تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

كتابه.

والثاني : ما أجمعوا عليه أن ما لا مثل له في الأنعام من الصيد إذا أصابه المحرم فعليه قيمته ؛ فإذا كان المثل في بعض الصيد قيمته ، فهو في كل الصيد قيمته ، وكذلك روي عن ابن عباس وغيره من السلف ـ رضي الله عنهم ـ أنهم قالوا ذلك (١).

فإن قيل : ما لا مثل له من النعم لا يمكن قيمته أكثر من قيمته ، قيل له [ترى] ذلك مثلا؟ فإن قال : بلى ، قيل : فقد صارت القيمة مثلا في بعض الصيد ، فما منع أن تكون مثلا في كل الصيد؟ فإن قال : المثل : هو الهدى فيما له مثل ، فأما ما لا مثل له من الهدى ، (٢) فليس الواجب فيه بمثل ، إنما ذلك قيمة ، ولم يجب ذلك بنص الكتاب ، وإنما وجب ـ ذلك بنص الكتاب ـ المثل من الهدى ، فأما ما لا مثل له : فإنما وجب قيمته بالإجماع ، قيل له : حدثنا عن قول الله ـ تعالى ـ : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، هل دخل في عموم الآية الفرخ ونحوه ؛ فيكون منهيّا عن قتله؟ فإن قال : نعم ، قيل : فإذا دخل الفرخ في عموم النهي عن قتل الصيد فهو ـ أيضا ـ داخل في عموم قوله : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ...) الآية. فإن قال : لا يدخل الفرخ في عموم قوله ـ تعالى ـ : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، قيل له : قد قال الله ـ تعالى ـ : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) [المائدة : ٩٤] فروي أن ذلك في البيض والفراخ ، فإن لم يجعل الفراخ ولا شيئا منها داخلا في الآية ، فما معنى الآية؟ ونحن لا ننال بأيدينا من الصيد إلا ضعافه وما يعجز عن الطيران والعدو منه ، فالآية توجب أن الصيد كله قد دخل في عمومها : ما قلّت قيمته ، وما كثرت ، وذلك يوجب أن يكون الواجب من قيمة الفرخ والعصفور مثلا ، والله أعلم.

ولأن النعامة لا مثل لها من النعم ، فمن أوجب فيها بدنة فقد أوجب فيها ما ليس بمثل لها ولا نظير ، ومن أوجب فيها قيمتها فقد أوجب مثلا لها ، فهو موافق للنص عندنا ، والله أعلم.

وكذلك الموجب في الحمامة شاة لا تشبه الصيد المقتول في عينه ، ولا في صفته ، ولا

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عكرمة قال : سأل مروان بن الحكم ابن عباس ، وهو بوادي الأزرق. قال : أرأيت ما أصبنا من الصيد لم نجد له ندّا؟ فقال ابن عباس : ثمنه يهدى إلى مكة.

ينظر الدر المنثور (٢ / ٥٧٩).

وأخرجه البيهقي (٥ / ٢٠٦) عن ابن عباس قال : ما كان سوى حمام الحرم ففيه ثمنه إذا أصابه المحرم.

وينظر : مسند الشافعي (١ / رقم ٨٤٨) ، والسنن الكبرى (٥ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧) ، ومعرفة السنن والآثار (٤ / ٢٢٠ ـ ٢٢٣) ، ونصب الراية (٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦).

(٢) في ب : الهدايا.

٦٢١

في جنسه ، فهو غير موجب المثل ، بل الموجب فيها القيمة أقرب إلى إيجاب المثل فيها ، والله أعلم.

فإن قيل : كيف يسمّى قيمة الشيء : «مثلا» وليست من جنسه ، وإنما المثل ما كان من جنس الشيء؟ قيل : قد ذكرنا أن قيمة ما لا مثل له من النعم تسمى : «مثلا» ، ولأن الله ـ تعالى ـ قال : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) ، وإذا جاز أن يسمى الصيام : «عدلا» للطعام ، جاز أن تسمى القيمة : «عدلا» للصيد ، وإنما صار الصيام عدلا للطعام بالتقويم والمثل ، والعدل في المعنى متقارب ، والله أعلم.

ولأن الله ـ تعالى ـ : قال (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، ولو كان المراد من المثل : المنظور في رأي العين ، لم يكن لشرط ذوي عدل فيه معنى ؛ لأن المثل في رأي العين يعرفه كل أحد به بصر ، فيه أو لم يكن ؛ فدل ما شرط من نظر ذوي عدل [على] ما بطن فيه وخفي ، لا ما ظهر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) تأويله ما ذكرنا : ينظر إلى رجلين عدلين ، لهما بصر ومعرفة في ذلك ، فيقومانه ، ثم يشتري بها هديا إن شاء ، فيهدي ، وإن لم يبلغ هديا قومت الدراهم طعاما ، فإن لم يجد ، صام مكان كل نصف صاع (١) يوما.

وروي عن ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنه ـ كذلك ، والحسن ، وإبراهيم ، والقاسم ، والسلف جملة.

وعندنا : أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة ، يفعل أي هذه الثلاثة شاء ؛ لأن الله ـ تعالى ـ : قال في المحصر (٣) : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦] ، ولا خلاف بينهم في أن

__________________

(١) الصاع : من وحدات الأكيال التي تعلق بها كثير من الأحكام الفقهية المشهورة ، فهو مكيال تكال به الحبوب ونحوها ، وقدره أهل الحجاز قديما بأربعة أمداد ، أي : بما يساوي عشرين ومائة وألف درهم ، وقدره أهل العراق قديما بثمانية أرطال. ينظر : المعجم الوسيط (صوع).

(٢) تقدم.

(٣) الإحصار : مصدر أحصره : إذا حبسه ، مرضا كان الحاصر أو عدوّا ، وحصره أيضا ، حكاهما غير واحد.

وقال ثعلب في «الفصيح» : وحصرت الرجل : إذا حبسته ، وأحصره المرض : إذا منعه السير ، والصحيح أنهما لغتان.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ)[البقرة : ١٩٦] ظاهر في حصر العدو ؛ لوجهين : أحدهما : أن الآية نزلت في قصة الحديبية وكان حصر العدو.

والثاني : أنه قال بعد ذلك : (فَإِذا أَمِنْتُمْ)[البقرة : ١٩٦] ، والأمن من الخوف.

ينظر : المطلع (ص ٢٠٤).

٦٢٢

لصاحب الفدية في حلق الرأس أن يفعل أي هذه الثلاثة شاء ، فالواجب أن يكون في جزاء الصيد مثله ؛ لأن الخطاب خرج على حرف التخيير ، وكل خطاب خرج على حرف التخيير ، وكان سبب وجوبه واحدا ـ فهو على التخيير ؛ نحو كفارة اليمين ، وما ذكرنا في دفع الأذى عن رأسه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) شرط بلوغ الكعبة ، وهو لا يبلغ نفس الكعبة ؛ فدل أن المراد رجع إلى بلوغه قرب الكعبة ، وعلى هذا يخرج قولهم فيمن حلف ألا يمر على باب فلان ، فمر بقرب بابه ـ حنث ؛ استدلالا بقوله : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ، لم يرد به بلوغه عين الكعبة ، ولكن قربها أو مكانها ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وكان محمد بن الحسن يقول : يحكم عليه بمثله من النعم حيث كان.

وأبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ يقول : يحكم عليه بقيمة الصيد في الموضع الذي أصابه فيه. واختلافهما في هذا يرجع إلى ما اختلفا فيه من المثل عينا أو قيمة.

وقد روي عن عمر ، وعبد الرحمن ـ رضي الله عنهما ـ وغيرهما أنهم حكموا في الظبي شاة ، ولم يسألوا عن الموضع الذي أصيب (١) فيه ؛ فدل تركهم السؤال عن ذلك [على](٢) أن المواضع كلها كانت عندهم سواء ، وأنهم أجروه مجرى الكفارات دون القيم ؛ لأنهم لو أجروا ذلك مجرى ضمان القيم ، لسألوا عن أماكن (٣) الجنايات ؛ إذ كان الصيد يختلف قيمته ، ولا يستوي في ذلك الأماكن كلها ؛ فهذا يؤيد قول محمد ومن وافقه.

وأما عند أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أن الملك للحرم في الصيد ، وكل من أتلف ملك آخر أو جنى على مال أحد ، إنما ينظر إلى قيمته في المكان الذي أتلفه ؛ فعلى ذلك النظر في الصيد إلى المكان الذي أصابه.

ثم المسألة في جزاء الصيد أين يذبح؟ عندهم جميعا : لا يجوز أن يذبح إلا بمكة ؛ لأنه لو جاز أن يذبح في غير الحرم حيث شاء ، زالت فائدة قوله : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ، وليس في ذلك بينهم خلاف.

وأما الإطعام والصيام : فإن الله ـ عزوجل ـ لم يذكر فيهما موضعا ، ولا جعل لهما مكانا ؛ فله أن يطعم ، وأن يصوم حيث شاء.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٦) (١٢٥٨١) عن قبيصة بن جابر ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨١) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن بكر بن عبد الله المزني.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : إمكان.

٦٢٣

فإن قيل : إن الهدى يذبح في الحرم ؛ لمنفعة أهل الحرم به ، ويتصدق به عليهم ؛ فعلى ذلك الإطعام يجب أن يطعم أهل الحرم ؛ لأنه جعل لمنفعة لهم.

قيل له : لا خلاف بينهم : أنه لو ذبح الهدى في غير الحرم وتصدق به على أهل الحرم ألا يجوز ؛ دل أنه لا لما ذكر ، ولكن الهدى لا تذبح إلا بمكة ؛ ألا ترى أن من قال الله ـ تعالى ـ : عليه أن يهدى ، ليس له أن يذبح إلا بمكة ، ولو قال : عليه الإطعام أو الصدقة ، له أن يتصدق حيث شاء ؛ دل أن الهدى مخصوص ذبحه بمكة ، لا يجوز في غيره ، وأما الصدقة فإنها تجوز في الأماكن كلها ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) ، أي : لينال شدة أمره وألمه ؛ كما نال لذته. وقيل : جزاء ذنبه ، وهو الكفارة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) إذا تاب ورجع عما استحل من قتل الصيد ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] : أي : من عاد إلى استحلال الصيد في الحرم ينتقم الله منه في النار. ويحتمل : من عاد إلى قتل الصيد ينتقم الله منه بالكفارة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ، أي : لا يعجزه شيء ، ويقال : عزيز ، أي : كل عز عند عزه ذل. وغنى ، أي : كل غنى عند غناه فقر (١) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٩٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً).

أخبر الله ـ تعالى ـ أن صيد البحر وطعامه حلال للمحرم (٢) ، ثم اختلف أهل التأويل في تأويله.

قال بعضهم : «صيده : ما صيد ، وطعامه : ما قذف في البحر» ، كذلك روي عن عمر ـ

__________________

(١) زاد في ب : ونحوه.

(٢) في أ : للحرم.

٦٢٤

رضي الله عنه ـ أنه قال : «صيده : ما صيد ، وطعامه : ما قذف» (١).

وعن أبي بكر وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قالا : «طعامه : ما قذف» (٢).

وقال بعضهم : صيده : ما أخذ طريّا ، وطعامه : مليحة (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَتاعاً لَكُمْ) : أي : منفعة لكم ، أي : للحاضر (وَلِلسَّيَّارَةِ) : أي : للمسافر.

وعن بعضهم : صيده : ما صدت طريا ، وطعامه : ما تزودت في سفرك مليحا.

ثم يجيء على قول أصحاب الظاهر : أن يكون كل صيد البحر وطعامه حلالا مباحا بظاهر قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ...) الآية ، وكذلك ما روي عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الطّهور ماؤه ، الحلّ ميتته» (٤) أنه لم يخص ميتة دون ميتة ، ولا طعاما دون طعام ، غير أن المراد عندنا رجع إلى السمك خاصة ؛ لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أحلّت لنا ميتتان ودمان ، أمّا الميتتان : فالجراد والسّمك ...» (٥) دل الخبر أن المراد من الآية والخبر رجع إلى السمك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) عن ابن عباس ـ رضي الله

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٦٦) (١٢٦٩١) (١٢٦٧١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨٦) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ والبيهقي في سننه عن أبي هريرة عن عمر ابن الخطاب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٦٦) (١٢٦٩٠) (١٢٦٩٢ ـ ١٢٧٠١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وعزاه بنحوه لأبي الشيخ من طريق قتادة عن أنس عن أبي بكر.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري ، (٥ / ٦٤ ـ ٦٥) ، رقم (١٢٦٧٤) وما بعده ، وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥٨٦). وقاله ـ أيضا ـ سعيد بن المسيب ، أخرجه عنه الطبري (١٢٦٨٠ ـ ١٢٦٨٢) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥٨٦) ، وفي ب : صليحة ..

(٤) أخرجه مالك في الموطأ (١ / ٢٢) في كتاب الطهارة : باب الطهور ماؤه رقم (١٢) ، وأحمد في مسنده (٢ / ٢٣٧ ، ٣٩٣) ، وأبو داود (١ / ٦٩) في كتاب الطهارة : (٤١) باب الوضوء بماء البحر (٨٣) ، والترمذي (١ / ١١١) في كتاب الطهارة : (٥٢) باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور (٦٩) ، والنسائي (١ / ٥٠ ، ١٧٦) في كتاب الطهارة : (٤٧) ـ باب ماء البحر ، وابن ماجه (١ / ٣٢٩ ، ٦٢٨) في كتاب الطهارة (٣٨) باب الوضوء بماء البحر (٣٨٦) (٣٢٤٦) ، والشافعي في مسنده (١ / ١٩) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (١ / ١٣١) ، وابن حبان في صحيحه (١٢٤٣) ، والحاكم وصححه (١ / ١٤٠ ، ١٤١) ، والبيهقي (١ / ٣) ، جميعا عن أبي هريرة.

(٥) أخرجه أحمد (٢ / ٩٧) ، وابن ماجه (٤ / ٦١١ ، ٦١٢) في كتاب الصيد : باب (٩) صيد الحيتان والجراد (٣٢١٨) (٣٣١٤) ، والدارقطني (٤ / ٢٧١) ، وابن حبان في المجروحين (٣ / ٥٨) ، وابن عدي في الكامل (١ / ٣٨٨) ، والبيهقي في سننه (١ / ٢٥٤) عن ابن عمر ، مرفوعا.

٦٢٥

عنه ـ قال : مبهمة ، لا يحل لك أن تصيده ولا أن تأكله (١).

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ وهو محرم أنه دعي إلى طعام ، فقرب إليه يعاقيب وحجل ، فلما رأي ذلك على قام ، وقام معه ناس ؛ فقيل لصاحب الطعام : ما قام هذا ومن معه إلا كراهية لطعامك ؛ فأرسل إليه ، فجاء ، فقال : ما كرهت من هذا ، ما أشرنا ، ولا أمرنا ولا صدنا.

قال علي ـ رضي الله عنه ـ : «وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما» ثم انطلق (٢).

وعن عثمان ـ رضي الله عنه ـ مثله أو قريبا منه.

وأما عندنا : فإنه يحل للمحرم أن يأكل لحم الصيد إذا لم يصده هو ولا صيد له ؛ لما روي عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ أنه كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كان ببعض الطريق بمكة تخلف مع أصحاب له محرمين ، وهو غير محرم ، فرأى حمار وحش ، فاستوى على فرسه ، فسأل أصحابه أن يناولوه سوطا ، فأبوا ، فسألهم رمحه ، فأخذه ، ثم اشتد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحابه ، وأبى بعضهم ، فلما أدركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه عن ذلك ، فقال : «إنّما هى طعمة أطعمكموها الله سبحانه» ، وقال : «هل معكم من لحمه شيء» (٣).

وفي خبر آخر عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال ، فأكلنا منه ، ومعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي خبر آخر عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال : إنى أصبت حمار وحش ، فقلت : يا رسول الله ، إنى أصبت حمار وحش وعندي منه ، فقال للقوم : «كلوا» ، وهم محرمون (٤).

وفي بعض الأخبار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم : «لحم صيد البرّ

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٧٥) ، (١٢٧٧٠ ـ ١٢٧٧٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨٧) وعزاه لأبي عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق طاوس عن ابن عباس.

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٧١ ـ ٧٢) ، (١٢٧٤٤ ـ ١٢٧٤٦) (١٢٧٤٩ ـ ١٢٧٥٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨٧) ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحارث بن نوفل.

(٣) أخرجه مالك في الموطأ (١ / ٣٥٠) كتاب الحج : باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد (٧٦) ، والبخاري (٦ / ١١٥) كتاب الجهاد والسير : باب ما قيل في الرماح (٢٩١٤) ، وكتاب الذبائح والصيد : باب ما جاء في الصيد (٥٤٩٠) ، ومسلم (٢ / ٨٥٢) كتاب الحج : باب تحريم الصيد للمحرم (٥٧ ـ ١١٩٦).

(٤) تقدم.

٦٢٦

حلال لكم وأنتم حرم ؛ ما لم تصيدوه أو يصد لكم» (١) ، رخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أكل لحم الصيد للمحرم إذا لم يصده ولم يصد له ، وبذلك أخذ أصحابنا (٢).

وفي الآية دليل لقولنا ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، وقال : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فمعناه ـ والله أعلم ـ : اصطياده ؛ ألا ترى أن صيد ما لا يؤكل لحمه محظور ؛ فدل ذلك على أن الآية نزلت في الاصطياد لا في أكل لحمه ؛ لأن لحم الصيد قد خرج من أن يصاد ؛ فالتحريم غير واقع عليه ، ليس كالبيض ؛ لأن البيض قد يصير صيدا ، واللحم ليس كذلك ، ولأن المحرم لو أتلف البيض غرم قيمته ، ولو أتلف لحم الصيد لم يضمن شيئا ، فما لزمه الضمان منع عن أكله ، وما لم يلزمه لا ، ولأنه لو حرم على المحرم التناول من لحم صيد صاده حلال ، لوجب (٣) أن يحرم على أهل مكة التناول منه ؛ إذ هم أهل حرم الله ، وذلك بعيد ؛ فأخذ أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ بما روينا من الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث أبي قتادة وغيره ، وبما دل عليه ظاهر الكتاب ، وهو قول عمر (٤) وعثمان (٥) وغيرهما ، رضي الله عنهم.

فإن قيل : روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ عن زيد بن أرقم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهي المحرم عن لحم الصيد.

وفي خبر آخر عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال : أهدى لرسول (٦) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عضوا من لحم صيد ، فرده ، وقال : «إنّا حرم لا نأكله» (٧).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٥٧٢) كتاب المناسك : باب لحم الصيد للمحرم (١٨٥١) ، والترمذي (٢ / ١٩٤) باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم ، والنسائي (٥ / ١٨٧) كتاب المناسك : باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال ، وأحمد في مسنده (٣ / ٣٦٢ ، ٣٨٧) ، والشافعي في مسنده (١ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣) ، وعبد الرزاق في مصنفه (٤ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥) (٨٣٤٩) ، وابن خزيمة في صحيحه (٢٦٤١) ، وابن حبان (٣٩٧١) ، والدارقطني (٢ / ٢٩٠) ، والحاكم وصححه (١ / ٤٥٢) ، والبيهقي في سننه (٥ / ١٩٠).

(٢) ينظر : الهداية مع فتح القدير (٢ / ٢٧٣) ، والمسلك المتقسط (٢٥٣) ، وشرح المهذب (٧ / ٣٠٨) ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (٢ / ٧٨).

(٣) في ب : ليجب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٧٢) (١٢٧٤٧) عن الحسن عن عمر بن الخطاب ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨٧) وزاد نسبته لابن أبي شيبة.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٧١) (١٢٧٤٤) ، وذكره السيوطي في الدر ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٦) في ب : إلى الرسول.

(٧) أخرجه مسلم (٢ / ٨٥١) كتاب الحج : باب تحريم الصيد للمحرم (١١٩٥) ، وأحمد في مسنده (٤ / ٣٦٧ ، ٣٧٤) ، والنسائي في سننه (٥ / ١٨٣ ، ١٨٤) كتاب المناسك : باب ما لا يجوز للمحرم أكله من الصيد ، والحميدي في مسنده (٧٨٤) ، وابن خزيمة في صحيحه (٤ / ١٧٩) (٢٦٣٩).

٦٢٧

وروي في خبر آخر أنه سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن محرم أتى بلحم صيد؟ قال : «لا تأكل منه» (١) لكن هذا الحديث يجوز أن يحمل على أن كان صيد بعد أن أحرم [أو] أن يكون صيد من أجله ، وإذا صيد من أجله لم يحل له أكله ؛ دليله من خبر عثمان ـ رضي الله عنه ـ : «ما أمرت بصيد ، ولا صيد من أجلي» ، وخبر جابر ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لحم صيد البرّ حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» (٢).

ثم المسألة في معرفة صيد البر من البحر : قال بعضهم : ما كان يعيش في البر والبحر فلا تصيدوه ، وما كان حياته في الماء فذاك البحري.

وقال آخرون : أكثر ما يكون [في الماء حتى يفرخ](٣).

وقال غيرهم : صيد البر هو الذي إن أخذه الصائد حيّا فمات في يده لم يحل ، ولا يحل إذا أدرك زكاته إلا بتزكيته (٤) ، فكل ما كانت هذه صفته فهو [صيد البر](٥) ، وإن كان [قد](٦) يعيش في الماء.

وما كان الصائد إذا أخذه حيّا وهو يعيش في الماء فمات في يده أكله ، فذلك صيد البحر ، وذلك السمك.

وفي ذلك وجه آخر : وهو أن كل ما ألقاه البحر وقذفه فمات فحل لنا أكله ، فذلك طعامه ، وإن لم يحل أكله فليس بطعامه ، فما كان طعامه و (٧) ألقاه فمات فهو إذن صيد البحر ، وما لا يحل أكله إذا ألقاه ، فليس بصيد البحر إذا صيد ؛ لأن الله أباح صيد البحر وطعامه ، فما ليس بطعامه إذا ألقاه فمات فليس بصيد إذا أخذ حيّا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّقُوا اللهَ) في استحلال قتل الصيد في الحرم ، أو اتقوا الله في أخذ الصيد في حال الإحرام بعد النهي ، أو اتقوا الله في كل ما لا يحل (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فتجزون بأعمالكم : إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر.

ويحتمل قوله : (إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، أي : إلى حكمه تصيرون ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص : ٨٨] ، والله أعلم. والله أعلم. وقوله ـ عزوجل ـ : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ...) الآية : اختلف فيه : قال بعضهم قوله ـ تعالى ـ : (قِياماً

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : حين يخرج.

(٤) في ب : بتزكية.

(٥) في أ : البري.

(٦) سقط من ب.

(٧) في ب : أو.

٦٢٨

لِلنَّاسِ) ، أي : ثباتا للناس ودواما ؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعلها موضعا لإقامة العبادات ، من نحو : الحج ، والطواف ، والصلاة ، وإراقة الدماء ، والهدايا ، وغير ذلك من العبادات ، ثم إن تلك العبادات جعلها ثابتة دائمة لا تبدل ولا تنسخ أبدا ؛ فذلك معنى القيام للناس ، والله أعلم.

وقال بعضهم : قياما بمعنى : قواما ، أي : جعلها قواما لهم في معاشهم (١) ومعادهم ؛ لأنه جعلها مأمنا لهم وملجأ ؛ حتى أن من ارتكب كبيرة أو جرم جريمة [ثم لجأ إليه](٢) ، لم يتعرض له بشيء من ذلك ، ولا يتناول منه ، وكانوا إذا وجدوا هديا مقلدا لم يتعرضوا له وإن كانت حاجتهم إليه شديدة ، ونحو هذا كثير مما يطول ذكره.

وجعل فيها عبادات ومقصدا ما لم يجعل في غيرها من البقاع : من قضاء المناسك وغيرها ، وكذلك الشهر الحرام كان جعله مأمنا لهم إذا دخلوا فيه ، يأمنون من كل خوف كان بهم ، وجعل في الهدايا والقلائد منفعة لأهلها ؛ فكان في ذلك قواما لهم في معاشهم ومعادهم.

وعن سعيد بن جبير : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) : شدة لدينهم (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) ، أي : ذلك الأمن وما ذكرنا من جعل الكعبة قواما لهم في معاشهم ومعادهم ؛ (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، أي : على علم جعل هكذا قبل أن يكون أنه يكون.

وقال بعضهم : قوله : (ذلِكَ) ، أي : ما سبق ذكره من تحريف الكتب وتغييرها وتبديل نعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ، أي : على علم منه بالتحريف والتبديل خلقكم ، لا عن جهل ؛ ليمتحنكم ؛ لما لا يضره كفر كافر ، ولا ينفعه إيمان مؤمن ، بل حاصل ضرر الكفر يرجع إلى الكافر ، وحاصل نفع الإيمان يرجع إلى المؤمن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، أي : اعلموا أنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره ، على ما علمتم أنه عن علم منه كان جميع ما كان.

(وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) واعلموا ـ أيضا ـ أن الله غفور رحيم لمن تاب وأناب إليه ، وشديد العقاب ؛ لأن من العقوبات ما ليس بشديد ، وخاصة عقوبة الآخرة أنه يعاقب

__________________

(١) أخرجه بنحوه ابن جرير (٥ / ٧٨) (١٢٧٨٦) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨٩).

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٧٨) (١٢٧٨٩ ـ ١٢٧٩٠) عن سعيد بن جبير ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨٩) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٦٢٩

بالنار ، وما من عقوبة إلا وقد يحتمل شيء منها سوى عقوبة النار ؛ فإنه لا يحتملها (١) أحد ، ولأن عقوبات الدنيا وعذابها على الانقضاء ، وعذاب الآخرة لا انقضاء له ولا فناء ؛ لذلك وصف بالشدة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ)(١٠٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) فيه وجهان :

أحدهما : ردّا على من يقول : إن الموعظة لا تنفع ولا تنجع فيه إذا لم يكن الواعظ مستعملا لما يعظ غيره ؛ إذ ليس أحد من الخلق أشد استعمالا من الرسل ـ عليهم‌السلام ـ ثم لا تنفع مواعظهم وذكراهم قومهم ، ولا تنجع فيهم ؛ لشؤمهم ولشدة تعنتهم.

والثاني : إنباء أن ليس على الرسل إلا البلاغ ، ولا ضرر عليهم بترك القوم إجابتهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النور : ٥٤]

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) ما تبدون من العداوة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه ، وبنصب الحرب والقتال معهم ، وما تكتمون من المكر له ، والقصد لقتله ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) الآية [الأنفال : ٣٠] ، كانوا يمكرون ، ويقصدون قصد إهلاكه ، لكن الله ـ عزوجل ـ أطلع رسوله على مكرهم ، وأخبر أنه يعصمه عن الناس ، وقال ـ : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) [المائدة : ٦٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ...) الآية.

يحتمل وجهين :

أحدهما : خرج عن سؤال قد سبق منهم عن كثرة الأموال ؛ لما رأوا أولئك كانوا يستكثرون ويجمعون من حيث يحل ولا يحل ، فمالت أنفسهم إلى ذلك ورغبت ، فقال :

__________________

(١) في الأصول : يحتمله.

٦٣٠

(لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) كأنه قال : إن القليل من الطيب خير من الكثير من الخبيث ، والله أعلم.

والثاني : أنهم رغبوا في عبادة أولئك من الترهب والاعتزال عن الناس ؛ لدفع أذى أنفسهم عنهم ، وكثرة ما كانوا يتحملون (١) من الشدائد والمشقة ؛ فرغبوا في ذلك ، وهموا على ذلك ، على ما ذكر في القصة عن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنهم هموا أن يترهبوا ويعتزلوا من الناس (٢) ؛ فقال : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أن العمل القليل مع أصل طيب خير من الكثير مع خبث الأصل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره ونهيه (يا أُولِي الْأَلْبابِ) فيه دلالة أن الله لا يخاطب أحدا إلا من كمل عقله وتم ، وبالله العصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(٣) يحتمل : أن يكون النهي عن السؤال عن أشياء خرج عن أسئلة كانت منهم لم يكن لهم حاجة إليها ؛ فنهوا عن ذلك إلى أن يقع لهم الحاجة فعند ذلك يسألون ، كأنهم سألوه عن البيان والإيضاح لهم قبل أن يحتاجوا إليه ؛ ألا ترى أنه قال : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ...) الآية.

ويحتمل : أن يكون خرج النهي عن السؤال ابتداء ، على غير تقدم سؤال كان منهم ، ولكن نهوا عن السؤال عنها.

ثم يحتمل بعد هذا : أن كان منهم على ابتداء سؤال ، كان من أهل النفاق يسألون سؤال تعنت لا سؤال استرشاد ، يسألون منه آيات بعد ما ظهرت لهم ، وثبت عندهم الحجج ، وعرفوا أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإن كان النهي للمؤمنين فهو ما ذكرنا من سؤال البيان قبل وقوع الحاجة إليه.

__________________

(١) في ب : يعملون.

(٢) للحديث شاهد عن عثمان بن مظعون ، أخرجه كل من : البيهقي في شعب الإيمان (٧ / ١٣٧) (٩٧٦١) ، والطبراني في الكبير (٦ / ٦٢) (٥٥١٩) ، وذكره العجلوني في كشف الخفا ، وعزاه للبيهقي عن سعد بن أبي وقاص ، والبيهقي كما في مجمع الزوائد (٤ / ٢٥٥) ، وعزاه للطبرانى عن عثمان بن مظعون ، وقال : وفيه إبراهيم بن زكريا وهو ضعيف.

(٣) قال القاسمي (٦ / ٣٨٦) : قال الحافظ ابن حجر في : الفتح : والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل. إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان ، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة.

قال ابن كثير : ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته. فالأولى الإعراض عنها وتركها.

٦٣١

وقيل : نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء : قال أحدهم : من أبي؟ وقال آخر : أين أنا؟ قال : «أنت في النّار ، وأنت ابن فلان» (١) ونحو ذلك من الأسئلة ؛ فنهوا عن ذلك.

وقيل : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج ، فقال رجل : أفي كل عام يا رسول الله؟ [فقال:](٢) «لو قلت : نعم ، صار مفروضا ، فإذا صار مفروضا تركتم ، وإذا تركتم جحدتم ، وإذا جحدتم كفرتم ؛ لأنّ من جحد فرضا ممّا فرضه الله كفر» (٣) أو كلام نحو هذا ، ولا يجب أن يفسر هذا أنه كان في كذا ؛ إذ ليس في كتاب الله بيان سوى أن فيه النهي عن سؤال ما لا يحتاج إليه.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) قد عفا الله عنها (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ، أي : تظهر لكم تسؤكم (٤) ، أي : أمرتم العمل بها ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ).

هذا يدل على أن النهي عن السؤال في الآى (٥) لأحد شيئين :

إما أن سألوا الآيات عنه بعد ما ظهرت وثبتت لهم رسالته ، فلما أتى بها كفروا بها ؛ ألا ترى أنه قال : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) ، وقد كان الأمم السالفة يسألون من الرسل ـ عليهم‌السلام ـ الآيات بعد ظهورها عندهم.

__________________

(١) لم أجده بهذا اللفظ. ولكن أخرجه البخاري في صحيحه (٩ / ١٦٣) كتاب التفسير : باب قوله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٤٦٢٢) ، ومسلم في صحيحه (٤ / ١٨٣٢) كتاب الفضائل : باب توقيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢٣٥٩) ، وابن جرير (٥ / ٨١) (١٢٧٩٨) عن ابن عباس بلفظ : «قال ابن عباس لأعرابي من بني سليم : هل تدري فيما أنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ....) حتى فرغ من الآية ، فقال : كان قوم يسألون رسول الله استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي؟ والرجل تضل ناقته فيقول : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية. والسياق لابن جرير. وفي الباب عن أنس بن مالك مرفوعا ، وطاوس وقتادة والسدي مرسلا ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٩١ ـ ٥٩٢) ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس ، ولعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس ، ولعبد الرزاق عن طاوس ، ولابن أبي حاتم عن السدي.

(٢) سقط من ب.

(٣) لم أجده بهذا اللفظ. ولكن أخرجه مسلم في صحيحه بلفظ آخر (٢ / ٩٧٥) في كتاب الحج : باب فرض الحج مرة في العمر (٤١٢ / ١٣٣٧) ، والنسائي في الكبرى (٢ / ٣١٩) في كتاب الحج : باب وجوب الحج (٣٥٩٨ / ١) ، وابن جرير في تفسيره (٥ / ٨٣) (١٢٨٠٨ ـ ١٢٨١٠) عن أبي هريرة ، وفي الباب عن أبي أمامة الباهلي ، وابن عباس وأنس بن مالك ، وعلي بن أبي طالب.

(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٨٤) (١٢٨١٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٩٣) ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٥) في ب : الآل.

٦٣٢

ويحتمل : ما ذكرنا من قولهم : أين نحن؟ ومن أبي؟ ومن أنا؟ ونحوه ، فلما أن أخبرهم بذلك كفروا به ، والله أعلم.

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٠٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ)(١) : أي : ما جعل الله قربانا مما جعلوا هم ؛ لأنهم كانوا يجعلون ما ذكر من البحيرة والسائبة ؛ وما ذكر قربانا يتقربون بذلك إلى الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها دون الله ، فقال : ما جعل الله من ذلك شيئا مما جعلتم أنتم من البحيرة والسائبة ، فقوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ...) وما ذكر ، أي : ما أمر بذلك ، ولا أذن به.

قيل : حرم أهل الجاهلية هذه الأشياء ، منها : ما حرموه على نسائهم دون رجالهم ، ومنها : ما حرموه على الرجال والنساء ، ومنها : ما جعلوه لآلهتهم به.

ثم قيل : البحيرة : ما كانوا يجدعون آذانها ويدعونها لآلهتهم.

والسائبة : ما كانوا يسيبونها.

والوصيلة : ما كانت الناقة إذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن قالوا : وصلت أخاها ؛ فلم يذبحوها ، [وتركوها](٢) لآلهتهم (٣).

قال أبو عبيد : البحيرة : إذا نتجت خمسة أبطن قطعت آذانها وتركت. والسائبة : إذا ولدت خمسة أبطن سيبت ؛ فلا ترد عن حوض ولا علف. والوصيلة من الغنم : إذا ولدت

__________________

(١) قال القاسمي (٦ / ٤٠٤) : قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية تحريم هذه الأمور. واستنبط منه تحريم جميع تعطيل النافع. ومن صور السائبة : إرسال الطائر ونحوه. واستدل ابن الماجشون بالآية على منع أن يقول لعبده : أنت سائبة. وقال : لا يعتق.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٨٩) (١٢٨٣٣) عن علقمة عن مسروق بن الأجدع ، وبمثله عن ابن عباس (١٢٨٤٠) (١٢٨٤١) ، وعن قتادة (١٢٨٤٢) (١٢٨٤٥) ، وعن السدي (١٢٨٤٣) ، وعن سعيد بن المسيب (١٢٨٤٤) ، وعن الضحاك (١٢٨٤٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٩٥ ـ ٥٩٦).

٦٣٣

عناقين (١) تركا ، وإذا ولدت عناقا وجديا (٢) ، قالوا : وصلت العناق الجدي وتركا ، وإذا نتجت [جديا] ذبح. والحامى : إذا نظر إلى عشرة من ولده ، قيل : حمى ظهره ؛ فلا يركب ، ولا يحمل عليه شيء (٣).

وقال مجاهد : (وَلا حامٍ) : إذا ضرب الجمل من ولد البحيرة فهو الحامي ، والحامي : اسم. والسائبة من الغنم على نحو ذلك ، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد كانت على هيئتها ، فإذا ولدت السابع ذكرا أو ذكرين نحر ، فأكله رجالهم دون نسائهم ، وإن أتأمت (٤) بذكر وأنثى فهي وصيلة ؛ يترك ذبح الذكر بالأنثى ، وإن كانتا اثنتين تركتا (٥).

وقال القتبي : البحيرة : الناقة إذا نتجت خمسة أبطن والخامس ذكر نحر ، فأكله [رجالهم ونساؤهم](٦) ، وإن كان الخامس أنثى شقوا أذنها ، وكان حراما على النساء لحمها ولبنها ، فإذا ماتت حلت للنساء.

والسائبة : البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرضه ، أو بلغه منزله ، أن يفعل ذلك.

والوصيلة من الغنم : كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا : فإن (٧) كان السابع ذكرا ذبح ، فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كانت أنثى تركت في الغنم ، وإن كان ذكرا [وأنثى] ، قالوا : وصلت أخاها ؛ فلم يذبح لمكانها ، وكان لحومهما حراما على النساء ، وليست الأنثى حراما على النساء ، إلا أن يموت منهما شيء فيأكله الرجال والنساء.

والحامي : الفحل إذا ركب ولد ولده. ويقال : إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمى ظهره ، ولا يركب ، ولا يمنع من كلإ ولا ماء.

__________________

(١) العناق : الأنثى من ولد المعز ، وهي التي رعت وقويت ، وهي فوق الجفرة ـ وهي التي لها أربعة أشهر ـ ودون العنز : وهي التي تم لها حول. ينظر : تهذيب اللغة (١ / ٤٦٥) ، والنظم المستعذب (١ / ١٤٥).

(٢) الجدي : الذكر من أولاد المعز. ينظر : النظم المستعذب (١ / ١٤٦) ، والمعجم الوسيط (جدى).

(٣) ينظر : تفسير الرازي (١٢ / ٩١) ، وقال بنحوه عوف بن مالك بن نضلة الجشمي أبو الأحوص الكوفي ، أخرجه أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥٩٥).

والحديث أخرجه أحمد (٣ / ٤٧٣) ، والطبري (٥ / ٨٨) رقم (١٢٨٣٠) مختصرا ، وليس فيه موضع الشاهد.

(٤) أتأمت الحامل : ولدت أكثر من واحد فى بطن واحد ، فهى متئم.

(٥) أخرجه الطبري (٥ / ٩٠) ، رقم (١٢٨٣٩) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥٩٦).

(٦) في ب : الرجال والنساء.

(٧) في ب : إن.

٦٣٤

كانوا يحرمون الانتفاع بما ذكرنا ، ويقولون : إن الله حرم ذلك علينا ، وهو ما ذكر في آية أخرى قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) الآية [الأنعام : ١٣٦] يحرمون أشياء على أنفسهم ، ويضيفون تحريمها إلى الله ، ثم سفه أحلامهم بقوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] لم يكن تحريمهم هذه الأشياء بالسمع ، ولكن رأيا منهم وتبحثا ؛ فاحتج الله عليهم على ذلك الوجه ؛ ليظهر فساد قولهم من الوجه الذي ادعوا ، فقال : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] فإن قالوا : الذكرين ، فقد كان من الذكر ما لم يحرم ، وإن قالوا : أنثى ، فقد كان من الأنثى ولم يكن فيها تحريم ؛ ففيه دليل أن الحكم إذا كان بعلة (١) يجب وجوب ذلك الحكم ما كانت تلك العلة قائمة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ...) الآية ، كأنها نزلت في مشركي العرب ، وكانوا أهل تقليد ، لا يؤمنون بالرسل ، ولا يقرون بهم ، إنما يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام ، فإذا ما دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما أنزل الله إليه ، أو دعاهم أحد إلى ذلك ، قالوا : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ، [كقوله](٢) : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، ونحو ذلك : يقلدون آباءهم في ذلك ؛ فقال الله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ، أي : تتبعون آباءكم وتقتدون بهم ، وإن كنتم تعلمون أن آباءكم لا يعلمون شيئا في أمر الدين ولا يهتدون ، وكذلك قوله : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) [الزخرف : ٢٤] تتبعون آباءكم وتقتدون بهم ، وإن جئتكم بأهدى مما كان عليه آباؤكم ؛ يسفههم في أحلامهم في تقليدهم آباءهم ، وإن ظهر عندهم أنهم على ضلال وباطل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(٣) :

__________________

(١) العلة : هي الوصف الجامع بين الأصل والفرع ، وقال أبو محمد بن الجوزي في الإيضاح : العلة : هي حكمة الحكم ، وقد تطلق على مظنته. ينظر : الإيضاح (٣٧) ، نهاية السول (٣ / ٣٧) ، نشر البنود (٢ / ٢٩).

(٢) سقط من ب.

(٣) قال القرطبي (٦ / ٢٢١) : قال علماؤنا : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه ، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الإنسان ، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، لو لا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول ـ

٦٣٥

ظن بعض الناس أن الآية رفعت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعة في ترك ذلك ، وليس فيه رفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ولكن فيه إنباء أن ليس علينا فيما يرد ولا يقبل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ شيء ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ ...) الآية [النور : ٥٤] ليس فيه رخصة ترك تبليغ الرسالة إليهم ، ورفعه عنه (١) ، ولكن إخبار أن ليس عليه فيما يرد وترك القبول شيء ، كقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

ويحتمل : أن يكون في الآية (٢) دليل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنه قال : (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) بترك قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أنتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ، وبذلك وصف الله هذه الأمة بقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠].

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لم يرحم صغيرنا ، ولم يوقّر كبيرنا ، ولم يأمر بالمعروف ، ولم ينه عن المنكر فليس منّا» (٣).

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل علىّ ـ وقد حفزه ـ النفس ، فتوضأ ، ثم خرج إلى المسجد ، فقمت من وراء الحجاب ، فصعد المنبر ، ثم قال : «أيّها النّاس ، إنّ الله يقول : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم ، وتسألوني فلا أعطيكم ، وتستغيثوني فلا أغيثكم ، وتستنصروني فلا أنصركم».

وعن أبي بكر [الصديق](٤) ـ رضي الله عنه ـ قال : «يا أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه

__________________

 ـ الله تعالى.

وقال القاسمي (٦ / ٤٠٦) : لا يستدل بالآية على سقوط الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. لأن الظاهر من الآية أن ضلال الغير لا يضر ، وأن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب العاصي. وإلا فمن تركهما مع القدرة عليهما ، فليس بمهتد. وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه.

(١) في الأصول : عنهم.

(٢) زاد في أ : ليس فيه رخصة.

(٣) أخرجه أحمد (١ / ٢٥٧) ، وعبد بن حميد (٥٨٦) ، والترمذي (٣ / ٤٨٠) أبواب البر والصلة : باب ما جاء في رحمة الصبيان (١٩٢١) ، والبزار (١٩٥٥ ، ١٩٥٦ ـ كشف الأستار) ، وابن حبان (٤٥٨) ، والطبراني في الكبير (١١ / ٧٢) رقم (١١٠٨٣) ، والبغوي في شرح السنة (٦ / ٤٤٨) رقم (٣٣٤٦) ، من حديث ابن عباس مرفوعا : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا ، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر» ، قال الترمذي : هذا حديث غريب.

(٤) سقط من ب.

٦٣٦

الآية ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ النّاس إذا رأوا منكرا فلم يغيّروه يوشك أن يعمّهم الله بعقاب» ، وبقوله : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) [المائدة : ٦٣] الآية.

ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب : مع الكفرة : بالقتال والحرب ، ومع المؤمنين : باليد واللسان.

[و] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فرض ، ما لم يدخل في ذلك فساد ، ويصير الأمر به والنهي عنه منكرا ، فإذا خشوا ذلك يرخص لهم الترك ، وإلا روي عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : «قولوها ما لم يكن دونها السيف والسوط ، فإذا كان دونها السيف والسوط فعليكم أنفسكم» (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً).

الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، والذي يرد عليه المعروف والنهي عن المنكر.

(فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

خرج على الوعيد والتحذير.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي

__________________

(١) أخرجه الحميدي (٣) ، وأحمد (١ / ٥ ، ٧ ، ٩) ، وعبد بن حميد (١) ، وأبو داود (٢ / ٥٢٥) كتاب الملاحم : باب في خبر ابن الصائد (٤٣٣٨) ، والترمذي (٤ / ٤٠ ـ ٤١) أبواب الفتن : باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر ، (٢١٦٨) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩) كتاب التفسير : باب قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة : ١٠٥] (١١١٥٧) ، وابن ماجه (٥ / ٤٨١) كتاب الفتن : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٤٠٠٥) ، والبزار (٦٥ ، ٦٦) ، وأبو يعلى (١٢٨ ، ١٣٢) ، وابن حبان (٣٠٤) ، والطبراني في الأوسط (٢٥٣٢) ، والبيهقي (١٠ / ٩١) من طريق قيس بن أبي حازم قال : قام أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، وإنا سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه ، أوشك أن يعمهم الله بعقابه». وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. أخرجه سعيد ابن منصور (٤ / ١٦٥٦) رقم (٨٤٤) ، وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥٩٩).

٦٣٧

الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(١٠٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ...) الآية.

اختلف فيه :

عن قتادة قال : رجل مات بقرية من الأرض وترك تركة ، وأوصى وصية ، وأشهد على وصيته رجلين ، فإن اتهما في شهادتهما استحلفا بعد صلاة العصر ، وكان يقال : عندها تصبر الأيمان.

(فَإِنْ عُثِرَ) ، أي : اطلع منهما على خيانة (١) على أنهما كتما أو كذبا ، وشهد رجلان أعدل منهما بخلاف ما قالا ، أجيزت شهادتهما ، وأبطلت شهادة الأولين.

(اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) من المسلمين ، (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الكتاب إذا كان ببلد لا يجد إلا هؤلاء (٢).

وعن الحسن قال : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) : أي : من عشيرتكم ، أو آخران من غير عشيرتكم (٣) ، فيقول : إن الحق على المسلم إذا أراد أن يوصي أن يسند الوصاية إلى أهل عشيرته ، وكذلك يشهد على ذلك من أهل عشيرته ؛ لأن أهل عشيرته أحفظ لذلك ، وأحوط ، وأكثر عناية ، وأقوم للشهادة ، ولا كذلك الأجنبيان.

فإن قال قائل : خاطب الله ـ عزوجل ـ المؤمنين جملة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) الآية ، فكيف يحتمل أن يكون قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من غير عشيرتكم ، وكيف لا؟ انصرف قوله : أو آخران من غيركم من غير دينكم؟ فنقول سبحان الله!! ما أعظم هذا القول!! يرد (٤) شهادة موحد ، مخلص دينه لله لفسق يرتكبه ، ويأمر بقبول شهادة كافر ، كاذب ، قائل لله بالولد والشريك ، هذا مما لا يحتمل.

وقال ـ أيضا ـ : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ)(٥) وهم كانوا يستهزءون بالصلاة إذا نودي

__________________

(١) في ب : خيانته.

(٢) قال بنحوه ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٥ / ١٠٩) رقم (١٢٩٥٠) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس كما في الدر المنثور (٢ / ٦٠٣).

قال الرازي : وهو قول ابن عباس ، وأبي موسى الأشعري ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، وشريح ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وابن جريج. ينظر : مفاتيح الغيب (١٢ / ٩٥ ـ ٩٦).

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ١٠٦) برقمى (١٢٩٣٦ ، ١٢٩٣٨).

(٤) في ب : برد.

(٥) قال القاسمي (٦ / ٤٢١) : ذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ بالزمان والمكان. فأما الزمان فبعد العصر. وأما في المكان : ففي المدينة عند المنبر ، وبمكة بين الركن والمقام ، وفي بيت المقدس ـ

٦٣٨

لها بقوله : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) [المائدة : ٥٨] دل أنه لا يحتمل ما ذكروا.

وعن سعيد بن جبير في قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قال : إذا حضر المسلم الموت في السفر فلم يجد مسلمين ، فأوصى إلى أهل الكتاب ، فإن جاءوا بتركته فاتهموا حلف هؤلاء أن متاعه كذا وكذا وأخذوه (١).

وبعض الناس يجيزون شهادة النصارى واليهود في السفر في الوصية بظاهر الآية (٢).

وقال مجاهد : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) : من غير ملتكم (٣).

وعن عامر الشعبي قال : شهد نصرانيان على وصية مسلم مات عندهم ، فارتاب أهل الوصية ، فأتوا بهما إلى أبي موسى [الأشعري](٤) ، فاستحلفهما بعد صلاة العصر بالله ما

__________________

 ـ عند الصخرة ، وبغيرهما بالمسجد الجامع. واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير ، لا في القليل.

(١) أخرجه الطبري (٥ / ١١٣) ، رقم (١٢٩٦٣).

(٢) أما شهادة الكفار من أهل الكتاب في وصية المسلم في السفر إذا لم يكن غيرهم ـ فجائزة عند أحمد وابن المنذر وشريح والنخعي والأوزاعي ، وقضى بذلك ابن مسعود وأبو موسى ، رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا تقبل ؛ لأن من لا تقبل شهادته على غير الوصية ـ لا تقبل في الوصية ؛ كالفاسق. ولأن الفاسق لا تقبل شهادته ؛ فالكافر أولى. واختلفوا في تأويل الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)[المائدة : ١٠٦] : فمنهم من حمل على التحمل دون الأداء. ومنهم من قال : المراد بقوله ـ تعالى ـ : (مِنْ غَيْرِكُمْ) ، أي : من غير عشيرتكم. ومنهم من قال : الشهادة في الآية اليمين.

واستدل القابلون بالآية : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)[المائدة : ١٠٦] ، وردوا على المانعين ، فقالوا : إنه ليس في أول الآية خطاب لقبيلة دون قبيلة حتى يكون المراد : (مِنْ غَيْرِكُمْ) ، يعني : غير قبيلتكم ؛ وإنما الخطاب عام لجميع المؤمنين ، وغير المؤمنين هم الكفار.

وكذلك ردوا على من قال : إن المراد بالشهادة : هو اليمين ، قالوا : إن الآية فيها (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)[المائدة : ١٠٦] ، واليمين لا تختص بالاثنين ، وأيضا : في الآية : (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ)[المائدة : ١٠٦] ، ولو كان المراد : اليمين ـ لكان المعنى : يحلفان بالله : لا نكتم اليمين ، وهذا لا معنى له البتة ؛ فإن اليمين لا تكتم ؛ فكيف يقال : احلف إنك لا تكتم حلفك؟!

ينظر : المغني لابن قدامة (١٢ / ٥٣) ، البحر الرائق (٧ / ١٠٢) ، مواهب الجليل (٦ / ١٥٠) ، أسنى المطالب (٤ / ٣٣٩).

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ١٠٦) رقم (١٢٩٢٧) ، وأخرجه بنحوه عن ابن عباس وسعيد بن المسيب برقمي (١٢٩٢٥ ، ١٢٩٢٨).

(٤) عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب ، أبو موسى ، من بني الأشعر بن قحطان ، صحابي جليل ، من الولاة الفاتحين ، وأحد الحكمين اللذين رضي بهما على ومعاوية. ولد في «زبيدة» باليمن سنة ٢١ ق. ه ، وقدم مكة عند ظهور الإسلام ، وأسلم وهاجر إلى أرض الحبشة ، ثم استعمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الزبيدة وعدن ، وولاه عمر البصرة سنة ١٧ ه‍ ، وأقره عليها عثمان ، وعزله على. حدث عنه طارق بن شهاب ، وابن المسيب ، والأسود ، وأبو وائل ، وأبو عبد الرحمن السلمي. ـ

٦٣٩

اشتريتما (١) به ثمنا قليلا ، ولا كتما شهادة الله ، إنا إذن لمن الآثمين. ثم قال أبو موسى [الأشعري](٢) : والله ، إن هذه لقصة ما قضى بها منذ مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليوم (٣).

قد بين الشعبي أن أبا موسى إنما استحلفهما فيما اتهما به من تركة الميت ، وهذه يمين واجبة عند المسلمين جميعا ، ولم يحلفهما على أن ما شهدا به كما شهدا به ؛ كما زعم قوم أن شهادتهما تصح بيمينهما.

وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : خرج رجل من المسلمين ، فمر بقرية ومعه رجلان من المسلمين ، فدفع إليهما ماله ، ثم قال : ادعوا إلى من أشهد على ما قبضتما. فلم يجدا أحدا من المسلمين في تلك القرية ، فدعوا ناسا من اليهود والنصارى ، وأشهدهم على ما دفع إليهما ، ثم إن المسلمين قدما إلى أهله ، فدفعا ماله إلى أهله ، فقال الورثة : لقد كان معه من المال أكثر مما أتيتما به. فاستحلفوهما بالله ما دفع إليهما غير هذا. ثم قدم ناس من اليهود والنصارى ، فسألهم أهل الميت ، فأخبروهم أنه هلك بقريتهم ، وترك كذا وكذا من المال ؛ فعلم (٤) أهل المتوفى أن قد عثروا على أن المسلمين قد استحقا إثما ، فانطلقوا (٥) إلى ابن مسعود ، فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، فقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : ما من كتاب الله من شيء إلا قد جاء على الدلالة إلا هذه الآية ، فالآن جاء تأويلها (٦) فأمر المسلمين أن يحلفا بالله (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ). ثم أمر اليهود والنصارى أن يحلفوا بالله لقد ترك من المال كذا وكذا ، ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين ، وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ثم أمر أهل الميت أن يحلفوا بالله : أن كان ما شهدت به اليهود والنصارى [حق ،

__________________

 ـ قال صفوان بن سليم : لم يفت في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير : عمر ، وعلى ، ومعاذ ، وأبي موسى. توفي بالكوفة سنة ٤٤ ه‍. ينظر : الإصابة (٤ / ١١٩) ت ٤٤٨٩ ، الاستيعاب (٢ / ٣٩٢) ت ١٦٢٢ ، حلية الأولياء (١ / ٢٥٦) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٤ / ١٠٥) ، غاية النهاية (١ / ٤٤٢) ، طبقات الفقهاء للشيرازي (ص ١٢) ، تذكرة الحفاظ (١ / ٢٠) ، تاريخ الخميس (٢ / ١٥٩).

(١) في ب : اشتريتهما.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ١٠٦) رقم (١٢٩٣٠) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٣١٤) كتاب التفسير ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٦٠٤) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وأبي عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني.

(٤) في ب : فعلى.

(٥) في ب : فانطلقا.

(٦) في ب : حين جاء بتأويلها.

٦٤٠