تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «وعزرتموهم : أعنتموهم» ، يعني : الأنبياء ، عليهم‌السلام (١).

(وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً)

أي : صادقا من كل أنفسكم ، ابتغى به وجه الله.

وقال بعضهم](٢) : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي : محتسبا طيبة بها نفسه.

ويحتمل قوله : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ، أي : اجعلوا عند الله لأنفسكم أيادي ومحاسن ؛ تستوجبون بذلك الثواب الجزيل ، ثم قال : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

وعد لهم تكفير ما ارتكبوا من المآثم إذا (٣) قاموا بوفاء ما أخذ الله عليهم من المواثيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)

قال بعضهم : فمن كفر بعد ذلك ، أي : بعد المواثيق والعهود التي أخذ عليهم (٤).

ويحتمل قوله : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) ، أي : من كفر ، (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ، أي : أخطأ قصد السبيل.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَبِما نَقْضِهِمْ)(٥)

أي : فبنقضهم ، قيل : ما زائدة ، فبنقضهم ميثاقهم.

(لَعَنَّاهُمْ)

يحتمل : (لَعَنَّاهُمْ) ، أي : طردناهم ، والملعون : هو المطرود عن كل خير.

ويحتمل (لَعَنَّاهُمْ) ، أي : دعونا عليهم باللعن.

(وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً)

بما نزع منها الرحمة والرأفة ؛ إذا نقضوا العهود وتركوا أمر الله ؛ لأن الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٧٣).

(٢) ما بين المعقوفين سقط من أ.

(٣) في ب : ثم إذا.

(٤) أخرج بن المنذر عن الضحاك في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) الآية [النساء : ١٣٦]. قال : يعني بذلك أهل الكتاب : كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل ، وأقروا على أنفسهم بأن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بعث الله رسوله ، دعاهم أن يؤمنوا بمحمد والقرآن ؛ فمنهم من صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبعه ، ومنهم من كفر. ينظر : كما في الدر المنثور (٢ / ٤١٤ ، ٤١٥).

(٥) قال القاسمي (٦ / ١٣٣) : وفي هذا دليل على تأكيد الميثاق وقبح نقضه ، وأنه قد يسلب المبعد من المعاصي ويورث النسيان ؛ ولهذا قال ـ تعالى ـ : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة : ١٣] وعن ابن مسعود : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. ا ه.

٤٨١

أخبر أنه جعل في قلوب الذين اتبعوا أمر الله وأطاعوا رسوله الرحمة والرأفة بقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) [الحديد : ٢٧] ؛ فإذا نزعت الرحمة من قلوبهم صارت قاسية يابسة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ)

يحتمل أن يكونوا يغيرون تأويله ويقولون : هذا من عند الله.

ويحتمل التحريف : تحريف النظم والمتلو ، ومحوه ، ويكتبون غيره.

(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)

قيل : ضيعوا كتاب الله بين أظهرهم ، ونقضوا عهده الذي عهد إليهم ، وتركوا أمره (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ، أي : وعظوا به ، وقيل : تركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم من اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ)

إخبار عن تمردهم في المعاندة ، وكونهم في الخيانة ، وإياس عن إيمانهم ، ثم استثنى فقال :

(إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ)

وهم الذين أسلموا منهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ)

ولا تكافئهم لما آذوك.

ثم قال بعضهم : هو منسوخ بآية القتال في سورة براءة ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...)(٣) الآية [التوبة : ٢٩].

ويحتمل (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) إلى أن تؤمر بالقتال ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى)

عن الحسن قال : قال (٤) للنصارى : (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) [الصف : ١٤] ؛ فقالوا : بل نكون

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٠٠) ، رقم (١١٦٠٤) ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٧٤).

(٢) قاله ابن عباس ، كما في تفسير الرازي (١١ / ١٤٨).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه عبد الرزاق في التفسير ، ومن طريقه الطبري (٤ / ٤٩٨) ، رقم (١١٥٩٦). وقاله ـ أيضا ـ مجاهد ، أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والطبري وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٧٤).

(٤) في الأصول : قالوا.

٤٨٢

نصارى ؛ فذلك قوله : (إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) : ما من أحد يعقل إلا وقد أخذ الله ـ عزوجل ـ عليه العهد والميثاق ، وقد أخذ الميثاق على المؤمنين بقوله ـ تعالى ـ : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ ...) الآية ، وأخذ الميثاق على اليهود بقوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ...) الآية ، وأخبر ـ أيضا ـ أنه قد أخذ الميثاق على النصارى في هذه الآية بقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) ، وقد تقدم ذكر الميثاق ومعناه في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)

يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : أي تركوا حظهم مما أمروا به من التوحيد بالله ، والإيمان بالرسل كلهم ، والتمسك بكتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ والوفاء بالعهود التي عهد إليهم ، فتركوا ذلك كله وضيعوا.

ويحتمل : (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ، أي : لم يحفظوا ما وعظوا به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)

قيل : (فَأَغْرَيْنا) : ألقينا بينهم العداوة والبغضاء ، قال الحسن : من حكم الله ـ تعالى ـ أن يلقى بينهم العداوة والبغضاء ، وأن يجعل قلوبهم قاسية ، ومن حكمه أن يكون بين المسلمين رأفة ورحمة.

وقال بعض المعتزلة : قوله ـ تعالى ـ : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) ، أي : خذلناهم ، وتركناهم. لكن (١) هذا كله منهم احتيال ، وفرار عما يلزمهم من سوء القول وقبحه ؛ فيقال لهم : إن شئتم جعلتم خذلانا ، وإن شئتم تركا ، اجعلوا ما شئتم ، ولكن هل كان من الله في ذلك صنع ، أو أضاف ذلك [إلى نفسه](٢) ولا صنع له في ذلك ، وذلك الحرف على غير إثبات الفعل فيه أو شيء ، حرف ذم لا يجوز أن يضيف ذلك إلى نفسه ولا فعل له في ذلك ولا صنع ؛ فدل أن له فيه صنعا ، وهو ما ذكرنا أن خلق ذلك منهم ؛ وكذلك فيما أضاف إلى نفسه من جعل الرأفة والرحمة في قلوب المؤمنين ؛ فلو لم يكن له في ذلك صنع لكان لا يضيف ذلك إلى نفسه ، وذلك الحرف حرف الحمد والمدح ؛ فدل أن له صنعا ، وهو أن خلق الرأفة والرحمة في قلوب المؤمنين ، وخلق القساوة والعداوة في

__________________

(١) في ب : ولكن.

(٢) في ب : لنفسه.

٤٨٣

قلوب أولئك الكفرة ، وبالله التوفيق.

وفي الآية دلالة إثبات رسالة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، وأخبر ألا تزال تطلع على خائنة منهم ، وكان كما قال ، على علم منهم أنه لا يطلع على [ما في](١) قلوبهم من الخيانة والقساوة وغير ذلك من الأمور ؛ فدل أنه علم بالله ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ)

في الآخرة.

(بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) في الدنيا ، وهو قول ابن عباس (٢).

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) الآية.

قال ـ عزوجل ـ : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) ، ولم يقل : فلان بن فلان ؛ ليعلم أن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ ليسوا يعرفون بالأسامي والأنساب ؛ ولكن إنما يعرفون بالآيات المعجزة والبراهين النيرة. وفيه دليل أن من آمن بالرسل كلهم ولم يعرف أسماءهم أنه يكون مؤمنا ، ولم يؤخذ علينا معرفة أسامي الرسل ؛ إنما أخذ علينا الإيمان بهم جملة ؛ ألا ترى أن الله ـ عزوجل ـ لم يذكر في الكتاب الأنبياء والرسل جميعا واحدا فواحدا ، ولا ذكر أسماءهم ؛ إنما ذكر بعضا منهم؟! أفترى أن من لم يعرف أسماءهم لم يكن مؤمنا؟! هذا بعيد.

وفيه دلالة إثبات رسالة [سيدنا](٣) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه قال : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) ، وهم إذا كتموا ذلك وأخفوه ـ أعني : الرؤساء ـ ولم يخبروا أحدا أنهم كتموا ذلك وأخفوه ، حتى يبلغ الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلف إلى أحد منهم ، أو نظر في كتابهم قط ؛ ليعلم ما كتموا ، فلما بين لهم ما قد

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وهكذا فسره الطبري. ينظر : جامع البيان (٢ / ٥٠١).

(٣) سقط من ب.

٤٨٤

كتموا وأخفوا من الناس ؛ دل ذلك لهم أنه إنما علم ذلك بالله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)

اختلف في تأويله وقراءته :

قال بعضهم : «نبين» بالنون ، «ونعفو عن كثير» ، أي : الله يبين لكم (١) كثيرا مما كنتم تخفون [من الكتاب](٢) ، ويعفو الله ـ تعالى ـ عن كثير إذا آمنوا ورجعوا عما كانوا يخفون ويكتمون.

وقال آخرون : يبين لهم كثيرا ، أي : جميع ما كانوا يخفون ، ويعفو عن جميع ذلك.

وأمّا عندنا فقوله : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) بالياء ، أي : رسول الله يبين لهم كثيرا ، ويعفو عن كثير ، على قدر ما أذن له البيان لهم ؛ لأن الرسل إنما يأتون بالبراهين والحجج على قدر ما أذن لهم ، لا بكل ما لهم من الآيات ؛ ألا ترى أن سحرة فرعون لما ألقوا حبالهم وعصيهم فصارت حيات ، لم يلق موسى عصاه حتى أذن الله له في ذلك؟! وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف : ١١٦ ـ ١١٧]. إنما أتى بالآية بعد ما أذن له بذلك ؛ فعلى ذلك قوله : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً) إنما يبين على قدر ما أذن له بالبيان والحجة ، والله أعلم.

وقوله : (مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) : يحتمل مما كنتم تخفون من الكتاب : من الشرائع والأحكام ، ويحتمل : كتموا ما في الكتاب من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته [الكريمة](٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ)

عن الحسن : النور والكتاب واحد ، وكذلك ما قال في قوله : (الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) [البقرة : ٢٣١] هما واحد.

وقال غيره : النور : هو محمد ، والكتاب : هو القرآن (٤) ، سماه : نورا ؛ لما يوضح ويضىء كل شيء على ما هو عليه حقيقة ؛ وعلى ذلك يخرج قوله ـ عزوجل ـ : (اللهِ نُورٌ

__________________

(١) في ب : لهم.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) ينظر : تفسير الرازي (١١ / ١٥٠).

٤٨٥

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية [النور : ٣٥] ، أي : به يتضح كل شيء على ما هو عليه في الحقيقة ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ)

يحتمل قوله : (يَهْدِي بِهِ اللهُ) ، أي : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل : بالقرآن ، أي : به يهدى الله (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) ، يحتمل : رضاه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سُبُلَ السَّلامِ)

السلام : قيل : هو الله (١) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) [الحشر : ٢٣] ، أي : به يهدي سبل السلام ، سمي سبلا ؛ لأن سبيل الله ـ وإن كان كثيرا في الظاهر ـ فهو في الحقيقة واحد ، وسمي سبل الشيطان سبلا وقال : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ...) الآية [الأنعام : ١٥٣] ؛ لأن سبله متفرقة مختلفة ، ليست ترجع إلى واحد ، وأما سبل الله ـ وإن كانت سبلا في الظاهر ـ فهي (٢) ترجع إلى واحد ، وهو الهدى والصراط (٣) المستقيم.

قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ)

كفروا كفر مكابرة ومعاندة ، لا كفر شبهة وجهل ؛ لأنهم أقروا أنه ابن مريم ، ثم يقولون : إنه إله ، فإذا كان هو ابن مريم وأمّه أكبر منه ؛ فمن البعيد أن يكون من هو أصغر منه إلها لمن هو أكبر منه وربا ؛ وإلا الكفر قد يكون بدون ذلك القول ، لكن التأويل هو ما ذكرنا : أنهم كفروا كفر معاندة ومكابرة مع إقرارهم أنه ابن مريم ؛ حيث جعلوا الأصغر إله الأكبر وربّا له.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٤ / ٥٠٣) عن السدي قال : «سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه ، وابتعث به رسله ، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به ، لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية.

(٢) في الأصول : فهو.

(٣) في ب : والطريق.

٤٨٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)

أي : لا أحد يملك من دون الله شيئا ، إن أراد إهلاك (الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ...) الآية ، أي : لو كان إلها ـ كما تقولون ـ لكان يملك دفع الإهلاك عن نفسه وعن أمه ومن عبدهما في الأرض.

وقيل : فمن يملك أن يمنع من الله شيئا من عذابه إن أراد أن يهلك المسيح بعذاب ، وأمّه ومن في الأرض جميعا بعذاب أو بموت؟! وهما واحد (١).

ثم عظّم نفسه عن قولهم ونزهها حين قالوا : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ، فقال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

أي : كلهم عبيده وإماؤه ، يخلق ما يشاء من بشر وغير بشر.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

أي : قادر على خلق الخلق من بشر ومن غير بشر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [الآية](٢).

يحتمل أن يكون هذا القول لم يكن من الفريقين جميعا ، ولكن كان من أحد الفريقين هذا ، ومن الفريق الآخر غيره ، وكان كقوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] كأن هذا القول : كان كل فريق نفي دخول الفريق الآخر الجنة ، لا أن قالوا جميعا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى).

ويحتمل : أن كان من النصارى (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) ؛ لما ذكر في بعض القصة أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ قال لقومه : «أدعوكم إلى أبي وأبيكم الذي في السماء» ؛ فقالوا عند ذلك : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) ، وكان من اليهود : «نحن أحباء الله».

ويحتمل : أن يكون هذا القول كان منهما جميعا ، قال كل واحد من الفريقين : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).

وقيل : إنهم قالوا ذلك في المنزلة والقدر عند الله تعالى ، أي : لهم عند الله من المنزلة والقدر كقدر الولد عند والده ومنزلته عنده ، ولا يعذبنا ، فقال : قل يا محمد :

(فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ)

إن كان ما تقولون حقّا فلم يعذبكم؟! حيث جعل منكم القردة والخنازير ، ولا أحد من

__________________

(١) ينظر : تفسير الطبري (٤ / ٥٠٤).

(٢) سقط من ب.

٤٨٧

الخلق يحتمل قلبه أن يكون ولده أو صديقه قردا أو خنزيرا.

أو يقال : لا أحد يحتمل قلبه تعذيب ولده وحبه ـ بذنب يذنبه ـ بالنار ، وقد أقررتم أنكم تعذبون في الآخرة قدر ما عبد آباؤكم العجل.

ثم قال : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)

أي : من اتخذ ولدا وحبّا أن يتخذ من شكله ومن جنسه ؛ فالله ـ تعالى ـ إنما خلقكم من بشر ؛ كغيركم (١) من الخلق ، وأنتم وهم في ذلك سواء ، فكيف خصصتم أنفسكم بذلك؟!.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)

دليل أن من رفع أحدا من الرسل فوق قدره في الكفر كمن حط عن قدره ومرتبته.

وقوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ)

أي : من تاب وأسلم.

(وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ)

من دام على الكفر ، ومات عليه (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما)

أي : كلهم عبيده وإماؤه وخلقه ؛ يعظم نفسه عن قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، ولا أحد يتخذ عبده ولده ولا حبّا ؛ فأنتم إذا أقررتم أنكم عبيده ، كيف ادعيتم البنوة والمحبة؟! والله أعلم.

وفي الآية دلالة إثبات رسالة [نبينا](٣) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم قالوا قولا فيما بينهم ، ثم أخبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ)

يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (يُبَيِّنُ لَكُمْ) ما كنتم تكتمون من نعته وصفته (٤) ، ويحرفون ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

ويحتمل : (يُبَيِّنُ لَكُمْ) مما [لكم وعليكم](٥) من الأحكام والشرائع ، ويحتمل :

__________________

(١) في الأصول : كغيره.

(٢) ينظر : تفسير الطبري (٤ / ٥٠٧) ، رقم (١١٦١٨).

(٣) سقط من ب.

(٤) ينظر : تفسير الطبري (٤ / ٥٠٢).

(٥) في ب : عليكم وعليكم.

٤٨٨

(يُبَيِّنُ لَكُمْ) ما كان عليه الأنبياء والرسل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)

قيل : على انقطاع من الرسل من لدن إسرائيل إلى عيسى ـ عليه‌السلام (١) ـ لأنه قيل : إنه كان رسول على أثر رسول : لم يكن بين رسولين انقطاع ؛ فأخبر ـ عزوجل ـ أنه بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حين فترة من الرسل.

وقيل : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) ليس على انقطاع منهم ؛ ولكن على ضعف أمور الرسل ودروس آثارهم (٢) ، وهو من الفتور ، يقال : فتر يفتر فتورا. يخبر ـ والله أعلم ـ أنه إنما بعث الرسول بعد ما درس آثار الرسل ، وضعف [أمورهم] ووقع فيما بينهم اختلاف للضعف ؛ ليبين لهم ما ذكر : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ)(٣).

يقطع احتجاجهم بذلك ، وإن لم يكن لهم في الحقيقة احتجاج ، وهو كما قال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] ، وكقوله : (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) [الأعراف : ١٦٩].

بشير بالجنة [لمن أطاع](٤) ، ونذير بالنار لمن عصاه.

فقد جاءكم بشير ونذير. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

يحتمل : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من بعث الرسل على فترة منهم ، وإحياء ما درس من آثار الرسل ، وما ضعف من رسومهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥)

__________________

(١) قال بنحوه قتادة ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٠٧) ، رقم (١١٦٢٠) ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٧٧).

(٢) ينظر : تفسير الرازي (١١ / ١٥٣).

(٣) زاد في ب : أي لا يقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير.

(٤) سقط من ب.

٤٨٩

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) الآية.

يحتمل قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) : ما ذكر من بعث الرسل والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ على فترة منهم ، ويحتمل : ما ذكر (١) على أثره ، وهو قوله : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ؛ كأنه يقول : اشكروا نعمتي التي أنعمت عليكم من جعل الأنبياء فيكم ، ولم يكن ذلك لأمة من الخلق (٢) ، وجعلكم ملوكا تستنصرون من الأعداء ؛ لأن الملوك في بني إسرائيل هم الذين كانوا يتولون القتال وأمر الحرب مع الأعداء ؛ كقوله : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٦] ، فأخبر أنه جعل فيهم الأنبياء يعلمونهم أمور الدنيا والآخرة ، ويحتاج غيرهم إلى معرفة ذلك ، وإنما يعرفون ذلك بهم ، وجعل فيهم ملوكا يستنصرون من الأعداء ويقهرونهم ؛ فيعزون ويشرفون في الدنيا والآخرة.

وقوله : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)

يحتمل : ما ذكر من جعل الأنبياء والملوك فيهم ، ويحتمل : ما رزقهم في التيه من المنّ والسلوى وغيره من النعم (٣).

وقيل في قوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) ، أي : جعلكم بحيث تملكون أنفسكم ، وكنتم قبل ذلك يستعبدكم فرعون ، ويتخذكم خولا لنفسه (٤) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)

قيل : قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، أي : كتب الله عليكم قتال أهل تلك الأرض ؛ ليسلموا ، وهو كقوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة : ١٩٣] ، يعني : الكفر ؛ فعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قتال أهلها ؛ ليسلموا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَكُمْ) ، أي : عليكم ، وهذا جائز في اللغة ؛ كقوله : (وَإِنْ

__________________

(١) في ب : ذكره.

(٢) ينظر : تفسير الطبري (٤ / ٥٠٩).

(٣) أخرجه الطبري (٤ / ٥١٢) ، رقم (١١٦٤٦) من طريق مجاهد عن ابن عباس.

(٤) قاله السدي ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥١١) ، رقم (١١٦٣٩).

٤٩٠

أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ، أي : فعليها.

وقيل : قوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) فتحها ، إن أطعتم أمر الله فيما أمركم به ، وانتهيتم عما نهاكم عنه ، وأجبتم رسوله إلى ما دعاكم إليه ، أي : إذا فعلتم ذلك يفتح الله تلك الأرض ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) ، قيل : هي الشام (١) ، وقيل : غيرها ، ثم سماها مرة مقدسة ، ومرة (٢) : مباركة ، وهو كقوله : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١] ، ثم يحتمل قوله : (بارَكْنا حَوْلَهُ) بكثرة الثمار والفواكه ، وسعة عيشها ، وكثرة ريعها. ويحتمل : أن سماها مباركة ؛ لما كانت معدن العباد والزهاد ومنزهة عن الشرك وجميع الفواحش والمناكير ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ)

هذا ـ والله أعلم ـ كناية عن الرجوع عن الدين ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) [آل عمران : ١٤٤] ، وإنما صار ذلك كناية عن الرجوع عن الدين ـ والله أعلم ـ لما ذكرنا في أحد التأويلين : أنه كتب عليهم قتال أهل تلك الأرض ، فتركوا أمر الله وطاعته.

ويحتمل : أن وعد الله لهم فتح تلك الأرض ، فلم يصدقوا رسوله فيما أخبر عن الله من الفتح لهم ؛ فكفروا بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ)

يحتمل : أن يكون ذلك لهم في الآخرة ، ويحتمل : في الدنيا منهزمين.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ)

أي : لا ترجعوا وراءكم ، ولكن ادخلوها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ)

يحتمل : أن يكون هذا ـ والله أعلم ـ لما رأوا فرعون مع قربه (٣) وكثرة جنوده ، مع ادعاء ما ادعى من الربوبية لنفسه ـ لعنة الله عليه وعلى آله ـ لم يقدر على فتح تلك

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه عنه عبد الرزاق في التفسير (١ / ١٨٦) ، ومن طريقه الطبري (٤ / ٥١٣) ، رقم (١١٦٥٠) ، وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٧٨).

(٢) في ب : وهي.

(٣) في أ : قومه.

٤٩١

الأرض ، وعجز عن غلبة أهلها وقهرهم وجعلهم تحت يديه ـ فرأي (١) هؤلاء ألا يقدرون على ذلك مع ضعفهم في أنفسهم ، وقلة عددهم ؛ وقصور أسبابهم ؛ لذلك امتنعوا عن الدخول فيها إلا بعد خروج من فيها من الجبارين عنها ؛ خوفا منهم على أنفسهم ، لكن موسى ـ عليه‌السلام ـ كان وعد لهم الفتح والنصرة مع ضعفهم وقلة عددهم ، إذا دخلوا فيها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) اختلف في الرجلين اللذين قالا ذلك لهم :

قال قائلون : كان ذانك الرجلان من أولئك الذين بعثهم موسى ـ على نبينا وعليه الصلاة والسلام ـ إلى أهل تلك الأرض ، وأمرهم بالدخول فيها ، وهما ممن قد أنعم الله عليهما من تصديق ما وعد لهم موسى من الفتح والنصرة (٢) ، فقال : (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) صدقوا موسى بما وعد لهم من الفتح (٣).

وقال قائلون : كان ذانك الرجلان اللذان قالا ذلك لهم هما من أهل تلك الأرض ؛ لأنهم إذ (٤) سمعوا أن موسى قصد نحوهم خافوا من ذلك ؛ فذلك معنى قوله : (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالإسلام ؛ فقالا : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) ؛ لما علموا من خوف أهلها من موسى ومن معه وفزعهم (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

أي : مصدقين بوعد موسى بالفتح لكم والنصر.

ويحتمل : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مسلمين ؛ فإن كل من توكل على الله ووثق به ، نصره الله ، وجعله غالبا على عدوه ، والله أعلم.

وقوله : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) : كأن المراد من الباب ليس نفس الباب ؛ ولكن جهة

__________________

(١) في الأصول : رأوا.

(٢) في ب : النصر.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥١٧) ، رقم (١١٦٧١) ، وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٧٩) ، وقاله أيضا ـ مجاهد ، أخرجه عنه الطبري (١١٦٦٧) وما بعده ، وقاله كذلك السدي ، أخرجه الطبري (١١٦٧٢) ، والرجلان هما : «يوشع بن نون» ، و «كالب بن يوفنا».

(٤) في الأصول : إذا.

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥١٨) ، رقم (١١٦٧٩) ، وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٧٩) ، وقاله سعيد بن جبير ، أخرجه عنه ابن المنذر ، كما في الدر (٢ / ٤٨٠). قال الطبري : إجماع الحجة في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكالب.

٤٩٢

من الجهات التي يكون الدخول عليهم من تلك الجهة أرفق وأهون ؛ كأنه قال : ادخلوا عليهم جهة كذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها).

من تعرض لرسول من الرسل بمثل ما تعرض هؤلاء لموسى : (يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) ـ يكفر ؛ لأن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد وعد لهم النصر والفتح إذا دخلوها ، فقالوا : (لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً) لم يصدقوا موسى ـ عليه‌السلام ـ فيما وعد لهم من الفتح والنصر ، ومن كذّب رسولا من الرسل بشيء مخبر ؛ فهو كافر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ...) الآية : دل قوله ـ تعالى ـ : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) على أن الأمر بالدخول فيها أمر بالقتال مع الأعداء ، حين قال (١) : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، وأن المكتوب عليهم القتال معهم ؛ لأنهم قالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) ، والله أعلم.

ثم قيل في قوله ـ تعالى ـ : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) بوجهين :

قيل : اذهب أنت وربك فقاتل وحدك ، وليعينك ربك وينصرك ؛ لأنك تقول : إن الله قد وعدك فتحها والنصر عليهم ، فالواحد والجماعة فيه سواء ، إذا كان الله ناصرك ومعينك (٢).

والثاني : اذهب أنت وأخوك بربك فقاتلا (٣) ؛ لأنهما كانا جميعا مأمورين بتبليغ الرسالة ؛ لأنهما إذا قاتلا إنما قاتلا بربهما ، وتجوز الإضافة إليه والنسبة لما كان يفعل به ؛ كقوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] هم المباشرون للقتل والرمي في الحقيقة ، لكنه أضيف

__________________

(١) في ب : قالوا.

(٢) قال الإمام الطبري : وكان بعضهم يقول في ذلك : ليس معنى الكلام : اذهب أنت وليذهب معك ربك فقاتلا ؛ ولكن معناه : اذهب أنت يا موسى وليعنك ربّك ؛ وذلك أن الله ـ عز ذكره ـ لا يجوز عليه الذهاب. وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له ـ لو كان الخبر عن قوم مؤمنين ، فأما قوم أهل خلاف على الله ـ عز ذكره ـ ورسوله : فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله ـ عزوجل ـ وافتروا عليه ـ إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم. ينظر : جامع البيان (٤ / ٥٢١).

(٣) قال الرازي ـ بعد أن حكي أوجها في تفسير تلك الآية ـ : والمراد بقوله : (وَرَبُّكَ) : أخوه هارون ؛ وسموه ربّا لأنه كان أكبر من موسى. قال المفسرون : قولهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) : إن قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان ؛ فهو كفر ، وإن قالوه على وجه التمرد عن الطاعة ؛ فهو فسق ، ولقد فسقوا بهذا الكلام ؛ بدليل قوله ـ تعالى ـ في هذه القصة : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [المائدة : ٢٦]. ينظر : مفاتيح الغيب (١١ / ١٥٨).

٤٩٣

إليه ؛ لما بنصره ومعونته قتلوا ورموا ؛ فعلى ذلك الأول ـ والله أعلم ـ أضيف إليه ؛ لما بمعونته ونصره يقاتلون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)

أي : ليس يريد به القعود نفسه ، ولكن ـ والله أعلم ـ إنا هاهنا منتظرون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ...) [الآية](١) يحتمل وجهين :

يحتمل : أني لا أملك في الإجابة والطاعة لك إلا نفسي [وأخي ـ أيضا ـ](٢) لما عرفت بالعصمة التي أعطيت له أن يجيبنى ويطيعنى في ذلك ، وأما هؤلاء : فإني لا أملك إجابتهم ولا طاعتهم ، (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

ويحتمل : (إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) لا يملك ـ أيضا ـ إلا نفسه ؛ على الإضمار ؛ لأنهما كانا جميعا رسولين مأمورين بتبليغ الرسالة بقوله ـ تعالى ـ : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ...) الآية [طه : ٤٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)

قال قائلون : إنما طلب موسى ـ عليه‌السلام ـ الفرقة بينه وبين الذين أبوا الدخول فيها ، وقالوا : (لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً).

وقال قائلون : إنما طلب [موسى](٣) الفرقة بينهم وبين الجبابرة الذين كانوا في الأرض ، التي أمروا بالدخول فيها والقتال معهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ...) الآية.

قوله تعالى : (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) : من الحرمان والمنع ، هو ـ والله أعلم ـ ليس على التحريم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص : ١٢] ليس هو من التحريم الذي هو تحريم حكم ، ولكن من المنع والحرمان ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

وقال قائلون : محرمة عليهم أبدا لم يدخلوها حتى ماتوا ، لكن ولد لهم أولاد ؛ فلما ماتوا هم دخل أولادهم ؛ لأنهم قالوا : (لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً)(٤).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : وَأَخِي وأملك أخى أيضا.

(٣) سقط من ب.

(٤) قاله قتادة ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٢٤) ، رقم (١١٦٩٩) ، وابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٤٨١).

٤٩٤

وقال قائلون : قوله تعالى : (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) : أي : التوبة محرمة عليهم ، لن يتوبوا أبدا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) : فالمدة هاهنا للتيه ـ والله أعلم ـ لا لقوله تعالى : (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ).

ثم اختلف في التيه : قال قائلون : لم يكن موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ معهم في التيه ؛ لأن ذلك لهم من الله كان عقوبة ، ولا يحتمل أن يكون الله ـ عزوجل ـ يعذب رسوله بذنب قومه ؛ لأنه لم يعذب قوما بتكذيب الرسول قط إلا من بعد ما أخرج الرسول من بين أظهرهم ؛ فعلى ذلك لا يحتمل أن يكون موسى يعذب بعصيان قومه ، والله أعلم (١).

وقال آخرون : كان موسى معهم في تلك الأرض مقيما فيها ، ولكن الحيرة والتيه كانت لقومه ، قيل : كانوا يرتحلون ثم ينزلون من حيث أصبحوا أربعين سنة ، وكان ماؤهم في الحجر الذي كان مع موسى ـ عليه‌السلام ـ فكان إذا نزل [ضربه](٢) موسى بعصاه (٣) ، (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة : ٦٠] ، لكل سبط عين ، ولم يكن حل بموسى مما كان حل بقومه قليل ولا كثير ؛ إنما أمر بالمقام فيها ؛ فأقام من غير أن كان به حيرة (٤).

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)(٣٢)

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (١١ / ١٥٩).

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : بعصا.

(٤) قاله بنحوه الربيع بن أنس ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٢٣) ، رقم (١١٦٩٣). وقال الرازي : وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه إلا أنه ـ تعالى ـ سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما. ينظر : مفاتيح الغيب (١١ / ١٥٩).

٤٩٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً)

[قال الحسن وغيره : لم يكونا ابني آدم من صلبه ، ولكن كانا رجلين من بني إسرائيل قربا قربانا](١) ؛ فتقبل قربان أحدهما ، ولم يتقبل قربان الآخر (٢) ، وإن نسبهما إلى آدم ؛ لأن كل البشر ولد آدم ينسب إليه ، كقوله ـ تعالى ـ : (يا بَنِي آدَمَ) افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا ، ليس يريد به ولد آدم لصلبه ، ولكن البشر كله ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

وأمّا ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ والكلبي وغيرهما من أهل التأويل : فإنهم قالوا : «إنهما كانا ابني آدم لصلبه : أحدهما يسمى قابيل ، والآخر هابيل ، وكان [لكل] واحد منهما أخت ولدت معه في بطن واحد ، وكانت إحداهما جميلة ، والأخرى دميمة (٣) ، فأراد كل واحد منهما نكاح الجميلة منهما ، فتنازعا في ذلك ؛ فقال أحدهما لصاحبه : تعال حتى نقرب قربانا ، فإن تقبل قربانك فأنت أحق بها ، وإن تقبل قرباني فأنا أحق بها ، فقربا قربانهما ، فقبل قربان هابيل ، ولم يتقبل قربان قابيل ؛ فحسده ؛ فهم أن يقتله ؛ فذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(٤) ، ولكن لا ندري كيف [كانت](٥) وفيما كانت القصة؟ وكانا ابني آدم لصلبه ، أو لم يكونا ، وليس لنا إلى معرفة هذا حاجة ، إنما الحاجة في هذا إلى معرفة ما فيه من الحكمة والعلم ؛ ليعلم ذلك ويعمل به ، فهو ـ والله أعلم ـ ما ذكر ـ عزوجل ـ فيما تقدم من قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) [المائدة : ١٥] ، وقال في آية أخرى : (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) [المائدة : ١٩] فكأن هذا ـ أعني : نبأ ابنى آدم ـ كان (٦) في كتبهم ، فأمر ـ عزوجل ـ رسوله أن يتلو عليهم ذلك على ما كان ، ويبين لهم ما في كتبهم ؛ لأنه قال : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) و (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) ليعلموا أنه إنما علم ذلك بالله ، لا بأحد من البشر ؛ لأنه إنما بعث عند دروس (٧) آثار الرسل ، وانقطاع العلوم ، فبين لهم واحدا بعد واحد ، ففيه دليل إثبات رسالة

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) أخرجه الطبري (٤ / ٥٣٠) ، رقم (١١٧٢٢) ، وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٨٤).

(٣) في ب : ذميمة.

(٤) أخرجه الطبري (٤ / ٥٢٩) ، رقم (١١٧١٨) عن ابن عباس وابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) سقط من ب.

(٦) في ب : كاف.

(٧) درس درسا ودروسا : عفا وذهب أثره. لسان العرب (درس) ، المعجم الوسيط (١ / ٢٧٩).

٤٩٦

[سيدنا](١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وسورة المائدة كان أكثرها نزلت في مخاطبة أهل الكتاب ؛ لأنه يقول في غير موضع : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) و (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) يدعوهم إلى الإيمان بالرسل ، ونزل سورة الأنعام في مخاطبة أهل الشرك ؛ لأن فيها دعاء إلى التوحيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ) : يحتمل وجهين :

يحتمل : (بِالْحَقِ) على ما نزل.

ويحتمل : (بِالْحَقِ) المعلوم المعروف على ما كانوا ؛ ليعلموا أنه بالله علم ، وأنه علم سماوي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) : هذا يحتمل وجهين :

يحتمل : إنما يتقبل الله قربان من اتقى الشرك ، لا يتقبل قربان من لم يبق (٢) ، وإلى هذا يذهب الحسن ، وقال : كانا رجلين من بني إسرائيل : أحدهما مؤمن ، والآخر منافق ، فتنازعا في شيء فقربا ليعلم المحق منهما ، فتقبل من المؤمن ولم يتقبل من الآخر.

وقال أبو بكر الأصم : كانا رجلين مصدقين ؛ لأن الكافر لا يقرب القربان ، لكن أحدهما كان أتقى قلبا فتقبل قربانه ، والآخر لا فلم يتقبل قربانه ، والتقوى شرط في قبول القرابين وغيرها من القرب ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، وقوله : والكافر لا يقرب القربان ، يقال : قد يقرب لما يدعى من الدين أن الذي هو عليه حق ؛ ليظهر المحق منهم ؛ ألا ترى أنهم يدّعون أن [فيهم](٣) من هو أحق بالرسالة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، وغير ذلك [من](٤) أباطيل قالوها ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ)

قال بعض الناس : إن الواجب علينا أن نفعل مثل فعل أولئك ، لا ينبغي لمن أراد أحد قتله أن يقتله ، ولكن يمتنع عن ذلك على ما امتنع أحد ابني آدم ؛ حيث قال له : (لَأَقْتُلَنَّكَ) ، فقال له الآخر : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) ، واحتجوا في ذلك

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) قاله الضحاك ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٣١) رقم (١١٧٢٧).

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من ب.

٤٩٧

بأخبار رويت : روي عن أبي موسى الأشعري ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا تواجه (١) المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه ، فهما فى النّار» ، فقيل : يا رسول الله ، أرأيت المقتول؟! فقال : «إنّه أراد أن يقتل صاحبه» (٢).

وعن سعد بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن استطعت أن تكون عبدا لله ، ولا تقتل أحدا من أهل القبلة فافعل» (٣).

وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ ابني آدم ضربا لهذه الأمّة مثلا ، فخذوا بالخير منهما» (٤).

وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف يا أبا ذرّ إذا كانت بالمدينة قتل بغير حجارة؟» قال : قلت : ألبس سلاحي ، قال : «شاركت القوم إذن» قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله؟ قال : «إن خشيت أن يبهرك شعاع السّيف فألق ناحية ثوبك على وجهك ، يبوء بإثمك وإثمه» (٥) يحتجون بمثل هذه الأخبار.

وقال آخرون : له أن يقاتل إذا لم يتعظ صاحبه بالله ، وأراد قتله ، فهو في سعة من قتل من يريد أن يبتدئه بالقتل ؛ استدلالا بما أمر الله ـ تعالى ـ بقتال أهل البغى ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] ، فصار الحكم في أمتنا ما أمرهم الله به من قتال البغاة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] ، على أن قتال المشركين كان محظورا في أول مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبل ذلك بأوقات ، وقالوا : فغير منكر أن يكون الوقت الذي ذكره الله في هذه الآية كان قتال المشركين وتجريد السيف فيه محظورا ، فأذن الله في قتالهم وقتال أهل البغي ، فصار الحكم في أمتنا ما أمر الله [به](٦) من قتال البغاة والمشركين ، والله أعلم.

وأما ما احتجوا به من الأخبار التي رويت من اقتتال المسلمين وأشباهها : فإن ذلك ، ـ

__________________

(١) في الأصول : توجه.

(٢) أخرجه البخاري (١٢ / ١٩٩) كتاب الديات : باب قول الله : (وَمَنْ أَحْياها) ، رقم (٦٨٧٥) ، ومسلم (٤ / ٢٢١٣) كتاب الفتن : باب «إذا تواجه المسلمان» (١٤ / ٢٨٨٨) من حديث أبي بكرة.

(٣) أخرجه أحمد في المسند (٥ / ١١٠) من حديث خباب بن الأرت (٥ / ٢٩٢) من حديث خالد بن عرفطة ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢٧٥) من طريق خالد ، وعزاه لأحمد والحاكم.

(٤) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (١ / ١٨٧) ، والطبري (١١٧٧١) عن الحسن مرسلا.

(٥) أخرجه أبو داود (٤ / ١٠١) كتاب الفتن : باب النهي عن السعى في الفتنة (٤٢٦١) ، وابن ماجه (٥ / ٤٤٧ ، ٤٤٨) كتاب الفتن : باب التثبت في الفتنة (٣٩٥٨) ، والطيالسي (٤٥٩) ، وأحمد (٥ / ١٤٩ ، ١٦٣) ، وابن حبان (٥٩٦٠ ، ٦٦٨٥) ، والحاكم (٤ / ٤٢٤) ، والبيهقي (٨ / ١٩١).

(٦) سقط من ب.

٤٩٨

والله أعلم ـ ما احتجوا به من الأخبار التي رويت في حال الفتن ، وقتال الفئتين اللتين لا إمام فيهما يستحق الإمامة ؛ لحمية أو أمر جاهلية أو عصبية ، فهما على خطأ ، فالصواب في مثله ما ذكر من الأخبار.

وأما إذا كان للناس إمام هدى : فقد عقدوا له البيعة ، فخرجت عليه خارجة ظالمة ، فقتالهم واجب ؛ اتباعا لعلي ـ رضي الله عنه ـ ومن حارب معه من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل البغي والخوارج ، فأما قتال الخوارج : فهو كالإجماع ؛ لأن جميع الطوائف قد حاربوهم ، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إلى هذا يذهب من رأى قتل من يهم بقتله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) : أن ترجع بإثمي بقتلك إياي ، وإثمك الذي عملته قبل قتلي (١).

قال القتبي : (بِإِثْمِي) : أن تقتلنى ، (وَإِثْمِكَ) : ما أضمرت في نفسك من الحسد والعداوة.

وقال الحسن : ترجع (بِإِثْمِي) بقتلك إياي ، (وَإِثْمِكَ) يعني : الكفر الذي كان عليه ؛ لأنه يقول : كان أحدهما كافرا فقتل صاحبه ؛ فيرجع بالكفر ، والله أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) : يجوز أن يتكلم بالإرادة على غير تحقيق الفعل ؛ كقول القائل : أريد أن أسقط من السطح ، وهو لا يريد سقوطه منه ؛ وكقوله : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) [الكهف : ٧٧] والجدار لا فعل له ، فإذا جاز إضافة الإرادة إلى من لا فعل يكون منه ؛ دل أنه ليس على حقيقة الفعل ، ولكن على ما يقع أنه يكون كذلك ، ويئول أمره إلى ذلك.

أو أراد أن يبوء بإثمه لما علم منه أنه يقتله لا محالة ، ويعصي ربه ، أراد (٢) أن يبوء بإثمه ؛ وذلك جائز ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ)(٣) : قال القتبي : أي شايعته ،

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه عنه عبد الرزاق في تفسيره (١ / ١٨٧) ، والطبري (٤ / ٥٣٣) ، رقم (١١٧٣٤) ، وقاله مجاهد ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٣٣) ، رقم (١١٧٣٧) ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٨٥) ، وقاله ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة ، كما في تفسير الرازي (١١ / ١٦٣) ، وهو قول أكثر العلماء ، قاله القرطبي في تفسيره (٦ / ٩١).

(٢) في ب : أو أراد.

(٣) قال القرطبي (٦ / ٩٣) : تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد ، حتى أنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة وأمسه به رحما وأولاهم بالحنو عليه ودفع الأذية عنه.

٤٩٩

وانقادت له (١).

وقال أبو عوسجة : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) : أي : أمرته وزينت له (٢).

وقال مجاهد : أي : شجعته وأعانته (٣) ، وكله يرجع إلى واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، وقال في آية أخرى : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة : ٣١] : يحتمل : وجهين :

يحتمل : أصبح تائبا ؛ لأن الندامة توبة ، وذلك أن من أذنب ذنبا فندم عليه كان ذلك منه توبة ، فإن لم يكن توبة فتأويل قوله : (فَأَصْبَحَ) : [أي](٤) : يصبح في الآخرة من النادمين ؛ وهو كقوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] أي : يقول في الآخرة لا أن قال له ؛ فعلى ذلك قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) : أي : يصبح من النادمين في الآخرة ـ والله أعلم ـ ويصبح من الخاسرين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) استدل من قال بأن القصّة كانت في بني آدم لصلبه : يقول : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) ؛ لأن القصة لو كانت في بني إسرائيل لم يكن ليجهل دفن الميت ؛ إذ قد رأى ذلك غير مرة وعاينه ؛ فدل أنه كان في أول ميت جهل السنة فيه (٥).

وقال من قال : إنهما كانا رجلين من بني إسرائيل ؛ إذ قد يجوز أن يخفى على المرء شيء علمه قبل ذلك وعاينه إذا اشتد به الخوف ونزل به الهول ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) [المائدة : ١٠٩] ، وقد كان لهم علم بذلك ، لكن ذهب عنهم ـ والله أعلم ـ لشدة هول ذلك اليوم ، وخوفه ؛ فعلى ذلك الأول ، يجوز خفاء دفن الموتى بعد ما علمه ؛ لشدة الهول ، والله أعلم.

ثم اختلف فيما أخبر عن بحث الغراب في الأرض : قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : كان الغراب يبحث التراب على ذلك الميت ؛ ليرى ذلك القاتل ، لا أنه كان يبحث التراب

__________________

(١) قاله الطبري في تفسيره (٤ / ٥٣٥).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٣٦) ، رقم (١١٧٤٨) ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٨٧).

(٣) أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٣٦) ، رقم (١١٧٤٥) وما بعده.

(٤) سقط من ب.

(٥) قاله الطبري في تفسيره (٤ / ٥٣٥).

٥٠٠