تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

مشوبا بأذى غيره ، والله أعلم.

وذلك تأويل الظليل أن يظله عن جميع المؤذيات ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)(٥٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)

قيل : لما فتح الله مكة على يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال العباس ـ رضي الله عنه ـ : يا رسول الله ، لو جعلت السقاية والحجابة فينا ؛ فأخذ مفاتيح الكعبة من ولد شيبة فدفعها إلى العباس ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية ؛ فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفاتيح الكعبة فردها إلى ولد شيبة ، ثم قال [النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١) : «يا عمّ ، إنّ الله ـ تعالى ـ أحبّ أن يرزأ ولا يرزأ شيئا» (٢).

وقيل : إنها نزلت في الأمراء في الفيء الذين (٣) استأمنهم على جمعها وقسمتها ، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمتها (٤).

والآية يجب أن تكون نازلة في كل أمانة اؤتمن المرء فيها ، من نحو ما كان فيما كان بينه وبين ربه ، وما كان فيها بين الخلق.

أما ما كان فيما بينه وبين ربه ، من نحو العبادات التي أمر المرء بأدائها ، ومن نحو تعليم العلم الذي رزقه الله ـ تعالى ـ كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية [الأحزاب : ٧٢] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ...) الآية [المائدة : ٨] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) كل ذلك أمانة تدخل في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، وكذلك كل أمانة يؤتمن المرء عليها تدخل في ذلك.

ذكر أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك عليها ، ولا تخن من خانك» (٥).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٩١ ـ ٤٩٢) (٩٨٤٦) مرسلا عن ابن جريج ، (٩٨٤٧) مرسلا من الزهري بألفاظ متقاربة ؛ وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣١٢) وزاد نسبته لابن المنذر عن ابن جريج ، ولابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

الرزأ : البر أي أن الله تعالى يبر ولا يبر. تاج العروس (١ / ٢٤٤) (رزأ).

(٣) في أ : الذي.

(٤) أخرجه بنحوه ابن جرير (٨ / ٤٩٠ ـ ٤٩١) (٩٨٣٩) عن زيد بن أسلم ، و (٩٨٤٠) عن شهر بن حوشب ، و (٩٨٤٤) عن ابن زيد عن أبيه ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣١٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم ، ولابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب.

(٥) أخرجه أبو داود (٢ / ٣١٢) كتاب البيوع : باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (٣٥٣٥) ، ـ

٢٢١

ومن قال : نزلت في الأمراء ، استدل بقوله ـ تعالى ـ : (أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ؛ لأن الحكم إلى الأمراء.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)(١) قال : هي مبهمة ، المؤمن والكافر سواء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ)

من الحكومة بالعدل ، وأداء الأمانات [إلى أهلها](٢)

(إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)

يحتمل : مجيبا لمن دعا له وسأل ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] يجيب لمن [استجاب له](٣) ، وأدى الأمانة.

ويحتمل : (سَمِيعاً بَصِيراً) أي : لا يخفى عليه شيء.

واختلف أهل العلم في العارية (٤) إذا ضاعت :

__________________

 ـ والترمذي (٢ / ٥٤٢ ـ ٥٤٣) في أبواب البيوع (١٢٦٤) ، وقال : حسن غريب ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٤٦) وصححه على شرط مسلم ، وسكت عنه الذهبي ، كلهم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا ، وله شاهد أخرجه ابن جرير في تفسيره (٨ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤) (٩٨٥٠) عن الحسن البصري مرسلا.

(١) قال القاسمي (٥ / ٢٤٥) : وقال السيوطي في الإكليل : في هذه الآية وجوب رد كل أمانة من وديعة وقراض وقرض وغير ذلك ، واستدل المالكية ، بعموم الآية ، على أن الحربي إذا دخل دارنا بأمان فأودع وديعة ثم مات أو قتل ، إنه يجب رد وديعته إلى أهله ، وأن المسلم إذا استدان من الحربي بدار الحرب ثم خرج ، يجب وفاؤه ، وأن الأسير إذا ائتمنه الحربي على شيء لا يجوز له أن يخونه ، وعلى أن من أودع مالا وكان المودع خانه قبل ذلك ، فليس له أن يجحده كما جحده ، ويوافق هذه المسألة حديث : «أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك».

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : استجابة.

(٤) العارية ـ لغة ـ : مشددة الياء على المشهور ، وحكي الخطّابي وغيره تخفيفا ، وجمعها : عوارى ، بالتشديد والتخفيف.

قال ابن فارس : ويقال : لها العارة ، أيضا.

قال الشاعر :

فاخلف وأتلف إنما المال عارة

وكله مع الدّهر الذي هو آكله

قال الأزهري : هي مأخوذة من عار الشيء يعير : إذا ذهب وجاء ، ومنه قيل للغلام الخفيف : عيار ، وهي منسوبة إلى العارة ، بمعنى : الإعارة ، وقال الجوهري : هي منسوبة إلى العار ؛ لأن طلبها عار وعيب.

وقيل : هي مشتقة من التعاور ، من قولهم : اعتوروا الشيء ، وتعاوروه ، وتعوّروه : إذا تداولوه بينهم. ـ

٢٢٢

قال أصحابنا (١) ـ رحمهم‌الله ـ : لا شيء عليه.

وقال غيرهم : عليه الضمان.

ولأصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ في ذلك عدة حجج :

أحدها : أن المستعير إن لبس القميص ، أو ركب الدابة ، أو حمل عليها ما أذن له في حمله عليها ، وأصابها في ذلك نقصان في قيمتها ـ فلا شيء عليه ، فإذا لم يكن عليه ضمان فيما وقع بها من الضرر والنقص بفعله ، ولبسه ، وركوبه ـ فلا يجب عليه ضمان ما هلك منها بغير فعله.

والثاني : ما روي عن ابن الحنفية ، عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : العارية ليس بتبعة ، ولا مضمونة ، إنما هي معروف ، إلا أن يخالف فيضمن.

وروي عن الحسن قال : إذا خالف صاحب العارية ضمن.

واحتج من خالف أصحابنا في ذلك بحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «على اليد ما أخذت حتّى تردّه» (٢) فالحديث يحتمل معنيين :

أحدهما : أن يقال : معناه على اليد أن ترد ما أخذت إذا كان قائما عليها رده ؛ ألا ترى أن الوديعة لا تضمن إذا تلفت ، وعليه أن يردها إذا كانت قائمة ، فالعارية مثلها.

__________________

ـ وحاصل الأمر أن العارية : تداول الشيء عارية : أعطاه إياه ، فعل به مثل ما فعل صاحبه على أن يعيده.

انظر : الصحاح (٢ / ٧٦١) ، لسان العرب (٤ / ٦٢٢) عور.

واصطلاحا :

عرفها الحنفية بأنها : تمليك المنافع بغير عوض ، أو هي إباحة الانتفاع بملك الغير.

وعرفها الشافعية بأنها : اسم لإباحة منفعة عين مع بقائها بشروط مخصوصة.

وعرفها المالكية بأنها : تمليك منفعة مؤقتة لا بعوض.

وعرفها الحنابلة بأنها : العين المعارة من مالكها ، أو مالك منفعتها ، أو مأذونها في الانتفاع بها مطلقا ، أو زمنا معلوما بلا عوض.

انظر : تبيين الحقائق (٥ / ٨٣) ، المحلى على المنهاج (٣ / ١٧) ، مواهب الجليل (٥ / ٢٦٨) ، كشاف القناع (٤ / ٦٢) ، اسهل المدارك (٣ / ٢٩) ، مجمع الأنهر (٢ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦).

(١) ينظر : البدائع (٨ / ٣٨٩٨) ، والاختيار (٢ / ١١٨) والشرح الصغير (٣ / ٥٧٠) ، ونهاية المحتاج (٥ / ١١٩) ، وأسنى المطالب (٢ / ٣٢٨) ، والمغني لابن قدامة (٥ / ٢٢٧).

(٢) أخرجه الترمذي (٢ / ٥٤٤ ـ ٥٤٥) : باب ما جاء في أن العارية مؤداة (١٢٦٦) ، وقال : حديث حسن ، وأبو داود (٢ / ٣١٨) كتاب البيوع : باب في تضمين العارية (٣٥٦١) ، وابن ماجه (٤ / ٦٤) كتاب الصدقات : باب العارية (٢٤٠) ؛ كلهم من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة مرفوعا بلفظ : (على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه).

٢٢٣

والثاني : أن يحتمل معنى ذلك في الغصب وأشباهه ؛ فعلى الغاصب أن يرده قائما أو تالفا ، ولا يدخل في عموم الخبر العارية ؛ ألا ترى أن الوديعة لم تدخل فيها ، وإن كان فيه أخذ.

واحتجوا [ـ أيضا ـ](١) بحديث صفوان : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعار من صفوان يوم حنين درعا ، فقال : أغصب يا محمد؟ فقال : «بل عاريّة مضمونة» (٢).

وروي في خبر آخر : أن صفوان هرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد حنينا ، فقال : «يا صفوان ، هل عندك من سلاح؟» قال : عارية أو غصبا؟ قال : «بل عاريّة» فأعاره ، ولم يذكر فيه الضمان ، فهو عندنا ـ إن ثبت خبر صفوان ـ : مضمونة الرد على المستعير ، [و] رد العارية ليس كالوديعة (٣) ؛ لأن الوديعة ما لم يطلب صاحبها لم ترد.

وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يؤيد قولنا ، وهو قوله : «العاريّة مؤدّاة» (٤).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ٣١٨) كتاب البيوع : باب في تضمين العارية (٣٥٦٢ ، ٣٥٦٣) ، وأحمد في المسند (٣ / ٤٠١) و (٦ / ٤٥٦) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٤٧) في البيوع : باب أد الأمانة ، والبيهقي في السنن (٦ / ٨٩) في العارية : باب العارية مضمونة ؛ والدارقطني في السنن (٣ / ٤٩) عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه ، مرفوعا.

(٣) الوديعة : لغة : فعيلة بمعنى مفعولة ، من الودع ، وهو : التّرك.

قال ابن القطاع : ودعت الشى ودعا : تركته.

وابن السّكّيت ، وجماعة غيره ، ينكرون المصدر ، والماضي من «يدع» ، وقد ثبت في «صحيح مسلم» : «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات» ، وفي «سنن النسائي» من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتركوا التّرك ما تركوكم ، ودعوا الحبشة ما ودعوكم» ؛ فكأنها سميت وديعة ، أي : متروكة عند المودع. وأودعتك الشيء : جعلته عندك وديعة ، وقبلته منك وديعة ؛ فهو من الأضداد.

بنظر : الصحاح : (٣ / ١٢٩٦) ، المغرب : (٤٧٩) ، المطلع : (٢٧٩).

واصطلاحا :

عرفها الحنفية بأنها : توكيل لحفظ مال غيره ؛ تبرعا بغير تصرف.

وعرفها الشافعية بأنها : العقد المقتضى للاستحفاظ ، أو العين المستحقة به حقيقة فيها ، بتعريف آخر : توكيل في حفظ مملوك ، أو محترم مختصّ على وجه مخصوص.

وعرّفها المالكية بأنها : مال وكل على مجرّد حفظه.

وعرفها الحنابلة بأنها : اسم للمال المودع المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض.

ينظر : الإنصاف (٦ / ٣١٦) ، الشرقاوي على التحرير (٢ / ٩٦) ، مغني المحتاج (٣ / ٧٩) ، حاشية الدسوقي (٣ / ٤١٩) ، كشاف القناع (٤ / ١٦٦). مجمع الأنهر (٢ / ٣٣٧) ، الفواكه الدواني (٢ / ٢٣٧).

(٤) أخرجه أبو داود (٢ / ٣١٩) كتاب البيوع : باب تضمين العارية (٣٥٦٥) ، والترمذي في سننه (٢ / ٥٤٤) باب ما جاء في العارية مؤداة (١٢٦٥) ، وابن ماجه (٤ / ٦٣) كتاب الصدقات باب العارية (٢٣٩٨) ، وأحمد في مسنده (٥ / ٢٦٧).

٢٢٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وقال ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠] فمن ولي أمرا أو حكما فيما بين الناس فقد ولي الأمانة ، يجب أن يؤديها إلى أهلها ، وعلى ذلك جاءت الآثار :

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من أحد يكون على شيء من هذه الأمور ـ قلّت أو كثرت ـ فلا يعدل فيهم إلّا أكبّه الله ـ تعالى ـ فى النّار» (١).

وفي خبر آخر : «أيّما امرئ ولى من أمر النّاس شيئا ثمّ لم يحطهم مثل ما يحوط به نفسه وأهله لم يرح رائحة الجنّة يوم القيامة» (٢).

وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من أحبّ النّاس إليّ وأقربهم مجلسا منّي يوم القيامة : إمام عادل ، وإنّ أبغض النّاس إلىّ يوم القيامة وأشدّهم عذابا : إمام جائر» (٣).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)

فإن قيل : كيف خص الله ـ تعالى ـ المؤمنين بالخطاب بالطاعة له وطاعة الرسول والأمر بها يعم المؤمن والكافر جميعا؟.

قيل [فيه بوجوه](٤) ثلاثة :

__________________

(١) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٥ / ٢١٦) ، وعزاه للطبراني في الأوسط عن معقل بن يسار مرفوعا بلفظ : «من ولي أمة من أمتى ، قلت أو كثرت ، فلم يعدل فيهم ـ كبّه الله على وجهه في النار» ، وقال : وفيه عبد العزيز بن الحصين ؛ وهو ضعيف ، وعزاه للطبراني في الصغير والأوسط عن أنس ابن مالك مرفوعا بلفظ : «من ولي من أمر المسلمين شيئا ، فغشهم ـ فهو في النار» ، وقال : وفيه عبد الله بن ميسرة ؛ وهو ضعيف عند الجمهور ، ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات ، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (٦ / ١٣٨) بلفظ قريب من هذا.

(٢) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٥ / ٢١٤) وعزاه للطبراني في الصغير والأوسط عن ابن عباس بلفظ «ما من أمتي أحد ولي من أمر الناس شيئا ، لم يحفظهم بما حفظ به نفسه وأهله ـ إلا لم يجد رائحة الجنة» ، وقال : وفيه إسماعيل بن شبيب الطائفي ؛ وهو ضعيف ، وأخرجه البخاري في صحيحه (١٥ / ٢٢) كتاب الأحكام : باب من استرعى رعية فلم ينصح (٧١٥٠) (٧١٥١) من حديث معقل ابن يسار بلفظ : «ما من عبد يسترعيه الله رعية ، فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة».

(٣) ذكره الهيثمي في المجمع (٥ / ٢٠٠) وعزاه للطبراني في الأوسط عن عمر بن الخطاب موقوفا بلفظ : «إن أفضل الناس عند الله منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق ، وشر عباد الله عند الله منزلة يوم القيامة إمام جائر خرق» ، وقال : فيه ابن لهيعة ؛ وحديثه حسن وفيه ضعف ، وعزاه لأبي يعلى والطبراني في الكبير والأوسط عن أبي سعيد الخدري مرفوعا بلفظ : «أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام جائر» ، وقال : فيه عطية ؛ وهو ضعيف.

(٤) في ب : بوجوه.

٢٢٥

أحدها : أن من عادة الملوك أنهم إذا خاطبوا بشيء إنما يخاطبون أهل الشرف والمجد ، ومن كان أسمع لخطابهم ، وأعظم لقولهم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) [النمل : ٣٢] ، وقال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) [النمل : ٣٨] يخاطبون [أبدا](١) أهل الشرف والمجد ، ومن هو أقبل لقولهم ، وأطوع لأمرهم ؛ فعلى ذلك خاطب الله ـ تعالى ـ المؤمنين وأمرهم أن يطيعوه ويطيعوا رسوله ، وإن كان الخطاب بذلك يعمهم.

والثاني : يحتمل أن يكون الخطاب بذلك للمؤمنين خاصّة ؛ لأن الكافر إنما يخاطب باعتقاد الطاعة له أولا ، فإن أجاب إلى ذلك فعند ذلك يخاطب بغيره ، والمؤمن قد اعتقد طاعة ربه ، وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لذلك خرج الخطاب منه للمؤمنين خاصة ، والله أعلم.

ويحتمل : أن يكون تخصيص الخطاب للمؤمنين ؛ لما أمر بطاعة أولى الأمر ؛ ليعلم أنه إنما أمر بطاعة أولى الأمر إذا كانوا مؤمنين ، والله أعلم.

ثم فيه دلالة جواز الطاعة لغير الله ؛ لأن كل من عمل بأمر آخر فقد أطاعه ، هو الائتمار للآمر.

وأما العبادة فهي (٢) إخلاص الشيء بكليته لله ـ عزوجل ـ حقيقة ؛ إذ الأشياء كلها لله بكليتها حقيقة ، ليست لأحد سواه ؛ لذلك لم يجز أن يعبد غير الله ـ تعالى ـ وقد يجوز أن يطاع غيره ؛ لما ذكرنا أن الطاعة هي الائتمار بالأمر ، وليس العبادة ؛ لذلك افترقا.

ثم طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكون طاعة لله ؛ لأنه بأمره يطاع ، وفي طاعتهم له طاعته.

ثم قيل : قوله ـ تعالى ـ : (أَطِيعُوا اللهَ) في فرائضه ، و [رسول الله](٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سنته (٤).

وقيل : (أَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم ونهاكم في كتابه ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(٥) صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أمركم ونهاكم في سنته (٦).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : فهو.

(٣) في ب : رسوله.

(٤) انظر البحر المحيط لأبي حيان (٣ / ٢٩٠) ؛ وتفسير القرطبي (٥ / ١٦٨ ، ١٦٩).

(٥) قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٢٥٥) : قال الحافظ ابن حجر في الفتح : النكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولي الأمر ، مع أن المطاع في الحقيقة هو الله ـ تعالى ـ كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسنة ، فكان التقدير : وأطيعوا الله فيما قضى عليكم في القرآن ، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن ، وما ينصه عليكم من السنة ، والمعنى : أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته ، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن.

(٦) في ب : سننه.

٢٢٦

ثم اختلف في أولى الأمر (١) :

قيل هم الأمراء (٢) على السرايا (٣).

وقيل : هم العلماء والفقهاء (٤).

وقيل : هم أهل الخير (٥).

ويحتمل : أولى الأمر : الذين يولّون السرايا.

فكيفما ما كان ومن كان ، ففيه الدلالة ألا يولى إلا من له العلم والبصر في ذلك ، أمراء السرايا كانوا أو غيرهم ؛ لأنه ـ عزوجل ـ أمر بطاعتهم ، ولا يؤمر بطاعة أحد إلا بعلم وبصر يكون له في ذلك.

والآية التي تقدمت ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) يدل على أن أولي الأمر الأمراء ؛ لأنه ـ تعالى ـ أمر الحكام في الآية الأولى بالعدل ، وأمر الرعية بالسمع لهم والطاعة فيما يحكمون ويأمرون ، والله أعلم. ألا ترى أنه روي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أيّها النّاس ، اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمّر عليكم حبشىّ مجدّع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله» (٦).

__________________

(١) انظر : تفسير الطبري (٨ / ٤٩٥) ، قال القاسمي (٥ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨) : قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه‌الله تعالى ـ في كتابه : «الحسبة في الإسلام» : وقد أمر الله ـ تعالى ـ في كتابه بطاعته ، وطاعة رسوله ، وطاعة أولي الأمر من المؤمنين ، وأولو الأمر : أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس ، وذلك يشترط فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام ، فلهذا كان أولو الأمر صنفين : العلماء والأمراء ، فإذا صلحوا صلح الناس ، وإذا فسدوا فسد الناس ، كما قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ : «للأحمسية لما سألته : ما بقاؤنا على هذا الأمر؟» قال : ما استقامت لكم أئمتكم ، ويدخل فيهم الملوك ، والمشايخ ، وأهل الديوان ، وكل من كان متبوعا فإنه من أولي الأمر ، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به ، وينهى عما نهى عنه ، وعلى كل واحد ممن له عليه طاعة أن يطيعه في طاعة الله ، ولا يطيعه في معصية الله.

(٢) في ب : أمراء.

(٣) أخرجه ابن جرير بنحوه عن ميمون بن مهران (٨ / ٤٩٨) (٩٨٥٩) ، و (٨ / ٤٩٧) (٩٨٥٦) عن أبي هريرة ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣١٥) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة.

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٠٠ ـ ٥٠١) (٩٨٦٩ ، ٩٨٧٠) عن عطاء بن السائب ، و (٩٨٧١) عن الحسن البصري ، و (٩٨٧٢) عن مجاهد بن جبر ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣١٥) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عطاء ، ولسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٩٩ ـ ٥٠٠) (٩٨٦٢) عن جابر بن عبد الله ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣١٥) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادره وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله.

(٦) أخرجه البخاري (١٣ / ١٣٠) كتاب الأحكام : باب السمع والطاعة للإمام (٧١٤٢) ، ومسلم (٣ / ـ

٢٢٧

[و] عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على المرء المسلم السّمع والطّاعة فيما أحبّ وكره ، إلّا أن يؤمر بمعصية ، فمن أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة» (١).

وبعد : هذه الآية [و] التي تليها تدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ، والتنازع يكون بين العلماء ؛ فكأنه ـ والله أعلم ـ أمر في آية أولي الأمر بطاعتهم ، وأمر أولي الفقه برد ما يختلفون فيه إلى كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والآية تحتمل المعنيين ـ والله أعلم ـ : أن [على](٢) العامة طاعة أمرائهم في أحكامهم ، وعليهم اتباع علمائهم في فتواهم ؛ يبين ذلك قول الله ـ تعالى ـ : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ...) الآية [التوبة : ١٢٢] ، فلو لم يجب على قومهم قبول قول علمائهم ما وجب عليهم إنذار قومهم.

وفي هذه الآية دليل على إبطال قول الرافضة في الإمامة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فليس يخلو أولو الأمر من أحد ثلاثة أوجه :

إما أن يكون الأمراء ، أو الفقهاء ، أو الإمام الذي تدعيه الرافضة ، فإن كان المعنى في أولي الأمر : الفقهاء أو الأمراء ، ففيه إبطال قول الرافضة : إنه الإمام الذي يصفونه ، ومحال أن يكون ذلك هو الإمام الذي يذكرونه ؛ لأنه قال [الله](٣) ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ، وذلك الإمام عندهم طاعته مفترضة ، وهم بين أظهر المتنازعين عندهم ، ومخالفته كفر في مذهبهم ، فلو كان ذلك كذلك ، لقال ـ والله أعلم ـ : «فردوه إلى الإمام ؛ فإن من خالفه فقد كفر» ، ولكنه ـ عزوجل ـ أمر برد المتنازع إلى كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فدل على أن قول أحد لا يقوم في الحجة مقام قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) قيل : (إِلَى اللهِ) ، أي : إلى كتاب الله ، أو إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان حيّا ، فلما مات ، فإلى (٤) سنته.

__________________

 ـ ١٤٦٧) كتاب الإمارة : باب وجوب طاعة الأمراء (٣٦ ـ ١٨٨٧) عن أبي ذر بلفظ : «اسمع وأطع ولو لعبد حبشي كأن رأسه زبيبة».

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ١٢١) كتاب الأحكام : باب السمع والطاعة (٧١٤٤) ، ومسلم (٣ / ١٤٦٩) كتاب الإمارة : باب وجوب طاعة الأمراء (٣٨ ـ ١٨٣٩).

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : إلى.

٢٢٨

واستدل قوم بهذه الآية على إبطال الاجتهاد ، وترك القول إلا بما يوجد في كتاب الله ـ تعالى ـ أو في [سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١) نصّا ، ويقولون : فنكل أمره إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ورسوله ـ عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات ـ وليس ذلك عندنا.

والآية تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يحمل تأويلها على أن التنازع إذا كان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجب أن يرد إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويسأل عن ذلك ، ولا يستعمل في الحادثة الاجتهاد ولا النظر.

فأمّا ما كان من التنازع بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإن حكم الحادثة يطلب في كتاب الله ، أو في سنة [رسول الله](٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو في إجماع المسلمين ، فإن وجد الحكم في أحدهم بينا وإلا قيل بالاجتهاد.

والوجه الثاني : أن يكون المجتهد إذا ما اجتهد فيه إلى كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : وجدت في الكتاب أو في السنة كذا وكذا ، وهذه الحادثة تشبه هذا الحكم ، فحكمها حكمه ، ويكون رادّا لحكم الحادثة إلى كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو شبهها بما وجده من الحكم فيهما.

وإذا كان ما وصفنا من تأويل الآية محتملا ؛ فلا حجة لهم علينا في ذلك ، والله المستعان.

وفي الآية دلالة جعل الإجماع حجة (٣) ، وهو قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ...) [الآية](٤) ، أنه إنما أمر بالرد إلى الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند التنازع ؛ لم يأمر عند الإجماع ؛ دل أنه إذا كان ثمّ إجماع لا تنازع فيه ، لم يجب الرد إلى ما أودع في الكتاب وفي السنة.

وفي الآية دلالة أنه يدرك بالطلب المودع فيه ؛ لأنه لو لم يدرك ، أو ليس ذلك فيه ، لم

__________________

(١) في ب : سنته.

(٢) في ب : رسوله.

(٣) ينظر استدلال علماء الأصول بهذه الآية في : البرهان لإمام الحرمين (١ / ٦٧٠) ، البحر المحيط للزركشي (٤ / ٤٣٥) ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (١ / ١٧٩) ، سلاسل الذهب للزركشي ص ٣٣٧ ، التمهيد للإسنوي ص ٤٥١ ، نهاية السول له (٣ / ٢٣٧) ، زوائد الأصول ص ٣٦٢ ، منهاج العقول للبدخشي (٢ / ٣٣٧) ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص ٢٠٩ ، التحصيل من المحصول للأرموي (٢ / ٣٧).

(٤) سقط من ب.

٢٢٩

يكن للرد إلى ذلك معنى ؛ ألا ترى أنه قال [الله ـ سبحانه و](١) تعالى ـ : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النّساء : ٨٣] فإنما يستنبط ما فيه ؛ فدل [أن حكم الحوادث](٢) مذكور في هذين : في الكتاب ، والسنة ؛ إذ لو لم يكن الفرج عند النظر والطلب ، لكان لا يفيد الأمر بالرد إليهما معنى.

ثم لا توجد نصوص في كل ما يتلى ، ثبت أنه مطلوب ، وهو يدل على لزوم البحث في استخراج المودع من المنصوص ، والله أعلم.

وفي قوله ـ أيضا ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ...) الآية ـ تخصيص المؤمنين على اشتراك الجميع في اللزوم ؛ يخرج على أوجه :

أحدها : على مخاطبة الأشراف والنجباء ، وعلى ذلك أمر الملوك في الأمور ، يريدون اشتراك الرعية وأهل المملكة في ذلك ؛ كقوله ـ سبحانه ـ : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) [النمل : ٢٩] ، وقال سليمان ـ عليه‌السلام ـ : (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا) [النمل : ٣٨] ، وقال فرعون للملإ [: (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا ...)](٣) ونحو ذلك ، فمثله الذي نحن فيه ، والله أعلم.

والثاني : أنهم مما قد عرفوا الأمور والمناهي ؛ فقيل لهم : (أَطِيعُوا اللهَ) وما ذكر ، واعلموا أنهم فيمن أمروا به ونهوا عنه ، ولم يكن من الكفرة علم بالذي يوجهون الأمر (٤) إليهم ؛ فلذلك خص من ذكر ، والله أعلم.

والثالث : أن الكفرة قد أنكرت المعبود والرسول ، فجرى الخطاب فيمن ثبتت لهم المعرفة بذلك ، مع ما يحتمل : أن يكون هذا الخطاب (٥) في الشرائع ، وهي غير لازمة للكفرة (٦) ؛ فلذلك كان على ما ذكرت.

والرابع : ما أدخل في الخطاب أولي الأمر منا ، ولا يلزمهم طاعتهم ؛ لذلك خص المؤمنين ، وكأن المقصود بالآية بيان طاعة أولي الأمر منا ، وإلا كانت طاعة الله ـ تعالى ـ وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كان إيمانهم قد ثبت ، ولكن جمعت طاعة من ذكر ؛ ليعلم أن قد يكون بطاعة أولي الأمر طاعة الله ، والله الموفق.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في أ : أن كل ما حكم الحوادث.

(٣) في الأصول : اذهب إلى فرعون وملئه.

(٤) في ب : يوجهون إليه الأمر.

(٥) في أ : أن يكون في هذا الخطاب.

(٦) في أ : في الكفر.

٢٣٠

ومما يبين الذي ذكرت أن كل من عرف الإله ، عرف أن عليه طاعته بما عرف اسمه الذي سمت العرب كل معبود : إلها ، فمن عرف منهم الإله عرف أنه معبود ، ثم من عرف ما له عنده من الأيادي ، وعليه من النعم علم أن عليه شكره وطاعته به.

ثم من عرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عرف أن طاعته هي طاعة الله ؛ لأنه إليه يدعو ، وعن أمره ونهيه يأمر وينهي ؛ إذ هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه إلى الخلق ، وليس من عرف الله وعرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف أن عليه طاعة أولى الأمر بما لم يرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فبين الله ـ تعالى ـ ذلك في هذه الآية ؛ ليعلموا أن طاعتهم هي طاعة الله وطاعة [رسول الله](١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك هو الدليل على جعل الإجماع حجة ، وأن متبعهم هو مطيع لله ـ تعالى ـ إذ (٢) صير الله ـ تعالى ـ طاعتهم طاعته ، وهم في ذلك الإجماع.

وعلى ما ذكرت من شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ...) [النساء : ٨٠] وقوله ـ تعالى ـ : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية [النساء : ٦٥] صير الواجد حرجا مما قضى واجدا حرجا من قضاء الله ـ تعالى ـ في نفي حكم الإيمان ؛ وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) [النساء : ٦٤] أي : ليكون عليهم طاعته بأمر الله ـ تعالى ـ إذ هي طاعة الله أولا ؛ لتكون طاعته طاعة الله بإذنه وبأمره ، والله الموفق.

ثم اختلف في أولي الأمر ، ومعلوم أنهم هم الذين إليهم يرجع تدبير أمور الدين ، وعن آرائهم يصدر وهم الذين تضمنتهم آية أرجو أن يكون فيها الكفاية في تعريف المقصود بها ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] فجعل أولي الأمر من عندهم علم الاستنباط ، وشهد لهم بالعلم فيما رد إليهم ؛ فثبت أنهم الفقهاء المعروفون بالاستنباط ورعاية أمور الدين ، وفي هذا ـ أيضا ـ دلالة على إصابتهم فيما أجمعوا عليه ؛ إذ شهد لهم في الجملة بالعلم ؛ وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ...) الآية [آل عمران : ١١٠] ، وقوله تعالى ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...) الآية [البقرة : ١٤٣].

ثم كانت الشهادات والأمر والنهي للعلماء بهما ؛ ثبت أن الأمر في ذلك ينصرف إلى العلماء ، وأنهم إذا اجتمعوا على شيء بالأمر أو بالنهي ، يكون إجماعا ؛ لأن ذلك كذلك عند الله ـ تعالى ـ وتجوز شهادتهم على جميع العوام ومن تأخرهم ، ومن ذلك في الأمور

__________________

(١) في ب : رسوله.

(٢) في ب : إذا.

٢٣١

التي تجري بها البلية والعمل بها في العامة ، مما لا يحتمل خفاء مثله ، على ما ذكرت من الخاص أن ذلك كان عند أولئك الخاص على ذلك ؛ إذا لم يغيروا ولا شهدوا في ذلك بغيره ، وأمراء السرايا لو كانوا أهل البصر في الأمر مع العلم بالشرع والفتيا يلزم فيهم ذلك ؛ لأنهم صيروا في الباب أهل الأمر.

وأيد الأول أنهم العلماء ـ : قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ومعلوم أن على العوام لذي الإشكال والحاجة الردّ إلى أولى الأمر بما ذكرت من الآية ، فثبت أن هذا في تنازع العلماء ، وهو يوضح إبطال قول الروافض في جعل أولي الأمر إمامهم ، وإبطال قول من يجعل أولي الأمر كل أمير أو نحوه ، وإنما هم العلماء في كل نوع ، حتى يمكن (١) فيهم التنازع ، وإمامهم واحد لا معنى للتنازع فيهم ، والتنازع إنما يكون عن تدبر وبحث ونظر ، ولا معنى في ذلك للعوام الذين لا يعرفون الأصول والفروع ، والله الموفق.

ثم اختلف في تأويل قوله ـ تعالى ـ : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) :

فقال قوم : كأنه قيل : كلوا الأمر فيه إلى الله ـ تعالى ـ والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تجتهدوا فيه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) [الشورى : ١٠] تعالى ، ولأن الاختلاف كان على تأويل الكتاب والسنة ، فكيف يطلب من بعد فيهما ، وبعد الطلب حدث التنازع؟!.

وقال قوم : الاختلاف يقع في التأويل بقوله ـ عزوجل ـ : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) إلى ظاهر ذلك ، ولا تتأوّلوا فتختلفوا ؛ إذ الأول كان على التأويل.

وقال قوم : هذا كان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يظهر في ذلك نص الحكم والحق في ذلك ؛ فيكون الأمر الذي يتنازع فيه أولو الأمر لم يجز لأحد العمل إلا بالبيان ، ولهم وجه الوصول إلى البيان في الحقيقة ، فأمروا بذلك مع ما كان يجوز أن يكون التنازع في وقت لم يفرغ من بيان جميع ما بالخلق إليه حاجة بالكفاية ؛ إذ كان ذلك الوقت وقت حدوث الشرائع ، ووقت احتمال التناسخ وتبديل الأحكام ، فإن (٢) وقع التنازع [بين المجتهدين](٣) فلهم مع إشكال التنازع شبهة احتمال أن أصله لم ينزل ، وأن الذي يتضمن حكمه من المنصوص لم يبلغهم في ذلك ، فيجب في ذلك الرد إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالرد إلى

__________________

(١) في ب : يتمكن.

(٢) في ب : فإذا.

(٣) في ب : للمجتهدين.

٢٣٢

رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما بعده فقد فرغ من جميع أصول الحوادث التي يعلم الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنها تقع (١) بيان كفاية ؛ إذ لو لم يبين ذلك القدر لبقي (٢) تنازع لا ارتفاع له ، ولا يجوز الحكم ، ولكان لا يعلم الحادث الذي له أصل يطلب أولا ، وفي ذلك تمكين المعنى الذي يخرج إلى الرسالة مع ما قد تكلم جميع الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ ومن بعدهم إلى اليوم في الحوادث من غير أن يظهر عن أحد قول بأن هذا هو ما لم ينزل له الأصل ، فصار ذلك إجماعا في بيان أصول كل حادث ؛ فيجب طلبه في الأصول ، والله أعلم.

والأصل : أنه فيما يوكل إلى أحد يوكل إلى من يعلم الحكم ويملك إظهاره ، فلو كان للتنازع يجب الرد إلى الله ـ تعالى ـ وترك الحكم في ذلك بالاجتهاد ؛ فإذا يبطل أن يكون في الرد إليه (٣) علم بحكمه إلا للوقت الذي لا يحتاج إلى الحكم ؛ وهو يوم القيامة ؛ على أنه معلوم لو كان يرده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكان لا يدعهم على ما هم عليه من التنازع الذي هو أصل كل شين وفساد ؛ فعلى ذلك فيما يرد إلى الله ، سبحانه وتعالى.

وإذا علم ـ عزوجل ـ بجميع النوازل وبجميع ما بالخلق إليه حاجة فصارت النوازل كلها مردودات إليه ؛ فيجب أن يكون حكم فيها ؛ إذ قال [الله](٤) ـ عزوجل ـ : (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) [الشورى : ١٠] تعالى ، وإذا لم يحكم فيها لم يصر الحكم إليه ، بل لا حكم فيه إلى الله ـ تعالى ـ فلما وجب بالذي ذكرت أن يكون ذلك مما تضمنه البيان ـ لزم الاجتهاد.

ثم لو كان الحق عند التنازع الظاهر دون أن يطلب ـ على أصح التأويلات ـ دليل ، لكان لا يجوز التنازع أن يقع ؛ لأن الظاهر قد كان في أيديهم وهو حجة لا يحتمل أن يتركه أحد إلا بالدليل لو كان حجة ، وكان قد قام الدليل على لزوم العدول عن الظاهر بتأويل جميع أولي الأمر في ذلك ؛ فثبت أن دليل ذلك مطلوب يوجد ، ويتفقون عليه إذا أنصفوا ، وأنعموا النظر ، وأعرضوا عن حسن الظن ، ففريق من الأئمة على أن الذي يقوله هؤلاء يقتضي أحكام الحوادث كلها بيقين ؛ فثبت أن أحكامهم مودعات في المنصوص ؛ فصرن متعلقات بالمعاني ، لا بالظواهر.

ثم الأصل : أن العمل بالظواهر في محتمل المعاني ومختلف التأويلات ممّا فيه التنازع

__________________

(١) في ب : وقع.

(٢) في ب : ليبقى.

(٣) في أ : عليه.

(٤) سقط فى ب.

٢٣٣

في الأمة ، وللتنازع أمر بالرد ؛ فبعيد أن يرد إلى ما لم يثبت صحته ، بل في الظاهر وجه في ظاهر الاسم باللسان ، و (١) الظاهر من التفاهم في المعتاد ؛ نحو القول بأن اغسلوا وجوهكم ، أنه بأي شيء غسل يستحق اسم الغسل (٢) في اللغة ، لكن لما يغسل به عادة في الاستعمال إلى ذلك ينصرف الخطاب ، ويصير الظاهر في المعتاد به أولى من الظاهر في اللسان ، ويكون في ذلك منع الذي ذكر حتى يوضحه دليل ، أو يعلم أنه المعتاد ؛ فيكون ذلك دليلا ، والله أعلم.

ثم لا يحتمل التنازع فيما فيه المعتاد من التفاهم والعدول عنه إلا بدليل ؛ فيجب القول لمن عدل إن كان عنده (٣) دليل ؛ فيكون بما يوجب العمل منع ، والله أعلم.

ثم قيل في قوله ـ تعالى ـ : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بأوجه ثلاثة :

(أَطِيعُوا اللهَ) ـ تعالى ـ فيما أمر ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغ ، وأطيعوا الله فيما فرض ، والرسول فيما سن ، وأطيعوا الله ـ عزوجل ـ فيما أنزل ونص ، والرسول فيما بين (٤).

والأصل في معهود اللسان : أن الطاعة تكون في الائتمار ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطاع في جميع ما أمر ، لازم طاعته في ذلك وأمره ـ إذا ثبت أنه أمره (٥) ـ هو أمر الله ـ تعالى ـ وطاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعة الله ـ عزوجل ـ وله يجب به ظهور الخصوص والعموم والتناسخ جميعا ، وبه تبين الفرض والأدب وكل نوع ، وما يظهر ، فبالله ـ تعالى ـ ظهر على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كتابا كان ، أو تنزيلا كان ، أو تأويلا ، فالتقسيم بين الذي لله ـ عزوجل ـ والذي لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوجب الشبهة ، وتوهّم الاختلاف ، جل الله ـ عزوجل ـ أن يبعث رسولا يخالفه ، وبالله المعونة [والتوفيق](٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ خَيْرٌ) أي : ذلك الرد خير إلى ما ذكر.

ويحتمل : (ذلِكَ خَيْرٌ) أي : الائتلاف فيما أمكن فيه خير من الاختلاف وأحمد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي : عاقبة (٧).

__________________

(١) في ب : أو.

(٢) في ب : الفعل.

(٣) في ب : عند.

(٤) تقدم.

(٥) في ب : أمر.

(٦) سقط من ب.

(٧) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٠٦) (٩٨٨٩) عن السدي ، و (٩٨٩٠) عن ابن زيد ، و (٩٨٨٨) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣١٨) وزاد نسبته لابن المنذر عن قتادة ، وابن أبي حاتم عن السدي.

٢٣٤

وقيل : (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي : خبرا.

وفي حرف حفصة : «ذلك خير وأحسن ثوابا» (١).

وعن ابن عباس : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) قال : القرآن أحسن تأويلا.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)(٦٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ...) الآية.

ذكر في القصة : أن رجلين تنازعا : أحدهما منافق ، والآخر يهودي ، فقال المنافق : اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف ، وقال اليهودي : اذهب بنا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاختصما إلى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى لليهودى على المنافق ، فلما خرجا قال المنافق : انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب نختصم إليه ، فأقبل معه اليهودي إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال اليهودي : يا عمر ، إنا اختصمنا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى لي عليه ، فزعم أنه لا يرضى بقضائه ، وهو يزعم أنه يرضى بقضائك ، فاقض بيننا ، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ للمنافق : كذلك (٢)؟ قال : نعم ، فقال : رويدكما أخرج إليكما ، فدخل عمر ـ رضي الله عنه ـ البيت ، فاشتمل على السيف ، ثم خرج فضرب [به](٣) عنق المنافق (٤) ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)

والطاغوت ، قيل : هو كعب بن الأشرف (٥).

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٨ / ٥٠٦) (٩٨٨٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣١٨) وزاد نسبته لابن المنذر عن قتادة.

(٢) في ب : وكذلك.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه بنحوه ابن جرير (٨ / ٥١١ ـ ٥١٢) (٩٧٩٨ ، ٩٨٩٩) عن مجاهد بن جبر ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٠) وعزاه للثعلبي عن ابن عباس.

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥١٣ (٩٩٠٢) عن الضحاك ، و (٩٨٩٧) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٠).

٢٣٥

وقيل : (الطَّاغُوتِ) : هو اسم الكاهن (١).

وقيل : (الطَّاغُوتِ) : الكافر.

والطاغوت : هو كل معبود دون الله ـ تعالى ـ وعلى هذا التأويل خرج قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ ...) أي : جاء أهل النفاق يحلفون بالله : أنه لم يرد بالتحاكم إلى ذلك إلا إحسانا وتوفيقا.

وفي الآية دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك أن قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا) قصدوا أن يتحاكموا ولم يتحاكموا بعد ، فأخبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ؛ فعلموا أنه إنما علم ذلك بالله ، لكنهم لشدة تعنتهم وتمردهم لم يتبعوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أي : أمروا أن يكفروا بالطاغوت ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢٥٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) أي : يزين لهم الشيطان ليضلوا ضلالا بعيدا ؛ أي : لا يعودون إلى الهدى أبدا ، فيه إخبار أنهم يموتون على ذلك ، فكذلك كان ، وهو في موضع الإياس عن الهدى.

وقيل : بعيدا عن الحق.

وقيل : طويلا ، وهو واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ)

أي : إذا قيل لهم : تعالوا إلى حكم ما أنزل الله في كتابه ، وإلى الرسول ، وإلى أمر الرسول (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنته ـ (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)

والصدود : هو الإعراض (٣) في اللغة ، والصد : الصرف.

وقال الكسائي (٤) : يقرأ : «يصدّون» بكسر الصاد ، و «يصدون» بضم الصاد.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٠٨) (٩٨٩٢ ، ٩٨٩٣) عن الشعبي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣١٩) وزاد نسبته لابن المنذر عن الشعبي.

(٢) في ب : رسوله.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢١) وعزاه لابن المنذر عن عطاء.

(٤) سبق ذلك في سورة آل عمران آية (٩٩) ، وقرأ في سورة آل عمران الجمهور «تصدّون» ـ بفتح التاء ـ من صدّ يصدّ ـ ثلاثيا ـ ويستعمل لازما ومتعديا.

وقرأ الحسن «تصدّون» ـ بضم التاء ـ من : «أصدّ» مثل «أعد» ، ووجهه أن يكون عدّى «صدّ» اللازم بالهمزة ؛ كقول ذى الرمة : ـ

٢٣٦

وفي حرف حفصة : «وإذا دعوت الكافرين والمنافقين إلى ما أنزل الله رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا».

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً)(١)

يحتمل هذا ما ذكر في القصة الأولى : أن عمر ـ رضي الله عنه ـ لما قتل ذلك الرجل المنافق جاء المنافقون إلى الرسول (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحلفون بالله ما أراد ذلك الرجل (٣) إلا (إِحْساناً) أي : تخفيفا وتيسيرا عليك ؛ ليرفع عنك المؤنة ، (وَتَوْفِيقاً) إلى الخير والصواب.

وقيل : نزلت في المنافقين في بناء مسجد ضرار (٤) ؛ كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) [التوبة : ١٠٧].

__________________

 ـ أناس أصدّوا الناس بالسّيف عنهم

قال الفراء : يقال : صددته ، أصدّه ، صدّا. وأصددته : إصدادا.

وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشّبه في قلوب الضعفة من المسلمين ، وكانوا ينكرون كون صفته في كتابهم.

ينظر : الشواذ ٢٨ ، والمحرر الوجيز (١ / ٤٨١) ، والبحر المحيط (٣ / ١٦) ، والدر المصون (٢ / ١٧٣).

(١) قال القاسمي (٥ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩) : قال الرازي : ذكروا في تفسير قوله ـ تعالى ـ : (أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) وجوها :

الأول : إن المراد منه قتل عمر صاحبهم ؛ الذي أقر أنه لا يرضى بحكم الرسول عليه‌السلام ، فهم جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطالبوا عمر بدمه ، وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة ، وهذا اختيار الزجاج.

قلت : واختياره غير مختار ؛ لأن قصة قتل عمر لم ترو من طريق صحيح ولا حسن ، فهي ساقطة عند المحققين ، واستدلال الحاكم ، الذي قدمناه ، مسلم ، لو صحت.

الثاني : قال أبو علي الجبائي : المراد من هذه المصيبة ما أمر الله ـ تعالى ـ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أنه لا يستصحبهم في الغزوات ، وأنه يخصهم بمزيد الإذلال والطرد عن حضرته ، وهو قوله تعالى ـ : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً. مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً)[الأحزاب : ٦٠ ـ ٦١] وقوله : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً)[التوبة : ٨٣] وبالجملة ، فأمثال هذه الآيات توجب لهم الذل العظيم ، فكانت معدودة في مصائبهم ، وإنما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم.

الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : إنه ـ تعالى ـ لما أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت ، وكرهوا حكم الرسول ، بشر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه ، وإلى أن يظهروا له الإيمان به ، وإلى أن يحلفوا بأن مرادهم الإحسان والتوفيق.

(٢) في ب : رسول الله.

(٣) في ب : المنافق.

(٤) ذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٢٩٣).

٢٣٧

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) الآية في كل مصيبة تصيبهم ، وكل نكبة تلحقهم أن كانوا يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعتذرون (١) كما (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ ...) الآية [التوبة : ٩٤] ؛ لأنهم كانوا يميلون إلى حيثما كانوا يطمعون من المنافع من الغنيمة وغيرها ، إن رأوا النكبة والدبرة على المؤمنين مالوا إلى هؤلاء (٢) ، ويظهرون الموافقة لهم ؛ طمعا منهم ، ويقولون : إنا معكم ، وإن كانت [النكبة و](٣) الدبرة على الكافرين يظهرون الموافقة لهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤١] هذا كان دأبهم وعادتهم أبدا.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) قيل فيه بوجوه :

قيل : إلا تخفيفا وتيسيرا عليك.

وقيل : قالوا : تحاكمنا إليه على أنه إن وفق ، وإلا رجعنا إليك.

وفيه دلالة بطلان تحكيم الكافر والتحاكم إليه ، وذلك حجة لأصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ)(٤) من النفاق والخلاف غير ما حلفوا ، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، ولا تعاقبهم في هذه المرة ، (وَقُلْ لَهُمْ) : إن فعلتم مثل هذا ثانية عاقبتكم.

ويحتمل : أن يكون على الوعيد ، أي : لا تعاقبهم ؛ فإن الله ـ عزوجل ـ هو معاقبهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً)

قيل : أي : تخفيفا وتيسيرا عليك ، على أنه إن وفق للصواب وإلا رجعنا إليك ؛ إحسانا وتوفيقا ؛ لما لعل (٥) التحاكم إليهم يحملهم على الرجوع إلى دين الإسلام.

__________________

(١) في ب : فيعتذرونه.

(٢) في ب : أولئك.

(٣) سقط من ب.

(٤) قال القاسمي (٥ / ٢٧١) : قال بعض المفسرين : وثمرة الآية قبح الرياء والنفاق واليمين الكاذبة والعذر الكاذب ؛ لأنهم اعتذروا بإرادتهم الإحسان ، وذلك كذب. ثم قال : ودلت الآية على لزوم الوعظ والمبالغة فيه.

(٥) في أ : نقل.

٢٣٨

وقيل : (إِحْساناً) : يحسنون إلينا ويبروننا بفضول أموالهم.

وقيل : (وَتَوْفِيقاً) : بفضول أموالهم.

وقيل : (وَتَوْفِيقاً) : أي : صوابا (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)

قيل : أوعدهم وعيدا ؛ حتى إذا عادوا إلى مثله يعاقبون.

وقيل : ألزمهم الحجة في ذلك وأبلغها إليهم ؛ حتى إذا عادوا عاقبتهم.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٦٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ...) [الآية](٢).

يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (بِإِذْنِ اللهِ) وجوها :

قيل : (لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) أي : بمشيئة الله (٣).

وقيل : (لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) أي : بأمر الله (٤).

وقيل : (لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) أي : بعلم الله (٥).

ومن قال : (بِإِذْنِ اللهِ) ، بمشيئة الله ؛ أي : من أطاع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يطيعه بمشيئته ، وكذلك من عصاه إنما يعصيه بمشيئته ، من أطاعه أو عصاه فإنما ذلك كله بمشيئة الله.

ومن (٦) تأول : (إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) العلم ، يقول : إنه يعلم من يطيعه ومن يعصيه ، أي : كل ذلك إنما يكون بعلمه ، لا عن غفلة منه وسهو ، كصنيع ملوك الأرض أن ما يستقبلهم من العصيان والخلاف إنما يستقبلهم [لغفلة] منهم وسهو بالعواقب ، فأما الله ـ سبحانه وتعالى ـ إذا بعث رسلا بعث على علم منه بالطاعة لهم وبالمعصية ، لكنه

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (١ / ٤٤٧).

(٢) سقط من ب.

(٣) ذكره أبو حيان في تفسيره (٣ / ٢٩٥).

(٤) ذكره أبو حيان في تفسيره (٣ / ٢٩٥).

(٥) ينظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٥١٦).

(٦) في ب : وما.

٢٣٩

بعثهم لما لا ينفعه طاعة أحد ؛ ولا يضره معصية أحد ، فإنما ضرّ ذلك عليهم ، ونفعه لهم.

ثم قالت المعتزلة في قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) : أخبر أنه ما أرسل الرسل إلا لتطاع ، ومن الرسل من لم يطع ؛ كيف لا تبينتم أن من الفعل ما قد أراد ـ عزوجل ـ أن يفعل ، وأن يكون ، ولكن لم يكن على ما أخبر أنه ما أرسل من (١) رسول إلا ليطاع.

ثم من قد كان من الرسل ولم يطع.

قيل : هو ما ذكر في آخره : (إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) أي : بمشيئة الله ، فمن شاء من الرسل أن يطاع فقد أطيع ، ومن شاء ألا يطاع ، فلم يطع ، وكذلك من علم أنه يطاع فأرسله ليطاع فأطيع ، ومن علم أنه لا يطاع فلم يطع ، ومن أرسل أن يطاع بأمر ليكون عليه الأمر فذلك مستقيم ، ومن أرسل ليطاع بالأمر فلا يجوز ألا يطاع.

وقوله ـ أيضا ـ : (لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ)

قيل فيه : بأمر الله ، وقد مرّ بيانه.

وقيل : ليطاع بمشيئة الله ؛ فيطيعه كل من شاء الله.

وقيل : بعلم الله ، فهو فيمن يعلم أنه يطيعه ؛ إذ لا يجوز أن يعلم الطاعة ممن لا يكون.

والمعتزلة في هذا : أنه أخبر [أنه](٢) أرسل ليطاع ، ولم يطعه الكل ما يبعد أن يكون أراد ليطاع وإن كان لا يطيعه الكل.

فقلنا : إذا قال : (لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) ، والإذن يتوجه إلى ما ذكرت ؛ فعلى ما ذكرت كان ليطاع ممن يطيعه لا غير ؛ فحصل الأمر على الدعوى ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ومعلوم أن الصغار منهم لا يعبدون ، فخرج الخبر (٣) إلى الخصوص بالوجود ، لا أن كان في كل أمر ؛ فعلى ذلك أمر الإرادة فيمن وجد ، لا أنه في كل على أنه فيه بعلم ، وهو يرجع إلى بعض دون الكل ، فمثله الإذن على إرادة المشيئة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)

أي : علموا أن حاصل ظلمهم راجع إليهم ؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير

__________________

(١) زاد في ب : الرسول.

(٢) سقط من ب.

(٣) في أ : الجزاء.

٢٤٠