تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

أي : الزوجان [إن تفرقا ؛ لما](١) لم يقدر الزوج على التسوية بينهن (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) : المرأة تتزوج آخر ، والرجل بامرأة [أخرى](٢).

ويحتمل : (كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) أن كل واحد منهما ـ وإن كان غنيا بالآخر في حال النكاح ـ فالله قادر على أن يغني كل واحد منهما بعد الافتراق ، كما كان يرزق قبل الفراق.

وفيه دليل قطع طمع الارتزاق من غير الله ، وإن جاز أن يجعل غيره سببا في ذلك ؛ لأنه قال ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ) ؛ ليعلم كلّ أن غناه لم يكن بالآخر ؛ حيث وعد لهما الغناء ، وكذلك في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ ...) إلى قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور : ٣٢] ـ دليل قطع طمع الارتزاق بعضهم من بعض في النكاح ؛ لما وعد لهم الغناء إذا كانوا فقراء.

وفيه دليل وقوع الفرقة بينهما بالمرأة ، بالمكنى من الكلام ؛ لمشاركتهما فيه ، وإن كان الزوج هو المنفرد بالفراق ؛ لما أضاف [الفعل](٣) إليهما بقوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ) وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (فارِقُوهُنَ) [الطلاق : ٢] و (سَرِّحُوهُنَ) [البقرة : ٢٣١] ، والله أعلم.

وفيه دليل لزوم النفقة في العدة ؛ لأنه ذكر الافتراق ، والفراق إنما يكون بانقضاء العدة ، ثم أخبر ـ عزوجل ـ عن غناء كل واحد منهما بالآخر قبل الفراق ؛ دل أن للمرأة غناء بالزوج ما دامت بالعدة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً)

قيل : واسعا : جودا.

وقيل : واسعا : يوسع على كل منهما (٤) رزقه ، (حَكِيماً) حكم على الزوج : إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان.

وقيل : حكيما ؛ حيث حكم فرقتهما.

وأصل الحكيم : أن يضع كل شيء موضعه.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١)

__________________

(١) في ب : إذا تفرقا.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : منهم.

٣٨١

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً)(١٣٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ ...) الآية.

وصى الخلق كلهم : (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) ، ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ ...).

قيل : وصينا : أمرنا.

وقيل : وصينا : فرضنا على الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم : (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) ، قيل : أي أمرناهم أن يوحدوا الله ويتقوا الشرك.

وقال مقاتل : (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) ، أي : وحدوا الله (١).

وقيل : قوله ـ تعالى ـ : (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) ، أي : أطيعوه فيما أمركم ونهاكم عنه.

ويحتمل : (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) ، أي : اتقوا عذاب الله ونقمته ، ولا تعبدوا غيره دونه (وَإِنْ تَكْفُرُوا).

ولم تتقوا فيما أمركم الله ونهاكم.

(فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

ذكر هذا على أثر قوله : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) ؛ ، ليعلموا أنه لم يأمرهم بذلك لحاجة له في عبادتهم ، و (٢) [لم] يأمر لمنفعة نفسه ؛ إذ من له ملك ما في السموات وما في الأرض لا يحتاج إلى آخر ينتفع به ؛ ولكن ليعلموا أنه ـ تعالى ـ إنما أمرهم بذلك لحاجتهم في ذلك ، ولمنفعة أنفسهم ؛ ألا ترى أنه قال ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) غنيّا عن (٣) عبادتكم له وطاعتكم إياه ، وحميدا في سلطانه ، ويكون غنيّا عن خلقه في الأزل ، حميدا في فعله ، وذلك الحميد في الفعل يخرج على إتقان الفعل وإحكامه ، أو على إحسانه إلى خلقه ، وإنعامه عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

هو ما ذكرنا من غنائه عن عبادة خلقه وطاعتهم له.

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (١ / ٤٨٨) ، وابن عادل في اللباب (١ / ٥٩).

(٢) في ب : أو.

(٣) في ب : من.

٣٨٢

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) ـ تأويله والله أعلم ـ : أي من له ما في السموات وما في الأرض يقدر أن يذهبكم ، أي : يهلككم ، ويأتي بآخرين أخير منكم ، وأخوف وأطوع لله منكم ، لكنه لا يفعل ؛ لأنه غني عن عبادتكم وطاعتكم ، لم يخلقكم في الابتداء لحاجته في عبادتكم أو لمنفعة له ؛ ولكن لحاجة أنفسكم ومنافعكم ، والله أعلم.

ثم يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) : في قوم خاص ، كما كان في الأمم الخالية من الإهلاك عند المعاندة والمكابرة.

ويحتمل في الكل (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) ، أي : يهلككم : الكل ، ويأت بآخرين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً)

أي : كان الله على الإهلاك والإبدال (١) قديرا ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

قال بعض أهل التأويل : من كان يريد بعمله الذي يعمله عرض الدنيا ، ولا يريد به الله ـ آتاه الله ما أحب من عرض الدنيا ، أو دفع عنه ما أحب في الدنيا ؛ فليس له في الآخرة من ثواب ؛ لأنه عمل لغير الله ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [البقرة : ٢٠٠] ، ومن أراد بعمله الذي يعمله في الدنيا ، ثواب الآخرة ـ آتاه الله ـ تعالى ـ من (٢) عرض الدنيا ما أحب ، ودفع عنه (٣) ، وجزاه في الآخرة الجنة ؛ بعمله في الدنيا ، والله أعلم.

وتحتمل الآية ـ غير هذا ـ وجوها كأنها أشبه من هذا :

أحدها : أنهم كانوا يتخذون من دون الله آلهة يعبدونها ؛ طلبا للرئاسة والعز والشرف ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا* كَلَّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢] فأخبر أن العز والشرف ليس [في ذلك](٤) ؛ ولكن عند الله عز الدنيا والآخرة.

والثاني : أنهم كانوا يعبدون الأوثان والأصنام ، ويقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ؛ فأخبر أن ليس في عبادتكم هذه الأوثان دون الله ـ لكم زلفى ، ولا ثواب ، ولكن اعبد الله ؛ فعنده الدنيا والآخرة.

__________________

(١) في ب : إبدال غير.

(٢) في أ : عن.

(٣) زاد في ب : ما أحب.

(٤) في ب : ذاك.

٣٨٣

والثالث : يحتمل : أن يكونوا عبدوا هذه الأصنام ؛ لمنافع يتأملون بذلك في الدنيا والسعة في الدنيا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ ...) الآية [العنكبوت : ١٧] ؛ فعلى ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لا (١) عند من تطلبون. ويحتمل أن تكون الآية في أهل المراءاة والنفاق ، الذين يراءون بأعمالهم الصالحة في الدنيا ؛ [يريدون] ثواب الدنيا لا غير ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً).

لمقالتكم

(بَصِيراً).

بما تريدون وتعملون ، وهو وعيد.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(١٣٥)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ...) الآية (٢).

عن ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنه ـ قال : كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من (٤) كانت : من قريب أو بعيد ، ولو على نفسه فأقر بها ، وكذلك قال عامة أهل التأويل قوله : (قَوَّامِينَ) : قوالين لله ، ولكن يكون (٥) في كل عمل وكل قول يلزم أن يقوم لله ، ويجعل الشهادة له ؛ فإذا فعل هكذا ـ لا يمنعه عن القيام بها قرب أحد ولا بعده ، ولا ما يحصل على نفسه أو والديه ، وكذلك قال الله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) [الطلاق : ٢] ؛ فإذا جعلها لله ـ عزوجل ـ لم يجعلها [للمخلوق ، أمكن](٦) له القيام بها ،

__________________

(١) في ب : ولا.

(٢) قال القرطبي (٥ / ٢٦٣) : لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية ، وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأم ماضية ، ولا يمنع ذلك من برهما ، بل من برهما أن يشهد عليهما ، ويخلصهما من الباطل ، وهو معنى قوله ـ تعالى ـ : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] فإن شهد لهما أو شهدا له وهي.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٩ / ٣٠٤) (١٠٦٧٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٣) ، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه ، وذكره البغوي في تفسيره (١ / ٤٨٩).

(٤) في الأصول : ما.

(٥) في أ : يقول.

(٦) في أ : لمخلوق ، لكن.

٣٨٤

وإن كان على نفسه أو من ذكرتم ما يمنع القيام بها [فهو] مختلف : أما على نفسه ؛ لنفع يطمع أو لدفع ضرر يدفع بذلك ، وأما على الوالدين بالاحتشام يحتشم منهما ؛ فيمتنع عن أداء ما عليه ، وأما القرابة : بطلب (١) الغناء لهم ودفع الفقر عنهم ؛ فأخبر أنه أولى بهم ؛ فلا يمنعك غناء أحد منهم ولا فقره ـ القيام بها ، وكذلك روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في تأويل هذه الآية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا)

قيل فيه بوجهين :

قيل : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) وتعملوا لغير الله.

وقيل : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) ؛ كراهة أن تعدلوا.

ويحتمل : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) : عن الحق من الصرف بالعدول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا)

فيه لغتان :

«تلوا» بواو واحدة ، من الولاية ؛ يقول (٢) : كونوا عاملين لله ، وقائلين له ، مؤدين الشهادة له ، وإن كنتم وليتم ذلك.

وقيل : «تلووا» بواوين ، من التحريف ؛ يقول : لا تتبعوا الهوى ، ولا تحرفوا الشهادة ، ولا تعرضوا عنها وتكتموها (٣).

وفي حرف حفصة ـ رضي الله عنها ـ : «إن يكونوا غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما».

وعن قتادة ـ رضي الله عنه ـ : فالله أولى بهما ، يقول : الله أولى بغنيكم وفقيركم ؛ فلا يمنعكم (٤) غناء غنى أن تشهد عليه لحق علمته ، ولا أمر ثبت لفقير أن تشهد عليه بحق علمته (٥).

وفي حرف حفصة ـ رضي الله عنها ـ : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) ، وهو من الولاية التي ذكرنا.

__________________

(١) في ب : فطلب.

(٢) في أ : بقوله.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٩ / ٣٠٧ ـ ٣٠٩) (١٠٦٨٤ ـ ١٠٦٨٥) عن ابن عباس ، (١٠٦٨٦) عن مجاهد ، (١٠٦٩٠) عن السدي ، (١٠٦٩١) عن ابن زيد ، (١٠٦٩٤) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٤) وزاد نسبته لآدم ، والبيهقي في السنن عن مجاهد.

(٤) في ب : يمنعك.

(٥) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣٠٥) (١٠٦٨٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٤) وزاد نسبته لابن المنذر وعبد بن حميد.

٣٨٥

وقيل : وإن تلووا : من التحريف وطلب الإبطال.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا بين الناس» ، وهو من العدل ؛ على ما ذكرنا.

وقال بعضهم : هو من الصرف والعدول عن الحق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

خرج على الوعيد ، على كل ما ذكر : من منع الشهادة ، والقيام لله بها ، وتحريف ما لزمهم ، وبالله العصمة.

وبمثل (١) ذلك روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقم شهادته على من كانت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجحد حقّا هو عليه ، وليؤدّه عفوا ، ولا يلجئه إلى سلطان ، ولا إلى خصومة ليقطع بها حقّه ، وأيّما رجل خاصم إلىّ فقضيت له على أخيه بحقّ ليس هو له عليه ـ فلا يأخذنّه ؛ فإنّما أقطع له قطعة من جهنّم» (٢).

وروي في خبر آخر : «يا ابن آدم ، أقم الشّهادة ولو على نفسك ، أو على قرابتك ، أو شرف قومك ؛ فإنّما الشّهادة لله وليست للنّاس ، إنّ الله رضى بالعدل والإقساط لنفسه ، والعدل ميزان الله فى الأرض : يردّ على المظلوم من الظّالم ، وعلى الضّعيف من الشّديد ، وعلى المحقّ من المبطل ، وبالحقّ يصدّق الله الصّادق ، ويكذّب الله الكاذب ، ويردّ المعتدى ويوبّخه ، وبالعدل أصلح الله النّاس».

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)(١٣٦)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ـ وجوها :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، فيما مضى من الوقت ، آمنوا في حادث الوقت.

ويحتمل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) ، أي : اثبتوا عليه.

ويحتمل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتكم ، (آمَنُوا) بقلوبكم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة : ٤١].

__________________

(١) في ب : تمثيل.

(٢) لم أجده بهذا اللفظ ، ولكن أخرجه كل من ابن ماجه (٤ / ١٢) كتاب الأحكام : باب قضية الحاكم لا تحلّ حراما ولا تحرّم حلالا (٨ / ٢٣) ، وأحمد (٢ / ٣٣٢) ، وابن أبي شيبة (٧ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥) ، وأبو يعلى في مسنده (١٠ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧) (٥٩٢٠) بلفظ : «إنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ؛ فمن قطعت له من مال أخيه شيئا ـ فإنما أقطع له قطعة من النار» واللفظ لأبي يعلى.

٣٨٦

ويحتمل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) عند رؤية البأس والعذاب ، (آمَنُوا) في الحقيقة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) [غافر : ٨٤].

ويحتمل وجها آخر : يا أيها الذين [آمنوا ببعض الرسل ، آمنوا](١) بالرسل كلهم كما آمن المؤمنون ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [البقرة : ١٣٦] ، وهم كانوا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠].

ويحتمل : يا أيها الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث ، آمنوا به إذا بعث ؛ لأنهم كانوا يؤمنون به قبل أن يبعث ، فلما بعث تركوا الإيمان به ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ).

أي : آمنوا بالكتاب الذي نزل على رسوله ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ).

أي : آمنوا ـ أيضا ـ بالكتب السماوية التي أنزلها الله ، تعالى.

ثم الإيمان بالله حقيقة ـ إيمان بجميع الرسل والكتب ؛ لأن كل نبي كان يدعو إلى الإيمان بجميع ذلك ، وكذلك في كل كتاب من الكتب السماوية دعاء إلى الإيمان بجملتهم ؛ ألا ترى أن الكفر بواحد منهم ـ كفر بالله وبجميع الرسل والكتب وما ذكر ، وبالله العصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) الآية.

يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : ومن يكفر بجميع ما ذكر ؛ (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١١٦] ، وهو على التأكيد.

ويحتمل : ومن يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر ؛ فقد كان ما ذكر ؛ لأن الكفر بواحد من ذلك كفر بالكل ، حتى لو أنكر آية من آيات الله ـ تعالى ـ كفر بالله ، وبالكتب وبالرسل كلها ، والله الموفق.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)(١٣٧)

__________________

(١) سقط من أ.

٣٨٧

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ ...).

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : نزلت الآية في الذين قال الله ـ تعالى ـ في سورة آل عمران : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ) [آل عمران : ٨٦].

وقيل : إنها نزلت في الذين آمنوا بموسى ـ عليه‌السلام ـ ثم كفروا بعد موسى ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعده ، ثم آمنوا بعيسى ـ عليه‌السلام ـ وبالإنجيل ، ثم كفروا من بعده ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن [الكريم](١). وهو الأولى.

وقيل غير هذا ، لكن ليس بنا إلى أنها فيهم نزلت حاجة ، ولكن فيه دليل أنها في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا ولا يتوبون ؛ لأنه قال : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) أخبر أنه لا يغفر لهم ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) [آل عمران : ٩٠] ؛ لما علم الله أنهم لا يتوبون ؛ وإلا لو آمنوا وتابوا قبلت توبتهم ؛ فعلى ذلك الأول ؛ لما علم الله أنهم لا يتوبون ، ويموتون على ذلك ـ أخبر أنه لا يغفر لهم.

وفيه دليل أنه (٢) تقبل توبة المرتد إذا تاب ، ليس ـ كما قال بعض الناس ـ أنه لا تقبل توبة (٣) المرتد ؛ لأنه أثبت لهم الإيمان بعد الكفر والارتداد بقوله : (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : أن.

(٣) قال الحنفية : من ارتد ـ عرض عليه الحاكم الإسلام ؛ استحبابا ، وتكشف شبهته ، ويحبس وجوبا ـ وقيل : ندبا ـ ثلاثة أيام : يعرض عليه الإسلام في كل يوم منها ، وذلك إن استمهل ، أي : طلب المهلة ؛ فإذا لم يطلب المهلة ـ قتل لساعته ، إلا إذا رجا إسلامه. وقيل عن البلخي : يقتل فورا بلا توبة.

وقال المالكية : يستتاب المرتد ـ وجوبا وإن كان عبدا أو امرأة ـ : ثلاثة أيام بلياليها من يوم الثبوت لا من يوم الكفر ، بلا جوع ولا عطش ؛ بل يطعم ويسقى من ماله ، وبلا معاقبة بالضرب أو نحوه ؛ فإن تاب ترك ؛ وإلا قتل بالسيف ، وكذلك بالنسبة إلى المرتدة ؛ فإنها تقتل إذا أصرت على ردتها بعد الاستتابة ، غير أنها تستبرأ بحيضة ؛ خشية أن تكون حاملا.

وقال الشافعية : إذا تاب المرتد قبلت توبته ، وفي وجوب الاستتابة واستحبابها ـ قولان :

أحدهما لا تجب الاستتابة ؛ لأنه لو قتل قبل الاستتابة ـ لم يضمنه القاتل ، ولو وجبت الاستتابة لضمنه.

والثاني : أنها تجب ؛ لما روي من أن رجلا ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ، فأخذه المسلمون ؛ فقتلوه ؛ فقال عمر بن الخطاب : «هلا أدخلتموه بيتا ، وأغلقتم عليه بابا ، وأطعمتموه كل يوم رغيفا ، واستتبتموه ثلاثا ؛ فإن تاب وإلا قتلتموه؟! اللهم إني لم أشهد ، ولم آمر ، ولم أرض إذ بلغني» ، ولو لم تجب الاستتابة لما تبرّأ من فعلهم.

وقال الحنابلة : من ارتد عن الإسلام من الرجال أو النساء ، وكان بالغا عاقلا ـ دعي إليه ثلاثة ـ

٣٨٨

آمَنُوا) ثم كذا ؛ فدل أنه إذا تاب يقبل منه.

وقال أصحابنا : يستتاب المرتد ثلاثا ؛ فإن أسلم وإلا قتل.

روي عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : يستتاب المرتد ثلاثا. ثم تلا هذه الآية (١).

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ كذلك (٢).

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قدم عليه رجل من الجيش ، فقال : هل حدث لكم حدث؟ فقال : إن رجلا من المسلمين ارتد ولحق بالمشركين فأخذناه. فقال : ما صنعتم به؟ قالوا : قتلناه. قال : هلا أدخلتموه بيتا ، وأغلقتم عليه بابا ، وأطعمتموه كل يوم رغيفا ، واستتبتموه ثلاثا ؛ فإن تاب وإلا قتلتموه. ثم قال : اللهمّ إني لم أشهد ، ولم آمر ، ولم أرض حين بلغني.

وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : إذا ارتد ثلاثا ، ثم تاب في كل مرة ـ فإنه يحبس في الثالثة إذا تاب ؛ حتى يظهر منه خشوع التوبة ، وذلك أثر الثبات على توبته ؛ فإن ظهر ذلك ، فحينئذ يخلى سبيله ؛ لما يحتمل أن تكون توبته فرارا من القتل ؛ فيحبس حتى تظهر حقيقة توبته ؛ لأنه أظهر الفسق ، والفاسق يحبس حتى يظهر خشوع التوبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)

لا يحتمل أن يكون أراد بقوله : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) ـ البيان ؛ على ما قاله قوم ؛ لأنه قد تولى لهم البيان ، لكنهم تعاندوا ولم يهتدوا ؛ فدل أن ثم معنى منه سوى البيان لم

__________________

 ـ أيام ، وضيق عليه ؛ فإن رجع ـ قبل منه ؛ وإلا قتل. وقالوا : لا يقتل المرتد حتى يستتاب ثلاثا. وروي عن الإمام أحمد بن حنبل رواية أخرى : أنه لا تجب استتابته ؛ ولكن تستحب. قال ابن قدامة في المغني : ولنا أنها تستحب ؛ لما روي من حديث أم رومان ، وأن النبي أمر أن تستتاب ، وأن عمر بن الخطاب قال عن مرتد قتل : «هلا حبستموه ثلاثا ، فأطعمتموه كل يوم رغيفا ، واستتبتموه» ، ولأنه أمكن استصلاحه ؛ فلم يجز إتلافه قبل الاستصلاح ، ولأن الردة تكون عن شبهة ولا تزول في الحال ؛ فوجب أن ينتظر مدة يرتئي فيها ، وأولى ذلك ثلاثة أيام ؛ للأثر ، ولأنها مدة قريبة.

وقال الظاهرية : إنه لا يجب دعاء المرتد إلى الإسلام واستتابته ، ولكن لا يحال بينه وبين ذلك ؛ فالواجب إقامة الحد على المرتد ، وذلك إذا لم يرجع إلى الإسلام ، وقال في المحلى : إنه لا برهان لمن قال بالاستتابة أكثر من مرة ؛ فإن هذا يفتح بابا لا ينتهي من التكرار. ينظر : الفتاوى الهندية (٢ / ٢٥٤) ، شرح الدر المختار (١ / ٤٨٧) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (٤ / ٣٠٤) ، المهذب (٢ / ٢٢٢ ، ٢٢٣) والمغني (١٠ / ٧٤ ، ٧٦) المحلى (١١ / ١٨٩ ، ١٩٢).

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣١٧) (١٠٧٠٤ ـ ١٠٧٠٥) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣١٧) (١٠٧٠٦).

٣٨٩

يعطهم ؛ لما علم أنهم لا يهتدون أبدا ، وهو التوفيق ، فهذا يرد على من لا يجعل الهدى إلا بيانا ؛ إذ قد بين لهم ذلك.

قوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)(١٤١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) بكذا.

البشارة المطلقة المرسلة لا تكون إلا بالخير خاصة ، وأما إذا كانت مقيدة مفسرة فإنها تجوز في الشر ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ) كذا ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [التوبة : ٣٤] ، وفي القرآن كثير ، ما ذكرها في الشر إلا مفسرة مقيدة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) ـ يدل هذا على أن الآية الأولى في أهل النفاق والمراءاة ، على ما ذكرنا من التأويل ؛ لأنه لم يسبق فيما تقدم ذكر لهم سوى قوله ـ تعالى ـ : (آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ). ويحتمل على الابتداء والائتناف على غير ذكر تقدم ، وذلك جائز في القرآن كثير.

ثم فسر (١) المنافقين فقال : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)

ثم يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) قولا وفعلا : أما القول : كقولهم : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ، وغيره من الآيات.

وأما الفعل : فكانوا يمنعون المؤمنين أن يغزوهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) [النساء : ٧٢] ، وكقوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران : ١٧٣] ، وكقوله (٢) ـ تعالى ـ : (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) [التوبة : ٤٦] كانوا يمنعون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين (٣) عن أن يغزوهم ويقاتلوهم ؛ فهم ـ وإن كانوا يرون

__________________

(١) في أ : بين.

(٢) في ب : وقوله.

(٣) في ب : والمؤمنين.

٣٩٠

من أنفسهم الموافقة للمؤمنين في الظاهر ـ فإنهم [كانوا](١) ـ في الحقيقة ـ معهم ؛ فهذا ـ والله أعلم ـ تأويل قوله : (يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ).

قيل : قوله ـ تعالى ـ : (أَيَبْتَغُونَ) على طرح الألف وأنها زائدة ، أي : يبتغون بذلك من عندهم العزة.

ثم يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) وجهين :

يحتمل : العزة : المنعة والنصرة ، وكانوا يطلبون بذلك النصرة والقدرة عند الكافرين.

ويحتمل : ليتعززوا بذلك.

والأصل : أن حرف الاستفهام كله من الله ـ له حق الإيجاب ، على ما يقتضي جوابه من حقيقة الاستفهام ؛ إذ الله عالم لا يخفى عليه شيء يستفهم ، جل عن ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)

أي : [والنصرة والقدرة](٢) كله لله ، من عنده يكون ، وبه يتعزز في الدنيا والآخرة ، ليس من عند أولئك الذين يطلبون منهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها)

قال بعضهم : قوله ـ تعالى ـ : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) ـ هو ما ذكر (٣) في سورة الأنعام ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام : ٦٨] ، ثم قال : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٦٩] ؛ لأنه نهاهم ـ عزوجل ـ عن القعود معهم إذا خاضوا في طعن القرآن وآيات الله ؛ فأخبر أن ليس لهم من حسابهم من شيء إذا قعدوا.

ثم قال في هذه الآية : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) : نهاهم ـ عزوجل ـ عن القعود معهم ، وأخبر أنهم إذا فعلوا ذلك يكونوا مثلهم (٤) ؛ فهو ـ والله أعلم ـ على النسخ : نسخ هذا الأول.

ويحتمل [أن يكون](٥) قوله ـ تعالى ـ : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في أ : القدرة والفطرة.

(٣) في ب : ذكرنا.

(٤) في ب : معهم.

(٥) سقط من ب.

٣٩١

[الأنعام : ٦٩] في المشركين ، لم يلحقهم من العقوبة والمآثم ؛ لأنهم لا يقدرون على منع المشركين عن الاستهزاء بآيات الله والطعن فيها ، ويقدرون على منع المنافقين عن ذلك ؛ فشاركوهم في العقوبة فيما يقدرون على منعهم فلم يمنعوا ، ورفع عنهم ذلك فيما لا يقدرون على دفعه.

وفيه دلالة أن من بلي بمنكر له قدرة التغيير على أهله ، فلم يغير ـ أن يشاركهم في ذلك ، أو إذا لم يكن له قدرة التغيير عليهم فلم يفارقهم ، لكن أقام معهم ـ شاركهم أيضا في العقوبة ؛ الواجب على كل من بلي بذلك ، وله قدرة التغيير عليهم ـ فعل ، أي : أنكر عليهم وغيّره ، وإلا فارقهم ؛ وإلا يخاف أن يشاركهم في العقوبة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) الآية.

لأنهم كانوا معهم في السر والحقيقة ، وإن كانوا يظهرون للمؤمنين الموافقة باللسان ؛ فهذا يدل على أن الحقائق في العواقب هو ما يسر المرء ويضمر ، ليس ما يظهر ؛ لأن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الظاهر في جميع الأحكام : في الأنكحة ، والعقود كلها ، وإظهار الإيمان لهم باللسان ، لكنهم إذا أضمروا خلاف ما أظهروا ـ لم ينفعهم ذلك ؛ دل أن الحقائق في العواقب (١) ما يسر ويضمر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : يتربصون الغنيمة والنصر ، فإن كان الفتح للمؤمنين قالوا : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الإيمان والأحكام كلها ؛ يطلبون الغنيمة والاشتراك (٢) فيها ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) الآية [الأحزاب : ١٨] ، وإذا كانت الدبرة والبوار على المؤمنين للكافرين يقولون : (قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بقولهم : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران : ١٧٣] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) الآية [الأحزاب : ١٨] : كانوا بين المسلمين كعيون لهم ؛ يخبرونهم عن عوراتهم ، ويطلعونهم على مقصود المؤمنين ؛ فذلك منعهم من (٣) المؤمنين واستحواذهم عليهم ، والله أعلم.

ويحتمل : (يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) ، يعني : أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عندهم بألا يدوم ذلك ،

__________________

(١) في أ : العقوبات.

(٢) في ب : الإشراك.

(٣) في الأصول : على.

٣٩٢

بل ينقطع عن قريب ، والله أعلم.

ويحتمل : (يَتَرَبَّصُونَ) ما ذكر من قوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ) [الحديد : ١٤] ، ثم خرج تأويله في قوله : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) [المائدة : ٥٢] ، ثم خص ذلك بقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) الآية [التوبة : ٩٨] ؛ فبين أنهم يتربصون بهم انقلاب الأمر ورجوعه إلى أعداء الله ؛ فمتى ظهرت لهم العواقب ـ أظهروا الذي له كان دينهم في الحقيقة ـ أنه كان لسعة الدنيا ونعيمها ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ...) الآية [النساء : ٧٢] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الآية [الحج : ١١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ...) الآية.

يحتمل هذا ـ أيضا ـ وجهين :

يحتمل : لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجج (١) في الدنيا ، أي : ليس للكافرين الحجة على المؤمنين في الدنيا من شيء ، إلا أن يموه عليه ، ويفتعل به [و] يعجز المؤمن في إقامة الحجة عليه ، ودفع تمويهاته ؛ وإلا ليس للكافر حجة يقيمها على المؤمن في الدنيا.

ويحتمل : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) في الآخرة ، على دفع شهادتهم التي شهدوا عليهم ؛ لأن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشهدون عليهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] ثم لا سبيل لهم على دفع شهادتهم التي شهدوا عليهم ، وردّها ، والله أعلم.

وأيضا : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) : في الحجة ، أو في الشهادة ، أو عند الله في الخصومة ، وإنما دعوا إلى كتبهم إذا أجابوا الله فيما دعاهم إلى الإيمان بالكتب والرسل ـ عليهم‌السلام ـ أو في النصر ؛ فيرجع أمره إلى العواقب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ)

الاستحواذ : الغلبة (٢). وقيل : الاستيلاء (٣).

__________________

(١) في ب : الحج.

(٢) أخرجه بنحوه ابن جرير (٩ / ٣٢٥) (١٠٧١٢) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٦) ، والبغوي في تفسيره (١ / ٤٩١).

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (١ / ٤٩١) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ٨١).

٣٩٣

وقال بعضهم : ألم نخبركم بعورة محمد وأصحابه ونطلعكم على سرهم ، ونكتب به إليكم؟!.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : ألم نحط من وراءكم؟!.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «ألم نستحوذ عليكم ومنعناكم من المؤمنين؟!».

قال الكسائي : هذا في كلام العرب كثير ظاهر ، ومعنى (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ) ـ إنا استحوذنا ومنعناكم ، وهو ظريف.

وأصل الاستحواذ الغلبة والقهر ، وهو ما ذكرنا أنهم يجبنون أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران : ١٧٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

وحكم الله بينهم ـ والله أعلم ـ هو أن ينزل المؤمنين الجنة ، والمنافقين النار.

(وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) في الحجة ؛ على ما ذكرنا ، وكذلك روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : قال : حجة (١). وقيل : ظهورا عليهم ، لكن الأول أشبه.

ويحتمل ما ذكرنا من الشهادة ـ أنه جعل يوم القيامة للمؤمنين الشهادة عليهم ، ولم يجعل لهم إلى دفعها وردها على (٢) أنفسهم سبيلا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً)(١٤٤)

وقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ).

يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (يُخادِعُونَ اللهَ) ، أي : يخادعون أولياء الله أو دينه ، فأضيف إليه ؛ فهو جائز ، وفي القرآن كثير ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] ، أي : إن تنصروا دين الله أو أوليائه ينصركم ، وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) ، أي : يجزيهم جزاء خداعهم المؤمنين ؛ فسمي : خداعا ـ وإن لم يكن في الحقيقة خداعا ؛ لأنه جزاء الخداع ، وهو كما سمى جزاء السيئة :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣٢٨) (١٠٧٢٠) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٦) وعزاه لابن جرير عن السدي ، وذكره البغوي في تفسيره (١ / ٤٩٢) ، ونسبه لابن عباس.

(٢) في ب : عن.

٣٩٤

سيئة ، وإن لم تكن الثانية ـ في الحقيقة ـ سيئة ، وكذلك سمى جزاء الاعتداء : اعتداء ، وإن لم يكن الثاني اعتداء ؛ فعلى ذلك سمى هذا : خداعا ؛ لأنه جزاء الخداع ، واللغة غير ممتنعة عن تسمية الشيء باسم سببه ؛ على ما ذكرنا ، والله أعلم.

ثم اختلف في جهة الخداع ؛ عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : يعطى المنافقين على الصراط نورا كما يعطى المؤمنين ؛ فإذا مضوا به على الصراط طفئ نورهم ، ويبقى نور المؤمنين يمضون بنورهم ؛ فينادون المؤمنين : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] فنجوز به ؛ فتناديهم الملائكة : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) ، وقد علموا أنهم لا يستطيعون الرجوع ؛ فذلك قوله : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) وكذلك قال الحسن (١) ، ثم قال : فتلك خديعة الله إياهم.

وقال آخرون : يفتح لهم باب من أبواب الجنة ؛ فإذا رأوا ذلك قصدوا ذلك الباب ، فلما دنوا منه أغلق دونهم ، ذلك الخداع ، والله أعلم.

ويحتمل وجها آخر : وهو أنهم شاركوا المؤمنين في هذه الدنيا ومنافعها ، والتمتع والتقلب فيها ؛ فظنوا أنهم يشاركونهم في منافع الآخرة والتمتع بها ؛ فيحرمون ذلك ، فذلك الخديعة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ ...) الآية.

جعل الله ـ تعالى ـ للمنافق أعلاما في قوله وفعله يعلم بها المنافق :

أما في القول : ما قالوا : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران : ١٧٣] ، وقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) [النساء : ٧٢] ، وقوله ـ تعالى ـ : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا ...) الآية [الأحزاب : ١٨].

وأما في الفعل فهو قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) ، وقوله : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) [الأحزاب : ١٨] أي القتال ، وقوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ...) الآية [الأحزاب : ١٩] ، ومثله كثير في القرآن ، مما جعل ذلك علامة لهم ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ...) الآية [المنافقون : ٤] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ...) الآية [التوبة : ١٢٧] يراءون في جميع أفعالهم ـ الناس.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣٣٠) (١٠٧٢٣) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٧) وزاد نسبته لابن المنذر.

٣٩٥

وفي حرف حفصة ـ رضي الله عنها ـ : «يراءون الناس والله يعلم ما في قلوبهم ولا يذكرون الله إلا قليلا».

عن الحسن في قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) ـ فقال : أما والله لو كان [ذلك](١) القليل منهم لله لقبله ، ولكن ذلك القليل رياء (٢).

وقيل : لو كان ذلك القليل لله يريدون به وجهه ، فقبله ـ لكان كثيرا ، ولكن لا يقبله ؛ فهو لا شيء. وقد يتكلم بالقليل واليسير على إرادة النفي من الأصل ، والله أعلم.

وروي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحسن الصّلاة حيث يراه النّاس ، وأساءها حيث يخلوا ـ فتلك استهانة يستهين بها ربّه» (٣).

وروي في علامة المنافق أخبار :

روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ [قال](٤) : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ للمنافق علامات ، يعرفون بها : تحيّتهم لعنة ، وطعامهم نهبة ، وغنيمتهم غلول ، لا يقربون المساجد إلّا هجرا ، ولا يأتون الصّلاة إلّا دبرا» (٥).

وعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا اؤتمن خان» (٦) ، وروي : ثلاث.

وروي عن عبد الله قال : اعتبروا المنافق بثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر. ثم قرأ الآيات : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ ...) الآية [التوبة : ٧٥].

وعن وهب قال : من خصال المنافق : أن يحب الحمد ، ويكره الذم.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣٣٢) (١٠٧٢٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٧) ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في الشعب.

(٣) أخرجه أبو يعلى في مسنده (٩ / ٥٤) ، والبيهقي في الصلاة (٢ / ٢٩٠) باب الترغيب في تحسين الصلاة ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ / ٢٢٣) باب ما جاء في الرياء وقال : رواه أبو يعلى وفيه إبراهيم بن مسلم الهجري ؛ وهو ضعيف.

(٤) سقط من ب.

(٥) أخرجه أحمد في المسند (٢ / ٢٩٣) عن أبي هريرة ، وذكره الهندي في كنز العمال (٨٦٢) وعزاه لأحمد وابن نصر وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة.

(٦) أخرجه البخاري (١ / ١١١) كتاب الإيمان : باب علامة المنافق (٣٤) وفي (٥ / ١٢٨) كتاب المظالم : باب إذا خاصم فجر (٣٤٥٩) ، وفي (٦ / ٣٢٢) كتاب الجزية : باب إثم من عاهد ثم غدر (٣١٧٨) ، ومسلم (١ / ٧٨) كتاب الإيمان (١٠٦ / ٥٨).

٣٩٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ)

قال أكثر أهل التأويل : ليسوا بمسلمين مخلصين ولا مشركين مصرحين. وهو ـ أيضا ـ قول قتادة (١).

وقال مقاتل : ليسوا مع اليهود فيظهرون ولا يتهم لهم ، وليسوا (٢) مع المؤمنين في التصديق مع الولاية (٣).

ويحتمل غير هذا : وهو أنه لم يظهر لكل واحد من الفريقين منهم الموافقة لهم والكون معهم ؛ بل ظهر منهم الخلاف عند كل فريق ؛ لأنهم كانوا أصحاب طمع ، عبّاد أنفسهم ، يكونون حيث رأوا السعة معهم ؛ فلا إلى هؤلاء في حقيقة الدين عند أنفسهم ، ولا إلى هؤلاء ، فذلك ـ والله أعلم ـ تأويله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)

قيل : حجة ؛ على ما قيل في الأول.

وقيل : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) ، يعني : هدى وطريقا مستقيما (٤) ، والله أعلم.

وعن الحسن : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) ؛ ما دام كافرا ؛ فإذا تاب ورجع عن ذلك فله السبيل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : نزلت في المنافقين الذين اتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ؛ سماهم الله ـ تعالى ـ مؤمنين بإقرارهم بالإيمان علانية ، وتوليهم الكافرين سرّا ، أو أن يقال : سموا مؤمنين ؛ لما كانوا ينتسبون إلى المؤمنين ؛ فسموا بذلك.

وقيل : نزلت في المؤمنين ، نهاهم أن يتخذوا المنافقين أولياء بإظهارهم (٥) الإيمان علانية ، وأمرهم أن يتخذوا المؤمنين أولياء.

ثم وجه النهي في الولاية واتخاذهم أولياء يكون من وجوه :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣٣٤) (١٠٧٣٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٨) ، وزاد نسبته لابن المنذر.

(٢) في ب : ولاهم.

(٣) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣٣٥) (١٠٧٣٤) ، (١٠٧٣٥) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٨) ، وزاد نسبته لابن المنذر.

(٤) ذكره بنحوه ابن جرير (٩ / ٣٣٥) ، والبغوي في تفسيره (١ / ٤٩٦).

(٥) في أ : بإظهار.

٣٩٧

يحتمل : النهي عن ولايتهم ولاية الدين ، أي : لا تثقوا بهم ، ولا تصدقوهم ، ولا تأمنوهم في الدين ؛ فإنهم يريدون أن يصرفوكم عن دينكم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) الآية [آل عمران : ١٤٩].

ويحتمل : النهي عن اتخاذهم أولياء في أمر الدنيا ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً ...) الآية [آل عمران : ١١٨] ، نهي ـ عزوجل ـ المؤمنين أن يجعلوا المنافقين موضع سرهم في أمر من أمور الحرب وغيره.

والثالث : في كل أمر ، أي : لا تصادقوهم ، ولا تجالسوهم ، ولا تأمنوهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً)

أي : تجعلون لله عليكم سلطانا مبينا.

قيل : عذرا مبينا (١).

وقيل : حجة بينة يحتج بها عليكم ، والله أعلم (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) فهو ـ والله أعلم ـ الإرادة ، وهي صفة كل فاعل في الحقيقة ، وحرف الاستفهام من الله إيجاب ؛ فكأنه قال : قد جعلتم لله في تعذيبكم حجة بينة يعقلها الكل ؛ إذ (٣) ذلك يكون ـ وهو اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين ـ حجة ظاهرة في لزوم المقت.

وجائز أن تكون الإضافة إلى الله ترجع إلى أولياء الله ؛ نحو الأمر بنصر الله ، والقول بمخادعة الله ، وكان ذلك منهم حجة بينة عليهم لأولياء الله : أنهم لا يتخذون الشيطان [وليا ، و] أولياء : عبادة غير الله اتخذوه ، ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً)(١٤٧)

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣٣٧) (١٠٧٣٧) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٨) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣٣٧) (١٠٧٣٨ ـ ١٠٧٤٠) عن مجاهد ، وذكره بنحوه السيوطي في الدر (٢ / ٤١٨) ، وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

(٣) في ب : أن.

٣٩٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)

الدرك : بالجزم والفتح ـ لغتان ، وهما واحد ؛ يقال : للجنة درجات وغرفات ، وللنار دركات بعضها أسفل من بعض.

وقيل : كلما كان أسفل ـ كان العذاب فيها أشد ؛ ألا ترى أنه أخبر عنهم بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) [فصلت : ٢٩] فلو لم يكن من أسفل منهم في الدركات أشد عذابا ـ لم يكن لقولهم : (نَجْعَلْهُما تَحْتَ) [فصلت : ٢٩] معنى ؛ فدل أن كل ما كان أسفل من الدركات ـ كان في العذاب أشد ، والله أعلم.

وذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر عبد المطلب وهشام بن المغيرة فقال : «هما من أدنى أهل النّار عذابا ، وهما في ضحضاح من النّار خالدين فيها ، وأدنى أهل النّار عذابا : فى رجليه نعلان من نار يغلى بهما دماغه» (١).

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : قال : الأدراك : توابيت من حديد تصمت عليهم في أسفل النار (٢).

وقيل : إن العذاب في النار واحد في الظاهر ، وهو مختلف في الحقيقة ؛ وأيد ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] لكن بعضهم لا يشعر بعذاب غيرهم ؛ كقوله : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) [الأعراف : ٣٨] سألوا ربهم أن يجعل لهم ضعفا من العذاب ؛ جزاء ما أضلوا ، فأخبر أن لكل ضعفا من الأئمة.

ثم لتخصيص (٣) المنافقين في الدرك الأسفل من النار دون سائر الكفرة وجوه ثلاثة :

أحدها : أنهم كانوا يسعون في إفساد ضعفة المسلمين (٤) ، ويشككونهم في دينهم ، ويتكلفون في إخراجهم من الإيمان ، وكان ذلك (٥) دأبهم وعادتهم ؛ فاستوجبوا بذلك ـ

__________________

(١) لم أجده بهذا اللفظ ، ولكن أخرجه كل من :

مسلم في صحيحه (١ / ١٩٤ ـ ١٩٥) كتاب الأيمان : باب شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (٣٥٧ / ٢٠٩) ، والحميدي في مسنده (٤٦٠) ، وأحمد في المسند (١ / ٢٠٦ ، ٢١٠) بلفظ : «هو في ضحضاح من نار ، ولو لا أنا لكان في الدّرك الأسفل من النار» واللفظ لمسلم.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٩ / ٣٣٨) رقم (١٠٧٤١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٩) ، وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وهناد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في صفة النار.

(٣) في ب : تخصيص.

(٤) في ب : المؤمنين.

(٥) في ب : كذلك.

٣٩٩

ذلك العذاب ؛ جزاء لإفسادهم ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون ذلك لهم ؛ لأنهم كانوا عيونا للكفرة ، وطلائع لهم ، يخبرون بذلك عن أخبارهم وسرائرهم ، ويطلعون على عوراتهم ، فذلك سعى في أمر دينهم ودنياهم بالفساد ؛ كقوله : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) الآية [النساء : ١٤١].

ويحتمل وجها آخر : وهو أنهم لم يكونوا في الأحوال كلها أهل دين يقيمون عليه في حال الرخاء والضيق ؛ ولكن كانوا مع السعة والرخاء حيث كان ، ولا كذلك سائر الكفرة ، بل كانوا في حال الرخاء والشدة على دين واحد : يعبدون الأصنام ، وأولئك مع المؤمنين في حال إذا كانت السعة معهم ، ومع الكافرين في حال إذا كانت السعة معهم ، لا يقرون على شيء واحد ، مترددون بين ذلك ؛ كما قال الله ـ عزوجل ـ : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) الآية [النساء : ١٤٣] ، والكفرة عبدوا من عبدوا ؛ على رجاء التقريب إلى الله ، وأمر الله ـ تعالى ـ لهم بذلك ؛ ليكونوا لهم شفعاء عند الله ، وأهل النفاق لم يكونوا يعبدون غير بطونهم ومن معه شهواتهم ؛ فلذلك ازداد عذابهم على عذاب غيرهم ، ولما (١) جمعوا إلى الكفر بالله ـ المخادعة والتغرير وإغراء الأعداء واستعلاءهم ، ولما قد أشركوا (٢) الفرق كلهم في اللذات وفي طلب الشهوات ؛ فعاد إليهم ما استحق كل منهم من العقوبة ، وبما بذلك شاركوا في كل المعاصي ، أو سبيلها إعطاء الأنفس الشهوات مع ما فيهم تغرير ضعفة المؤمنين ، والتلبيس عليهم ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا ...) [النساء : ١٤٦].

عن ابن عباس قال : (تابُوا) من النفاق ، و (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم ، و (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) ، ويقول : وثقوا بالله (٣).

وقيل : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

يقول : من المؤمنين ، أي : صاروا كسائر المؤمنين (٤).

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وأبي : «إلا الذين تابوا ، ثم آمنوا بالله والرسول والكتاب الذي أنزل إليه من ربه وما أنزل إلى النبيين من قبل ، ثم أخلصوا دينهم

__________________

(١) في ب : لما هم.

(٢) في ب : اشتركوا.

(٣) ينظر : تفسير الطبري (٩ / ٣٤٠ ، ٣٤١) ، البحر المحيط لأبي حيان (٣ / ٣٩٦) ، اللباب لابن عادل (٧ / ٩٣).

(٤) في ب : المسلمين.

٤٠٠