تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٢٨] وفسر الحق عليهن في هذه السورة وهو أن تطيعه في نفسها ، وتحفظ غيبته ؛ ألا ترى أنه قال ـ تعالى ـ : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «حقّ الزّوج على امرأته إن دعاها وهى على قتب (١) أن تطيعه».

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَعِظُوهُنَ).

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : عظوهن بكتاب الله (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي رجعن إلى الفراش والطاعة ، وإلا فاهجروهن ، والهجران ألا يجامعها ، ولا يضاجعها على فراشه ، ويوليها الظهر ، فإن قبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح ، ولا تكسر لها عظما ، فإن قبلت وإلا فقد حل لك منها الفداء.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (فَعِظُوهُنَ) ، أي (٢) : يقول لها : كوني من الصالحات ، ومن القانتات ، ومن الحافظات ، ولا تكوني من كذا ، على الرفق واللين ؛ فإن هي تركت ذلك وإلا فاهجرها ، والهجران يحتمل وجهين :

يحتمل التخويف على الاعتزال منها ، وترك المضاجعة والجماع.

ويحتمل : أن يهجرها ولا يجامعها ، لا على التخويف من ترك ذلك ؛ فإن هي تركت ذلك وإلا ضربها عند ذلك الضرب الذي ذكرنا غير مبرح ، ولا شائن ، والله أعلم.

على الترتيب : يعظها أولا بما ذكرنا من الرفق بها واللين لعلها [تطيعه وتترك](٣) ذلك ، ثم إذا لم تطعه خوفها بالهجران ؛ فلعل قلبها لا يحتمل الهجران وترك المضاجعة ؛ فتطيعه ؛ فإن هي أبت ذلك حينئذ هجرها ، ولم يجامعها ولا يضاجعها (٤) ؛ فإن هي أطاعته وإلا عند ذلك ضربها ؛ فإن هي أطاعته وإلا فعند ذلك يرفعان إلى الحاكم (٥) ، وهذا يجب [في] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : يعظه على الرفق واللين أولا ، ولا يغلظه في القول ؛ فإن هو قبل ذلك وإلا عند ذلك غلظ القول به ؛ فإن قبل ذلك وإلا بسط يده فيه على ما أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأزواج أن تعامل النساء من العظة ، ثم الهجران ، ثم الضرب ، ثم الرفع إلى الحكمين.

__________________

(١) القتب : الرحل الصغير على قدر سنام البعير. المعجم الوسيط (٢ / ٧١٤) قتب.

(٢) في ب : إن.

(٣) في ب : أطاعته وتركت.

(٤) في ب : ضاجعها.

(٥) في ب : الحكم.

١٦١

وروي في الخبر عن (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تضربوا إماء الله» (٢) ؛ فترك الناس ضربهن ، فجاء عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : والله لقد دبر النساء يا رسول الله ؛ [فأمر بضربهن ، قال : فأطاف بآل محمد النساء كثيرا يشتكين أزواجهن ، فلما أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :](٣) «لقد أطاف اللّيلة بآل محمّد سبعون امرأة يشتكين الضّرب ، والله ما تجدون أولئك خياركم» (٤) ، وقال : «خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلى» (٥) وقال : «أحسن المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله» (٦).

قال : والموعظة كلام يلين القلوب القاسية ، ويرغب الطبائع النافرة ؛ فيكون ذلك تذكير عواقب الأمور ومبادئ الأحوال ، والله أعلم.

وعلى ذلك يعظها زوجها بأن يذكرها نعم الربّ ـ جل جلاله ـ وما جعل من الحق عليها ، وما وعد في ذلك وأوعد.

__________________

(١) في أ : عند.

(٢) أخرجه أبو داود (١ / ٦٥٢) في كتاب النكاح باب في ضرب النساء (٢١٤٦) والدارمي في سننه (٢ / ١٤٧) كتاب النكاح : باب في النهي عن ضرب النساء.

والبيهقي في السنن (٧ / ٣٠٤ ، ٣٠٥) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ١٨٨ / ١٩١) ، وصححه ، والطبراني في الكبير (١ / ٢٤٤ ، ٢٤٥).

قال القرطبي (٥ / ١١٤) : وإذا ثبت هذا فاعلم أن الله ـ عزوجل ـ لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صراحا إلا هنا وفي الحدود العظام ؛ فساوى معصيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر ، وولى الأزواج ذلك دون الأئمة ، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانا من الله ـ تعالى ـ للأزواج على النساء. قال ابن المهلب : إنما جوز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهن في المباضعة ، واختلف في وجوب ضربها في الخدمة ، والقياس يوجب أنه إذا جاز ضربها في المباضعة جاز ضربها في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف.

وقال ابن خويزمنداد : والنشوز يسقط النفقة ، وجميع الحقوق الزوجية ، ويجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الأدب غير المبرح ، والوعظ والهجر حتى ترجع عن نشوزها ، فإذا رجعت عادت حقوقها ؛ وكذلك كل ما اقتضى الأدب فجائز للزوج تأديبها. ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة ؛ فأدب الرفيعة العذل ، وأدب الدنيئة السوط. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله امرأ علق سوطه وأدب أهله» وقال : «إن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه».

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) تقدم.

(٥) أخرجه الترمذي (٥ / ١٨٨) كتاب المناقب ، باب في فضل أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٨٩٥) وقال : حديث حسن صحيح ، والدارمي في سننه (٢ / ١٥٩) كتاب النكاح : باب في حسن معاشرة النساء ، وابن حبان في صحيحه (٩ / ٤٨٤) (٤١٧٧) كتاب النكاح ، باب معاشرة الزوجين.

(٦) لم أجده بهذا اللفظ ، ولكن أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ : «خياركم أحاسنكم أخلاقا» (٦ / ٦٥٤) ، كتاب المناقب ، باب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٥٥٩) ، وأطرافه في (٣٧٥٩ ـ ٦٠٢٩ ـ ٦٠٣٥) ، ومسلم (٤ / ١٨١٠) كتاب الفضائل ، باب كثرة حيائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رقم (٦٨ ـ ٢٣٢١).

١٦٢

ففي هذه الآيات دلالة لزوم الاجتهاد وتكليف ما لا يوصل إلى معرفة المكلف به إلا بالتدبر والعرض على الأمور المعتادة أو الأسباب المعقولة في جعلها أسبابا للمصلحة ، وسبلا للوقوف على ما في أصول تلك النوازل من الحكمة ، ولا قوة إلا بالله.

ثم جعل تأديبهن إلى الأزواج ، لا إلى الأئمة ؛ إذ عقوبة الأئمة تكون بالضرب أو الحبس وما يلحقها من المكروه فيما له أمر بالتأديب مع ما في ذلك من الستر ، ويكون الغالب منه ما لا يجد لسبيل (١) الإظهار عند الحاكم ، ويكون في أوقات تضيق عن احتمال ذلك ، ويكون ذلك أصلا لتأديب كل كافل أحد من الأيتام والصغائر ، وغير ذلك ، والله أعلم.

والأصل : أن الله ـ تعالى ـ قال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] فجعل التأديب من الوجه الذي فيه حفظ المجعول لنا ـ آية ، ورعاية ما جعل بينهم من المودة والرحمة ، والمنازعات والخصومات إلى الحكام يقطع (٢) تلك ؛ فجعل لهم من ذلك قدر ما لا يقطع مثله من التأديب المعنى المجعول بينهم ؛ ولذلك لم تأذن (٣) بالضرب المبرح ، ولا أذن إلا عند انقطاع الحيل التي جعلت للألفة والمحبة ، على أن في خفيف ذلك إظهار الإشفاق على ما اعترض من خوف انقطاع المودة والرحمة ، وإبداء العتاب الذي هو آية النصح والرحمة ؛ إذ ذلك مما يخاف في ترك ذلك تمام ما قد افتتح من السرّ والشفقة ، والله أعلم.

وقيل في قوله ـ تعالى ـ : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) : بما ساقوا من المهر والنفقة (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ)(٥)

__________________

(١) في ب : بسبيل.

(٢) في ب : بقطع.

(٣) في ب : يؤذن.

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٩٣) (٩٣١١) عن ابن عباس ، و (٩٣١٣) عن الثوري ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٧١) وعزاه لابن جرير عن الثوري.

(٥) قال القرطبي (٥ / ١١٢ ـ ١١٣) : فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح ، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها ؛ فيتبين أن النشوز من قبلها ، وقيل : «اهجروهن» من الهجر وهو القبيح من الكلام ، أي غلظوا عليهن في القول ، وضاجعوهن للجماع وغيره ؛ قال معناه سفيان ، وروي عن ابن عباس ، وقيل : أي : شدوهن وثاقا في بيوتهن ؛ من قولهم : هجر البعير أي ربطه بالهجار ، وهو حبل يشد به البعير ، وهو اختيار الطبري ، وقدح في سائر الأقوال ، وفي كلامه في هذا الموضع نظر.

١٦٣

يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يهجرها في حال مضاجعته إياها في ألا يكلمها ، لا أن يترك مضاجعتها ؛ إذ المضاجعة حق بينهما [عليه](١) في تركها ما عليها ، لا يؤذيها بما يضر حقه ونفسه ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : أي اهجروهن عن المضاجع ومضاجعة أخرى في حقها ؛ فيكون حقّها (٢) عليه في حال الموافقة وحفظ حدود الله بينهما ، لا في حال التضييع ، والله أعلم.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : يهجرها في ألا يجامعها ، ولا يضاجعها على فراشه ، ويوليها الظهر (٣) ، لكنه على هذا يشتركان في التأديب ؛ لأنه [به](٤) يؤدب نفسه في ذلك إلى حاجته ، لكن المعنى من ذلك ألا يجامعها لوقت علمه بشهوتها وحاجتها ، وإنما ينظر شهوته (٥) دونها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً)

إن أطعنكم ، أي : لا تطلبوا عليهن عللا.

وقيل : لا تكلفوهن الحبّ ، وإنما جعل الله الموعظة والهجران والضرر في المضاجع (٦).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : فإن أطاعته فلا سبيل له عليها (٧).

ثم الضرب هو ما ذكرنا أنه يضربها ضربا غير مبرح ، وهو ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «علّق سوطك ـ أو ضع حيث يراه أهلك ، ولا تضربها به» (٨) ، قيل : وبم نضرب؟ قال : بنعليك ضربا غير مبرح ، يعني : غير مؤثر ولا شائن.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في أ : حقّا.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣) (٩٣٤٨ ، ٩٣٥٢). وذكره السيوطي في الدر وزاد نسبته لابن المنذر عن أبو موسى.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : وشهوته.

(٦) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٠٦) (٩٣٧١) عن سفيان.

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٧٧) وزاد نسبته لعبد الرزاق عن سفيان وعبد بن حميد عن ابن عباس.

(٧) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣١١) (٩٣٧٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٧٧) وزاد نسبته لابن أبي شيبة عن ابن عباس.

(٨) أخرجه الطبراني في الكبير (١٠ / ٣٤٤ ـ ٣٤٥) (١٠٦٦٩ ـ ١٠٦٧٢) ، وعبد الرزاق (٩ / ٤٤٧) (١٧٩٦٣) ، (١١ / ١٣٣) (٢٠١٢٣) عن ابن عباس.

١٦٤

ويروى (١) في خبر آخر : قال [رسول الله](٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتّقوا الله فى النّساء ؛ فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ، وإنّ لكم عليهنّ ألّا يوطئن فراشكم أحدا تكرهونه ؛ فإن فعلن فاضربوهنّ ضربا غير مبرّح ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف» (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) هذا ـ والله أعلم ـ تذكير من الله عباده ، وأمر منه إياهم : أنه مع علوه وسلطانه وعظمته وجلاله وقدرته ، لا يؤاخذنا بأول عصيان نعصيه ، ولا بأول عثرة نعثرها ، مع قدرته على الأخذ على ذلك وإهلاكه إياهم ، فأنتم لا تؤاخذوهن ـ أيضا ـ بأول معصية يعصين فيكم ، والله أعلم.

ويحتمل : ذكر هذه الآية وهو كذلك ؛ ليذكر علوه وكبره ؛ فيحفظ حده فيما جعل له من التأديب ، ويذكر قدرته عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها)(٤) الآية.

__________________

(١) في ب : وروى.

(٢) سقط من ب.

(٣) هذا جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (٢ / ٨٨٦) كتاب الحج : باب حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٤٧ ـ ١٢١٨) ، والترمذي (٣ / ٤٦٧) كتاب الرضاع : باب ما جاء في حق المرأة (١١٦٣) ، وابن ماجه (١ / ٥٩٤) كتاب النكاح : باب حق المرأة (١٨٥١).

(٤) قال القاسمي (٥ / ١٣٧) : قال الحافظ ابن كثير : وقد أجمع العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة ، حتى قال إبراهيم النخعي : إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاثا ، فعلا ، وهو رواية عن مالك ، وقال الحسن البصريّ : الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة ، وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود ، ومأخذهم قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) [النساء : ٣٥] ولم يذكر التفريق ، وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف. انتهى.

وفي الإكليل : أخرج ابن منصور أن المأمور بالبعث الحكام ، وعن السدي : إنه الزوجان ، فعلى الأول استدل به من قال : إنهما موليان من الحاكم ، فلا يشترط رضا الزوجين عما يفعلانه من طلاق وغيره ، وعلى الثاني استدل من قال : إنهما وكيلان من الزوجين. فيشترط.

وقال ابن كثير : الجمهور على الأول ، أعني أنهما منصوبان من جهة الحاكم ، لقوله ـ تعالى ـ : (فَابْعَثُوا حَكَماً) [النساء : ٣٥] إلخ ، فسماهما حكمين : ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه ، وهذا ظاهر الآية.

قال القرطبي (٣ / ١١٦) : ويجزئ إرسال الواحد ؛ لأن الله ـ سبحانه ـ حكم في الزنى بأربعة شهود ، ثم قد أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المرأة الزانية أنيسا وحده ، وقال له : «إن اعترفت فارجمها» ، وكذلك قال عبد الملك في المدونة : وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكم الزوجان واحدا لأجزأ ، وهو بالجواز أولى إذا رضيا بذلك.

١٦٥

كأن هذه المخاطبة ـ والله أعلم ـ لغير الأزواج ؛ لأنه قال : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) ولو كانت المخاطبة في ذلك للأزواج ، لقال : فإن «خافا شقاق بينهما» ، أو «إن خفتم شقاق بينكم». وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَ) الآية ، خاطب بذلك الأزواج ؛ لأنه قال : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) وذلك إلى الزوج ؛ إذ للزوج إذا خاف نشوز امرأته أن يعظها أولا ، فإن قبلت وإلا فبعد ذلك هجرها ، ثم يضربها إن لم تقبل ذلك ؛ فإن لم ينفع ذلك كله فبعد ذلك رفع الأمر إلى الحاكم أو الإمام فوجه الحكمين.

وروي نحو ذلك عن على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : يبعث الحكمان : حكم من أهله وحكم من أهلها ، فيقول الحكم من أهلها : يا فلان ، ما تنقم من زوجتك؟ [فإذا قال :] أنقم منها كذا وكذا ، يقول : أرأيت [إن نزعت عما](١) تكره إلى ما تحب هل أنت تتقي الله وتعاشرها [بما يحق](٢) عليك من نفقتها وكسوتها؟ فإذا قال : نعم ، قال الحكم من أهله : يا فلانة ، ما تنقمين من زوجك؟ [فإذا قالت : أنقم منه كذا وكذا] فيقول : مثل ذلك ؛ فإن قالت : نعم ، جمع الله بينهما بالحكمين ، بهما يجمع الله ، وبهما يفرق (٣).

ثم اختلف في الحكمين : هل يفرقان بينهما؟ قال بعضهم : يفرقان بينهما إن شاءا ، وإن شاءا جمعاهما.

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، فقيل لنا : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما (٤).

وأما عندنا : فإنهما لا يفرقان إلا برضا الزوجين ؛ [دليلنا](٥) ما روي أن رجلا وامرأته أتيا عليّا ـ رضي الله عنه ـ مع كل واحد منهما فئام (٦) من الناس ؛ فقال علي ـ رضي الله عنه ـ ما شأن هذين؟ قالوا : بينهما شقاق ، قال علي ـ رضي الله عنه ـ : ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، فقال علي ـ رضي الله عنه ـ : هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا (٧) جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا

__________________

(١) في أ : ترغب مما.

(٢) في أ : بالحق.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٢٠ ـ ٣٢١) (٩٤٠٧ ـ ٩٤٠٩ ، ٩٤١٤) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٨٠) وعزاه لابن جرير عن علي بن أبي طالب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٢٨) (٩٤٢٧) ، وذكره السيوطي في الدر ٢ / ٢٨٠ وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) سقط من ب.

(٦) الفئام : الجماعة من الناس.

(٧) في ب : تجتمعا.

١٦٦

فرقتما ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله ، قال الرجل : أما الفرقة فلا ؛ فقال على ـ رضي الله عنه ـ : كذبت ، والله لا تنفلت منى حتى تقر كما أقرت (١).

أخبر على أن فرقة الحكمين إنما تجب برضا الزوجين ، فلو كانت فرقتهما تجوز بغير رضا الزوجين ـ لم ينظر إلى سخط الزوج في الفرقة ، ولقال علي ـ رضي الله عنه ـ للحكمين : فرقا إن رأيتما ذلك ، كره الزوج أو رضي.

وفي قوله ـ أيضا ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) أي : علمتم ؛ إذ حق ذلك أن يجتهد (٢) في الحال بينهما فيعلم على الغالب ، وللغالب حق العلم في الأعمال ، وحق الريب في الشهادة ، فذكر باسم الخوف على ما فيه من علم العمل ، على أن في ظاهر الآية التفرق في المنزل حتى (٣) يبعث عن أهل كل واحد منهما ولو كانا في منزل واحد ، فحقه أن يجمع بين الحكمين ، [لا](٤) أن يبعثا بذلك ؛ يدل على ظهور الخلاف والشقاق ، والله أعلم.

قال : وأمر الحكمين بالإصلاح بين الزوجين ، وهو الأمر الذي أمر بين جميع المؤمنين من قوله : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال : ١] وقوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة : ٢٢٤] الآية ، وقوله : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ) الآية ، وذلك في حق التأليف وما به تمام الأخوة بقوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات : ١٠] لا بما يضر به أهله ، ويوجب التفريق بينهم والتباغض ، وعلى ذلك أمر الحكمين في النكاح ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما)

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) : هما الحكمان (٥).

وعن مجاهد مثله.

وقال آخرون : قوله : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) : هما الزوجان (٦).

وفي الآية دليل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال : (إِنْ يُرِيدا

__________________

(١) تقدم.

(٢) في ب : يجهد.

(٣) في ب : حيث.

(٤) سقط من ب.

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٣٢) (٩٤٣٢) عن ابن عباس ، و (٩٤٣٠ ، ٩٤٣٥) عن مجاهد ، و (٩٤٣١ ، ٩٤٣٤) عن سعيد بن جبير ، و (٩٤٣٣) عن السدي.

(٦) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٣٣) (٩٤٣٦) عن الضحاك ، وذكره السيوطي (٢ / ٢٨٠) وعزاه لابن جرير عن الضحاك.

١٦٧

إِصْلاحاً) وليس فيها دليل أن فرقتهما جائزة بشيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩]

يدل على أن الخلع إليهما دون الحكمين ، وكأن الحكمين يوجّهان ؛ ليعرف (١) من الظالم من الزوجين؟ يستظهر بهما على الظالم ؛ لأن كل واحد منهما [إذا شكى](٢) بين الناس من صاحبه ـ لا يعرف الظالم منهما من غير الظالم ، فإن كان الزوج هو الظالم أخذ على يده ، وقيل : لا يحل لك أن تفعل هذا لتختلع منك ، وأمر بالإنفاق عليها ، وإن كانت هي الظالمة وكانت في غير منزله ناشزة ـ لم (٣) يؤمر بالإنفاق عليها ، وقيل له : قد حلت الفدية ، وكان في أخذها معذورا بما ظهر للحكمين من نشوز المرأة ، والله الموفق.

وفي قوله ـ أيضا ـ : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) لا يخلو من أمرين : إما أن يريد به الزوجين ، أو الحكمين.

ثم الإصلاح يكون مرة بالجمع ، ومرة بالتفريق ؛ فعلى الجمع تأويل التوفيق : الجمع بينهما ، وعلى إرادة التفريق تأويله : التوفيق للإصلاح ، وعلى التوفيق للإصلاح يدخل فيه الأمران ، وفي ذلك أن الفرقة والاجتماع إليهما ؛ إذ عليهما إرادة الإصلاح ، وانصرف معنى الآية إلى الزوجين ، وأيّد ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ...) [١٢٨] إلى قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا ...) الآية [النساء : ١٢٩].

ثم قال ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ....) الآية [النساء : ١٣٠].

فعلى ما ظهر منه النشوز صرف أمر التفرق إلى الزوجين ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ ...) إلى قوله ـ تعالى ـ : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] فأشركهما في الابتداء الذي به الفراق ، أو يريد به الحكمين ؛ فيكون ذلك على الترغيب في طلب الإصلاح (٤) بينهما ، وعلى إيثار العدل والصواب ؛ كقوله تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا ...) [النساء : ٥٨] وقوله ـ تعالى ـ : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ...) الآية [النساء : ١٣٥] ، فإذا أرادا الإصلاح يوفق الله بينهما ، له

__________________

(١) في ب : ليفرق.

(٢) في أ : ذا شكاية.

(٣) في ب : ولم.

(٤) في ب : الأصلح.

١٦٨

وجهان :

أي : بين الزوجين ببركة قيام الحكمين لله وابتغائهما الصلاح بينهما ؛ فيوفق الزوجين لما له النكاح من : السكن ، والرحمة ، والمودة ، والعفة.

ويحتمل : (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) : بين الحكمين في إصابة ما أرادا (١) من الإصلاح. ثم العلم بإرادتهما الإصلاح (٢) لا يعلمه إلا الله ؛ فلا يحتمل أن يوجب لهما في الحكم التفريق ، والذي جوابه وعد التوفيق (٣) لم يبين ، فلذلك لم يكن لهما حق التفريق ، إنما إليهما إعلام ما اتفقا عليه ، ثم هما عملا لهما وعليهما ، فيكون لهما الرضا بما رأيا وغير الرضا ، وأصله وجهان :

أحدهما : أنه استوجبا القيام بالتولية والتراضى (٤) من الزوجين أو بمن يخاف الشقاق بينهما : فإن قاما ببعث الناس ، فقاما ببعث من لا يملك الفراق ، [فلا](٥) يستوجبان بهم ذلك ، وإن قاما ببعث الزوجين فرضاؤهما بعثهما في ذلك لم يكن لهما غير الذي كان فيه الرضاء عليهما ، والله أعلم.

والثاني : أنهما بعثا للعلم بالسبب الذي حملهما على الشقاق ، ولعل السبب منهما ؛ فلا يحتمل أن يلزمانه الطلاق بلا ذنب منه ، فيمكّن به كل امرأة تريد مفارقة الزوج وإغرامه المهر ، وإذا لم يحتمل ذلك لم يحتمل أن يكون لهما حق التفريق بهذا البعث مع ما بعثا لدفع الشقاق الهائج (٦) بينهما والرد إلى الصلاح الذي له كان النكاح ، على أنه يمكن الأخذ على يدي الظالم منهما ، والقهر على العود إلى ما فيه الصلاح بالتأديب ـ لم يجز أن يلزما الفراق وإن كرهاه ، والله أعلم.

ثم الأصل : أنهما بالغان لا يلزمان النكاح إذا كرها ورأي القوم الصلاح إلى التناكح ، على احتمال وجود الولايات في الأنكحة (٧) كانا ألا يلزما الطلاق إذا كرها على امتناعه عن وجوب الولايات به لغير الزوجين ـ أحرى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) من الظالم منهما؟ ومن المظلوم؟

__________________

(١) في ب : أراد.

(٢) في ب : الأصلح.

(٣) في ب : التفريق.

(٤) في أ : والرضي.

(٥) سقط في أ ، وفي ب : ثم.

(٦) في ب : والهائج.

(٧) في ب : والإنكاح.

١٦٩

وقيل : (عَلِيماً خَبِيراً) بنصيحتهما لهما ، عليما بما أسرّت المرأة إلى حكمها ، والزوج إلى حكمه ، خبيرا بما اطلع كل واحد من الحكمين من صاحبه على ما أفشى به إليه أصدقه أم لم يصدقه (١)؟ والله أعلم.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «فأتوا حكمة من أهله وحكمة من أهلها».

قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(٣٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاعْبُدُوا اللهَ)

قيل : وحّدوا الله (٢).

وقيل : أطيعوا الله (٣). وقد ذكرنا هذا فيما تقدم

(وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)

يحتمل : النهي عن الإشراك في العبادة والطاعة.

ويحتمل : النهي عن الإشراك في الربوبية والألوهية.

ويحتمل : النهي عن الإشراك في سلطانه ، وغير ذلك ؛ كل ذلك إشراك بالله ، وبالله العصمة.

قال بعض أهل اللغة (٤) : العبادة هي الطاعة التي معها الخضوع.

وقال بعضهم : التوحيد ، وأصلها : أن يجعل العبد نفسه لله عبدا ، لا يشرك فيها غيره من هوى أو ما كان من وجوه الإشراك.

ثم له وجهان :

أحدهما : في الاعتقاد.

والثاني : في الاستعمال ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)

أمر [الله ـ تعالى](٥) ـ بالإحسان إلى الوالدين ، وأمر بالإحسان إلى ذى القربى ،

__________________

(١) انظر : ابن جرير (٨ / ٣٣٣).

(٢) ذكره الفخر الرازي (١٠ / ٧٦) عن ابن عباس ، وابن عادل في اللباب (٦ / ٣٦٩).

(٣) ينظر تفسير ابن جرير (٨ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤).

(٤) ينظر : اللسان (٤ / ٢٧٧٨) (عبد).

(٥) في ب : عزوجل.

١٧٠

واليتامى ، والمساكين ... إلى آخر ما ذكر ، لكن المعنى الذي به أمر بالإحسان إلى هؤلاء الأصناف والفرق مختلف : أما إحسان الوالدين :

تشكّر لهما بما أحسنا إليه وربياه صغيرا ؛ كقوله : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ...) وقوله ـ تعالى ـ : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ...) الآية (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٤] يذكر حال صغره وضعفه أن كيف ربياه ، ويشكر لهما على ذلك ، ويحسن إليهما كما (١) أحسنا إليه وربّياه صغيرا ، وقال [الله](٢) ـ عزوجل ـ أيضا ـ : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) [الأحقاف : ١٥] فإحسان الوالدين جزاء وتشكر لما أنعما هما عليه ، وذلك يكون من جانب [الولد](٣) ؛ لأن مثله لا يلزم الوالدين لولده ، وذلك فرض على الولد ، حتى عد عقوق الوالدين من الكبائر ؛ روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين» (٤).

والواجب على الرجل أن يطيع والديه وكل واحد منهما ؛ إلا أن يأمراه بمعصية ، أو ينهياه عن أداء فريضة ، أو تأخيرها عن وقتها ، فإن طاعتهما ـ حينئذ ـ معصية لله ، [ألا ترى إلى](٥) قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥] أمره بمصاحبتهما بالمعروف إلا أن يأمراه بمعصية ؛ ولهذا قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ : لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محاربا ؛ إلا أن يضطره الأب إلى ذلك ؛ لأنه قال : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥] فمن المعروف في الدنيا ألا يقتله ، ولا يشهر عليه السلاح.

وقالوا أيضا : إن مات أحدهما تولى دفنه ، وذلك من حسن الصحبة والمعروف.

روي أن أبا طالب لما مات قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلى : «اذهب فواره».

ثم في هذه الآية تسوية بين الوالدين فيما أمر له من الإحسان إليهما ، [و] لم يجعل للأب فضلا في ذلك على الأم ؛ فذلك يدل على أن إسلام كل واحد من الأبوين إسلام للصغير ؛ إذ (٦) كان الإجماع قائما في أن إسلام الأب إسلام لولده الصغار ، وكذلك قول

__________________

(١) في ب : لما.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) تقدم.

(٥) في أ : وكذلك.

(٦) في ب : إذا.

١٧١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «غير أن أبويه يهوّدانه وينصّرانه» (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبِذِي الْقُرْبى)

أمر بالإحسان إلى ذى القربى ، ومعنى الأمر به ـ والله أعلم ـ صلة يصل بعضهم بعضا ، وذلك من جانبين ما يلزم هذا أن يحسن إلى هذا لزم الآخر أن يحسن إليه ، وذلك إبقاء للمودة فيما بينهم والمحبة ، وذلك فرض ـ أيضا ـ أن يصل بعضهم بعضا ؛ لأن صلة القرابة فريضة.

والأمر بالإحسان إلى اليتامى يحتمل وجهين :

يحتمل : لما ليس لهم والد يقوم بكفايتهم على ما يقوم له والده ، وأمر بذلك ؛ لما يبر الرجل ولد آخر لمكان والديه ، فإذا مات والده يمتنع عن ذلك ، فأمر أن يحسنوا إليه بعد موت والده على ما كانوا يحسنون في حياته ؛ لأنه في ذلك الوقت أحوج إليه ؛ إذ لا شفقة لأحد عليه ، وشفقة والده معدومة ، والله أعلم.

ومعنى الأمر بالإحسان إلى المساكين يحتمل أيضا وجهين :

يحتمل : شكر الله على [ما](٢) منّ عليهم وأنعم بالإفضال على أولئك ؛ إذ لم يسبق منهم إلى الله معنى يستوجبون ذلك دونهم ، أمر بالإحسان إليهم ؛ شكرا لما أنعم عليهم وأحسن إليهم.

والثاني : أنهم من جوهرهم وجنسهم في الخلقة ؛ يحتاجون إلى ما يحتاج هؤلاء من المأكل ، والمشرب ، والملبس ، وغير ذلك ، يأمرهم بالإحسان إليهم ؛ شفقة منهم لهم ؛ ليتقووا على أداء ما فرض الله عليهم ؛ إذ هم مثلهم في الخلقة والجوهر ، والله أعلم.

وهذا الإحسان في اليتامى والمساكين من جانب ليس من جانبين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَابْنِ السَّبِيلِ)

أمر الله بالإحسان إلى ابن السبيل ؛ للوجهين اللذين وصفتهما في المساكين ، والله أعلم.

وقيل في اليتامى : إنه أمر الأوصياء بالقيام على ما لهم وحفظهم ؛ رحمة لهم ، وباللين لهم.

وقوله : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى)

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٤٦٥) كتاب التفسير : باب (لا تبديل لخلق الله) (٤٧٧٥) ومسلم (٨ / ٤٥٨) في كتاب القدر : باب معنى «كل مولود يولد على الفطرة» (٢٢ ـ ٢٦٥٨).

(٢) سقط من ب.

١٧٢

وهم ذوو قرابة ، وله حقان : حق الجوار ، وحق الرحم ، كذلك روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنه](١) قال : «الجيران ثلاثة : جار له حقّ واحد ، وجار له حقّان ، وجار له ثلاثة حقوق : فأمّا الّذي له حقوق ثلاثة : حقّ القرابة ، وحقّ الإسلام ، وحقّ الجوار ، والّذي له حقّان : حقّ الإسلام ، وحقّ الجوار ، والّذى له حقّ واحد هو حقّ الجوار خاصّة» (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْجارِ الْجُنُبِ)

خص الله ـ سبحانه وتعالى ـ الجار الجنب دون غيره من الجيران غير الملازقين ، وكان ذلك دليلا على أن الحقوق التي تلزم بالجوار إنما تلزم (٣) في الجيران الملازقين (٤) ؛ لأنهم الجيران بالملك ، يمس ملك بعضهم بعضا ، ويلصق (٥) به ؛ كما في الرحم يمس أنفس بعضهم لبعض ، ولهذا قال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : إنه إذا أوصى لجيرانه ، فالوصية للملازقين دون غيرهم ؛ لأنهم هم الذين يلزم لبعضهم على بعض حقوق يقومون بأدائها في حال حياتهم ، فإذا (٦) ماتوا فأوصوا إنما أوصوا بأداء ما كان بينهم ، وكذلك قال في الوصية لذوى قرابته : إنها لقرابته الذين يفرض عليهم صلتهم إذا كانوا أحياء ، فإذا مات فأوصى فإنما يوصى بأداء ما كان يؤدي في حال حياته ، وذلك مما عليه الأداء ؛ وفيه دليل على أن الشفعة (٧) الواجبة للجار إنما تكون للجار الجنب الملازق (٨) دون غيره من

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٥ / ٢٠٧) من طريق الحسن عن جابر ، وقال عنه : غريب من حديث عطاء عن الحسن ؛ لم نكتبه إلا من حديث ابن أبي فديك ، وذكره الهيثمي في المجمع (٨ / ١٦٧) وقال : رواه البزار عن شيخه عبد الله بن محمد الحارثى وهو وضاع.

والعجلونى في كشف الخفا (١ / ٣٩٣) وقال : رواه البزار وأبو الشيخ في الثواب وأبو نعيم عن جابر وهو ضعيف.

(٣) في أ : تكون.

(٤) في ب : المتلازمين.

(٥) في ب : ولصق.

(٦) في ب : فأما إذا.

(٧) عرّفها الحنفية بأنها : ضمّ ملك البائع إلى ملك الشفيع ، وتثبت للشفيع بالثمن الذي بيع به ، رضي المتبايعان أو شرطا.

عرفها الشافعية بأنها : حقّ تملك قهرى يثبت للشّريك القديم على الشريك الحادث فيما ملك بعوض.

عرّفها المالكية بأنها : استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه.

عرفها الحنابلة بأنها : استحقاق انتزاع الإنسان حصّة شريكه من مشتريها بمثل ثمنها.

انظر : الاختيار (٢ / ٥٦) ، حاشية ابن عابدين (٥ / ١٣٧) ، فتح القدير : (٩ / ٣٦٨) ، المبسوط (١٤ / ٩٠) ، حاشية البجيرمي (٣ / ١٤٥) ، مغني المحتاج (٢ / ٢٩٦) ، منح الجليل (٣ / ٥٨٢) ، الإنصاف (٦ / ٢٥٠) ، الكافي (٢ / ٤١٦). ـ

١٧٣

الجيران ، وقد ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق الجار ، وأمر بمسامحته.

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه» (١) وفي بعض الأخبار : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم جاره» (٢) ، وفي بعضها : «ما آمن من أمسى شبعانا وجاره جائع» (٣).

وإذا بيع بجنبه دار أو أرض ، [فله] أن يأخذها بالشفعة ؛ لما روي عن عمرو بن

__________________

(٨) أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما يجمع من أرض ، أو دار ، أو حائط ، ولم يخالف في ذلك إلا الأصم ، وابن علية ؛ فإنهما أبطلاها ؛ ردا للإجماع ، وتمسكا بظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل مال امرئ مسلم ، إلا بطيب نفس منه» ، وذهابا منهما إلى أن في إثبات الشفعة إضرارا بأرباب الأملاك ؛ لأن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه ـ لم يبتعه ؛ ويتقاعد الشريك عن الشراء ؛ فيستضر المالك. وهذا منهما ليس بشيء ؛ لأن ما روي في الشفعة ـ وإن كان آحادا ـ فالعمل به مستفيض ، يصير الخبر كالمتواتر ، ثم الإجماع عليه منعقد ، والعلم بشرعيته واقع ، وليس في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل مال امرئ مسلم ...» إلخ ـ ما يمنع من الشفعة ؛ لأن المشتري يعاوض عليها ؛ فيصل إلى حقّه ؛ فلا استحلال ، ولا شيء.

فأما قولهما : إن في إثباتها إضرارا بأرباب الأملاك» ـ فيجاب عنه بأنا نشاهد الشركاء يبيعون ، ولا يعدمون من يشتري منهم غير شركائهم ، ولم يمنعهم من الشراء استحقاق الشفعة ، وبأنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسم ؛ فيسقط استحقاق الشفعة.

هذا ، ولما كانت الشفعة ثابتة على خلاف الأصل ؛ إذ هي انتزاع ملك المشتري بغير رضاه ، وإجبار له على المعاوضة ، لكن الشرع أثبتها ؛ لمصلحة راجحة ؛ فلا تثبت إلا إذا كان الملك مشاعا غير مقسوم. فأما الجار فلا شفعة له ، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين : ، كعمر ، وعثمان ، وعمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، ويحيى الأنصاري ، ومن الفقهاء : مالك ، والأوزاعي ، وأبو ثور.

وقال أبو حنيفة وصاحباه : يقدم الشريك ؛ فإن لم يكن ـ وكان الطريق مشتركا : كدرب لا ينفذ ـ ثبتت الشفعة لجميع أهل الدرب : الأقرب فالأقرب ؛ فإن لم يأخذوا ـ ثبتت للملاصق من درب آخر خاصة.

ينظر : تبيين الحقائق (٥ / ٢٥٢) ، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (٣ / ٤٧٤) ، نهاية المحتاج للرملي (٥ / ١٩٥) ، المغني لابن قدامة (٥ / ٤٦١) منتهى الإرادات (١ / ٥٢٧) ، المقنع (٢ / ٢٥٨).

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٥٥) كتاب الأدب : باب الوصاية بالجار (٦٠١٥) ومسلم (٤ / ٢٠٢٥) كتاب البر والصلة : باب الوصية بالجار (١٤١ ـ ٢٦٢٥).

(٢) أخرجه مالك (٢ / ٩٢٩) في كتاب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : باب جامع ما جاء في الطعام والشراب (٢٢) والبخاري (١٢ / ٥٩) كتاب الأدب : باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (٦٠١٩) ، (١٢ / ١٦٤) (٦١٣٥) (٦١٣٦).

ومسلم (٣ / ١٣٥٣) في اللقطة : باب الضيافة ونحوها (١٤ ، ١٥ ـ ٤٨).

(٣) أخرجه أبو يعلى في مسنده (٥ / ٩٢) (٢٦٩٩) بلفظ : «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه» ، والبخاري في التاريخ الكبير (٥ / ١٩٥ ـ ١٩٦) ، والخطيب في التاريخ (١٠ / ٣٩١ ـ ٣٩٢).

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ١٧٠) باب : فيمن يشبع وجاره جائع ، وقال : رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (٣ / ٣٥٨) باب : ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع ، وقال : رواه الطبراني وأبو يعلى ورواته ثقات.

١٧٤

الشريد (١) ، عن أبي رافع ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الجار أحقّ بسقبه (٢)» (٣) وعن عمرو بن الشريد ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار؟ قال : «الجار أحقّ بسقبه ما كان».

وعن رافع بن خديج (٤) قال : عرض علىّ سعد بيتا له ، فقال : خذه ؛ فإني قد أعطيت به أكثر ممّا تعطيني ؛ ولكنك أحق به ؛ لأني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الجار أحقّ بسقبه».

وعن أبي الزبير ، عن جابر ـ رضي الله عنه ـ : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالشفعة بالجوار.

وعنه ـ أيضا ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجار أحقّ بسقبه جاره إذا كان طريقهما واحدا ينتظر بها وإن كان غائبا». وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ينتظر بها وإن كان غائبا» يدل على أنه لا ينتظر (٥) بها أكثر من ذلك ؛ وفي ذلك دليل على أن الشفيع إن أمسك عن طلب الشفعة ، وقد علم بالبيع ـ بطلت شفعته ، ومما يدل على ذلك ـ أيضا ـ أن الشفعة إنما جعلت للجار ـ والله أعلم ـ بما يخاف عليه من سوء جوار المشتري ، والضرر الذي عسى أن يلحقه منه ، فلو جعلنا الشفيع على شفعته أبدا لم يؤمن أن يبني المشتري في الدار ، وينفق فيها نفقة عظيمة ، ثم يجىء الشفيع فيطلب الشفعة ؛ فيقال للمشتري : سلم الدار وارفع بناءك ، وفي ذلك ضرر عليه بيّن.

__________________

(١) هو عمرو بن الشريد ـ بفتح الشين المعجمة ـ ابن سويد الثقفي ، تابعي ، عداده في أهل الطائف. سمع ابن عباس ، وأباه ، وأبا رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روى عنه صالح بن دينار ، وإبراهيم بن ميسرة ـ بفتح الميم وسكون الياء وفتح السين المهملة.

تنظر ترجمته في : التاريخ الكبير (٣ / ٢ / ٣٤٣) ، الثقات (٥ / ١٨٠) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٤٣).

(٢) السقب : القرب ؛ يقال منزل سقب : قريب. المعجم الوسيط (١ / ٤٣٥) سقب.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ٤٣٧) في الشفعة : باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع (٢٢٥٨) ، وأبو داود (٣ / ٢٨٦) في البيوع : باب في الشفعة (٣٥١٦ ، ٣٥١٨) ، والنسائي (٧ / ٣٢) في البيوع : باب ذكر الشفعة وأحكامها ، وابن ماجه (٢ / ٨٣٣) في كتاب الشفعة : باب الشفعة بالجوار (٢٤٩٥) (٢٤٩٦) ، وأحمد في المسند (٤ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠) (٦ / ١٠ ـ ٣٩٠) ، والبيهقي (٦ / ١٠٥ ـ ١٠٦) ، والطبراني في الكبير (١ / ٣٠٨) ، (٧ / ٣٨٢). والدارقطني (٤ / ٢٢٣) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٤ / ١٢٣).

(٤) رافع بن خديج : هو أبو عبد الله ، ويقال : أبو خديج رافع بن خديج ـ بفتح الخاء وكسر الدال وبالجيم ـ ابن رافع بن عدي بن عمرو بن تزيد ـ بفتح التاء فوقها نقطتان ـ ابن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الحارثي الأنصاري الأوسي ، من أهل المدينة.

لم يشهد بدرا لصغره ، وشهد أحدا والخندق وأكثر المشاهد ، وأصابه سهم يوم أحد.

تنظر ترجمته في : طبقات ابن خياط (٧٩ ـ ٨٠).

(٥) في ب : ينظر.

١٧٥

وعن علي وعبد الله قالا : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشفعة بالجوار.

وعن شريح قال : كتب إليّ عمر ـ رضي الله عنه ـ : أن اقض للجار بالشفعة.

وإلى هذا ذهب أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ في إيجاب الشفعة للجار.

وأنكر قوم أن تكون الشفعة إلا فيما لم يقسم من الدور والأرضين ، واحتجوا في ذلك بما روي عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة قالا : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشفعة في كل ما [لم](١) يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ، فلا شفعة» (٢).

وكذلك روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثله.

لكن تأويل الحديث عندنا ـ والله أعلم ـ : أن قوله : «قضى بالشفعة فيما لم يقسم» قول الراوي ؛ لأنه لم يحك عنه أنه قال : لا شفعة فيما قسم ، فيحتمل أن يكون علم ذلك فحكاه ، ولم يعلم بما رواه الآخرون بإيجاب الشفعة فيما قد قسم.

وأمّا قوله : «فإذا وقعت الحدود ، فلا شفعة» ، فليس فيه بيان حكاية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد يجوز أن يكون ذلك من الراوي ، أو أن قال [ذلك](٣) إنما قال في القسمة ، لا شفعة في القسمة عندنا.

ثم قد جعل الله ـ تعالى ـ للجيران بعضهم على بعض حقوقا باتصال أملاكهم ، حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أن يبيع داره فليستأذن جاره» فإذا أراد البائع اختيار الجار الذي لا حق له على الجار الذي له حق ، جعل له إبطال ذلك ؛ إذ ليس غرضه من البيع إلا الثمن ؛ وهو وقد يوجد ذلك من الجار ؛ ولهذا ما توجب الشفعة في الهبات والصدقات مما يجوز أن يقصد بها أسبابا وأحوالا لا يوجد ذلك في الجار ، وأما البيع فالمقصود فيه الثمن.

وقوله ـ عزوجل ـ أيضا : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ)

والجنب : البعيد ، بيّن ـ والله أعلم ـ ليعلم أن الحق الذي ذكر للجار من الإحسان إليه ليس هو بحق القرابة ، بل هو بحق الجوار ، فأمر بالإحسان إلى من له جوار بالملك نحو ما أمر بالاحسان إلى من له جوار بالنسب ، ثم كان الحق قد يفترض بجوار النسب بمال مع ما كانت الصّلة مفروضة فيمن مس ملكه ملكه في الملك وجوبه فيما وقع التّماسّ بالبدن

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه البخاري (٥ / ١٥٦) كتاب البيوع : باب بيع الأرض والدور والعروض مشاعا غير مقسوم (٢٢١٤) ، وفي (٥ / ١٩٢) كتاب الشفعة : باب الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (٢٢٥٧) ، ومسلم (٣ / ١٢٢٩) في كتاب المساقاة : باب الشفعة (١٣٤ ـ ١٦٠٨).

(٣) سقط من ب.

١٧٦

في البدن.

على أن الآية فيما أمر بالإحسان إلى جميع من ذكر (١) قد يصير ذلك حقّا يلزم بحال ، فمثله حق الجوار ، وذلك لا يعرف غير حق الشفعة ، وقد جاءت به الآثار ، وتوارث المسلمون في ذلك الطلب والاحتيال في الصرف والمنع ؛ فبان أن الحق به ظاهر لا يحتمل الخفاء ، مع ما لا يشك من القوام عن ذلك إلا وعنده حظ من العلم فيه لا يوجد مثله بشيء من الحقوق في غير أملاك المحقين ، هذا البيان والظهور ثبت أن أمره (٢) كان معروفا في الأمة (٣) حتى جرى به التوارث.

ثم هذا النوع من العلم لا يحتمل انتشاره ونيله بالرأي ؛ فصار كسنة ظاهرة ، لها حق التواتر مع ما يستغنى عن روايته ، والله أعلم.

ثم [اعلم أن](٤) الناس على اختلافهم متفقون على وجوب حق الشفعة بحق الشرك فيما يحتمل القسمة ، وأما (٥) أن يجب بحق القسمة ، فيجب ذلك في كل محتمل القسمة ، وذلك مما يأباه الجميع ، أو يجب بما جعل من حق الجوار الذي جاء به الكتاب ، وجرت به السنة ، أو بما جعل من تأذي بعض الجيران ببعض ، والأمر بالمعروف في الخلق من الاستخبار عن أحوال الجيران قبل تأمل الدور وتفاوت القيم باختلاف الجيران بما في ذلك من المؤن والمضارّ ، وأي هذين كان فالشفعة واجبة بالجوار ؛ لأنهما أمران لا يسلم عنهما على ثبات الجوار ؛ فيجب به الشفعة مع ما أمكن الجمع بين الآثار بما لا يحتمل تسمية الشريك جارا من حيث الشرك لوجهين :

أحدهما : قوله ـ تعالى ـ : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) [الرعد : ٤] لم يجعل الأرض من حيث الأرض متجاورة حتى أثبت لها القطع ؛ فأوجب بالقطع التجاور مع ما كان الجوار في اللغة اسما للتقارب والالتصاق ، لا لتداخل معروف ، ذلك عند من تأبى نفسه مكابرة المعارف.

والوجه الآخر : ما لا يسمّي الشركاء في عين العرصات (٦) جيرانا ، ثبت أن ذلك ليس من

__________________

(١) في أ : ذلك.

(٢) في ب : أمر.

(٣) في أ : الآية.

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب : فأما.

(٦) العرصات : جمع عرصة ، وهي مساحة فارغة لا بناء فيها بين الدور.

ينظر : النظم المستعذب (٢ / ٣٥٦).

١٧٧

أسماء الشرك ؛ فلا وجه لصرف الخبر باسم الجوار إلى الشرك مع ما قد جاء ما يقطع من السؤال عن أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار أنه قال : «الجار أحقّ بسقبه ...» (١) ، ومما جاء : «الجار أحقّ بشفعة جاره ينتظر به وإن كان غائبا» (٢) إذا كان طريقهما واحدا ؛ فيجب بما ذكرت صرفه عن الشريك إلى وجه يوافق خبر الجار ، وله أوجه ثلاثة :

أحدها : أن قوله : «قضى بالشفعة لشريك لم يقسم» (٣) غير مقابل لخبر الجوار ؛ إذ هو أحق في القولين :

وما روي من القول : «إذا وقعت (٤) الحدود وصرفت الطّرق فلا شفعة» (٥) فقد يحتمل أن يكون خبرا عن هذا الفعل ألا شفعة في صرف الطريق وإظهار الحدود ؛ إذ القسمة في معنى البيع في الأمور حتى منع الاقتسام في كل ما لا يحتمل التفاضل إلا بما يجوز به ، فقيل : لا شفعة في هذا ، والله أعلم.

والثاني : أن يكون إذا كان هذا فلا شفعة لهم مع من لم تقع بينهم الحدود ، ولا صرفت بينهم الطرق ، والله أعلم.

والثالث : إذا وقعت الحدود فتباينت ، وصرفت الطرق فتباعدت ؛ إذ فيما لم يتباينا ثم حد ليس واحد من الأمرين ، وإذا احتمل خبر الشرك ما ذكرنا ، ثبت أمر الشفعة بالجوار والشرك جميعا على الترتيب ، ولا قوة إلا بالله.

ولو كان الجنب اسمه لبعيد الجيران بالنسب استحق بما كان الذي به الجوار يلتصقان ، ويكون كل واحد منهما بجنب الآخر ؛ إذ لا يسمى كل بعيد به ، ففيه وجهان :

أحدهما : الحق بالاتصال.

والثاني : بيان ما به يكون الجوار ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) اختلف فيه :

قال علي ـ رضي الله عنه ـ : هي المرأة (٦).

وقال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ كذلك (٧) أيضا هي المرأة (٨).

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) في أ : رفعت.

(٥) تقدم.

(٦) رواه ابن جرير (٨ / ٣٤٢) (٩٤٧١ ، ٩٤٧٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٨٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٧) في ب : كذا.

(٨) وذكره السيوطي في الدر ٢ / ٢٨٤ وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني.

١٧٨

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : هو الرفيق في السفر (١) ، وكذلك قول مجاهد.

فإن كان الصاحب بالجنب هو المرأة ، فالأمر بالإحسان من جانب ، وإن كان هو الرفيق في السفر فمن جانبين ، ما يلزم هذا يلزم الآخر مثله بحق المصاحبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يحتمل الأمر وجهين :

بالإحسان إلى المماليك شكرا لما أنعم عليهم مما جعل لهم من الخولة من جوهرهم وأمثالهم في الخلقة أذلاء تحت أيديهم يستخدمونهم ويستعملونهم في حوائجهم.

أو لما هم أمثالهم في الحاجة من المطعم ، والمشرب ، والملبس ، وهم مقهورون في أيديهم ، وقد يترك الرجل النظر لمن هو مقهور في يده ؛ أمر بالنظر إليهم ، والله أعلم.

وقد جاءت الآثار في ذلك عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : كانت عامة وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصّلاة (٢) وما ملكت أيمانكم» (٣).

وعن جابر بن عبد الله قال : كان [رسول الله](٤) صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوصي بالمملوك خيرا ، ويقول : «وأطعموهم ممّا تأكلون ، وألبسوهم ممّا تلبسون» (٥).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت [أيماننا (٦)](٧).

__________________

(١) رواه ابن جرير (٨ / ٣٤١ ـ ٣٤٢) (٩٤٥٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٨٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب.

(٢) في ب : الصلوات.

(٣) أخرجه أحمد في المسند (٣ / ١١٧) ، وابن ماجه في السنن (٤ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧) كتاب الوصايا : باب هل أوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢٦٩٧) ، وأبو يعلى في المسند (٥ / ٣٠٩ ـ ٣١٠) ، (٢٩٣٣) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٤ / ٢٣٥).

(٤) في ب : النبي.

(٥) أخرجه البخاري في الأدب المفرد باب : (٨٢) اكسوهم مما تلبسون ، (١٣٩ / ١٨٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٨٥) وعزاه للبخاري في الأدب المفرد عن جابر.

(٦) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (١١٨ / ١٥٨) باب حسن الملكة ، وأبو داود (٢ / ٧٦١) كتاب الأدب باب في حق المملوك (٥١٥٦) بلفظ : «كان آخر كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الصلاة الصلاة : اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم).

وعنه البيهقي (٨ / ١١) في كتاب النفقات : باب ما ورد من التشديد في ضرب المماليك والإساءة إليهم وقذفهم ، وابن ماجه (٤ / ٢٦٧) كتاب الوصايا : باب هل أوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢٦٩٨).

وأحمد في المسند (١ / ٧٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٨٥).

(٧) سقط من ب.

١٧٩

وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ [قالت : سمعت رسول الله](١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول في مرضه : «الصّلاة وما ملكت أيمانكم» (٢) فجعل يتكلم وما يقبض بها لسانه.

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال [رسول الله](٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للمملوك (٤) طعامه وكسوته ، ولا يكلّف من العمل ما لا يطيق» (٥).

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : كان آخر وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حضرته الوفاة : «الصّلاة وما ملكت أيمانكم» ، ثم جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغرغر بها في صدره ، ولا يفصح بها لسانه.

وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في المماليك : «هم إخوانكم ، ولكنّ الله خوّلهم إيّاكم ، فأطعموهم ممّا تأكلون ، وألبسوهم ممّا تلبسون» (٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) الآية.

قيل : المختال : هو المتكبر (٧).

وقيل : هو من الخداع.

وقيل : هو الذي يمشي مرحا ؛ وهو واحد ، يتكبر على عبادة الله ـ تعالى ـ أو يتكبر على عباد الله ـ تعالى ـ ويخدعهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) ؛ لأنه لا يحب الاختيال ، وكذا في كل ما ذكر : لا يحب ذا ويحب ذا ؛ كقوله : (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) والتائبين ، ولا يحب الظالمين ؛ لأنه يحب الطهارة والتوبة ، ولا يحب الظلم ولا الكفر ، فإذا لم يحب هذا ، لم يحب فاعله لفعله وإذا أحب هذا ، أحب فاعله لفعله.

وقوله ـ عزوجل ـ (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ...) الآية.

__________________

(١) في ب : عن النبي.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : النبي.

(٤) في ب : المملوك.

(٥) أخرجه مسلم (٣ / ١٢٨٤) كتاب الأيمان : باب إطعام المملوك مما يأكل (٤١ ـ ١٢٦٢) ، والبيهقي في السنن (٨ / ٦) ، وابن حبان في موارد الظمآن : كتاب العتق : باب التخفيف عن الخادم (١٢٠٥) ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٨٥).

(٦) أخرجه البخاري (٥ / ٤٨٠) كتاب العتق. باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (العبيد إخوانكم ؛ فأطعموهم مما تأكلون) (٢٥٤٥) ، ومسلم (٣ / ١٢٨٢ ـ ١٢٨٣) : كتاب الإيمان : باب إطعام المملوك مما يأكل ، وإلباسه مما يلبس ، ولا يكلفه ما يغلبه (٣٨ ـ ١٦٦١) ، وأبو داود (٢ / ٧٦١) في كتاب الأدب : باب في حق المملوك (٥١٥٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٨٥).

(٧) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٥٠) (٩٤٩١) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٨٥).

١٨٠