تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

فحلفوا ، فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلمين ما شهدت به اليهود والنصارى](١). وكان ذلك في خلافة عثمان بن عفان (٢).

فإن ثبت هذا عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فهو خلاف ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم ، لكنّ البيّنة على المدّعى ، واليمين على المدّعى عليه» (٣).

وهو ـ أيضا ـ غير موافق لظاهر الآية ؛ فلا نراه ثبت هذا عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه.

وعن ابن عباس قال : كان رجل يقال له : تميم الداري (٤) ، وعدي بن بداء (٥) يختلفان

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٦٠٤) ، وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن مسعود ـ رضي الله بنحوه.

(٣) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (١٠ / ٢٥٢) من حديث ابن عباس مرفوعا بهذا اللفظ.

والحديث في الصحيحين عن ابن عباس نفسه مرفوعا بلفظ : «لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى أناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه».

أخرجه البخاري (٩ / ٧٦) كتاب التفسير : باب (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ ...) الآية ، (٤٥٥٢) ، ومسلم (٣ / ١٣٣٦) كتاب الأقضية : باب اليمين على المدعى عليه ، (١١ ـ ١٧١١). وهذا لفظ مسلم.

(٤) قال الحافظ في الفتح (٦ / ٧٢) : الصحابي المشهور ، وذلك قبل أن يسلم تميم ؛ وعلى هذا فهو من مرسل الصحابي ؛ لأن ابن عباس لم يحضر هذه القصة. وقد جاء في بعض الطرق أنه رواها عن تميم نفسه ، بيّن ذلك الكلبي في روايته المذكورة ، فقال : «عن ابن عباس عن تميم الداري قال : برئ الناس من هذه الآية غيرى وغير عدى بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام في تجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبنى سهم».

ويحتمل أن تكون القصة وقعت قبل الإسلام ، ثم تأخرت المحاكمة حتى أسلموا كلهم ؛ فإن في القصة ما يشعر بأن الجميع تحاكموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلعلها كانت بمكة سنة الفتح. ا ه.

(٥) قال الحافظ في الفتح (٦ / ٧٢) : عدي بن بداء : بفتح الموحدة وتشديد المهملة مع المد ، لم تختلف الروايات في ذلك إلا ما رأيته في «كتاب القضاء» للكرابيسي ؛ فإنه سماه البداء بن عاصم ... ووقع عند الواقدي : أن عدى بن بداء كان أخا تميم الداري. فإن ثبت فلعله أخوه لأمه أو من الرضاعة ، لكن في تفسير مقاتل بن حيان : أن رجلين نصرانيين من أهل دارين : أحدهما تميمي ، والآخر يماني».

وقال الحافظ ابن حجر ـ أيضا ـ في الإصابة (٤ / ٣٨٧) ترجمة (٥٤٨٩): «وأما عدي : فقال ابن حبان : له صحبة. وأخرجه ابن مندة ؛ فأنكر عليه ذلك أبو نعيم ، وقال : لا يعرف له إسلام.

قال ابن عطية : لا يصح لعدي عندى صحبة ، وقد وضعه بعضهم في الصحابة ، ولا وجه لذكره عندى فيهم ، وقوّى ذلك ابن الأثير بأن السياق عند ابن إسحاق : «فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستحلفوا عديّا بما يعظم على أهل دينه».

قلت : وإنما في هذا القسم ؛ لقول ابن حبان ، فقد يجوز أن يكون اطلع على أنّه أسلم بعد ذلك ، ثم وجدت في تفسير مقاتل بعد أن ساق القصة بطولها : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتميم : «ويحك يا تميم ، ـ

٦٤١

إلى مكة في التجارة ، فخرج رجل من بنى سهم ، فتوفي بأرض ليس فيها مسلم ؛ فأوصى إليهما ، فدفعا تركته إلى أهله ، وحبسا جاما (١) من فضة ، فاستحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كتمتما ولا اطلعتما. ثم عرف الجام بمكة ، فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم ، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله : إن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما ، فأخذوا الجام ، وفيهم نزلت هذه الآية (٢).

وفي هذا الحديث أن اليمين وجبت على المدعى عليهم كما ادعى عليهم الورثة : أنهم تركوا بعض تركة الميت ، وفيه أن الإناء لما ظهر ادعى تميم وصاحبه ، أنهما اشترياه من الميت فكانا مدعيين ، وحلف الورثة على دعواهم وصاحبه وهذان حكمان موافقان لسائر الأحكام والسنن ، فإن كان الأمر كما ذكر في هذا ، فليس في الآية نسخ ، ولا فيها [ما يخالف](٣) الأحكام الظاهرة ، وليس يجوز ـ عندنا ـ أن يحلف الشاهدان إذا كانا كافرين مع شهادتهما ؛ لأن ظاهر الآية يوجب اليمين على العدلين منا ومن غيرنا ، فلما لم يجز أن يحلف الشهود المسلمين على الوصية التي يشهدون لها ، وإنما يحلفون على شيء إن ادعوا أنهم حبسوه شيئا ، كان سبيل الكفار كذلك.

وإذا كانت الآية نزلت في قصة تميم وصاحبه وكانا نصرانيين ، فإن ذلك يدل على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فمعنى الآية على هذا التأويل ، ـ والله أعلم ـ أن يكون الميت خلف تركته عند ذميين ، على ما ذكر في القصة ، وقالا : ترك في أيدينا كذا وكذا ، وادعى الورثة أكثر من ذلك ، فاستحلف المدعى قبلهم ، وقوله : (تَحْبِسُونَهُما) على هذا التأويل هو المدعى عليهما.

__________________

 ـ أسلم يتجاوز الله عنك». فأسلم ، وحسن إسلامه ، ومات عدى بن بدّاء نصرانيّا. اه.

(١) الجمم : من الإناء والمكيال : جمامه ، وهو ما تجاوز رأسه بعد امتلائه. ينظر : المعجم الوسيط (جمم).

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه (٤ / ١٦) رقم (٢٧٨٠) كتاب الوصايا : باب قول الله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ ...) ، وأخرجه الترمذي في سننه (٥ / ١٤٦) رقم (٣٠٦٠) في أبواب «تفسير القرآن» : باب (ومن سورة المائدة) ، والبيهقي في سننه (١٠ / ١٦٥) كتاب الشهادات : باب ما جاء في قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)[المائدة : ١٠٦] ، وأخرجه الطبراني (٥ / ١١٥) رقم (١٢٩٧٠) وما بعده ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٦٠٢) وزاد نسبته لابن المنذر والنحاس ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(٣) سقط من ب.

٦٤٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً).

يريد ـ والله أعلم ـ أن يشهد عليهما شاهدان منا أو منهم [بشيء](١) جحداه : أنه من تركة الميت ؛ فهذا استحقاق الورثة ، فإذا قال المدعي قبلهما : اشتريناه من الميت ، فعلى الورثة أن يحلفوا ؛ فهذا ـ والله أعلم ـ معنى قوله : (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) ؛ لأن الورثة صاروا مدعى عليهم ، فقاموا في هذه الحال في وجوب اليمين عليهم مقام الأولين لما كانت الدعوى عليهم ؛ فهذا ـ والله أعلم ـ أقرب الوجوه في تأويل الآية وأشبهها ، وهو ـ إن شاء الله ـ معنى ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ وإن لم يذكر تفسير قوله : (مِنْ غَيْرِكُمْ) وهو ـ والله أعلم ـ : على غير ديننا (٢) ؛ لأنه ذكر المؤمنين جملة.

وأصحابنا لا يجيزون شهادة أهل الكفر في الوصية لمسلم ، لا في ضرورة ولا في غيرها ؛ لأنهم مع اختلافهم اتفقوا في أن شهادة الكفار لا تجوز على غير الوصية في حال ضرورة ، ولا في غيرها ، فشهادتهم في الوصية على المسلمين مثل ذلك.

ويمكن (٣) أن يكون تأويل الآية : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) في بيان ما يجوز من شهادة ذوي العدل منا في الحضر والسفر في الوصية وفي غير الوصية ؛ كقوله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢].

وقوله ـ تعالى ـ : (ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) [البقرة : ٢٨٢] الآية ، هذا في السفر والحضر.

وفي الدين وغير الدين سواء ، فعلى ذلك الأول ، ثم ابتدأ الحكم في غيره ، فقال : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ).

فإن قيل : فما معنى قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها)؟ [المائدة : ١٠٨](٤) قيل : في ذلك بيان أن المؤتمن إذا ادعيت عليه الخيانة ، وقال هو : [قد](٥) ردت ما كان في يدي ؛ فإنه لا يصدق إلا بعد أن يحلف ، فإذا علم أنه لا يقبل قوله إلا بيمين كان

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ١١٤) ، رقم (١٢٩٦٧).

(٣) في ب : وأمكن.

(٤) قال القاسمي (٦ / ٤١٩) : الحق أن الآية محكمة لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ. وأما قوله ـ تعالى ـ : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [البقرة : ٢٨٢] وقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] فهما عامان من الأشخاص والأزمان والأحوال. وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض ، وبالوصية ، وبحالة عدم الشهود المسلمين. ولا تعارض بين خاص وعام.

(٥) سقط من ب.

٦٤٣

أحرى أن يقول حذرا من أن يحلف على كذب ، أو يقر خوفا من الإثم في اليمين فتبين خيانته.

فإن قيل : ما معنى قوله : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ)؟

قيل : يحتمل أن يكون على زيادة التغليظ في اليمين ، وللحاكم أن يغلظ في اليمين على الخصم إذا اتهمه بأكثر من هذا ، وهو أن يحضر يمينه جماعة إذا سأل الخصم ذلك.

أو ذكر بعد الصلاة ؛ لما كان ذلك الوقت هو وقت لجلوس (١) الحاكم بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر لا على التغليظ ، وإن كانت الآية نزلت ـ فيما ذكر ابن عباس ، رضي الله عنه ـ في نصرانيين (٢) ، فقد يجوز أن يكون الله أمر بذلك تغليظا عليهما ، وهما تميم وصاحبه ؛ إذا كانوا يعظمون وقت غروب الشمس وما قرب من ذلك ، ووقت طلوعها ؛ لأنه وقت عبادتهم إياها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً).

قال بعضهم : فإن اطلع منهما على خيانة : أنهما كتما وكذبا ، فجاء آخران يشهدان على غير ما شهدا عليه أجيزت شهادة الآخرين ، وأبطلت شهادة الأولين (٣).

قال القتبي : (فَإِنْ عُثِرَ) : أي : ظهر (٤).

وقال : أبو عوسجة : قوله : (فَإِنْ عُثِرَ) : أي : علم واطلع عليه ، يقال : عثرت على فلان ، وعلى ما يفعل فلان ، أي : علمت به واطلعت عليه ، أعثر عثرا [وقوله] ، وكذلك : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) [الكهف : ٢١] في سورة الكهف من هذا ، أي : اطلعنا عليهم ، وأعلمناهم بمكانهم ، ويقال : أعثرت فلانا على سرّ فلان ، أي : أعلمته.

ثم وعظ الله المؤمنين ، وحذرهم أن يفعلوا مثل ذلك ، فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا) مواعظه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ما داموا في فسقهم ، أو قال ذلك لقوم علم الله منهم أنهم لا يرجعون عن ذلك أبدا.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ

__________________

(١) في ب : جلوس.

(٢) تقدم تخريجه قريبا.

(٣) قاله قتادة ، أخرجه عنه الطبري (٥ / ١١٤) رقم (١٢٩٦٦) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٦٠٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.

(٤) أخرجه الطبري في تفسيره (٥ / ١١٣) ولم يذكر نسبته للقتبي.

٦٤٤

النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ)(١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(١١٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

قال أهل التأويل : [بل](١) إنما يقولون ذلك ؛ لفزعهم من هول ذلك اليوم وشدته ، تطير قلوبهم ، وتذهل أفئدتهم ، فيقولون : (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(٢).

فلو كان ذلك منهم للهول والفزع على ما قاله أهل التأويل لكان لا يتهيأ لهم الإجابة ، وقد قالوا : (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ؛ دل أنه لا لما ذكروا ، ولكن للوجهين الآخرين ، والله أعلم.

أحدهما : أن سألهم عن حقيقة إجابة قومهم لهم بالضمائر ، أي : لم تطلعنا على علم الضمائر والغيوب ، فأنت أعلم بذلك.

والثاني : أن أحدثوا أمورا وأبدعوها من دأب أنفسهم ، فنسبوا ذلك إلى الرسل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ...) إلى قوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) [المائدة : ١١٦ ـ ١١٧] كأنهم قالوا : إن عيسى ـ عليه‌السلام ـ هو الذي دعاهم إلى ذلك ، فيقول لهم : ما ذا أجبتم؟ فقالوا : لا علم لنا فيما ادعوا علينا من الأمور التي أتوها ، إنك أنت علام الغيوب بأنا لم نقل لهم ، ولم ندعهم إلى ما ادّعوا من الأمور.

على هذين الوجهين يخرج تأويل الآية ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه عنه الطبري (٥ / ١٢٦) رقم (١٢٩٩٢) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٦٠٦) ، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

٦٤٥

ومثل هذا السؤال لهم بما أخبر في آية أخرى : أنه يسألهم ؛ كقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى قومهم ، ويسأل قومهم عن إجابتهم لهم ؛ ليقطع احتجاجهم ، وإن لم يكن لهم (١) الحجاج (٢).

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ).

أما نعمه عليه ما ذكر على إثره : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ...) إلى قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) [مريم : ٣٠ ، ٣١] ، شهد في حال طفولته بوحدانية الله وربوبيته وإخلاص عبوديته له ، وذلك من أعظم نعم الله عليه وأجل مننه ، وما ذكره (٤) أيضا :

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ...) الآية.

إلى آخر ما ذكر من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وكف بني إسرائيل عنه عند مجىء الآيات ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ففيه أعظم النعم عليه ، وما ذكر ـ أيضا ـ في بعض القصة ـ إن ثبت ـ أن عيسى لما دفع إلى الكتّاب جعل المعلم يقول له : باسم ، فيقول هو : باسم الله ، وإذا قال المعلم : باسم الله ، فيقول هو : الرحمن ، وإذا قال (٥) : الرحمن ، فيقول هو : الرحيم ، فيقول المعلم :

__________________

(١) في أ : أمر.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٥ / ٤٣٠) في تأويل قوله ـ تعالى ـ : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)[الأعراف : ٦].

(٣) قال القاسمي (٦ / ٤٢٧) : إن قيل : إن السياق في تعديد نعمه ـ تعالى ـ على عيسى ـ عليه‌السلام ـ وقول الكفار في حقه (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [هود : ٧] ، ليس من النعم بحسب الظاهر. فما السر في ذكره؟ فالجواب : إن من الأمثال المشهورة : إن كل ذي نعمة محسود. فطعن اليهود فيه بهذا الكلام يدل على أن نعم الله ـ تعالى ـ في حقه كانت عظيمة. فحسن ذكره عند تعديد النعم ، للوجه الذي ذكرناه. أفاده الرازي.

(٤) في ب : ذكر.

(٥) في ب : قال هو.

٦٤٦

كيف أعلم من هو أعلم مني؟ ونحو هذا كثير مما يكثر ويطول ذكره (١) ، وأما ما أنعم الله على والدته هو ما ذكر في قوله ـ تعالى ـ : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) [آل عمران : ٣٧] ، وما ذكر في قوله : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٤٢] طهرها عن جميع ما تبلى به بنات آدم ؛ فذلك من أعظم النعم ، وأجل المنن ، ثم أمر عيسى بشكر ما أنعم عليه وعلى والدته ؛ حيث قال : (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) وفي ذكر النعم شكرها ، وأمر ـ أيضا ـ بشكر ما أنعم على والدته ليعلم أن على المرء شكر ما أنعم على والدته ، كما يلزم شكر ما أنعم على نفسه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) اختلف فيه :

قال بعضهم : بروحه المبارك الذي أعطى في حال طفولته ، به كان يدعو الناس إلى توحيد الله وعبادتهم له.

وقيل : إن روح القدس هو الدعاء المبارك الذي به كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص بدعائه.

وقال أهل التأويل : الروح : هو جبريل (٢) ، والقدس هو الله (٣) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٩٣] أي : جبريل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) قال الحسن : الكتاب والحكمة واحد ، الكتاب هو الحكمة ، والحكمة هي الكتاب (٤) ؛ لأن جميع كتب الله كان حكمة.

وقال بعضهم (٥) : الكتاب : ما يكتب من العلم ، والحكمة : هي ما يعطى الإنسان من العلم على غير تعلم (٦).

وقال بعضهم : الكتاب : هو ما يحفظ ، والحكمة هي الفقه ، وهو واحد (٧).

__________________

(١) في ب : ذكرها.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه عنه الطبري (١ / ٤٤٨) رقم (١٤٨٨) ، وعن السدي رقم (١٤٨٩) ، وعن الضحاك رقم (١٤٩٠) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ١٦٧) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن مسعود.

(٣) ذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ١٦٧) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس. وذكره القرطبي في تفسيره ، عن مجاهد : «القدس هو الله». وعن الحسن : «القدس هو الله ، وروحه جبريل» (٢ / ١٨).

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن ، كما في الدر المنثور (١ / ٢٥٥).

(٥) في ب : غيرهم.

(٦) قال ابن زيد : الحكمة : الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعلمهم إياها ، أخرجه عنه الطبري (١ / ٦٠٧) ، رقم (٢٠٨٥).

(٧) قال مالك : الحكمة : المعرفة بالدين ، والفقه في الدين والاتباع له. أخرجه الطبري عنه (١ / ٦٠٧) رقم (٢٠٨٤).

٦٤٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي).

قوله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) : أي : تصور وتقدر (مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) كان من عيسى التصوير والتقدير ، وإلا كان التخليق من الله في الحقيقة ؛ لأنه هو المنفرد به دون الخلق ، غير أنه أجرى ذلك على يدي عيسى ؛ ليكون له آية لصدقه ونبوته ، وعلى ذلك الآيات التي يأتي بها الرسل ، ليست الرسل يأتون بها في الحقيقة ، بل كان الله هو الآتي بها ، والمنشئ تلك الآيات حقيقة ، لكنه يجريها على أيدي الرسل ؛ لتكون آيات صدقهم ، ودلالات رسالتهم ، فأما أن يأتي الرسل بالآيات والحجج من عند أنفسهم فلا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَخْلُقُ) ذكر التخليق ؛ لما تسمي العرب تصوير الشيء وتقديره : تخليقا ؛ فعلى ذلك خرج الخطاب ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) قيل : الأكمه : الذي يولد أعمى (٢) ، وأما الأعمى فهو (٣) الذي يذهب بصره بعد ما كان بصيرا.

وقيل الأكمه : هو الذي لا حدقة له ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) والحواريون : قيل : هم خواصه (٤) ، وكذلك أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم حواريوه ، وقد ذكرنا هذا في سورة آل عمران [و](٥) الاختلاف فيه.

ثم قوله : (أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) يحتمل الوحي إليهم وجهين :

أحدهما : أنه أوحى إلى رسوله عيسى ـ عليه‌السلام ـ فنسب ذلك إليهم وأضيف ؛ لأن الوحي إلى عيسى كالوحي إليهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) [العنكبوت : ٤٦] وما أنزل علينا ، وما أنزل على كذا ما أنزل إلى رسول الله كالمنزل إلينا ؛ فعلى ذلك الوحي إلى عيسى هو كالوحي إليهم.

والثاني : أوحى إليهم وحي إلهام ؛ كقوله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] الآية ،

__________________

(١) قد بينا أنه قد اشترك مع عيسى ـ عليه‌السلام ـ كثير من الأنبياء في نفس المعجزات التي أتى بها.

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ١١٠).

(٣) في ب : هو.

(٤) أخرجه الطبري (٣ / ٢٨٥).

(٥) سقط من ب.

٦٤٨

وقوله ـ تعالى ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧] ونحوه ، أنه وحي إلهام وقذف لا وحي إرسال ، والقذف في القلب من غير تكلف ولا كسب ، وهو الإخطار بالقلب على السرعة (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي).

والخطر يكون من الله تعالى ، ويكون من الشيطان ، لكن ما يكون من الله تعالى يكون خيرا ، يتبين ذلك في آخره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) يحتمل وجهين :

يحتمل : أن قالوا لعيسى : واشهد أنت عند ربك بأننا مسلمون.

ويحتمل : أن سألوا ربهم : أن يكتبهم من الشاهدين ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة : ٨٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ).

اختلف فيه :

قيل : إن قوما من غير الحواريين سألوا الحواريين أن يسألوا عيسى ـ عليه‌السلام ـ حتى يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء (١) ؛ لأن الحواريين قد قلنا : إنهم كانوا خواص عيسى ـ عليه‌السلام ـ فكان كمن بدت له حاجة إلى بعض الملوك ؛ فإنه إنما يرفع أولا إلى خواصه ؛ فهم الذين يتولون رفعها إلى الملك ؛ فعلى ذلك رفعوا حاجتهم إلى الحواريين ؛ ليسألوا (٢) هم نبي الله عيسى ـ عليه‌السلام ـ ليسأل ربه.

وقال آخرون : لم يسألوا قومهم ذلك ؛ ولكن الحواريين هم الذين سألوا عيسى ـ عليه‌السلام ـ أن يسأل ربه حتى ينزل عليهم مائدة [من السماء](٣) ، لكن سؤالهم ذلك يحتمل وجوها :

[الأول] : يحتمل سألوا ذلك ؛ لما أرادوا أن يشاهدوا الآية ، ولم يكونوا شاهدوا قبل ذلك ؛ فأحبّوا أن يشاهدوها ، وإن كانوا قد آمنوا به وصدقوه من قبل ؛ ليزداد لهم بذلك طمأنينة ويقينا ، وهو كقول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] لما يحتمل أن نفسه كانت تحدث وتنازع في ذلك ، وأحب أن يعاين ذلك ويشاهده ؛ ليزداد له طمأنينة ويقينا ؛ فعلى ذلك أولئك

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي (٣ / ٢٣٥).

(٢) في ب : فيسألوا.

(٣) سقط من ب.

٦٤٩

كانت (١) أنفسهم تحدث وتنازع في مشاهدة الآيات ؛ فأحبوا أن يريهم بذلك ؛ ليزداد (٢) لهم طمأنينة ويقينا وصلابة في التصديق ، والله أعلم.

والثاني : يحتمل أن يكون عيسى يخبرهم أن لهم كرامة ومنزلة عند الله ؛ فأحبوا أن يعرفوا منزلتهم عند الله وكرامتهم.

والثالث : سألوا ذلك ؛ ليعرفوا منزلة عيسى ـ عليه‌السلام ـ عند الله وكرامته : هل يجيب ربه دعاءه إذا سأل ربه؟ والله أعلم.

وإن كان السؤال من قوم [غير](٣) الحواريين ؛ فهو لما بدت لهم من الحاجة إليها ، [و] لا نعلم ذلك إلا بالخبر الصادق.

وقوله : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) يقرأ بالياء والتاء (٤) جميعا :

فمن قرأ بالتاء ذهب في التأويل إلى أن فيه إضمارا ؛ كأنهم قالوا : هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء.

ومن قرأ بالياء قال : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) ، أي : هل يجيب ربّك دعاءك إذا دعوته أن ينزل علينا مائدة من السماء.

قال الفراء : قد يكون مثل هذا السؤال على غير الجهل من السائل بالمسئول ؛ لأنه يجوز أن يقال في الكلام : هل يستطيع فلان أن يقوم في حاجتنا وفي أمرنا ، على علم منه أنه يستطيع ، ولكنه يسأل عنه : أيفعل أم لا؟ وذلك جائز في العربية ؛ ألا ترى أن قراءة من قرأ بالتاء ـ وهو ابن عباس وعائشة : (هل تستطيع ربك) ـ على علم منهم أن عيسى يستطيع السؤال لربه؟! لكنهم قالوا ذلك لما ذكرنا ، وذلك جائز في اللغة.

ويجوز أن يراد بالاستطاعة : الإرادة ، يقول الرجل لآخر : لا أستطيع أن انظر إلى فلان ، وهو يقدر النظر ، لكنه يريد بذلك : لا أريد أن انظر إليه ؛ فعلى ذلك قوله : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) : هل يأذن لك ربّك بالسؤال في ذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : كان.

(٢) في ب : فيزداد.

(٣) سقط من ب.

(٤) قرأ الجمهور : «يستطيع» بياء الغيبة ، «ربك» مرفوعا بالفاعلية ، والكسائي : «تستطيع» بتاء الخاطب لعيسى ، و «ربك» بالنصب على التعظيم ، وقاعدته أنه يدغم لام «هل» في أحرف منها هذا المكان ، وبقراءة الكسائي قرأت عائشة ، وكانت تقول : «الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا : هل يستطيع ربك» ؛ كأنها ـ رضي الله عنها ـ نزهتهم عن هذه المقالة الشنيعة أن تنسب إليهم ، وبها قرأ معاذ أيضا وعلى وابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين. ينظر : الدر المصون (٢ / ٦٤٨ ـ ٦٤٩).

٦٥٠

وقوله : ـ عزوجل ـ : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أي : اتقوا الله ، [و](١) لا تسألوا شيئا لم يأذن لكم في ذلك (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا).

[قوله : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا)](٢) يدل أنهم سألوا ذلك ؛ لما كانت تحدث أنفسهم وتنازع في مشاهدة الآيات ومعاينتها ، وإن كانوا صدقوا عيسى ـ عليه‌السلام ـ فيما يقول لهم ويخبر عن الله ؛ للمعنى الذي ذكرنا في إبراهيم عليه‌السلام ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا).

اختلف في تلاوته وفي تأويله :

قال بعضهم بالنصب (نَعْلَمَ) ، فهي القراءة الظاهرة المشهورة ، ومعناه : وأن نعلم ما قد صدقتنا.

والثاني : أن العلم بالشيء من جهة الخبر ربما يعترض الوساوس والشبه ؛ فطلبوا آية من جهة الحس والعيان ؛ ليكون ذلك أدفع لما يعترض من الشبه والوساوس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ).

أي : نكون عليها لمن أنكرها من الشاهدين : أنها نزلت.

قوله تعالى : (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا).

أي : طعاما دائما.

قال بعضهم : قوله (تَكُونُ لَنا عِيداً) ، أي : مجتمعا ، وسمى يوم العيد ؛ لاجتماع الخلق. ثم قيل : نزلت يوم الأحد ؛ فجعلوا ذلك اليوم يوم عيدهم. ثم اختلف في نزول المائدة :

قال الحسن : لم تنزل المائدة ؛ لأنه سأل أن تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ، ونحن من آخرهم ، فلم يكن لنا ما ذكر.

والثاني : (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ١١٥] وقد كفر منهم ، ثم لم يظهر أنه عذبهم عذابا لم يعذبه أحدا

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

٦٥١

من العالمين.

وقال بعضهم : ليس فيه دلالة أنها لم تنزل ؛ لأنه يجوز أن يكون قوله : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) ما لم يأت النسخ ، فكان لهم ذلك إلى أن بعث [نبيّنا](١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنسخ ذلك بيوم الجمعة.

وقالوا : قوله : (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ذكر في بعض القصة أن من كفر منهم بعد ذلك مسخهم خنازير ، فذلك تعذيب لم يعذبه أحدا من العالمين.

وقيل : يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) في الآخرة ، والله أعلم بذلك كله.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٢٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ...) [الآية](٢).

يحتمل هذا القول أوجها ثلاثة :

أحدها : أن كان هذا القول منه في الوقت الذي كان عيسى بين أظهرهم ؛ ليكون ذلك آية وحجة لمن تبعه على من زاغ عن طريقه ، وضل عن سبيل الهدى ؛ لأنه تبرأ أن يكون قال لهم ذلك.

ويحتمل : أن يكون قال ذلك له وقت رفعه إلى السماء : قرر عنده أن قومه يقولون ذلك القول بعد مفارقته قومه.

وقيل : إنه يقول ذلك له يوم القيامة ويكون «قال» بمعنى : «يقول» ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) [غافر : ٤٩] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

٦٥٢

فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) [المائدة : ١٠٩] أي : يقولون ، وذلك جائز «قال» بمعنى : «يقول» ، وذلك في القرآن كثير.

واتخاذهم عيسى وأمه إلهين قول متناقض ؛ لأنهم سمّوها : أم عيسى ؛ فإذا ثبتت لها الأمومة بطل أن تكون إلها ؛ وكذلك عيسى : إذا ظهر أنه كان ابنا لها ، بطل أن يكون إلها ؛ لأنه لا يكون ابن غيره إلها ، لكنهم قوم سفهاء ، يقولون ذلك عن سفه.

(قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ)

أي : لا ينبغي (١) لي أن أقول ما ليس ذلك بحق.

(إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ).

يتكلم في النفس على وجهين :

أحدهما : يراد ما يضمر.

والثاني : على إرادة الذات ؛ فإن كان الله يتعالى عن أن يوصف بالذات كما يوصف الخلق ؛ دل أنه إنما يراد بذلك غيره ، وهو أن يقال : تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك ، أو يقول : تعلم ما كان مني ولا أطلع على غيبك.

(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

أي : إنك أنت علام ما غاب عن الخلق.

قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ).

أي : ما دعوتهم إلا إلى ما أمرتني أن أدعوهم إليه من التوحيد والعبادة لك.

وقوله : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً).

أي : شاهدا عليهم. هذا يدل على أن ذلك القول كان منه وقت رفعه إلى السماء ، أو يكون يوم القيامة.

ويقال : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) ، أي : كنت عليهم حفيظا ما كنت بين أظهرهم.

(فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ).

أي : الحفيظ عليهم.

__________________

(١) في أ : لأنه لا ينبغي.

٦٥٣

(وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

بما أمرتهم من التوحيد والعبادة لك ، وشاهدا عليهم بما قالوا من البهتان.

وذكر في بعض القصة : لما قال الله ـ تعالى ـ لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ـ قيل : فأرعدت (١) مفاصله (٢) ، وخشى أن يكون قالها ؛ فقال : (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ...) الآية.

وذكر ـ أيضا ـ متكلمان يتكلمان يوم القيام : نبي الله عيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام ـ وعدو الله إبليس ـ لعنه الله ـ :

فأما كلام عيسى ـ عليه‌السلام ـ يقول الله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ؛ فقال عيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام ـ : (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ...) إلى قوله : (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وأما كلام اللعين : فيقول : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ...) الآية [إبراهيم : ٢٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

اختلف فيه :

عن الحسن قال : يقول ذلك في الآخرة : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) إن تعذب من مات على ما كان منه من القول الوخش (٣) في الله ، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ، أي : وإن تغفر لمن أكرمت له بالإسلام والهدى (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ؛ لأن منهم من قد آمن بعد هذا القول الوخش في الله.

وقال آخرون : هذا القول كان من عيسى في الدنيا : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) ، يقول : إن تعذب من مات على الكفر الذي كان منهم (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ) من أكرمت له الهدى (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : أنت العزيز وهم عبادك أذلاء.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : فإنك أنت الغفور الرحيم [و](٤) هو ظاهر ؛ لأنه ذكر أنه غفور على إثر المغفرة.

وروي في الخبر أن نبي الله ـ عليه‌السلام ـ كان أحيا ليله بقوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) به قام ، وبه سجد ، وبه قعد ، فهو ـ والله أعلم ـ على

__________________

(١) في أ : فارتعدت.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٣٧) (١٣٠٣٣) (١٣٠٣٩) عن ميسرة ، ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٦١٥) ، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) في أ : الفاحش.

(٤) سقط من ب.

٦٥٤

التشفع والتضرع إليه ؛ كأنه قال : إن خذلتهم فمن الذي ينصرهم ويدفع ذلك عنهم دونك ، وهم عبادك أذلاء؟! وإن أكرمتهم فمن الذي يمنعك عن إكرامهم؟! (١).

والثاني : إن تعذبهم فلك سلطان عليهم ، ولست أنت في تعذيبك إياهم جائرا ؛ لأنهم عبادك ؛ لأن الجور هو المجاوزة عن الحد الذي له إلى الحد الذي ليس له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ اللهُ هذا).

قيل : «قال ...» بمعنى : «يقول الله يوم القيامة» (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) ، أي : اليوم ينفع الصادقين صدقهم في الدنيا ، وينفع صدق الصادق ـ أيضا ـ في الدنيا ؛ لأنه إذا عرف بالصدق قبل قوله ، وإن لم يظهر صدقه في قوله.

ثمّ اختلف في الصادقين من هم؟ : قال بعضهم : هم المؤمنون جملة ، أي : يومئذ ينفع إيمان المؤمنين ، وتوحيد الموحدين في الدنيا (٢) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩].

وقال بعضهم : الصادقون : هم الأنبياء ، عليهم‌السلام (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

قد ذكرناه فيما تقدم.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

و «خالدين» و «أبدا» واحد ؛ لكنه يذكر على التأكيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ).

لسعيهم (٤) في الدنيا.

(وَرَضُوا عَنْهُ).

بالثواب لسعيهم.

ويحتمل : (وَرَضُوا عَنْهُ) بما وفقهم على سعيهم المحمود في الدنيا (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

لأنه ليس بعده خوف الهلاك ، ولا خوف الفوت ؛ فهو الفوز العظيم ، ليس كفوز الدنيا ؛

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند (٥ / ١٤٩) ، والنسائي في سننه (٢ / ١٧٧) في كتاب الافتتاح : باب ترديد الآية (١٠٠٩) ، وابن ماجه في سننه (٢ / ٤٧٩ ـ ٤٨٠) كتاب الصلاة : باب ما جاء في صلاة الليل (١٣٥٠) عن أبي ذر الغفاري ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٦١٦) ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي ذر.

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٦١٧) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن عبد الله بن عباس ، والبغوي بمعناه في تفسيره (٢ / ٨٢).

(٣) ذكره بمعناه البغوي في تفسيره (٢ / ٨٢) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ٦٢٨).

(٤) في ب : بسعيهم.

٦٥٥

لأنه لا يذهب عنه خوف الهلاك ، ولا خوف الفوت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ).

[كأن](١) هذا خرج على إثر قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، أي (٢) : كيف يتخذ أربابا وولدا وله ملك السموات والأرض وملك ما فيهن من الخلق ، كلهم عبيده وإماؤه؟!.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

لا يعجزه شيء ، [ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم](٣).

* * *

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : أن.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في ب : «والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، قد تم هذا المجلد المبارك على يدي أفقر العباد وأحوجهم إلى رحمة ربه : عبد القادر بن عبد الرحمن الدنوشري بالقسطنطينية ، في أواخر شهر ذي القعدة الحرام ، سنة سبع وتسعين وتسعمائة ، غفر الله لكاتبه ولوالديه ، ولمن طالع فيه ، ولمن يدعو له بالحشر مع المؤمنين والمؤمنات ، والحمد لله وحده. آمين.

٦٥٦

فهرس المحتويات

 تفسير سورة النساء

آية ١.......................................................................... ٣

من آية ٢ إلى ٣................................................................. ٥

من آية ٤ إلى ٥................................................................ ١٣

آية ٦......................................................................... ٢١

من آية ٧ إلى ١٠.............................................................. ٢٨

آية ١١....................................................................... ٣٦

آية ١٢....................................................................... ٥٦

من آية ١٣ إلى ١٤............................................................ ٦٥

من آية ١٥ إلى ١٦............................................................ ٦٦

من آية ١٧ إلى ١٨............................................................ ٧٧

آية ١٩....................................................................... ٨١

من آية ٢٠ إلى ٢٢............................................................ ٨٥

آية ٢٣....................................................................... ٨٨

آية ٢٤..................................................................... ١٠٦

آية ٢٥..................................................................... ١٢٠

من آية ٢٦ إلى ٢٨........................................................... ١٣٣

من آية ٢٩ إلى ٣١........................................................... ١٣٨

٦٥٧

من آية ٣٢ إلى ٣٣........................................................... ١٤٨

من آية ٣٤ إلى ٣٥........................................................... ١٥٦

من آية ٣٦ إلى ٣٧........................................................... ١٧٠

من آية ٣٨ إلى ٣٩........................................................... ١٨٢

من آية ٤٠ إلى ٤٢........................................................... ١٨٤

آية ٤٣..................................................................... ١٨٧

من آية ٤٤ إلى ٤٦........................................................... ١٩٦

من آية ٤٧ إلى ٤٨........................................................... ٢٠٠

من آية ٤٩ إلى ٥٣........................................................... ٢٠٤

من آية ٥٤ إلى ٥٥........................................................... ٢٠٩

من آية ٥٦ إلى ٥٧........................................................... ٢١٨

آية ٥٨..................................................................... ٢٢١

آية ٥٩..................................................................... ٢٢٥

من آية ٦٠ إلى ٦٣........................................................... ٢٣٥

من آية ٦٤ إلى ٦٥........................................................... ٢٣٩

من آية ٦٦ إلى ٧٠........................................................... ٢٤٣

من آية ٧١ إلى ٧٣........................................................... ٢٤٩

من آية ٧٤ إلى ٧٦........................................................... ٢٥٥

آية ٧٧..................................................................... ٢٥٨

من آية ٧٨ إلى ٧٩........................................................... ٢٦٤

من آية ٨٠ إلى ٨٢........................................................... ٢٦٩

٦٥٨

من آية ٨٣ إلى ٨٤........................................................... ٢٧٥

آية ٨٥..................................................................... ٢٧٩

من آية ٨٦ إلى ٨٧........................................................... ٢٨٤

من آية ٨٨ إلى ٨٩........................................................... ٢٨٨

من آية ٩٠ إلى ٩١........................................................... ٢٩٣

من آية ٩٢ إلى ٩٣........................................................... ٢٩٧

آية ٩٤..................................................................... ٣٣٠

من آية ٩٥ إلى ٩٩........................................................... ٣٣٢

آية ١٠٠.................................................................... ٣٣٦

آية ١٠١.................................................................... ٣٣٧

من آية ١٠٢ إلى ١٠٣....................................................... ٣٤٢

من آية ١٠٤ إلى ١٠٧....................................................... ٣٥٢

من آية ١٠٨ إلى ١٠٩....................................................... ٣٥٤

من آية ١١٠ إلى ١١٣....................................................... ٣٥٦

من آية ١١٤ إلى ١١٥....................................................... ٣٥٩

من آية ١١٦ إلى ١٢٢....................................................... ٣٦١

من آية ١٢٣ إلى ١٢٦....................................................... ٣٦٧

من آية ١٢٧ إلى ١٣٠....................................................... ٣٧٤

من آية ١٣١ إلى ١٣٤....................................................... ٣٨٢

آية ١٣٥.................................................................... ٣٨٤

آية ١٣٦.................................................................... ٣٨٦

٦٥٩

آية ١٣٧.................................................................... ٣٨٧

من آية ١٣٨ إلى ١٤١....................................................... ٣٩٠

من آية ١٤٢ إلى ١٤٤....................................................... ٣٩٤

من آية ١٤٥ إلى ١٤٧....................................................... ٣٩٨

من آية ١٤٨ إلى ١٤٩....................................................... ٤٠٢

من آية ١٥٠ إلى ١٥٢....................................................... ٤٠٤

من آية ١٥٣ إلى ١٥٥....................................................... ٤٠٦

من آية ١٥٦ إلى ١٥٩....................................................... ٤٠٩

من آية ١٦٠ إلى ١٦٢....................................................... ٤١٣

من آية ١٦٣ إلى ١٦٦....................................................... ٤١٨

من آية ١٦٧ إلى ١٧٠....................................................... ٤٢٢

من آية ١٧١ إلى ١٧٣....................................................... ٤٢٤

من آية ١٧٤ إلى ١٧٦....................................................... ٤٣١

تفسير سورة المائدة

من آية ١ إلى ٢.............................................................. ٤٣٤

آية ٣....................................................................... ٤٤٦

من آية ٤ إلى ٥.............................................................. ٤٥٦

من آية ٦ إلى ٧.............................................................. ٤٦٧

من آية ٨ إلى ١١............................................................ ٤٧٦

من آية ١٢ إلى ١٤........................................................... ٤٧٨

من آية ١٥ إلى ١٦........................................................... ٤٨٤

٦٦٠