مستند الشّيعة - ج ١٥

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٥

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-041-2
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٩٠

قال في الوافي في بيان الحديث : خلّ الخمر : هو عصير العنب المصفّى الذي يجعل فيه مقدار من الخلّ ويوضع في الشمس حتى يصير خلاّ (١). فإنّه لا شكّ أنّ بالوضع في الشمس ـ خصوصا في الحجاز ونحوه ـ يحصل الغليان وصيرورته خلاّ قبل ذهاب الثلاثين قطعا.

ويمكن أن يستدلّ على الحلّية أيضا بصحيحة عمر بن يزيد الواردة في البختج ـ وهو العصير المطبوخ ـ : « إذا كان يخضب الإناء فاشربه » (٢).

ولا يعارضها مفهوم صحيحة ابن وهب : عن البختج ، فقال : « إذا كان حلوا يخضب الإناء وقال صاحبه : قد ذهب ثلثاه وبقي الثلث ، فاشربه » (٣) ، إذ ليس باقيا على ظاهره قطعا ، إذ قول الصاحب إن كان مثبتا لذهاب الثلاثين فلا معنى لاشتراط الحلاوة وخضب الإناء إجماعا ، وإن لم يكن مثبتا مطلقا أو بإطلاقه فلا وجه لاشتراطه ، بل يثبت المطلوب ، فلا بدّ إمّا من جعل الواو بمعنى : أو ، فيثبت المطلوب ، أو حمل الشرط الأخير على الأولويّة ، فكذلك أيضا ، أو حمل الأول عليها ، فلا ينافي المطلوب.

فروع :

أ : يتحقّق ذهاب الثلاثين بنقصهما كيلا ، ولا يحتاج إلى ذهابهما وزنا ،

__________________

المباحة ب ٤٥ ح ١.

(١) الوافي ١٩ : ٣٢٥ ب ٥٩ ذيل ح ٩.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢٠ ـ ٥ ، التهذيب ٩ : ١٢٢ ـ ٥٢٥ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٣ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٧ ح ٢.

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٠ ـ ٦ ، التهذيب ٩ : ١٢١ ـ ٥٢٣ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٣ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٧ ح ٣ ، والبختج : العصير المطبوخ. وأصله بالفارسية ميبخته ـ النهاية ( لابن الأثير ) ١ : ١٠١.

١٨١

لصدق نقص الثلاثين ، ولأنّ الكيل كان هو المتعارف في ذلك الاعتبار ، وللتصريح به في موثّقتي الساباطي ورواية الهاشمي ، الآتية جميعا في المسألة الآتية في الدليل التاسع من أدلّة المحرّمين.

ب : لو صبّ قدر من العصير في القدر وغلى ، ثمَّ صبّ عليه قدر آخر قبل ذهاب ثلثي الأول‌ ، فهل يكفي ذهاب ثلثي مجموع ما صبّ أولا وصبّ ثانيا ، أو يلزم ذهاب ثلثي مجموع ما صبّ ثانيا مع ما بقي من الأول ، أو يجب العلم بذهاب ثلثي كلّ واحد ممّا صبّ أولا وما صبّ ثانيا؟

مثلا : إذا صبّ في القدر تسعة أرطال وغلى حتى بقيت ستّة أرطال ، ثمَّ صبّ فيه تسعة أرطال أخر.

فعلى الأول : يكفي الغليان حتى يبقى من المجموع ستّة أرطال ـ ثلث ثمانية عشر رطلا ـ كيل مجموع المصبوبين.

وعلى الثاني : يغلي حتى تبقى خمسة أرطال ـ ثلث خمسة عشر رطلا ـ كيل الباقي من الأول والمصبوب ثانيا.

وعلى الثالث : يجب الغلي حتى تعلم صيرورة الباقي من الأول ثلاثة أرطال ، ومن المصبوب بعده ثلاثة أرطال ، ولا يكفي في ذلك بقاء مطلق الستّة ، إذ لعلّه نقص من المصبوب ثانيا أقلّ من الستّة أو أكثر ومن الباقي أكثر من الثلاثة أو أقل ، وعلى هذا فلا يمكن الحكم بالحلّية حينئذ أصلا ، لعدم سبيل إلى حصول ذلك العلم ، بل يجب طبخ كلّ على حدة.

الظاهر : هو الوسط ، لأنّ الحاصل بعد الخلط عصير واحد ، فبعد الغلي وذهاب ثلثيه يصدق عنوانا الحرمة والحلّية عليه ، ولأنّ الاحتمال‌

١٨٢

الأول مدفوع باستصحاب الحرمة ، والثاني (١) بعدم إمكان تحقّق ذلك العلم ، مع ما يعلم قطعا من صبّ الأعصرة بعضها على بعض ، مع تفاوتها في اللطافة والغلظة ، الموجبتين لسرعة الذهاب وبطئه ، فإنّ أنواع العنب متفاوتة في ذلك قطعا ، بل قد يعصر بعضها في زمان غلي بعض آخر ، وفي مرّ الزمان مدخليّة في سرعة الذهاب وعدمه أيضا.

وتؤيّده موثّقتا الساباطي ورواية الهاشمي الآتية ، الآمرة بإذهاب ثلثي المجتمع بعد غلي سابق للبعض ، بل تدلّ عليه على القول بتحريم العصير الزبيبي بالغليان أيضا.

وتدلّ عليه أيضا رواية عقبة بن خالد المتقدّمة (٢) ، المتضمّنة لضمّ الماء مع العصير وكفاية ذهاب ثلثي المجتمع ، مع اختلافهما في سرعة قبول الذهاب وعدمه.

ج : لو طرح في العصير قبل ذهاب الثلاثين جسم فجذب من العصير شيئا ولم يعلم بعد ذهاب ثلثي العصير ذهاب ثلثي ما جذبه ذلك الجسم أيضا ، يحرم ما فيه حتى يعلم الذهاب ، ولا تكفي حلّية ما في القدر في حلّيّة ما في ذلك الجسم.

نعم ، لو لم يدخل العصير في ذلك الجسم ، بل اكتسب الجسم رطوبته حتى كبر ـ كالحنطة المنقوعة في العصير ـ ففي حرمته من بدو الأمر إشكال ، لعدم صدق اسم العصير على ما فيه ، فتأمّل.

المسألة الرابعة : الأقوى اختصاص التحريم بالغليان مطلقا ـ الناري وغيره ـ بالعصير العنبي ، فلا يحرم الزبيبي أو التمري بالغليان مطلقا ، وفاقا‌

__________________

(١) كذا ، والأنسب : الثالث.

(٢) في ص : ١٧٥.

١٨٣

للفاضلين والشهيدين وفخر المحقّقين والسيوري والصيمري (١) وأكثر المتأخّرين (٢).

وهو ظاهر المقنعة والمراسم (٣) وكتب السيّد (٤) ، حيث لم يتعرّضوا لبيان تحريم العصير مطلقا.

بل هو الأشهر ، كما صرّح به جماعة ، كالأردبيلي والسبزواري والصيمري (٥).

وهو ظاهر المسالك (٦) ، لنسبته الخلاف في الزبيبي إلى بعض علمائنا ، ولم ينقل في التمري خلافا أصلا ، ولذا نسب إليه والى الدروس القول بعدم وجود الخلاف في التمري (٧).

وربّما كان ذلك أيضا ظاهرا من اللمعتين (٨) ، حيث لم يشيرا إلى الحكم في التمري مطلقا ، مع تصريحهما بأنّه لا يحرم العصير من الزبيب على الأقوى.

__________________

(١) المحقق في الشرائع ١ : ٥٢ ، العلامة في القواعد ٢ : ١٥٨ ، الشهيد الأول في الدروس ٣ : ١٦ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٤٤ ، فخر المحققين في الإيضاح ٤ : ١٥٦ ، السيوري في التنقيح الرائع ٤ : ٥١ ، حكاه عن الصيمري في الرياض ٢ : ٢٩١.

(٢) منهم المحقق الثاني في جامع المقاصد ٢ : ٢٠٦ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٨٩.

(٣) المقنعة : ٥٨١ ، المراسم : ٥٥.

(٤) الانتصار : ٢٠٠ ، الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ١٨١.

(٥) الأردبيلي في مجمع الفائدة ١١ : ٢٠٢ ، السبزواري في الكفاية : ٢٥١ ، حكاه عن الصيمري في الرياض ٢ : ٢٩١.

(٦) المسالك ٢ : ٢٤٥.

(٧) راجع الرياض ٢ : ٢٩١.

(٨) اللمعة والروضة ٧ : ٣٢١.

١٨٤

بل حكي عن بعض الفضلاء التصريح بعدم الخلاف فيه (١) ، بل عن الشهيد الثاني في شرح الرسالة الإجماع على عدم إلحاق التمري.

دليلنا : أصل الإباحة ، واستصحاب الحلّ ، والعمومات الكتابيّة والسنّية الدالّة على حلّية الأشياء السليمة عن المعارض والمخصّص ـ إلاّ ما يستدلّ به للتحريم ، وهو غير دالّ كما يأتي ـ وما قيل من تداول تناول الدبس الزبيبي في الأعصار والأمصار بحيث انعقد الإجماع عليه ، مع أنّه لا يكاد يتحقّق التثليث في العصير الزبيبي إلاّ بانعقاده واحتراقه وخروجه عن الدبسيّة وتغيّر طعمه إلى المرارة ، ولا يفيد في ذلك ازدياد الماء وتليين النار إذ الماء يحترق. إلاّ أنّ فيه : أنّه مبنيّ على عدم حصول الحلّية بصيرورته دبسا قبل ذهاب الثلاثين وقد عرفت أنّ الأقوى حصولها.

هذا ، مع ما صرّح به في رواية الهاشمي وموثّقتي الساباطي الآتية بإمكان التثليث مع كون الماء ضعف الزبيب أو متساويا له.

وتدلّ على المطلوب في التمري أيضا رواية محمّد بن الحسن [ وعلي ابن محمّد بن ] بندار جميعا ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عن عبد الله بن حمّاد ، عن محمّد بن جعفر ، عن أبيه ، وهي طويلة ، وفيها : فقالوا : يا رسول الله ، إنّ القوم بعثوا بنا إليك يسألونك عن النبيذ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وما النبيذ؟ صفوه لي » فقالوا : يؤخذ من التمر فينبذ في إناء ، ثمَّ يصبّ عليه الماء حتى يمتلئ ويوقد تحته حتى ينطبخ ، فإذا انطبخ أخذوه فألقوه في إناء آخر ، ثمَّ صبّوا عليه ماء ، ثمَّ يمرس ، ثمَّ صفّوه بثوب ، ثمَّ يلقى في إناء ، ثمَّ يصبّ عليه من عكر ما كان قبله ، ثمَّ يهدر ويغلي ، ثمَّ يسكن على عكرة ،

__________________

(١) انظر الحدائق ٥ : ١٢٥.

١٨٥

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا هذا ، قد أكثرت ، أفيسكر؟ » قال : نعم ، قال : « فكلّ مسكر حرام » الحديث (١).

وجه الدلالة واضح جدّا ، فإنّه لو كان الهدر والغلي كافيين في التحريم لم يسأل عن الإسكار وعدمه لذكرهما في الكلام ، بل أهل العرف كلاّ يفهم من هذا الكلام عدم التحريم بدون الإسكار.

وتؤيّد المطلوب أيضا النصوص الواردة في علّة تحريم العصير ، فإنّها ظاهرة في أنّ العلّة إنّما هي شركة إبليس في شجرة الكرم وثمرته بالثلثين ، وأنّه إذا ذهب نصيبه منها حلّ الباقي (٢) ، ولا ريب أنّ الزبيب قد ذهب ثلثاه وزيادة بالشمس.

وما قيل (٣) من أنّ ذهاب الثلاثين بالشمس إنّما يفيد إذا كان قد غلى حتى يحرم ثمَّ يحلّ بعد ذلك بذهاب الثلاثين ، والغليان بالشمس غير معلوم ، بل قد يجفّ الزبيب بغير الشمس أيضا ولا غليان فيه البتّة ، فلا وجه لتحريمه حتى يحتاج إلى التحليل بذهاب الثلاثين.

فيأتي ما يردّه في مطاوي أدلّة المحرّمين ، وملخّصه : أنّه مبنيّ على دلالة تلك النصوص أو غيرها على اعتبار كون ذهاب الثلاثين بعد الغليان وحصول التحريم ، وأنّه لو ذهبا قبله لا يعبأ به. وهي ممنوعة ، إذ لا أثر له فيها ، بل ظاهرها اعتبار ذهاب الثلاثين مطلقا ، بعد الغلي كان أم لا.

ويؤيّد المطلوب أيضا بعض الروايات الأخر ، كرواية مولى حرّ بن‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٧ ـ ٧ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٤ ح ٦ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢.

(٣) رياض المسائل ٢ : ٢٩٢.

١٨٦

يزيد الآتية في الدليل الثاني من أدلّة المحرّمين ، فإنّ ترك الاستفصال فيها عن أنواع الأشربة وطريق صنعتها يقتضي ثبوت الحلّية لكلّ نوع منه وإن غلى ولم يذهب ثلثاه ، خرج العنبي فيبقى الباقي.

ورواية إسحاق بن عمّار الآتية في الدليل التاسع منها ، فإنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام فيها : « أليس هو حلوا؟ » (١) كون العلّة في إباحة الشراب المسؤول عنه كونه حلوا غير متغيّر بما يوجب الإسكار ، فيطّرد فيما كان كذلك وإن لم يذهب منه الثلثان ، لحجّية العلّة المنصوصة.

وكصحيحة أبي بصير : قال : كان أبو عبد الله عليه‌السلام يعجبه الزبيبة (٢).

وروى الراوندي في الخرائج والجرائح عن صفوان أمر أبي عبد الله بإطعام امرأة غضارة مملوّة زبيبا مطبوخا (٣).

وظاهر أنّ طعام الزبيبة لا يذهب فيه ثلثا ماء الزبيب ولا ثلثا ماء طبخ فيه الزبيب واكتسب منه الحلاوة.

واحتمال كون الزبيبة ما فيه قليل زبيب مخلوط مع أشياء أخر ـ يستهلك الزبيب وماؤه فيها ـ فاسد ، كما يستفاد من حديث الراوندي.

وتؤيّده بل تدلّ عليه أيضا المستفيضة الكثيرة الدالّة على دوران الحكم في النبيذ ـ حرمة وحلاّ ـ مدار السكر وعدمه ، كما تأتي جملة منها ، ولو كان مجرّد الغليان يوجب التحريم وإن لم يبلغ حدّ الإسكار لجرى له ذكر أو إشارة ولو في بعضها ، سيّما مع ورودها في مقام الحاجة.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٦ ـ ٤ ، الوسائل ١٥ : ٢٩١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٥ ح ٥.

(٢) الكافي ٦ : ٣١٦ ـ ٧ ، المحاسن : ٤٠١ ـ ٩٢ ، الوسائل ٢٥ : ٦٢ أبواب الأطعمة المباحة ب ٢٧ ح ١.

(٣) الخرائج والجرائح ٢ : ٦١٤ ـ ١٣ ، البحار ٤٧ : ٩٨ ـ ١١٦.

١٨٧

وتوهّم أنّ بمجرّد الغليان يحصل منه السكران ففاسد ، يشهد بفساده العيان.

ولو سلّم فيخرج عن المفروض ، لأنّه إنّما هو فيما لم يسكر.

وتوهّم حصول الإسكار الخفي أو مبادئه أيضا كذلك ، لمنعه.

ولو سلّم فغير مفيد ، لأنّ الإسكار المعلّق عليه الحكم في الأخبار هو الظاهر منه ، لأنّه الإسكار العرفي الذي يجب حمل اللفظ عليه.

احتجّ للقول بالتحريم بأدلّة بعضها يعمّ التمري والزبيبي ، وبعضها يختصّ بأحدهما :

فمنها : استصحاب الحالة التي كانت للعنب بعد الزبيبيّة وللباقي من مائه فيه.

والجواب : أنّ الموضوع قد تغيّر ، لأنّه العنب وعصير العنب ، أو العصير الذي يختصّ بمعتصر العنب كما يأتي ، وقد تغيّر وذهب فلا يمكن أن يستصحب.

وأمّا بعض المناقشات ـ الذي ذكره بعض سادة مشايخنا المحقّقين في ذلك المقام ، في رسالته المعمولة لهذا المرام ـ فهو بطوله ناشئ عن عدم التحقيق في معنى عدم تغيّر الموضوع ، كما يظهر لمن نظر إليه ، وإلى ما ذكرناه في معناه في كتابي مناهج الأحكام وعوائد الأيّام (١).

ومنها : العمومات المتقدّمة الدالّة على تحريم العصير عموما أو إطلاقا بالغليان ، والعصير هو الماء المستخرج من الشي‌ء عنبا كان أو غيره ، أصليّا كان المستخرج أم عارضيّا ، ابتدائيّا كان الاستخراج أم مسبوقا بعمل ،

__________________

(١) عوائد الأيام : ٢١٠.

١٨٨

كالنقع وغيره.

والجواب عنه : بمنع عموم العصير لغة بحيث يشمل المفروض أولا.

وبمنع إمكان حمله على ما يعمّه في تلك الأخبار ثانيا.

أمّا الأول : فليس لأجل ما قيل من أنّ المتبادر من العصير حيث يطلق المتّخذ من العنب دون العام (١).

أو أنّ العصير استعمل في اللغة والعرف والأخبار في الخاصّ ، والأصل في الاستعمال الحقيقة (٢).

أو أنّ إطلاق العصير حقيقة على الخاصّ ثابت وعلى غيره مشكوك فيه ، فينفى بالأصل (٣).

أو أنّ العصير إنّما يتحقّق في العنب ، لأنّ العصير إنّما يطلق على المأخوذ من الأجسام التي فيها مائيّة لاستخراج الماء منها ، كالعنب والرمّان ، وأمّا التمر والزبيب والسماق ـ ونحوها من الأجسام الصلبة التي فيها حلاوة أو حموضة ويراد استخراج حلاوتها أو حموضتها ـ فالمتحقّق فيها هو النبيذ والنقيع ، أو المرس ، أو الغلي (٤).

[ لردّ الأول : بمنع التبادر ] (٥). نعم ، لو قيل بعدم تبادر التمري والزبيبي لكان صحيحا ، [ ولكنّه غير مفيد ] (٦).

وأمّا تسليم المخالف تبادر العنبي وردّه بتجويز كونه إطلاقيّا فلا يكون‌

__________________

(١) انظر الذخيرة : ١٥٥.

(٢) الحدائق ٥ : ١٢٧.

(٣) الرياض ٢ : ٢٩٣.

(٤) الحدائق ٥ : ١٢٥.

(٥) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المتن.

(٦) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المتن.

١٨٩

علامة للحقيقة ـ كما وقع لبعضهم ـ فيرد عليه أنّ ذلك وإن أخدش في إثبات كونه حقيقة في العنبي ولكنّه يخدش في عمومه الذي عليه بناء الاستدلال أيضا فيبطل.

والقول ـ بأنّه إذا تعارض الاحتمالان يرجع إلى الأصل ، الذي هو بقاء العموم ـ إنّما يصحّ لو كان مراد الرادّ : إثبات الحقيقة الطارئة بالتبادر ، ولكن له أن يمنع أصالة العموم وأراد الحقيقة الأوليّة.

ودعوى أنّ مقتضى الوضع الاشتقاقي العموم ـ فلو ثبت حقيقة في الخصوص لكانت طارئة ـ يأتي جوابها.

كما أنّ تسليم الموافق لنا إطلاقيّة التبادر الحاصل بسبب الشيوع وجعله كافيا في إثبات المطلوب لأنّ المطلق يحمل على الأفراد الشائعة دون الخفيّة النادرة ، يرد عليه : أنّ الحمل على الشائع إنّما يكون إذا كان غيره نادرا خفيّا ، وهو في المقام غير ثابت ، فإنّ انصراف المطلق يستدعي الظهور الذي يقابل الندرة ، دون الأظهريّة والأشهريّة ، مع أنّ من أخبار المقام ما يشتمل على لفظ العموم الاستغراقي ، وحمل مثله على الشائع ممنوع.

وردّ الثاني : بمنع استعمال العصير في الخاصّ أولا وإن دلّت القرائن على إرادته في بعض المواضع ، فإنّ إرادة الخاصّ لا تستلزم استعمال اللفظ فيه بعينه ، لجواز فهم الخصوصيّة من الخارج دون اللفظ.

ومنع كون الأصل في الاستعمال الحقيقة مطلقا ، ثانيا ، وإنّما هو إذا اتّحد المستعمل فيه ، والمورد ليس كذلك ، لاستعماله في الأعمّ في اللغة والعرف والأخبار أيضا ، وعلى هذا فللخصم قلب الدليل وإثبات الحقيقة في الأعمّ بالاستعمال فيه.

وردّ الثالث : بأنّه إن أريد بثبوت إطلاق العصير على الخاصّ حقيقة‌

١٩٠

إطلاقه عليه لكونه موضوعا له بالخصوص فهو أول النزاع ، وإن أريد ثبوت إطلاقه عليه حقيقة ولو لوضعه للمعنى العام فهو غير مفيد.

وردّ الرابع : بأنّ النبيذ والنقيع وإن تحقّقا في التمر والزبيب ولكن يحصل العصير بعدهما أيضا ، ولأجل ذلك يطلق على عصيرهما النقيع والنبيذ.

والحاصل : أنّه إن أريد اختصاص العصير بالعنب فنمنع ، وإن أريد تحقّق النبيذ والنقيع في التمر والزبيب فنسلّم ، ولكن لا يلزمه انتفاء العصير فيهما ، إلاّ أن يخصّ العصير بما لم يتوقّف على نبذ ونفع ، وحينئذ يكون الكلام متوجّها كما يأتي.

بل لأنّ لفظ العصير : فعيل ، وهو إمّا بمعنى الفاعل ، فهو بمعنى العاصر ، أو بمعنى المفعول ، وهو الشي‌ء الذي وقع عليه العصر دون ما خرج من العصر ، وإنّما يسمّى ذلك عصارا وعصارة.

صرّح بذلك في القاموس ، قال : وعصر العنب ونحوه يعصره فهو معصور وعصير ، واعتصره استخرج ما فيه ، وعصره ولي ذلك بنفسه ، واعتصره عصر له وقد انعصر وتعصّر ، وعصارته وعصارة ما يحلب منه (١). انتهى.

صرّح بأنّ العصير هو نفس العنب وأنّ ماءه عصارة وعصار ، وعلى هذا فإطلاق العصير على الماء المستخرج لا يكون مقتضى وضعه الاشتقاقي حتى يستدعي عموما ، بل هو معنى مجازي له ، فيمكن أن يكون ذلك المعنى المجازي هو خصوص ماء العنب ، أو هو ونحوه ممّا لا يحتاج إلى‌

__________________

(١) القاموس المحيط ٢ : ٩٣.

١٩١

ضمّ ماء خارجي ، فلا يعلم العموم.

سلّمنا كون لفظ العصير حقيقة في الماء المستخرج ، كما هو ظاهر كلام صاحب المصباح المنير ، حيث قال : عصرت العنب ونحوه عصرا ـ من باب ضرب ـ استخرجت ماءه فانعصر ، واعتصرته كذلك ، واسم ذلك الماء العصير : فعيل ، بمعنى : مفعول ، والعصارة بالضمّ ما سيل عن العصر (١). انتهى.

ولكنّه حقيقة طارئة ، إذ حقيقة الاشتقاقيّة هو ما وقع عليه العصر ـ أي الجسم الذي استخرج ماؤه ـ كما صرّح به في القاموس ، وتلك الحقيقة الطارئة يمكن أن تكون ما لا يصدق على مثل ما يستخرج من التمر والزبيب ، بل يختصّ بما كان ماء نفسه ، ولذا لا يقال لما يخرج من الثوب ونحوه بعد العصر : عصير ، وكذا ما يخرج من اليد الرطبة بعد عصرها.

ولا عموم في كلام المصباح ، لأنّه قال : العنب ونحوه ، فيمكن أن يكون مراده بـ :نحوه : ما كان الماء من نفسه ، بل هو الظاهر من قوله : استخرجت ماءه ، حيث أضاف الماء إلى الضمير الراجع إلى نفس الشي‌ء ، ولم يقل : الماء الذي فيه.

ويؤكّد ذلك عدم وقوع تصريح في كلام لغوي باستعمال العصير في غير ما كان الماء المستخرج من نفسه ، وإنّما استعملوه في ما كان الماء من نفسه ، كالعنب والرطب والنخيل والأعناب ، أو نحو العنب وغير ذلك.

وعلى هذا ، فلا دلالة لتقييد بعض اللغويين وغيرهم العصير بالعنب على استعماله في التمري والزبيبي أيضا.

__________________

(١) المصباح المنير : ٤١٣.

١٩٢

نعم ، يدلّ على استعماله على غير ماء العنب أيضا كماء الرطب والحصرم والرمّان ، ولكنّه غير مفيد.

والحاصل : أنّ مقتضى الوضع الاشتقاقي والمطابق لحقيقته الأصليّة كون العصير هو ما وقع عليه العصر ، كنفس العنب والثوب وغيرهما ، دون ما خرج من العصر ، فيكون استعماله في الخارج كلاّ أو بعضا إمّا مجازا ـ كما هو ظاهر القاموس ، وحينئذ فيتكثّر المجاز ويتّسع باب الاحتمال ـ أو حقيقة طارئة ، كما هو ظاهر المصباح ، ولا يعلم أنّ حقيقته الطارئة هل هي الماء الذاتي المستخرج ، أو مطلقا فيبطل معه أيضا الاستدلال.

فإن قلت : قول صاحب المصباح : فعيل بمعنى مفعول ، يدلّ على أنّه وضعه الاشتقاقي ، فيكون عامّا لكلّ ما يصدق فيه مبدأ اشتقاقه.

قلنا : مع أنّه لا حجّية في قوله فقط أنّه لو كان حجّة لكان في تعيين المعاني ، وأمّا في غير ذلك فلا ، وكون ذلك فعيلا بمعنى المفعول ممّا نعلم انتفاءه ، فإنّ المعصور ـ الذي هو المفعول ـ هو ما وقع عليه العصر ، وليس هو إلاّ نفس العنب ونحوه دون ما استخرج منه ، وأمّا إرادة المستخرج من شي‌ء آخر فهو حقيقة ليس مفعولا يكون الفعيل بمعناه ، فإنّه ليس مفعولا للعصر أصلا.

سلّمنا ، ولكن يحتمل أن يكون إطلاق العصير على الماء من باب الفعيل بمعنى المفعول إذا كان ذلك الماء أيضا جزءا من حقيقة المسمّى بالاسم حتى يصدق عليه المفعول من تلك الجهة ، دون ما إذا ضمّ الماء مع شي‌ء آخر وادخل فيه ، كما في الثوب ونحوه.

وممّا ذكرنا ظهر ما في كلام بعض سادة مشايخنا المحقّقين ، حيث قال : عموم لفظ العصير باعتبار وضعه اللغوي الأصلي أمر بيّن يجب القطع‌

١٩٣

به ، فإنّ العصير فعيل من العصر ، فهو كغيره من المشتقّات موضوع بالوضع النوعيّ للذات المبهمة المتّصفة بالمبدإ على وجه مخصوص ، ومن المعلوم أنّ ليس للفظ العصير من بين المشتقّات في أصل اللغة وضع يخصّصه ببعض الذوات كالعنب ، فإذن العصير ـ بمقتضى وضعه الأصلي ـ عامّ صادق على كلّ شي‌ء معصور مطلقا ، عنبا كان أو تمرا أو زبيبا أو غير ذلك. انتهى.

فإنّا نقول : إنّا نسلّم عمومه باعتبار وضعه الأصلي ، ومقتضاه صدق العصير على كلّ ما وقع عليه العصر من عنب وتمر وزبيب وثوب ولبد ولحاف وغيرها ، وأمّا صدقه على الماء المستخرج مطلقا فبأيّ وضع؟

نوعي أو شخصيّ أو اشتقاقي؟ ودلالته عليه ليس بالوضع الأصلي الاشتقاقي ، وإنّما هو أمر طار عارضي ، يجب الفحص عن معروضه عموما وخصوصا ، وليس في كلام أهل اللغة ونحوهم من الأدباء تصريحا أو استعمالا مطلقا ما يدلّ على التعميم ، وإنّما هو محض استعمال في كلام الفقهاء لبيان المسألة ، ولو كان ذلك مقتضى الوضع الاشتقاقي للزم صحّة استعماله في الماء المستخرج من عصر الثوب واللبد واليد والشعر ، فيقال : عصير الثوب واليد والشعر إلى غير ذلك ، وبطلانه ظاهر جدّا.

بل في كلام المصباح إشارة إلى أنّه ليس وضعا اشتقاقيّا ، حيث قال : واسم ذلك الماء العصير ، ثمَّ قال : والعصارة ما سيل من العصر.

فإنّه لا يقال للضارب : إنّه اسم ذلك الشخص ، ولذا فرّق بين العصير والعصارة ، فالأول ليس مقتضى الوضع الوصفي الاشتقاقي ، وإنّما هو علميّ عارضي ، وهذا ظاهر جدّا.

وتؤكّد بعض ما ذكرنا صحيحة البجلي : « الخمر من خمسة : العصير‌

١٩٤

من الكرم ، والنقيع من الزبيب ، والبتع من العسل ، والمزر من الشعير ، والنبيذ من التمر » (١).

فإنّها دالّة على اختصاص العصير بماء العنب وعصارته إن جعلنا العصير بيانا للخمسة ، يعني : أنّ الخمر يحصل من خمسة أشياء : من العصير وهو من الكرم ، ومن النقيع الذي هو من الزبيب ، إلى آخره. أو اختصاصه بالخمر العنبيّة إن جعلناه بيانا لأقسام الخمر.

وأمّا الثاني : فلأنّ العصير في تلك الأخبار لو كان عامّا لزم تخصيص الأكثر ، بل إلاّ الأندر ، وهو هذه الثلاثة ، وخروج سائر أفراده التي لا تحصى من الكثرة ، وذلك غير جائز على التحقيق ، فيكون العصير إمّا مخصوصا بالوضع ، أو مستعملا في بعض الأفراد تجوّزا لا من باب تخصيص العامّ ، وعلى التقديرين لا تكون إرادة الزائد عن العنبي عنه معلومة.

وأورد عليه بوجهين :

الوجه الأول : منع عدم جواز تخصيص الأكثر ، لوقوعه في الكتاب العزيز ، قال سبحانه ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) (٢).

مع قوله تعالى ( وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٣). فإنّ المخلصين لو كانوا أقلّ كان الغاوون أكثر وقد استثنوا من الاولى ، وإن كانوا أكثر فقد استثنوا من الثانية ، ويلزم استثناء الأكثر.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٣٩٢ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ١٠١ ـ ٤٤٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٧٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١ ح ١.

(٢) الحجر : ٤٢.

(٣) الحجر : ٣٩ و ٤٠.

١٩٥

ولأنّ المقتضي له موجود والمانع مفقود.

أمّا الأول : فللوضع لما يصحّ منه الإخراج تجوّزا ، ووجود علاقة مصحّحة ، هي علاقة العموم والخصوص ، دون المشابهة المنتفية في المقام.

وأمّا الثاني : فإذ ليس إلاّ قبح مثل قول القائل : أكلت كلّ رمّانة في البستان ، وفيه آلاف ولم يأكل إلاّ واحدة أو ثلاثة. و : كلّ من جاءك فأكرمه ، ثمَّ قال : أردت زيدا أو هو مع عمرو. وذلك القبح ليس كلّيا حتى يكون مستندا إلى اشتراط الواضع بقاء الأكثر من العامّ ، بل لأمر عارض يزول إذا روعيت فيه الجهات المحسّنة والاعتبارات اللائقة وتصرّف المتكلّم فيه تصرّفا يخرجه عن الضعة والابتذال ، بل قد يلتحق به الكلام بالبليغ الذي يتنافس به الأعلام ، وذلك كما في : عليّ واحد وواحد وواحد إلى عشرة ، فإنّه يستقبح مع كونه موافقا للّغة ، وإذا كانت هناك نكتة يرتفع القبح كما في بنت سبع وأربع وثلاث ، وكما أنّ التكرار ممّا تستقبحه الطباع ، وقد يستحسن بمراعاة بعض النكات كما في سورتي : الرحمن والمرسلات ، وكتوجّه الخطاب الموضوع للموجود أو الحاضر أو ذوي العقول إلى المعدوم أو الغائب أو غير ذوي العقول أو عكس ذلك بملاحظة بعض اللطائف والأحوال ، وبهذا الاعتبار يحسن استعمال أدوات العموم في قليل من أفراد العامّ ، كأن ينظر في المثالين المتقدّمين إلى أنّ ما عدا المراد بمنزلة المعدوم لنوع امتياز للمراد من بين الأفراد فكأنّه لا فرد لذلك العام سوى المراد.

أو إلى أنّه لمّا أكل أحسن الرمّانات وأراد أفضل الجائين فكأنّه أكل الكلّ وأكرم الجميع ، فيطلق لفظ العموم نظرا إلى ما وقع عليه الفعل من‌

١٩٦

القليل بمنزلة الكثير ، كقوله : زيد كلّ الرجل ، يريد بذلك معادلته للجماعة. أو إلى أنّ القليل المأكول مثلا لمّا كان قدر كفايته فكأنّه أكل الكلّ ، فيقصد المبالغة دون الحقيقة ، وبمثل تلك الاعتبارات يزول القبح الثابت له قبل ذلك.

ومن ذلك يعلم أنّ القبح لم يكن مستندا إلى مخالفة اللغة أو الخروج عن قوانين العربيّة ، وإلاّ لاستمرّ مع اللفظ ولم يكن يزول أبدا وإن روعيت فيه أنواع اللطائف أو اختلفت الأحوال والمقامات.

وفيه أولا : أنّ الاستثناء في الآية الأولى منقطع ، لأنّ من اتّبعه من الغاوين ليس داخلا في العباد ، لأنّ العبد من أقرّ بالعبوديّة وتلبّس بآداب العبادة ، قال الله سبحانه ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (١) ، فلا تخصيص فيها. والمخرج في الآية الثانية قليل بالنسبة إلى الباقين.

وثانيا : أنّه لا يعلم أنّ من اتّبع الشيطان من الغاوين ـ الذي عليه سلطانه ـ يكون أكثر من غيره من العباد أو مساويا له ، لأنّهم بين تابع لله ومستضعف من الدين لم تقرع إسماعهم شريعة أو لم يعلموا غير طريقتهم طريقة حقّة ، وبين تابع للشيطان.

وبتقرير آخر : بين ذوي النفوس المطمئنّة وذوي النفوس اللوّامة وذوي النفوس الأمّارة والمستضعفين الخالين عن النفوس الثلاث الذين هم أكثر الناس ، ومن سلّط عليه الشيطان هو الثالث ، ومن أين علم أنّه أكثر العباد أو مساو لغيره؟! ومن أحاط بعباد الله سبحانه من بدو خلقهم إلى انقراضهم في شرق الدنيا وغربها وبرّها وبحرها؟!

__________________

(١) الفجر : ٢٩ ، ٣٠.

١٩٧

وأمّا الآية الثانية فمعناها : إنّي أكون بصدد إغواء الجميع إلاّ العباد المخلصين الذين هم الأنبياء وأوصياؤهم ـ كما ورد في الأخبار ـ فإنّي لست بصدد إغوائهم. ولا يريد أنّي اغوي غير المخلصين ، إذ ليس جميع غيرهم غاويا من جانب الشيطان ، فإنّ منهم المؤمنين الأبرار ، والمتوسّطين التابعين للشريعة التائبين بعد المعصية ، والمستضعفين ، وأمّا المخلصون فهم الذين جزاؤهم فوق أعمالهم ويصفون الله سبحانه بما يليق بجلاله.

قال الله سبحانه ( وَما تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِلاّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) (١).

وقال ( سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ. إِلاّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٢).

فليس كلّ غير المخلصين غاويا من إغواء الشيطان ، فأراد : إنّي أكون بصدد إغواء غير المخلصين.

وعلى هذا ، فلا يفيد ضمّ الآية الثانية مع الأولى لإثبات مطلوبه ، لأنّا نقول : إنّ كلاّ ممّن اتّبع الشيطان وله عليه السلطان ومن المخلصين أقلّ أفراد العباد ، ولا ضير ، إذ ليس كلّ من أراد إغواءه ممّن اتّبعه.

وثالثا : أنّا لا نسلّم وجود المقتضي ، إذ هو ـ كما اعترف به ـ العلاقة المصحّحة ، وهي هنا غير موجودة.

قوله : وهي العموم والخصوص.

قلنا : نعم ، ولكن لا كلّ خصوص ، إذ لم تثبت لنا صلاحيّة كلّ خصوصيّة حتى الأكثر للعلاقة ، كيف؟! وقد منعه أكثر المحقّقين ولم يدلّ عليه شاهد من الواضع ، والعلاقات أيضا أمور توقيفيّة يجب ثبوتها من‌

__________________

(١) الصافات : ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) الصافات : ١٥٩ ـ ١٦٠.

١٩٨

الواضع ، وهذا هو سبب القبح الذي يلاحظ في العرف وادّعاه المحقّقون ، وهو أمر مستمرّ لا ينفكّ أبدا ، وليس القبح لأجل أمر خارجي يزول بزواله ويعدّ من الموانع.

وأمّا ما ذكره ـ من زوال قبحه أحيانا بمراعاة بعض النكات واللطائف ـ فهو خطأ محض واشتباه بيّن يقضى منه العجب سيّما من هذا الجليل الشأن الذي ذكره ، فإنّ الاستعمالات التي ذكرها مراعيا فيها النكات واللطائف ليس من باب التخصيص ولا علاقة العموم والخصوص ، وإنّما هو تجوّز آخر وعلاقة أخرى. ولذا لا يرتفع القبح لو صرّح بالتخصيص ، فيقول : أكرم كلّ من جاء دارك إلاّ غير زيد العالم ، أو : ولا تكرم غير زيد العالم ، أو : أكلت كلّ رمّانة إلاّ غير الرمّانة الفلانيّة الحسنة. ولذا لو علم السامع بذلك ، ولكن لم يعلم خصوص مراده عددا ، لا يحمله على غير ما علم عدم إرادته ، كما هو شأن التخصيص.

ولو تنزّلنا عن الحكم ـ الباتّ بكون ذلك تجوّزا آخر ـ فلا أقلّ من احتماله المسقط للاستدلال ، لثبوت التوقيف وارتفاع القبح عن التخصيص.

ورابعا : أنّا سلّمنا أنّ القبح يرتفع بمراعاة اللطائف والنكات ، فما اللطيفة التي رفعته في تلك الأخبار والنكتة التي أزالته فيها؟!

فإنّ قلت : النكتة هو شيوع هذه الثلاثة وتعارفها وتداولها.

قلنا : مع أنّ كفاية مجرّد ذلك لرفع القبح غير معلوم ، إنّه إن أريد الشيوع وجودا ـ أي أنّ هذه العصيرات الثلاثة أكثر وجودا من غيرها ـ فهو ممنوع جدّا ، كيف؟! مع أنّ عصارة الزيت وسائر الحبوبات التي يستضاء بعصارتها وعصير الحصرم والرمّان والأترج والليمون وغير ذلك ليس بأقل من عصارة الزبيب قطعا.

١٩٩

وإن أريد شيوع إغلائها وأكثريّة غليانها فكذلك أيضا ، فإنّ تحقّق الغليان في العصارات التي يستضاء بها وفي ماء الحصرم والرمّان والأترج والسماق والإجاص في الطبائخ والرّبوب ليس أقل وقوعا من تحقّق الغليان في عصارة الزبيب والتمر أصلا ، وقد وقع السؤال في الأخبار العديدة عن ربّ الرمّان والتفّاح والسفرجل والتوت وغيرها (١).

وإن أريد شيوع جعله دبسا فلا مدخليّة له في ذلك ، كما أنّ لشيوع بعض الحالات الأخر لبعض العصارات الأخرى لا مدخليّة له في ذلك أيضا.

الوجه الثاني : عدم اقتضاء امتناع تخصيص الأكثر إرادة العصير العنبي من اللفظ ولا وضعه له ، لجواز إرادة الثلاثة بتوجّه الخطاب إلى الأفراد دون الأنواع ، فإنّ أفراد هذه الثلاثة أكثر من أفراد غيرها.

وفيه : منع أكثريّة أفراد هذه الأنواع الثلاثة جدّا ولو سلّمت أكثريّة مقدارها ، مع أنّها أيضا ممنوعة ، مضافا إلى أنّ الإرجاع إلى الأفراد خلاف الظاهر.

قيل : سلّمنا وضعه للخاصّ أو استعماله تجوّزا فيه ، ولكن الخاص الموضوع له أو المستعمل فيه لا يجب أن يكون خصوص ماء العنب ، بل الظاهر أنّه ما يتّخذ منه الدبس ، لقربه من المعنى الأصلي ومطابقته لما يقتضيه ظاهر كلام الفقهاء ، حيث يطلقون العصير على العصارات الثلاث دون غيرها.

قلنا : الظهور ممنوع لا وجه له ، بل وليس مطلق الماء المستخرج‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٦٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٩.

٢٠٠