أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١ ، وج ٢٤ : ٢٣٦ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٤ ح ٢.

١٤٨

وكذا تقدّم الكلام فيما يتعلّق بالبحث في الأول والثاني عن القسم الثاني في بحث اللباس من كتاب الصلاة ، وقد عرفت أنّ الأصل فيه الطهارة وجواز الصلاة ، ويلزم الثاني الحلّية وجواز الأكل أيضا ، وتدلّ عليه جميع أدلّة الحلّية من الأصول والعمومات والأخبار الواردة في الموارد الجزئيّة.

فلم يبق إلاّ الكلام في القسم الثالث والرابع ، وهو أن يكون الجزء من حيوان معيّن ، أو كان هناك حيوان معيّن ولم يعلم أنّه هل هو حلال قابل للتذكية أو لا ، أو يكون الجزء من حيوان غير معيّن إلاّ أنّه يعلم أنّه ليس من هذه الحيوانات المعروفة القابلة للتذكية وغير القابلة.

والحقّ فيهما أيضا : الحلّية والطهارة بالتذكية الواقعيّة أو الشرعيّة المحكوم بها شرعا من الموارد التي يحكم بها فيها في القسم الأول ، ويلزمهما جواز الصلاة ، لجميع الأدلّة المذكورة من الأصول والعمومات الخالية عن المعارض رأسا.

ولا يتوهّم معارضة أصالة عدم ورود التذكية عليها ، حيث إنّها أمر توقيفي شرعي يقتصر فيه على ما علم ، لأنّ عمومات حصول التذكية كافية في إثبات أصالة عموم ورود التذكية ، مثل قوله سبحانه ( فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ ) (١).

وقوله ( وَما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) (٢).

وما في الأخبار من قولهم : « ما قتلت من الجوارح مكلّبين وذكر اسم الله عليه فكلوا من صيدهنّ » (٣).

__________________

(١) المائدة : ٤.

(٢) الأنعام : ١١٩.

(٣) الكافي ٦ : ٢٠٣ ـ ٥ ، التهذيب ٩ : ٢٣ ـ ٩٠ ، الوسائل ٢٣ : ٣٤٦ أبواب الصيد ب ٧ ح ١.

١٤٩

وقوله في صحيحة البصري : « كل ما قتل الكلب إذا سمّيت عليه » (١).

وفي صحيحة محمّد : « كل من الصيد ما قتل السيف والسهم والرمح » (٢) ، إلى غير ذلك.

نعم ، إن كان الحيوان المشتبه حاضرا ، وأمكن الفحص عن حلّيته وحرمته بالعلامات المتقدّمة المحلّلة أو المحرّمة ، لم يجز الحكم بالأصل والعمومات قبل الفحص الممكن ، والوجه ظاهر.

المسألة الثانية : المشهور أنّه إذا وجد لحم ولم يعلم هل هو ذكي أو ميّت يطرح على النار ، فإن انقبض فهو ذكي وإن انبسط فهو ميّت ، وعن الدروس يكاد أن يكون إجماعا (٣) ، ونفى عن إجماعيّته البعد في المسالك ، مؤيّدا لها بموافقة الحلّي ـ الذي لا يعمل بالآحاد ـ عليه (٤) ، وعن الغنية (٥) وبعض آخر من الأصحاب (٦) الإجماع عليه.

وتدلّ عليه رواية شعيب : في رجل دخل قرية فأصاب بها لحما لم يدر ذكي هو أم ميّت ، قال : « يطرحه على النار ، فكلّما انقبض فهو ذكي ، وكلّما انبسط فهو ميّت » (٧).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٠٥ ـ ١٣ ، التهذيب ٩ : ٢٤ ـ ٩٧ ، الاستبصار ٤ : ٦٨ ـ ٢٤٥ ، الوسائل ٢٣ : ٣٣٥ أبواب الصيد ب ٢ ح ٨.

(٢) الكافي ٦ : ٢٠٩ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ٣٤ ـ ١٣٧ ، الوسائل ٢٣ : ٣٦٢ أبواب الصيد ب ١٦ ح ٢.

(٣) الدروس ٣ : ١٤.

(٤) المسالك ٢ : ٢٤٧.

(٥) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٩.

(٦) حكاه في الكفاية : ٢٥٢ ، وانظر كشف اللثام ٢ : ٢٧٢.

(٧) الكافي ٦ : ٢٦١ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ٤٨ ـ ٢٠٠ ، الوسائل ٢٤ : ١٨٨ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣٧ ح ١.

١٥٠

وضعفها ـ لو كان ـ غير مضرّ ، لانجباره بما ذكر ، مضافا إلى صحّتها عمّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه.

ثمَّ لا يخفى أنّ مقتضى الرواية حصول معرفة المذكّى والميّت بذلك ، وذلك يعارض أصالة عدم التذكية المعمول عليها في مواردها ، وأصالة الحلّية وعموماتها في مظانّها.

والعمل في الأولى على الرواية ، لكونها للأصل دافعة.

خلافا للمحكيّ عن الإرشاد والقواعد والإيضاح والتنقيح والصيمري وأبي العبّاس والروضة (١) ، للأصل المذكور المندفع بالرواية.

وكأنّ في الثانية كذلك لو كان المناط هو الأصل خاصّة ، ولكن يحصل التعارض بين الرواية وبين مثل ما دلّ على حلّية ما يؤخذ من سوق المسلمين أو يوجد في أرضهم (٢) ونحو ذلك بالعموم من وجه ، والمرجع أصل الإباحة.

بل يمكن أن يقال : إنّ موارد الحكم بالحلّية ممّا تعلم فيه التذكية لأجل أدلّة الحلّية ، فلا تكون من مورد الرواية.

إلاّ أن يقال : إنّ موارد الحلّية أيضا من باب الأصل ، لأنّ بعض أدلّتها وإن كان عامّا إلاّ أنّ بعضها مقيّد بمثل قوله : « حتى تعلم أنّه ميتة » (٣) وبه تقيّد المطلقة أيضا ، فيجب تقديم الرواية ، بل الفحص بمقتضى الرواية في‌

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١١٣ ، القواعد ٢ : ١٥٩ ، الإيضاح ٤ : ١٦١ ، التنقيح ٤ : ٥٧ ، حكاه عن الصيمري وأبي العبّاس في الرياض ٢ : ٢٩٦ ، الروضة ٧ : ٣٣٧.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٠ أبواب النجاسات ب ٥٠.

(٣) الكافي ٣ : ٤٠٣ ح ٢٨ ، التهذيب ٢ : ٢٣٤ ـ ٩٢٠ ، الوسائل ٣ : ٤٩٠ أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٢.

١٥١

كلّ واقعة ، لأنّ العمل بالأصل إنّما هو بعد الفحص.

ولكن يجاب عنه : بأنّ هذا من باب إجراء الأصل في الموضوعات ولا يجب الفحص فيه ، مع أنّه صرّح في بعض الأخبار المعتبرة الواردة في موارد الحلّية أنّه : « ليس عليكم المسألة » (١) فالإشكال منتف بالمرّة ، إلاّ إذا امتحن شخص اتّفاقا بمقتضى الرواية وظهرت المخالفة فيشكل الأمر حينئذ ، والإجماع على الحلّية أيضا غير معلوم ، ولا يبعد الحكم بالحرمة حينئذ.

ولو تعدّد قطعات اللحم تختبر كلّ قطعة على حدة ما لم يعلم اتّحاد حكمها من جميع الوجوه ، كما إذا أمكن أن تكون من حيوانات متعدّدة ، أو من حيوان واحد واحتمل قطع بعض أجزائه قبل التذكية ، وإلاّ فتكفي الواحدة ، إذ بها يعلم حكم الباقي ، فلا يصدق عدم الدراية ، كما في الرواية.

وهل الاختبار عند الاشتباه في الذبح وعدمه ، أو يجري فيما إذا شكّ مثلا في التسمية أو الاستقبال أو كون الذابح مسلما مثلا ، أم لا؟

ظاهر بعضهم : الثاني (٢) ، وهو مشكل جدّا ، إذ الظاهر أنّ السؤال عن الميّت حتف أنفه.

المسألة الثالثة : إذا اختلط المذكّى من اللحم وشبهه بالميتة ولا سبيل إلى التمييز ، فإن كان الخلط خلط مزج ـ كاللحوم المتعدّدة المدقوقة مخلوطا ـ وجب الاجتناب عن الجميع ، والوجه ظاهر.

وإن كان من باب اشتباه الأفراد فالمشهور وجوب اجتناب الجميع إذا‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦٧ ـ ٧٨٧ ، التهذيب ٢ : ٣٦٨ ـ ١٥٢٩ ، الوسائل ٣ : ٤٩١ أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٣.

(٢) كصاحب الرياض ٢ : ٢٩٦.

١٥٢

كانا محصورين.

ولم أعثر على دليل له ، سوى ما قيل من أنّ العلم بالاجتناب عن الميتة لازم ، وهو موقوف على اجتناب الجميع ، فيجب من باب المقدّمة (١).

وقد مرّ جوابه وأنّ الثابت وجوب اجتناب ما علم أنّه ميتة دون العلم باجتنابها.

وربّما يستأنس له بصحيحة الكناسي : عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال : « أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكله ، وأمّا ما لا تعلم فكله حتى تعلم أنّه حرام » (٢).

وفيه : أنّها ظاهرة في المزج ، ولو شملت غيره أيضا فدالّة على خلاف مطلوبهم ، لأنّ بعد إبقاء ما يساوي الميتة من الأفراد لا يعلم حرمة الباقي ، فيجوز أكله.

وقد يستدلّ له أيضا بصحيحتي الحلبي ، إحداهما : أنّ الميتة والمذكّى اختلطا فكيف يصنع؟ قال : « يبيعه ممّن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه ، فإنّه لا بأس به » (٣) ، وقريبة منها الأخرى (٤).

وفيه : أنّهما غير مفيدتين للوجوب ، غايتهما الرجحان ، ولا كلام فيه ، مع أنّه لا يمكن أن يكون للوجوب ، إذ لا شكّ في عدم وجوب بيعه ، بل‌

__________________

(١) كما في الرياض ٢ : ٢٩٧.

(٢) التهذيب ٩ : ٧٩ ـ ٣٣٦ ، مستطرفات السرائر : ٧٨ ـ ٤ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٤ ح ١.

(٣) الكافي ٦ : ٢٦٠ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ٤٧ ـ ١٩٨ ، الوسائل ٢٤ : ١٨٧ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣٦ ح ٢.

(٤) الكافي ٦ : ٢٦٠ ـ ٢ ، التهذيب ٩ : ٤٨ ـ ١٩٩ ، الوسائل ٢٤ : ١٨٧ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣٦ ح ١.

١٥٣

تجوز هبته وصلحه للكافر ودفنه وطرحه.

سلّمنا الوجوب ، ولكن لا يدلّ وجوب بيعه على حرمة أكله لو لم يبع ، فلعلّه لأجل الانتفاع بقدر ثمن الميتة وعدم تضييعه.

فالحقّ ـ وفاقا للأردبيلي وصاحب الكفاية (١) ، وغيرهما من المتأخّرين (٢) ـ : عدم وجوب اجتناب الجميع ، بل يجب الاجتناب عن القدر المعلوم كون الميتة بهذا القدر مخيّرا بين الأفراد ، ويجوز تناول الباقي ، كما مرّ في نظائره كثيرا ، والأصل والعمومات عليه دليل محكّم.

ثمَّ إنّ ما دلّت عليه الصحيحتان ـ من جواز البيع لمستحلّي الميتة ـ مذهب جماعة ، منهم الشيخ في النهاية وابن حمزة (٣) ، وهو الأقوى ، للصحيحين المذكورين ، المخصّصين للأخبار المانعة عن الانتفاع بالميتة مطلقا وعن بيعها (٤) ، لأخصّيّتهما المطلقة منها من وجوه.

خلافا للحلّي والقاضي (٥) وجمع آخر (٦) ، فمنعوه ، للأخبار المذكورة بجوابها ، ولما دلّ على حرمة الإعانة على الإثم ، بناء على كون الكفّار مكلّفين بالفروع كما هو المذهب.

وفيه : منع كونه إعانة ، كما يظهر وجهه ممّا ذكرناه في بيان الإعانة‌

__________________

(١) الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢٧١ ، الكفاية : ٢٥١.

(٢) كالعلاّمة المجلسي في البحار ٦٢ : ١٤٤.

(٣) النهاية : ٥٨٦ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٣٦٢.

(٤) الوسائل ٣ : ٥٠١ أبواب النجاسات ب ٦١ ، وج ١٧ : ٩٢ أبواب ما يكتسب به ب ٥ ، وص ١٧٢ ب ٣٨.

(٥) الحلي في السرائر ٣ : ١١٣ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٤٤٢.

(٦) منهم الشهيد في المسالك ٢ : ٢٤٢ وصاحب الرياض ٢ : ٢٩٧.

١٥٤

على الإثم في كتاب العوائد (١) ، مع أنّها أيضا ليست إلاّ قاعدة كلّية للتخصيص صالحة.

وقد يعتذر المانعون للصحّة عن الصحيحين ببعض الوجوه الغير التامّة ، التي لا فائدة في ذكرها بعد العمل بظاهرهما.

__________________

(١) عوائد الأيّام : ٢٦.

١٥٥
١٥٦

الباب الثالث

في بيان ما يحلّ من غير الحيوانات وما يحرم‌

وفيه فصلان‌ :

١٥٧
١٥٨

الفصل الأول

في الجوامد‌

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : من الجوامد المحرّمات أو المحلّلات : أجزاء الحيوانات وفضلاتها‌ ، وقد مرّ حكمها وبيان المحرّم منها والمحلّل مفصّلا.

المسألة الثانية : من الجوامد المحرّمة : الطين ، ولا خلاف في تحريم عدا ما يستثنى منه ، ونقل الإجماع عليه مستفيض (١) ، بل هو إجماع محقّق ، فهو الدليل.

مضافا إلى النصوص المستفيضة ، كرواية سعد : « أكل الطين حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير ، إلاّ طين قبر الحسين عليه‌السلام ، فإنّ فيه شفاء من كلّ داء وأمنا من كلّ خوف » (٢).

ومرسلة الواسطي : « الطين حرام كلّه (٣) كلحم الخنزير ، ومن أكله ثمَّ مات لم أصلّ عليه ، إلاّ طين القبر ، فإنّ فيه شفاء من كلّ داء ، ومن أكله بشهوة لم يكن فيه شفاء » (٤).

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨ ، المختصر النافع : ٢٥٣ ، المختلف : ٦٨٦ ، الروضة ٧ : ٣٢٦ ، الرياض ٢ : ٢٨٩.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٦ ـ ٩ ، التهذيب ٩ : ٨٩ ـ ٣٧٧ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٦ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٩ ح ٢.

(٣) في « س » و « ح » : أكله ..

(٤) الكافي ٦ : ٢٦٥ ـ ١ ، علل الشرائع : ٥٣٢ ـ ٢ ، كامل الزيارات : ٢٨٥ ـ ١ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٦ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٩ ح ١.

١٥٩

وصحيحة هشام بن سالم : « إنّ الله خلق آدم من الطين فحرّم أكل الطين على ذرّيّته » (١).

ورواية القدّاح : « قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل يأكل الطين فنهاه ، فقال : لا يأكله » الحديث (٢).

والمرويّ في كامل الزيارة ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : « كلّ طين محرّم على بني آدم ما خلا طين قبر أبي عبد الله عليه‌السلام ، من أكله من وجع شفاه الله » (٣).

وفي العلل : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أكل الطين فهو ملعون » (٤) ، إلى غير ذلك.

ولا فرق في حرمته بين قليله وكثيره.

ثمَّ الطين ـ كما صرّحوا به ـ : هو التراب المخلوط بالماء ، وقالوا : إنّه معناه لغة وعرفا. قال في القاموس : الطين معروف ، والطينة : قطعة منه ، وتطين : تلطّخ به (٥). وعن الراغب الأصفهاني في مفرداته : الطين : التراب والماء المختلط به (٦).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٥ ـ ٤ ، التهذيب ٩ : ٨٩ ـ ٣٨٠ ، المحاسن : ٥٦٥ ـ ٩٧٣ ، علل الشرائع : ٥٣٢ ـ ١ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢١ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨ ح ٥.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٦ ـ ٥ ، التهذيب ٩ : ٩٠ ـ ٣٨١ ، المحاسن : ٥٦٥ ـ ٩٧٧ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٢ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨ ح ٦.

(٣) كامل الزيارات : ٢٨٦ ـ ٤ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٨ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٩ ح ٤.

(٤) علل الشرائع : ٥٣٣ ـ ٤ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨ ح ١٥.

(٥) القاموس المحيط ٤ : ٢٤٧.

(٦) غريب القرآن : ٣١٢.

١٦٠