مستند الشّيعة - ج ١٥

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٥

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-041-2
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٩٠

والظاهر إلحاق خوف تلف العرض أو المال المحترم بترك تناوله بما ذكر أيضا ؛ لما ذكر.

وعن الشيخ في النهاية والفاضل في المختلف (١) وجماعة (٢) : التخصيص بخوف تلف النفس ؛ استنادا إلى الآيات السابقة. وإفادتها للتخصيص ممنوعة.

ثمَّ الاضطرار ـ كما ذكر ـ يحصل بالخوف الحاصل من العلم بالضرر والظنّ ؛ لصدق العسر والحرج بالترك مع الظنّ ، وكذا الاضطرار والضرورة.

وأمّا مجرّد الوهم والاحتمال فهو غير كاف في التحليل.

فروع :

أ : الحقّ المشهور : عدم الفرق بين المحرّمات في ذلك ، سواء الخمر والطين وغيرهما ؛ لعموم أكثر الأخبار المتقدّمة.

وخصوص موثّقة الساباطي في الخمر : عن الرجل أصابه عطش حتى خاف على نفسه فأصاب خمرا ، قال : « يشرب منه قوته » (٣).

والمرويّ في الدعائم : « إذا اضطرّ المضطرّ إلى أكل الميتة أكل حتى يشبع ، وإذا اضطرّ إلى الخمر شرب حتى يروى ، وليس له أن يعود إلى ذلك حتى يضطرّ إليه » (٤).

__________________

(١) النهاية : ٥٩١ ، المختلف : ٦٨٧.

(٢) منهم القاضي في المهذّب ٢ : ٤٣٣ ويحيى بن سعيد في الجامع : ٣٩٠.

(٣) التهذيب ٩ : ١١٦ ـ ٥٠٢ ، الوسائل ٢٥ : ٣٧٨ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣٦ ح ١.

(٤) دعائم الإسلام ٢ : ١٢٥ ـ ٤٣٥ ، المستدرك ١٦ : ٢٠١ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٠ ح ٤.

٢١

ومرسلة العلل : « وشرب الخمر جائز في الضرورة » (١).

وتؤيّده حلّية الميتة والدم ولحم الخنزير ـ التي هي أشدّ حرمة وأغلظ من الخمر ـ عند الضرورة ، وأهمّية حفظ النفس من سائر الواجبات.

خلافا للمحكي عن المبسوط والخلاف ، فقال : لا يجوز دفع ضرورة العطش والجوع أو التداوي بشرب الخمر أصلا (٢).

استنادا إلى ثبوت حرمتها في الكتاب ، وعدم معارضة آيات الاضطرار لها ؛ لتصدّرها بحرمة الميتة والدم ولحم الخنزير ، فهي المباحة للمضطرّ.

ولا مقاومة (٣) أخبار الحلّية لها ؛ لأنّ كلّ خبر يخالف الكتاب فهو مردود.

ولرواية أبي بصير المرويّة في العلل : « المضطرّ لا يشرب الخمر ، فإنّه لا تزيده إلاّ شرها ، ولأنّه إن شربها قتلته ، فلا يشرب منها قطرة » قال : وروي : « لا تزيده إلاّ عطشا » (٤).

والجواب أولا : بأنّ استثناء المضطرّ أيضا ثبت من الكتاب ، فإنّ الآية الأخيرة مطلقة ، وكذا آيات نفي العسر والحرج.

وثانيا : أنّ خاصّ السنّة لا يعدّ مخالفا لعامّ الكتاب ، ولذا يخصّص الثاني بالأول إذا كان خاصّا مطلقا ، كما في المقام ؛ إذ الموثّقة ورواية الدعائم خاصّان مطلقان ، وكذا مرسلة العلل. ولا تعارضها رواية العلل ؛ لأنّها معلّلة بما إذا كان المفروض خلافه.

وللمحكيّ عن بعض الأصحاب ، فقال بعدم جواز دفع الضرورة‌

__________________

(١) علل الشرائع : ٤٧٨ ـ ١ ، الوسائل ٢٥ : ٣٧٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣٦ ذيل الحديث ٤.

(٢) المبسوط ٦ : ٢٨٨ ، الخلاف ٢ : ٥٤٥.

(٣) في « ح » : ولا تقاومه ، ولعل الأنسب : ولا مقاومة لأخبار الحلّية لها.

(٤) علل الشرائع : ٤٧٨ ـ ١.

٢٢

بالطين الأرمني ، والطين المختوم ؛ لعموم أدلّة حرمة الطين (١). وجوابه ظاهر.

ب : يحلّ للمضطرّ تناول قدر الضرورة من المحرّمات ، وهو ما يسدّ به الرمق إجماعا ، ولا يجوز له تناول الزيادة على الشبع كذلك ، وبه فسّر بعضهم العادي في الآية المباركة ، أي المتجاوز عن الحدّ ، كما ذكره في المفاتيح (٢). والوجه في الحكمين ظاهر.

وكذا لو دعت الضرورة إلى الشبع ، كما إذا كان في بادية وخاف أن لا يقوى على قطعها لو لم يشبع ، أو احتاج إلى المشي ، أو العدو وتوقّف على الشبع.

وهل يجوز له أن يتجاوز عن سدّ الرمق إلى الشبع؟

ظاهر الأكثر : العدم. وهو مقتضى الأصل ، وظاهر رواية المفضّل المتقدّمة (٣) ، وفسّر بعضهم العادي به أيضا ، كما نقله في الكفاية (٤).

والجواز مفاد رواية الدعائم المذكورة في الفرع الأول ، حيث قال : « حتى يروى » ولكنّها لا تصلح مقاومة للأولى المعتضدة بالأصل. وأمّا موثّقة الساباطي فتحتمل الأمران ، فالحقّ هو الأول.

ج : قد أشرنا إلى أنّ التناول في محلّ الضرورة على وجه الوجوب ؛ لأنّ تركه يوجب إعانته على نفسه وقد نهي عنه في الكتاب (٥) والسنّة (٦) ،

__________________

(١) انظر السرائر ٣ : ١٢٤.

(٢) المفاتيح ٢ : ٢٢٧.

(٣) في ص : ١٥ ، ١٦.

(٤) كفاية الأحكام : ٢٥٤.

(٥) البقرة : ١٩٥ ، النساء : ٢٩.

(٦) انظر الوسائل ٢٩ : ٢٠٥ أبواب ديات النفس ب ٥.

٢٣

ويدلّ عليه قوله : « فأمره » في رواية المفضّل ، وكذا مرسلة الصدوق المتقدّمة.

د : لو لم يجد المضطرّ إلاّ مال الغير‌ ، فالغير إمّا مثله مضطرّ إليه ، أو لا.

فعلى الأول : لا يجوز الأخذ منه ظلما إجماعا ؛ لحرمة الظلم ، وعدم مجوّز له إلاّ الضرورة الحاصلة له أيضا ، وهو أحد معاني الباغي المذكورة في الآية عند بعض المفسّرين (١).

وهل يجوز الأخذ منه بغير ظلم من التماس ، أو دفع ثمن كثير ونحوهما؟

احتمل بعضهم : العدم ؛ لأنّه إهلاك للغير لأجل إبقاء النفس (٢).

وفيه نظر ؛ لتعارض إهلاك أحد النفسين ، فلا يحكم بتعيّن أحدهما إلاّ بمعيّن ، وليس.

نعم ، لو ارتكب لإبقاء أحدهما محرّما آخر ـ كظلم أو قتل ـ تعيّنت حرمته.

وهل يجوز لذلك الغير حينئذ الإيثار واختيار الغير على النفس؟

قيل : لا ؛ لأنّه إلقاء بيده إلى التهلكة (٣).

واحتمل بعضهم : الجواز (٤) ؛ لقوله سبحانه ( وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) (٥).

__________________

(١) كالفخر الرّازي في التفسير الكبير ٥ : ١٤ ، الزمخشري في الكشّاف ١ : ٢١٥.

(٢) كما في كفاية الأحكام : ٢٥٤.

(٣) كفاية الأحكام : ٢٥٤.

(٤) كما في المسالك ٢ : ٢٥٠.

(٥) الحشر : ٩.

٢٤

ويردّ بحمله على ما إذا لم تؤدّ الخصاصة إلى الهلاكة.

وفيه : أنّه أعمّ من ذلك ، كرواية السكوني : « من سمع مناديا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم » (١).

كما أنّ الإلقاء إلى التهلكة أعمّ من إيجابه لإحياء الغير ، فيتعارضان بالعموم من وجه ، ويرجع إلى أصل الجواز.

فالأظهر : الثاني ، والأظهر منه ما إذا استنقذ بالإيثار المتعدّد. كما أنّ الظاهر عدم جواز الإيثار لو لم يكن الغير مؤمنا ؛ لما ورد في الأخبار من عدم مقابلة ألف من غير المؤمنين مع مؤمن واحد.

وعلى الثاني : فلا شكّ في وجوب البذل على ذلك الغير إجماعا ؛ لأنّ في الامتناع منه إعانة على هلاك المحترم أو ضرره ، ولرواية السكوني المتقدّمة.

ورواية فرات بن أحنف : « أيّما مؤمن منع مؤمنا شيئا ممّا يحتاج إليه ، وهو قادر عليه من عنده أو من عند غيره ، أقامه الله يوم القيامة مسودّا وجهه ، مزرقّة عيناه ، مغلولة يده إلى عنقه ، فيقال : هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ، ثمَّ يؤمر به إلى النار » (٢) ، وغير ذلك من الروايات (٣).

وبها يخصّص عموم مثل : « الناس مسلّطون على أموالهم » (٤).

والروايتان وإن اختصّتا بالمسلم والمؤمن ، ولكنّ المعروف من‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ١٧٥ ـ ٣٥١ ، الوسائل ١٥ : ١٤١ أبواب جهاد العدو وما يناسبه ب ٥٩ ح ١.

(٢) الكافي ٢ : ٣٦٧ ـ ١ ، المحاسن : ١٠٠ ـ ٧١ ، الوسائل ١٦ : ٣٨٧ أبواب فعل المعروف ب ٣٩ ح ١.

(٣) انظر الوسائل ١٦ : ٣٨٧ أبواب فعل المعروف ب ٣٩.

(٤) غوالي اللئالي ١ : ٢٢٢ ـ ٩٩ ، و ٢ : ١٣٨ ـ ٣٨٣.

٢٥

كلامهم ـ كما في الكفاية (١) ـ ثبوت الحكم في الذمّي والمستأمن أيضا.

وهو حسن إن ثبت وجوب استنقاذهما من الهلاكة أيضا كما ثبت وجوب الاحتراز عن إهلاكهما ، وإلاّ ففي الحكم بالوجوب إشكال ، وأشكل منه ما إذا أدّى الامتناع إلى ما دون الهلاكة.

وكما يجب على الغير البذل يجب على المضطرّ القبول ، والوجه ظاهر ، بل له الأخذ قهرا لو امتنع المالك ولو بالسرقة أو المقاتلة (٢) ؛ لأنّه مقدّمة الواجب الذي هو حفظ النفس ، فيعارض دليل وجوبها دليل حرمته ، ويرجع إلى الأصل ، ولعموم المرويّ في تفسير الإمام المتقدّم في صدر المسألة (٣). بل يجب ؛ للنهي عن المنكر ، ويجب على غيرهما مساعدة المضطرّ ومعاونته فيه.

ثمَّ على جميع التقادير المذكورة إمّا لا يكون المضطرّ قادرا على الثمن عاجلا أو آجلا ، أو يتمكّن منه.

فعلى الأول ، يجب البذل على المالك والأخذ على المضطرّ مجّانا.

وعلى الثاني ، فإن بذله المالك مجّانا فلا كلام ، وإلاّ فلا يجب عليه البذل مجّانا ولا للمضطرّ الأخذ كذلك ، بل يجب عليه بذل الثمن العاجل أو الآجل على حسب المقدور.

ولو بذله بثمن مؤجّل بأجل يعلم المضطرّ عدم القدرة في ذلك الأجل يجب عليه القبول ، وإن لم يجب عليه الأداء في الأجل إلاّ مع القدرة.

وهل الثمن الجائز للمالك أخذه والواجب على المضطرّ بذله هو ثمن‌

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٢٥٤.

(٢) في « س » : المقابلة.

(٣) راجع ص : ٢٠.

٢٦

المثل ، فلو أراد المالك الزائد عليه المقدور للمضطرّ لم يكن له ذلك ولم يجب على المضطرّ البذل؟

أو مطلقا ، فللمالك مطالبة الزائد ويجب على المضطرّ بذله؟

الأقرب ـ كما في الكفاية (١) وغيره (٢) ، بل هو المشهور كما في شرح المفاتيح ـ : الثاني ؛ لدفع الاضطرار بالتمكّن على الابتياع بثمن مقدور.

خلافا للمحكيّ عن المبسوط ، فقال : لو طلب منه المالك ما زاد عن ثمن مثله كان ظالما ولم يجب على المحتاج بذل الزائد ؛ لأنّه مضطرّ إلى دفع الزيادة ، فهو كمن اجبر على بذل ماله لغيره ، فعلى المالك بذله بثمن المثل ، وللمحتاج أخذه منه جبرا إن امتنع بثمن مثله (٣).

وفيه : أنّ اضطراره مع التمكّن من بذله ممنوع ، فظلم المالك بمطالبته الزائد مدفوع بتسلّط الناس على أموالهم.

ولو أعطى المالك الطعام من غير ذكر العوض والثمن ، فالظاهر أنّه بغير عوض ؛ للأصل ، والظاهر من العادة في بذل الطعام والماء للمضطرّ.

وينبغي ملاحظة القرائن والحال من الطرفين والطعام ، فإن لم يكن فالمرجع الأصل.

ولو ادّعى المالك ذكر العوض وأنكره المحتاج فعلى المالك الإثبات ؛ لحصول الإباحة قطعا ، وأصالة عدم الذكر.

وإن ادّعى أنّه قصده ولم يظهره لم يجب على المحتاج العوض ؛ لتسليطه على الإتلاف ، وعدم تحقّق ما يوجب لزوم العوض ، فإنّ القدر‌

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٢٥٤.

(٢) كما في الشرائع ٣ : ٣٣٠ ، الروضة البهية ٧ : ٣٥٥.

(٣) المبسوط ٦ : ٢٨٦.

٢٧

الثابت لزومه مع الإظهار دون القصد.

ومنه يظهر عدم لزومه لو ثبت قصده بدون إظهاره ، فإنّ إعطاء المالك مجوّز للإتلاف ، والأصل عدم توقّفه على شي‌ء آخر ولو قصده من غير إظهار ، ومعه فالأصل عدم الاشتغال بشي‌ء آخر.

ولو قدر المحتاج على الثمن والزائد ولم يبذله المالك وأخذ منه قهرا أو خدعة أو سرقة لم يجب على المحتاج إلاّ ثمن المثل ، والوجه ظاهر.

ويشعر كلام بعضهم بعدم لزوم ثمن المثل حينئذ ؛ لأنّه ليس بغاصب ولا مشتر ، بل أكل ما يجوز له أكله ، بل يجب من غير تقويم ، والأصل عدم اشتغال الذمّة بالثمن.

وفيه نظر ؛ إذ لا نصّ على إباحة الإتلاف حتى يعمل بأصالة عدم التقييد كما في الصورة السابقة ، بل المبيح الإجماع والضرورة ، فيكتفى فيه بالقدر المتيقّن.

ولا يتوهّم أنّه على ذلك يجب عليه ما يرضى به المالك أو يقدر عليه دون ثمن المثل ؛ لأنّه ينافي أدلّة الضرر ، كما يأتي في ذيل الفرع اللاحق.

هـ : لو وجد المضطرّ مال الغير ولم يكن الغير حاضرا فلا شكّ في جواز أخذه.

وهل يشترط إذن الحاكم لو وجد ، والعدول لو لم يوجد ، أم لا؟

الظاهر أنّه إن كان الغائب ممّن ثبتت ولايته للحاكم والعدول وجب ؛ لأنّ الضرورة تقدّر بقدرها ، وإلاّ فلا.

فإن كان ممّا يأخذه بإذن الحاكم أو العدول يأخذه على حسب إذنهم من التقويم وقدر القيمة ، وإن كان ممّا يأخذه بنفسه يجب عليه التقويم بنفسه ؛ لأنّه القدر الثابت جوازه من الشريعة ، فإنّ الأصل عدم جواز‌

٢٨

التصرّف في مال الغير بدون إذنه ، ولم يثبت الجواز هنا بدون التقويم ؛ إذ لا نصّ على إباحة الإتلاف هنا ، بل المبيح الإجماع والضرورة ، فيكتفى فيه بالمتيقّن.

ومنه تظهر التفرقة بين ذلك وبين ما مرّ في الفرع السابق.

ثمَّ التقويم الواجب هل هو بثمن المثل ، أو بكلّ ما يعلم رضا المالك به ولو زاد عن الثمن بالقدر المقدور ، أو كلّما يقدر عليه؟

مقتضى الأصل : أحد الأخيرين ، ولكن أدلّة نفي الضرر والإضرار تثبت الأول ، ولا يعارضه حديث : « الناس مسلّطون على أموالهم » (١) ؛ إذ ليس هناك صاحب مال حاضر.

ومنه يظهر الفرق بين ذلك وبين ما إذا كان ذو المال حاضرا وطلب الزائد عن ثمن المثل.

و : لو وجد المضطرّ مال الغير والميتة ونحوها من الدم ولحم الخنزير والمسكر‌ ، فإن بذله المالك بغير عوض أو بعوض مقدور عاجلا أو آجلا تعيّن أكل مال الغير ؛ لعدم الاضطرار ولو زاد الثمن عن ثمن المثل. إلاّ إذا كان بقدر يضرّ بحاله فلا يتعيّن ؛ لأدلّة نفي الضرر.

وإن لم يبذله المالك ، أو من قام مقامه ، أو كان غائبا ، فالحقّ التخيير ؛ لوجوب أحد الأمرين بالاضطرار ، وعدم المعيّن.

وقد يرجّح أكل الميتة بل يعيّن ؛ لأنّه أبيح للمضطرّ بنصّ القرآن (٢) دون أكل مال الغير ، فهو إن كان مضطرّا تباح له الميتة كالمذكّى ، فلا يكون مضطرّا إلى مال الغير ، وإن لم يكن مضطرّا فلا يباح له شي‌ء منهما ، ومع‌

__________________

(١) غوالي اللئالي ١ : ٢٢٢ ـ ٩٩ ، وج ٢ : ١٣٨ ـ ٣٨٣ ، البحار ٢ : ٢٧٢ ـ ٧.

(٢) النحل : ١١٥.

٢٩

ذلك فليس في أكل الميتة إلاّ حقّ الله الساقط بإباحته ، وفي أكل مال الغير حقّ الله وحقّ الناس ولزوم الثمن المخالف للأصل.

وفيه : أنّ مع إمكان أكل مال الغير لا نسلّم أنّه مضطرّ إلى الميتة ، فلا يشمله نصّ القرآن ، بل هو مضطرّ إلى أحد المحرّمين ، فيباح أحدهما مخيّرا ؛ بالإجماع والضرورة ، ويسقط حقّ الناس بلزوم الثمن ، ومخالفة الأصل لازم على كلّ حال ، والأكثريّة في طرف لا يؤثّر في التعيين عندنا.

وقد يرجّح أكل مال الغير ، بتضمّن أكل الميتة ؛ لتنفّر الطبع الموجب للخباثة ، وللضرر الذي هو علّة تحريمها ، ولأكل النجس ، وحرمتها بنفسها ، بخلاف مال الغير ، فإنّه لا يتضمّن إلاّ الأخير.

وفيه : أنّ أكثريّة سبب الحرمة في طرف لا يوجب تعيين غيره إذا كان هو أيضا محرّما ؛ مع أنّه أيضا قد يوجب الإضرار بالغير المنفيّ شرعا كما إذا لم يقدر على الثمن ، أو بالمضطرّ كما إذا قدر عليه ، وقد تكون الميتة ممّا لا تنفّر فيها ، والضرر فيها بمرّة واحدة احتمالي وفي مال الغير قطعي.

ز : قد خصّ الكتاب العزيز إباحة المحرّم للمضطرّ بما إذا لم يكن باغيا ولا عاديا (١).

وقد اختلفوا في تفسيرهما ، وقد عرفت تفسير بعضهم الأول بمن يأخذ من مضطرّ مثله ، والثاني بمن يأكل الزائد عن قدر الشبع ، أو الزائد عن قدر الضرورة.

وفسّر الأول في مرسلة البزنطي بالباغي على الإمام ، والثاني بقاطع‌

__________________

(١) انظر النحل : ١١٥.

٣٠

الطريق (١).

وفي روايتي عبد العظيم (٢) وحمّاد (٣) فسّر الأول بالذي يبغي الصيد بطرا ولهوا ، والثاني بالسارق.

والمرويّ في المجمع الأول بالباغي ، والثاني بالعادي بالمعصية طريق المحقّين (٤).

وفي تفسير الإمام الأول بالباغي ، والثاني بالقول بالباطل في نبوّة من ليس بنبي وإمامة من ليس بإمام (٥).

وفي معاني الأخبار الأول بباغي الصيد ، والثاني باللّص (٦).

وفي المرويّ في تفسير العيّاشي الأول بالخارج على الإمام ، والثاني باللّص. وفيه أيضا الأول بالظالم ، والثاني بالغاصب (٧).

ولا تنافي بين الروايات ؛ لجواز كون المراد من اللفظين المعاني كلاّ ، فيحملان عليها جميعا ، ولا يضرّ ضعف الروايات بعد وجودها في الأصول المعتبرة. وأمّا غير المعنيين الواردين في النصّ فلا اعتبار به.

وأمّا غير المتجانف لإثم فمعناه ـ كما أشير إليه ـ : غير مائل إلى إثم في‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٥ ـ ١ ، معاني الأخبار : ٢١٣ ـ ١ ، الوسائل ٢٤ : ٢١٦ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٦ ح ٥.

(٢) الفقيه ٣ : ٢١٦ ـ ١٠٠٧ ، التهذيب ٩ : ٨٣ ـ ٣٥٤ ، الوسائل ٢٤ : ٢١٤ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٦ ح ١.

(٣) التهذيب ٩ : ٧٨ ـ ٣٣٤ ، الوسائل ٢٤ : ٢١٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٦ ح ٢.

(٤) مجمع البيان ١ : ٢٥٧ ، الوسائل ٢٤ : ٢١٦ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٦ ح ٦.

(٥) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٨٥ ، مستدرك الوسائل ١٦ : ٢٠١ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٠ ح ٥.

(٦) معاني الأخبار : ٢١٤.

(٧) تفسير العياشي ١ : ٧٤ ـ ١٥٤ و ١٥١ ، المستدرك ١٦ : ٢٠٠ ، ٢٠١ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٠ ح ١ ، ٢.

٣١

الأكل ؛ بأن يأكل زيادة على الحاجة ، أو للتلذّذ ، أو يتعمّد في الأكل من غير حاجة. ويحتمل أن يكون المعنى : غير عاص بسفره.

ح : ظاهر الآيات المبيحة للمحرّمات للمضطرّ (١) وأكثر رواياتها (٢) وإن اختصّ بإباحة أكل ما حرّم أكله للمضطرّ ، إلاّ أنّ مقتضى عموم تفسير الإمام المتقدّم (٣) وأدلّة نفي العسر والحرج والضرر : إباحة كلّ محرّم للمضطرّ في الأكل والشرب من غير اختصاص بإباحة ما يحرم أكله وشربه ، ولذا أبيح مال الغير ، مع أن التصرّف فيه والأخذ منه وإجباره محرّم أيضا.

وعلى هذا ، فتباح بالاضطرار إلى الأكل والشرب الأفعال المحرّمة لو توقّف عليها ، كما لو وجدت امرأة دفع اضطرارها بالتمكين من بضعها ، أو شرب خمر ، أو ترك صلاة ؛ بأن لا يبذل المالك قدر الضرورة إلاّ بأحد هذه الأفعال ، فتباح هذه الأفعال ، لمعارضة أدلّة حرمتها مع أدلّة المضطرّ ، فيرجع إلى الأصل.

وهل يجب ارتكاب المحرّم حينئذ؟

فيه نظر ؛ إذ لا دليل عليه ، إلاّ إذا أدّى الاضطرار إلى هلاك النفس ، فإنّ الظاهر انعقاد الإجماع على تقدّم حفظه على سائر الواجبات.

ومنه يظهر جواز أكل الميّت الآدمي ، وقتل الحيّ الحربي. وأمّا الذمّي والمستأمن فلا يجوز ؛ لتعارض أدلّة نفي الضرر والحرج من الطرفين ، وعدم صلاحيّة المرويّ في التفسير خاصّة لإباحة المحرّمات.

ومنه يظهر عدم جواز أخذ قطعة من لحم حيّ مسلم ، كلحم فخذه.

__________________

(١) انظر الأنعام : ١١٩ ، المائدة : ٣ ، النحل : ١١٥.

(٢) انظر الوسائل ٢٤ : ٩٩ ، ٢١٤ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ١ ، ٥٦.

(٣) في ص : ٢٠.

٣٢

وبالجملة : المناط ـ في غير ما تجري فيه أدلّة إباحة ما حرم أكله أو شربه للمضطرّ ـ أدلّة نفي العسر والحرج والضرر ، وجريانها موقوف على عدم جريانها في الطرف الآخر أيضا ، فتأمّل.

المسألة السابعة : يستثنى من الأصول الأربعة ومن كلّ محرّم أيضا ما إذا دعت إلى تناوله التقيّة ؛ للإجماع ، وأدلّة وجوب التقيّة (١). ويجب الاقتصار فيه على قدر التقيّة.

وأمّا ما ورد في مرسلة زرارة : في المسح على الخفّين تقيّة؟ قال : « لا يتّقى في ثلاث » قلت : وما هنّ؟ قال : « شرب الخمر » أو قال : شرب المسكر « والمسح على الخفّين ، ومتعة الحجّ » (٢) ، فإنّما يدلّ على عدم اتّقائهم عليهم‌السلام ، فلعلّه كان لعلمهم بأنّه لا يترتّب عليه ضرر في حقّهم ، أو لأنّه كان اجتناب هذه الأمور منهم معروفا مشهورا عند الناس ، بحيث لا تؤثّر فيها التقيّة ، أو لا يطلب منهم.

وأمّا رواية سعيد : « ليس في شرب النبيذ تقيّة » (٣) فلعلّ المراد منه : النبيذ الحلال ، أو المراد ـ بل هو الظاهر ـ : أنّ التقيّة إنّما تكون فيما يتّقى فيه عن المخالفة في المذهب ، فيرتكب ما يوافق مذهبهم إخفاء لمذهبه ولو لم يكرهوه عليه ، وشرب النبيذ حرام عند الكلّ ، فلا معنى للتقيّة فيه ؛ لأنّه موافق لمذهبهم (٤).

__________________

(١) انظر الوسائل ١٦ : ٢١٤ أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ب ٢٥.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٥ ـ ١٢ ، التهذيب ٩ : ١١٤ ـ ٤٩٥ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥٠ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٢ ح ١.

(٣) الكافي ٦ : ٤١٤ ـ ١١ ، التهذيب ٩ : ١١٤ ـ ٤٩٤ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٢ ح ٢.

(٤) كما في بداية المجتهد ١ : ٤٧١.

٣٣

نعم ، لو اكره عليه فهو أمر آخر غير التقيّة ، وقد رفع عن أمّته ما استكرهوا عليه. وبذلك يمكن الجواب عن الرواية الاولى وما بمعناهما أيضا.

المسألة الثامنة : واستثني من الأصول الثلاثة الاولى ـ بل من كلّ محرّم أيضا ـ ما اضطرّ إليه للتداوي والخلاص من الأمراض ، فاستثناه جماعة مطلقا إذا انحصر الدواء فيه ولم تكن مندوحة منه ، اختاره القاضي والحلّي والدروس والكفاية (١) ، وإطلاق كلام الثاني أيضا محمول على عدم المندوحة عنه.

ومنع جماعة عن التداوي بالخمر ، بل كلّ مسكر ، ونسبه المحقّق الأردبيلي وفي الكفاية والمفاتيح وشرحه إلى المشهور (٢) ، وعن الخلاف دعوى الإجماع عليه (٣) ، بل ذكر الأول الخلاف والمنع من التداوي بالنسبة إلى سائر المحرّمات أيضا.

وفصّل الفاضل في المختلف والشهيد الثاني وصاحب المفاتيح وشارحه ، فجوّزوا التناول والمعالجة مع خوف تلف النفس مطلقا ، ومنعوا فيما دونه عن المسكرات أو كلّ محرّم (٤).

دليل الأول : صدق الاضطرار والضرورة المجوّزين للتناول ـ كما مرّ ـ مع توقّف العلاج عليه ، وأدلّة نفي العسر والحرج والضرر والضرار ، ورواية‌

__________________

(١) القاضي في المهذب ٢ : ٤٣٣ ، الحلّي في السرائر ٣ : ١٣٢ لكن ظاهر كلامه الاختصاص بخوف تلف النفس فراجع ، الدروس ٣ : ٢٥ ، كفاية الأحكام : ٢٥٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٣١٩ ، كفاية الأحكام : ٢٥٤ ، المفاتيح ٢ : ٢٢٨.

(٣) الخلاف ٢ : ٥٤٥.

(٤) المختلف : ٦٨٧ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٥١ ، المفاتيح ٢ : ٢٢٧.

٣٤

المفضّل والرضوي المتقدّمة (١) ، وفحوى موثّقة الساباطي السابقة (٢) ، ورواية سماعة المرويّة في طبّ الأئمّة : عن رجل كان به داء فأمر بشرب البول ، فقال : « لا يشربه » فقلت : إنّه مضطرّ إلى شربه ، [ قال : « إن كان مضطرّا إلى شربه ] ولم يجد دواء لدائه فليشرب بوله ، وأمّا بول غيره فلا » (٣).

وحجّة الثاني : عمومات حرمة المسكرات أو مع سائر المحرّمات كتابا (٤) وسنّة (٥) ، وخصوص المستفيضة :

كصحيحة الحلبي : عن دواء عجن بالخمر ، فقال : « لا والله ، ما أحبّ أن أنظر إليه ، فكيف أتداوى به؟! إنّه بمنزلة شحم الخنزير » أو لحم الخنزير « وإنّ أناسا ليتداوون به » (٦) ، وقريبة منها الأخرى (٧).

ورواية أبي بصير ، وفيها ـ بعد السؤال عمّا وصف للسائلة أطبّاء العراق لدفع قراقر بطنها من النبيذ بالسويق ـ : « لا والله ، لا آذن لك في قطرة منه ، فلا تذوقي منه قطرة ، فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك هاهنا » ، وأومأ بيده إلى حنجرته ، يقولها ثلاثا : « أفهمت؟ » قالت : نعم (٨).

__________________

(١) في ص : ١٥ و ١٦.

(٢) في ص : ٢١.

(٣) طب الأئمّة : ٦١ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٠ ح ٨. وما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) البقرة : ٢١٩ ، المائدة : ٩٠ و ٩١.

(٥) انظر الوسائل ٢٤ : ٩٩ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ١ ، وأيضا ج ٢٥ : ٢٩٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٩.

(٦) الكافي ٦ : ٤١٤ ـ ٤ ، التهذيب ٩ : ١١٣ ـ ٤٩٠ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٠ ح ٤.

(٧) طب الأئمّة : ٦٢ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٠ ح ١٠.

(٨) الكافي ٦ : ٤١٣ ـ ١ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٤ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٠ ح ٢.

٣٥

ورواية ابن أسباط : إنّ بي ـ جعلت فداك ـ أرواح البواسير وليس يوافقني إلاّ شرب النبيذ ، فقال له : « مالك ولما حرّم الله ورسوله » الحديث (١).

وصحيحة ابن أذينة : عن الرجل يبعث له الدواء من ريح البواسير ويشربه بقدر سكرّجة من نبيذ صلب ليس يريد به اللّذة وإنّما يريد به الدواء ، فقال : « لا ولا جرعة » ثمَّ قال : « إن الله لم يجعل في شي‌ء ممّا حرّم شفاء ولا دواء » (٢).

ورواية قائد بن طلحة : عن النبيذ يجعل في الدواء ، قال : « ليس لأحد أن يستشفي بالحرام » (٣).

والمرويّ في رجال الكشّي عن ابن أبي يعفور : قال : إذا أصابته هذه الأوجاع ، فإذا اشتدّت به شرب الحسو من النبيذ فسكن عنه ، فدخل على أبي عبد الله عليه‌السلام فأخبره بوجعه وأنّه إذا شرب الحسو من النبيذ سكن عنه ، فقال له : « لا تشربه » فلمّا أن رجع إلى الكوفة هاج به وجعه ، فأقبل أهله فلم يزالوا به حتى شرب ، فساعة شرب عنه سكن ، فعاد إلى أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٣ ـ ٣ ، التهذيب ٩ : ١١٣ ـ ٤٨٩ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٤ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٠ ح ٣.

والأرواح : جمع ريح وتجمع على أرياح قليلا وعلى رياح كثيرا ـ انظر النهاية ٢ : ٢٧٢.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٣ ـ ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٣ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٠ ح ١.

والسكرّجة : إناء صغير يؤكل فيه الشي‌ء القليل من الأدم ، وهي فارسية ـ انظر مجمع البحرين ٢ : ٣١٠.

(٣) الكافي ٦ : ٤١٤ ـ ٨ ، طب الأئمّة : ٦٢ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٥ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٠ ح ٥.

٣٦

فأخبره بوجعه وشربه ، فقال : « يا ابن أبي يعفور ، لا تشرب فإنّه حرام ، إنّما هو الشيطان موكّل بك ولو قد يئس منك ذهب » فلمّا رجع إلى الكوفة هاج به وجعه أشدّ ممّا كان فأقبل أهله عليه ، فقال لهم : والله ما أذوق منه قطرة أبدا ، فآيسوا منه أهله ، وكان يهمّ (١) على شي‌ء ولا يحلف ، فلمّا سمعوا آيسوا منه واشتدّ به الوجع أيّاما ثمَّ أذهب الله به عنه ، فما عاد إليه حتى مات رحمه‌الله (٢).

ومستند الثالث : أدلّة الأول ، مضافة إلى النهي عن إلقاء النفس إلى التهلكة وقتلها.

قال الله سبحانه ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) (٣).

وقال ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ) (٤).

ووجوب حفظها عقلا ونقلا ، وكون محافظتها مقدّمة على أكثر الواجبات.

أقول : لا شكّ أنّ أخبار المنع ـ التي هي حجّة الثاني ـ كلّها عامّة بالنسبة إلى الاضطرار والعسر والضرر وعدمها ، بل بالنسبة إلى المندوحة عنه وعدمها.

وأدلّة الجواز منها أخصّ مطلقا من ذلك ، من جهة اختصاصها بالضرورة والخمر ، كالموثّقة ورواية الدعائم ومرسلة العلل (٥) ، الموافقة لعمومات الكتاب من قوله سبحانه ( إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) (٦) وما نفى‌

__________________

(١) في النسخ : يتهم ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٥١٦ ـ ٤٥٩. والحسوة : الجرعة من الشراب ـ مجمع البحرين ١ : ٩٩.

(٣) النساء : ٢٩.

(٤) الإسراء : ٣٣.

(٥) المتقدّمة في ص : ٢١ و ٢٢.

(٦) الأنعام : ١١٩.

٣٧

العسر والحرج. فيجب تخصيص أدلّة المنع بها.

ومنها ما يختصّ بالمضطرّ وإن عمّ المسكر وغيره ، فيتعارضان بالعموم من وجه ، فلو لم ترجّح أدلّة الجواز بالأكثريّة وموافقة الاعتبار والأصرحيّة يرجع إلى الأصل الأولي ، وهو مع الجواز ، فإذن الحقّ هو الأول.

وقد يجمع بين الأخبار بحمل المجوّزة على حال الضرورة وتوقّف السلامة ، والمانعة على جلب المنفعة وطلب التقوية وبقاء الصحّة ورفع الأمراض الجزئيّة ، وهو راجع إلى ما ذكرنا أيضا.

بقي الكلام فيما صرّح بأن الله سبحانه لم يجعل فيما حرّم شفاء ولا دواء ، فإنّه يدلّ على انتفاء حصول الاضطرار للتداوي بالمحرّمات ، ويستلزم انتفاء موضوع أدلّة القولين الآخرين.

قلنا : هذا كلام في الموضوع دون المسألة ، فإنّها فرضت فيما إذا أدّى الاضطرار إليه.

ولتحقيق الموضوع نقول : إنّه وإن ورد في الأخبار ذلك ، إلاّ أنّه يخالف ما يشاهد بالتجربة من المنافع في بعض المحرّمات ، وتطابقت عليه كلمات الأطبّاء الحذّاق.

وجمع بعضهم بينهما بأنّ التحريم مرتفع مع الضرورة ، فيصدق أنّ الله سبحانه لم يجعل فيما حرم شفاء ؛ لأنه حينئذ حلال (١).

وفساده ظاهر ؛ لتوقّف نفي التحريم حال الضرورة على وجود الشفاء فيه ، والنصّ يدلّ على انتفاء الشفاء فيه حتى يضطرّ إليه.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٤ : ١٥٤.

٣٨

وقيل : إن الشفاء المنفيّ عن المحرّمات إنّما هو شفاء الأمرضة الروحانيّة (١).

وهو تأويل بعيد غايته ؛ لورود الخبر مورد الأمراض الجسمانيّة.

ويمكن الجمع بأن يقال : لا شفاء في المحرّم ، وما نشاهده إنّما هو مستند إلى أمر آخر اتّفق مقارنته مع تناول المحرّم.

ولكنّه أيضا بعيد ، سيّما مع أقوال الأطبّاء المستندة إلى آثار الطبائع والخواصّ ، وظاهر قوله سبحانه ( وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) (٢).

والأولى في الجمع أن يقال : إنّ المراد ـ والله أعلم ـ أن الله لم يجعل في الحرام شفاء ولا دواء ، أي لم يجعله ولم يقرّره للشفاء حتى انحصر الأمر فيه وكان الشفاء والدواء منحصرا به حتى يكون مجعولا ومقرّرا لذلك ، بل لكلّ مرض يداوي بالمحرّم له علاج آخر أيضا ، ولكنّه لا ينفي الاضطرار إلى المحرّم ؛ لجواز أن لا نعلم ذلك الدواء الآخر ولا نهتدي إليه ، فنضطرّ إلى الحرام.

ثمَّ إنّه ـ كما ذكرنا ـ لا بدّ في جواز التداوي بالمحرّم من أمور ثلاثة :

أحدها : العلم بحصول العلاج به.

وثانيها : العلم بانحصار المعلوم من العلاج والدواء فيه. والظاهر كفاية الظنّ الغالب فيهما ؛ لحصول العسر والضرر بالترك. والمعتبر علم المريض أو ظنّه ، سواء حصل بالتجربة من حاله أو قول الأطبّاء ، دون علم غيره أو ظنّه ولو كان طبيبا.

وثالثها : كون المرض ممّا يعدّ ضررا وتحمّله كان شاقّا وحرجا ، عرفا‌

__________________

(١) كما في المفاتيح ٢ : ٢٢٧.

(٢) البقرة : ٢١٩.

٣٩

وعادة.

فرع : لو علم الطبيب بانحصار العلاج في المحرّم ، وأخبر به المريض ولم يحصل له ظنّ بقوله لعدم معرفته بحاله ، فلا يجوز للمريض التناول بنفسه ، ويجوز بل قد يجب على الطبيب إكراهه عليه لو تمكّن.

المسألة التاسعة : وممّا يستثنى أيضا من الأصل الرابع : الأكل مع عدم العلم بالإذن من بيوت من تضمّنته الآية الشريفة في سورة النور : ( وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) (١).

فإنّه يجوز الأكل من بيوت المذكورين مع حضورهم وغيبتهم وإن لم يعلم رضاهم وإذنهم به ، ولا أعرف في ذلك الحكم خلافا ؛ وتدلّ عليه الأخبار كما يأتي ، وفي المرويّ في محاسن البرقي في هذه الآية : بإذن وبغير إذن (٢).

واشترطوا في جواز الأكل منها : عدم العلم بكراهتهم ، فلو علمت لا يجوز الأكل منها ولو كان العلم حاصلا بالقرائن الحاليّة ، ولا أعرف في اشتراط ذلك خلافا ، وادّعى بعض مشايخنا المعاصرين الإجماع عليه ظاهرا (٣) ، إلاّ أنّه نسبه في شرح المفاتيح إلى المشهور ، وهو يشعر بوجود المخالف ، أو عدم حصول العلم بالإجماع.

__________________

(١) النور : ٦١.

(٢) المحاسن : ٤١٥ ـ ١٧١ ، الوسائل ٢٤ : ٢٨٣ أبواب آداب المائدة ب ٢٤ ح ٧.

(٣) كما في الرياض ٢ : ٢٩٧.

٤٠