تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

في التوراة ما يقول هو ، ونحو ذا (١).

وقيل : إنهم كانوا طلائع الكفرة وعيونا لهم ، فإذا أتى لهم منهم خبر يخبرون ضعفة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلاف ما أتاهم ؛ نحو قولهم (٢) : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران : ١٧٣] ، كانوا يخشونهم ؛ لئلا يغزوهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ)

يحتمل التحريف وجهين :

يحتمل : تبديل الكتابة من الأصل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة : ٧٩] ويحتمل تغيير المعنى في العبارة على غير تبديل الكتاب ، يغيرون على السفلة ، والذين لا يعرفون غير ما فهموا منه.

وقوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا)

يعنون ب «هذا» : ما حرفوه وغيروه.

(فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا)

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : نزلت الآية في رجل وامرأة من اليهود زنيا ، وكان حكم الله في التوراة في الزنا : الرجم ، وكانوا يرجمون الوضيع منهم إذا زنا ، ولا يرجمون الشريف ـ وكانا في شرف وموضع ، وكانا قد أحصنا ، فكرهت اليهود رجمهما ، وفي كتابهم الرجم ، وكانوا أرادوا أن يرتفع الرجم من بينهم ، وأن يكون حدهم الجلد ؛ فذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) ـ يعنون : الجلد ـ (فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) ، فكتبوا بذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسألوا عن ذلك ، فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا : ما حدّهما؟ وهل تجد فيهما الرجم فيما أنزل الله ـ تعالى ـ عليك؟ فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وهل ترضون بقضائي فى ذلك؟» قالوا : نعم ؛ فنزل

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٩٠) في كتاب التفسير : باب (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣] (٤٥٥٦) ، ومسلم (٣ / ١٣٢٦) كتاب الحدود : باب رجم اليهود ، (٢٦ ـ ١٦٩٩) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا ، فقال لهم : «كيف تفعلون بمن زنى منكم؟» قالوا : نحممهما ونضربهما. فقال : لا تجدون في التوراة الرجم؟! فقالوا : لا نجد فيها شيئا ؛ فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣] فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم ، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم ؛ فنزع يده عن آية الرجم ؛ فقال : ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا : هي آية الرجم ؛ فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد ، فرأيت صاحبها يجنأ عليها ؛ يقيها الحجارة. وهذا لفظ البخاري.

(٢) في ب : قوله.

٥٢١

جبريل ـ عليه‌السلام ـ بالرجم ، وقال له : إن أبوا أن يأخذوا به ، فاسألهم عن رجل منهم يقال له : «ابن صوريا» ـ وصفه له ـ فاجعله بينك وبينهم ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ، أجد فيما أنزل الله عليّ : أنّ الزّانية والزّاني إذا أحصنا وفجرا ؛ فإنّ عليهما الرّجم» ، فنفروا عن ذلك ؛ فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتعرفون رجلا شابّا صفته كذا ، يقال له : ابن صوريا؟» قالوا : نعم ، قال : «فأيّ رجل هو فيكم؟» قالوا : هو أعلم يهودي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى ، قال : «فأرسلوا إليه» (١) ففعلوا ؛ فأتاهم ابن صوريا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت ابن صوريا؟» قال : نعم ، قال : [«وأنت أعلم اليهود؟»](٢) ، قال : كذلك يزعمون ، قال : «اجعلوه بيني وبينكم» قالوا : نعم ، رضينا به إذا رضيت ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنّي أنشدك بالله الّذي لا إله إلّا هو الّذي أنزل التّوراة على موسى : هل تجدون فى كتابكم الّذي أتاكم به موسى [فى التّوراة] : (٣) الرّجم على من أحصن؟» ، قال ابن صوريا : نعم والذي ذكرتني ، ولو لا خشية أن تحرقني النار إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك (٤).

ففي هذا وجوه من الدلائل :

أحدها : أنه (٥) سألهم عما كتموا من الأحكام والحقوق التي بينهم وبين الله تعالى ؛ ليظهر خيانتهم وكذبهم فيما كتموا من نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله ، وفيه إثبات رسالته.

والثاني : أنهم طلبوا منه الرخصة والتخفيف في الحد ؛ لأنهم (٦) عرفوا أنه [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] ، لكنهم كابروا في الإنكار بعد ما عرفوا أنه رسول الله حقّا.

وفيه دلالة جواز شهادة بعضهم على بعض ؛ لأنه قبل شهادة ابن صوريا عليهم حيث شهد بالرجم.

وقال بعضهم : قوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا

__________________

(١) في أ : عليه.

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه عبد الرزاق (١٣٣٣٠) ، وأبو داود (٢ / ٥٦٠ ـ ٥٦١) كتاب الحدود : باب رجم اليهوديين حديث (٤٤٥٠) ، والطبري (١١٩٢٦) ، والبيهقي (٨ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧) من حديث أبي هريرة لا من حديث ابن عباس.

(٥) في الأصول : أن.

(٦) في الأصول : أنهم.

٥٢٢

فَخُذُوهُ ...) الآية : إنها نزلت في قتيل قتل عمدا بين قبيلتين : بني قريظة ، والنضير ، وكان القتيل من بني قريظة ، وكان (١) بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يعطوهم القود ، ولكن يعطونهم الدية ، [وإذا] قتل بنو قريظة من بنى النضير لم يرضوا إلا بالقود ؛ يتعززون عليهم ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فأرادوا أن يرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليحكم بينهم ، فقال رجل من المنافقين : إن قتيلكم قتل عمدا ، وأنا أخشى عليكم القود ، فإن كان محمد أمركم بالدية وقبل منكم فأعطوه ، وإلا فكونوا على حذر ، فأخبر الله ـ عزوجل ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قالوا ؛ فقال : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) [يعني : الدية](٢) ، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا)(٣).

فلا ندرى فيم كانت القصّة ، وفيه من الدلائل ما ذكرنا من إثبات الرسالة والنبوة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ)

قيل : من يرد الله عذابه وإهلاكه ؛ فلن يملك أحد دفع ذلك العذاب عنه.

وقيل : الفتنة : المحنة ، أي : من يرد الله أن يمتحن بالرجم أو القتل ؛ فلن يملك له أحد دفع ذلك عنه (٤).

وقوله [ـ عزوجل ـ :] (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) قالت المعتزلة : قوله : (لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) تأويله يحتمل وجهين :

يحتمل : (لَمْ يُرِدِ اللهُ). أي : لم يطهر الله قلوبهم.

والثاني : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) بالشرك والكفر ، وذلك بعيد ؛ لأنه كيف يطهر بالكفر ، وبالكفر يتنجس؟!.

لكن الوجه عندنا في قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي : لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ؛ إذ علم منهم أنهم يختارون ما اختاروا ، ويريدون ما

__________________

(١) في الأصول : وكانت.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه أحمد (١ / ٢٤٦) ، وأبو داود (٣ / ٢٩٩) كتاب الأقضية : باب في القاضي يخطئ ، (٣٥٧٦) مختصرا ، والطبراني في الكبير (١٠ / ٣٦٧) ، رقم (١٠٧٣٢) ، وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس بنحوه مطولا ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٩٨) ، وقال الهيثمي في المجمع (٧ / ١٦) : وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف وقد وثق ، وبقية رجال أحمد ثقات. ا ه. والحديث عند الطبري (٤ / ٥٩٤) ، رقم (١٢٠٤٢) ، وقد سقط من سنده ابن عباس.

(٤) ينظر : تفسير الرازي (١١ / ١٨٤).

٥٢٣

أرادوا ، فإنما أراد ما كان علم منهم أنهم يريدون ويختارون ؛ وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) يريد فتنة من علم أنه يريدها ويختارها ، فإنما يريد ما أراد هو ويختار.

وظاهر الآية على المعتزلة ؛ لأنه قال : (لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) ، وهم يقولون : أراد أن يطهر قلوبهم. وذلك ظاهر الخلاف بيّن ، وبالله العصمة.

[وقوله ـ عزوجل ـ :](١)(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ)

الخزي في الدنيا يحتمل : القتل ، ويحتمل : العذاب والجزية (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ)

يحتمل وجهين :

يحتمل : (سَمَّاعُونَ) ، أي : مستمعون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليعرفوا به فيكذبوا عليه.

ويحتمل قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) ، أي : قابلون لما ألقى إليهم من الكذب : كانوا يقبلون لما ألقى إليهم من الكذب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)

قال بعضهم : كل حرام هو سحت (٢) ، فإن كان السحت اسم كل حرام ، فذلك يعم جميع الكفرة أو أكثرهم.

وقال آخرون : السحت (٣) : هو الرشوة في الحكم (٤) ، فإن كان السحت هذا فذلك يرجع إلى رؤسائهم الذين يحكمون فيما بينهم ، ويأخذون على ذلك رشوة.

__________________

(١) بياض في ب.

(٢) قال علي بن أبي طالب : أبواب السحت ثمانية : رأس السحت : رشوة الحاكم ، وكسب البغي ، وعسب الفحل ، وثمن الميتة ، وثمن الخمر ، وثمن الكلب ، وكسب الحجام ، وأجر الكاهن.

أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٨١) ، رقم (١١٩٧٠) ، وأبو الشيخ كما في الدر المنثور (٢ / ٥٠٢). وقال الرازي : روي ذاك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد ، وزاد بعضهم ونقص بعضهم ، وأصله يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ، ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة. تفسير الرازي (١١ / ١٨٥).

(٣) قال القاسمي (٦ / ٢٠٨) : قال ابن مسعود : الرشوة في كل شيء. فمن شفع شفاعة ليرد بها حقّا ، أو يدفع بها ظلما ، فأهدي بها إليه ، فقبل ، فهو سحت. فقيل : له : يا عبد الرحمن! ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم؟ فقال : الأخذ على الحكم كفر! قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤].

(٤) قاله ابن عباس ، وابن مسعود ، ومجاهد وغيرهم ، أخرجها عنهم الطبري (٤ / ٥٧٩ ـ ٥٨١) ، وينظر : الدر المنثور (٢ / ٥٠١ ـ ٥٠٢).

٥٢٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)

اختلف فيه.

قال بعضهم : هو على التخيير إذا رفعوا إلى الإمام : إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض ولم يحكم (١) ، لكنه منسوخ بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [المائدة : ٤٩] : أمر بالحكم بينهم إذا جاءوا ، ونهى أن يتبع أهواءهم ، وفي ترك الحكم بينهم اتباع هواهم ، وقال : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ)(٢)(وَاحْذَرْهُمْ). قالوا : هو منسوخ بهذه الآية (٣) ، وأمكن الجمع بينهما ، وهو أن قوله ـ تعالى ـ : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) في قوم من أهل الحرب دخلوا دار الإسلام بأمان ، فرفعوا إلى الإمام أمرهم ؛ فالإمام بالخيار : إن شاء ردهم إلى مأمنهم ، أو نقض عليهم أمانهم ، ولم يحكم بينهم ، وإن شاء تركهم وحكم بينهم ؛ فذلك معنى التخيير ، والله أعلم.

وأما قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ) [المائدة : ٤٩] : فذلك في أهل الذمة الراضين بحكمنا ، إذا رفعوا إلى الحاكم يجب أن يحكم بينهم ، ولا يرد عليهم ما طلبوا منه من إجراء الحكم عليهم ؛ [لأنه](٤) ليس له فسخ (٥) ما أعطى لهم من العهود والمواثيق ، وهم قد رضوا بحكمنا ؛ لذلك لزم الحكم بينهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً)

يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : أن يقع الإعراض عنهم موقع الجفاء ، ويعدون ذلك جفاء ؛ فأمن ـ عزوجل ـ نبيه ـ عليه‌السلام ـ عن أن يلحقه ضرر منهم.

ويحتمل قوله : (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي : ليس عليك من ضرر ما هم فيه ؛ فإنما ضرر ذلك عليهم ؛ وهو كقوله : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] وكقوله ـ تعالى ـ : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ...) الآية [الأنعام : ٥٢].

__________________

(١) قاله إبراهيم والشعبي وعطاء وقتادة ، أخرج آثارهم الطبري (٤ / ٤٨٥) ، وغيره. ينظر : الدر المنثور (٢ / ٥٠٤).

(٢) زاد في أ : أمر بالحكم بينهم إذا جاءوا أو نهي أن يتبع أهواءهم.

(٣) قال بالنسخ : عكرمة والحسن ، أخرجه الطبري عنهما (٤ / ٥٨٥) ، رقم (١١٩٩١) ، وما بعده.

(٤) في أ : لأنهم به.

(٥) في ب : نسخ.

٥٢٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)

أي : بالعدل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) [النساء : ١٣٥] وكقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ...) الآية [النساء : ٥٨].

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)

أي : العادلين في الحكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ)

يعجّب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شدة سفههم وتعنتهم بتركهم الحكم بالذي صدقوا ، وطلب الحكم بما كذبوا ؛ لأنهم صدقوا التوراة وما فيها من الحكم ، وكذبوا ما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول ـ والله أعلم ـ : إنهم إذا لم يعملوا بالذي صدقوا ، كيف يعملون (١) بالذي كذبوا؟! وذلك تعجيب منه إياه شدة السفه والتعنت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِيها حُكْمُ اللهِ) ، أي : حكم الله الذي تنازعوا فيه وتشاجروا : رجما [كان](٢) أو قصاصا أو ما كان ، والله أعلم.

وقوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ)

يحتمل وجهين :

يحتمل : يتولون من بعد ما تحكم بينهم عما حكمت.

ويحتمل : يتولون من بعد ما عرفوا من الحكم عليهم بما في التوراة.

وقوله : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)

أخبرهم أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم سماهم كافرين في آخر الآية ، بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) لم يجعل درجة ثالثة ؛ فهذا ينقض قول من يجعل درجة ثالثة بين الإيمان والكفر ، وهو قول المعتزلة.

وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ)

هدى من الضلالة ، ونور من العمى ، هدى لمن استهدى به ، ونور لمن استنار به من العمى

وقوله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا)

اختلف فيه :

قال بعضهم : الآية على التقديم والتأخير : يقول : يحكم بها النبيون الربانيون والأخبار

__________________

(١) في ب : يعلمون.

(٢) سقط من ب.

٥٢٦

الذين أسلموا ، أو من الأحبار من قد أسلم. أخبر أن النبيين والأحبار الذين أسلموا يحكمون بما في التوراة (لِلَّذِينَ هادُوا) ، أي : على الذين هادوا ؛ (لِلَّذِينَ) بمعنى : على الذين ؛ وهذا جائز في اللغة ؛ كقوله : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ، أي : فعليها.

وقيل : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) ، أي : أسلموا أمرهم وأنفسهم لله ، وخضعوا له ، حكموا بما فيها ، وإن خافوا على أنفسهم الهلاك (لِلَّذِينَ هادُوا) إن أطاعوا الله ، وقبلوا ما فيها من الحكم ؛ فعند ذلك يحكم لهم (١).

وقوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ)

هو طلب الحفظ ، أي : بما جعل إليهم الحفظ.

(وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ).

أي : شهداء على ما في التوراة من الحكم.

ويحتمل : شهداء على حكم رسول الله الذي حكم عليهم ، أنه كذلك في التوراة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) فيما تحكم عليهم ، (وَاخْشَوْنِ)

أمن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرهم ونكبتهم ، وأمر أن يخشوه ؛ يكفيه شرهم وأذاهم.

ثم اختلف في الأحبار والربانيين : قال بعضهم : (الرَّبَّانِيُّونَ) : علماء اليهود ، «والأحبار» : علماء النصارى. وهما واحد سموا باسمين مختلفين (٢).

وقيل : قوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) إنما خاطب علماؤهم ، أي : لا [تخشوا الناس](٣) أن تخبروهم بالحكم الذي في التوراة واخشون.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً)

لهم خرج الخطاب بهذا على التأويل الثاني.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)

هكذا من جحد الحكم بما أنزل الله ولم يره حقّا فهو كافر.

ذكر في القصّة أن الآية نزلت في قتيل كان بين بني قريظة وبني النضير : أن بني النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يرضوا إلا بالقود ، والأخرى إذا قتلت أحدا منهم كانوا لم يعطوهم القود ، ولكن يعطوهم الدية ؛ فنزل : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ

__________________

(١) ينظر : مفاتيح الغيب (١٢ / ٤) ، والجامع لأحكام القرآن (٦ / ١٢٣).

(٢) قال قتادة : «الربانيون» : فقهاء اليهود ، و «الأحبار» : علماؤهم. أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٩٠) ، رقم (١٢٠٢٠).

(٣) في أ : تخشون.

٥٢٧

بِالنَّفْسِ ....)(١) الآية.

قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٤٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ...) إلى آخره.

أخبر الله ـ عزوجل ـ أنه كان كتب على أهل التوراة : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وقد كتب علينا ـ أيضا ـ قتل النفس بالنفس بقوله ـ تعالى ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨] ؛ كأنه قال : كتب عليكم القصاص في النفس بالنفس ، كما كنت كتبت [عليهم](٢).

وأما القصاص فيما دون النفس : فإنه لم يبين في الآية التي أخبر ـ عزوجل ـ أنه كتب علينا القصاص في النفس.

ثم يحتمل أن يكون قوله : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ...) إلى آخر ما ذكر وجهين :

يحتمل : أن يكون إخبارا عما كان مكتوبا عليهم من القصاص فيما دون النفس : كالنفس ؛ ألا ترى أنه قد قرئ في بعض القراءات بالنصب ؛ نسقا على الأول؟!

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٤ / ١٦٨) كتاب الديات : باب النفس بالنفس (٤٤٩٤) ، والنسائي (٨ / ١٨) كتاب القسامة : باب تأويل قول الله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ، والحاكم (٤ / ٣٦٦) ، والبيهقي (٨ / ٢٤) من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : «كان قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من الضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدى مائة وسق من تمر ، فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ، فقالوا : ادفعوه إلينا نقتله ، فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتوه ، فنزلت (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ). والقسط : النفس بالنفس ، ثم نزلت (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠]. وهذا إسناد ضعيف ؛ لأن رواية سماك عن عكرمة مضطربة كما في التقريب. والحديث ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٠٤) ، وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير (٤ / ٥٨٣) ، رقم (١١٩٨٠) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي. وفاته أن يعزوه إلى أبي داود والنسائي. وأخرجه الطبري (٤ / ٥٩٨) ، رقم (١٢٠٦٩) عن ابن جريج بنحوه.

(٢) سقط من ب.

٥٢٨

ويحتمل : على الابتداء على غير إخبار منه ، ولكن على الإيجاب ابتداء ؛ والذي يدل على ذلك قوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) لا يحتمل أن يكون هذا في الخبر ؛ لأن ذلك ترغيب في العفو في الحادث من الوقت ؛ دل أنه ليس على الإخبار ، ولكن على الابتداء ؛ ألا ترى أكثر القراء قرءوا بالرفع غير قوله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، فإنه بالنصب؟!.

ثم ذكر (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ) ، ولم يذكر اليد والرجل ، وذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : لما يحتمل أن يكون القصاص في اليد ظاهرا ، فيستدلّ بوجوبه فيما هو أخفي على وجوبه ـ فيما هو أظهر منه ؛ لأن المنتفع بالبصر والأنف والسمع ليس إلا صاحبه ، وقد يجوز أن ينتفع غيره بيد آخر وبرجله.

والثاني : أن يكون وجوب القصاص في اليد في قوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ).

ثم تخصيص الأسنان بوجوب القصاص دون غيرها من العظام ؛ لأن الأسنان بادية ظاهرة ، يقع عليها البصر ـ يقدر على الاقتصاص [فيها] ، وأما غيرها من العظام : مما لا يقع عليها البصر ، ولا يقدر على الاقتصاص [فيها] إلا بعد كسر آخر وقطع لحم ؛ لذلك خصت الأسنان بالاقتصاص دون سائر العظام ، والله أعلم.

ثم فيه دليل وجوب القصاص في العضو الذي لا منفعة (١) فيه سوى البهاء (٢) ـ بذهاب البهاء ؛ لأنه ذكر الأنف والأذن ، وليس في الأنف والأذن إلا ذهاب البهاء ؛ فأوجب في ذهاب البهاء القصاص ؛ كما أوجب في ذهاب المنفعة ؛ وعلى هذا يخرج قولنا : وجوب الدية في ذهاب البهاء على الكمال ، كوجوبها في ذهاب المنفعة على الكمال.

[على أن](٣) أهل العلم مجمعون أن القصاص واجب بين الرجال الأحرار في «العين ، والأنف» «والأذن ، والسن» ، «والجروح» التي ليس فيها كسر عظم ؛ إذا جنى على شيء من ذلك عمدا بحديدة.

وأما القصاص بين الرجال والنساء والعبيد والأحرار فيما دون النفس : فأهل العلم اختلفوا فيه ، وكان أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ لا يرون القصاص بينهم في ذلك ، ويرون القصاص في الأنفس ، [فأهل العلم اختلفوا فيه](٤) ، ويفرقون بينهما ، والفرق بينهما :

__________________

(١) في أ : منتفعة.

(٢) البهاء : الحسن والجمال. ينظر : المعجم الوسيط (١ / ٧٤).

(٣) في أ : هل.

(٤) سقط من ب.

٥٢٩

أن جماعة لو قتلوا رجلا قتلوا به ، ولو قطع جماعة يد رجل لم تقطع أيديهم ؛ فالتفاضل في الأنفس غير معتبر به ، ويعتبر به فيما دون النفس ، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم ذكرا كافيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)

اختلف فيه :

قال بعضهم : هو صاحب الدم كفارة لما كان ارتكب هو (١) ، وعلى ذلك روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تصدّق بدم فما دونه كان له كفّارة من يوم ولد إلى يوم تصدّق» (٢).

وقال بعضهم : قوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ، يعنى : كفارة للقاتل إذا عفا الولى ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه (٣).

وعن مجاهد : هو كفارة للجارح ، وأجر المتصدق على الله (٤).

والأوّل كأنه أقرب وأشبه ، والله أعلم (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

هذا إذا ترك الحكم بما أنزل الله جحودا منه ، فهو ما ذكر ، كافر.

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)

قوله تعالى : (وَقَفَّيْنا) : أي : أتبعنا على آثارهم ، وهو من القفا.

وقوله : (آثارِهِمْ) يحتمل وجهين :

يحتمل : على آثار الرسل.

ويحتمل : على آثار الذين أنزل فيهم التوراة.

__________________

(١) قاله عبد الله بن عمرو ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٦٠٠) ، رقم (١٢٠٧٨) وما بعده ، والبيهقي في السنن (٨ / ٥٤) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥١٠). وقاله أيضا جابر بن زيد ، والحسن والشعبي وقتادة. ينظر : الدر المنثور.

(٢) أخرجه أبو يعلى (٦٨٦٩) ، وذكره الهيثمي في «المجمع» (٦ / ٣٠٥) وقال : رجاله رجال الصحيح غير عمران بن ظبيان ، وقد وثقه ابن حبان ، وفيه ضعف.

(٣) أخرجه سعيد بن منصور (٤ / ١٤٩٢) ، رقم (٧٥٨) ، والطبري (٤ / ٦٠١) ، رقم (١٢٠٩١) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في الدر المنثور (٢ / ٥١١). وعند بعضهم زيادة : وأجر المتصدق على الله.

(٤) أخرجه الطبري (٤ / ٦٠١) ، رقم (١٢٠٩٥ ، ١٢٠٩٨) عن مجاهد وإبراهيم ، (١٢١٠٠ ، ١٢١٠٤) عن مجاهد وحده.

(٥) وإلى هذا ذهب الطبري في تفسيره (٤ / ٦٠٢).

٥٣٠

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ)

أخبر أنه كان مصدقا ما بين يديه من التوراة ؛ فهذا يدل أن الأنبياء ـ صلى الله عليهم وسلم ـ كان يصدق بعضهم بعضا فيما أنزل عليهم من الكتب ، تأخر أو تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ)

[(هُدىً)] : من الضلالة لمن تمسك به ، (وَنُورٌ) لمن عمى ولمن استناره.

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ)

فهذا يدل أن الكتب كانت مصدقة بعضها بعضا على بعد أوقات النزول [مما] يدل : أنه من عند واحد نزل ، جل الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)

يحتمل : موعظة للمؤمنين ؛ لأن المؤمن هو الذي يتعظ به ، وأما غير المؤمن فلا يتعظ به.

ويحتمل قوله : (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) : الذين اتقوا المعاصى كلها.

وفي قوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] ـ دلالة أن القصاص للعبد (١) خاصة ؛ حيث رغبه في العفو عنه والترك له ، ليس كالحدود التي هي لله تعالى ؛ لأنه لم يذكر في الحدود العفو ولا التصدق به ، وذكر في القصاص والجراحات ؛ دل أن ذلك للعبد : له تركه ، وسائر الحدود لله ليس لأحد إبطالها (٢) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٣).

ذكر في موضع : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، وفي موضع :

(الظَّالِمُونَ) ، وفي موضع : (الْفاسِقُونَ) فأمكن أن يكون كله واحدا (٤) : أن من لم يحكم بما أنزل الله جحودا منه له ، واستخفافا ؛ فهو كافر ، ظالم ، فاسق.

ويحتمل أن يكون ما ذكر من الكفر بترك الحكم بما أنزل الله ؛ إذا ترك الحكم به

__________________

(١) في ب : للعباد.

(٢) في الأصول : إبطاله.

(٣) قال القاسمي (٦ / ٢٣١) : في هذه الآية والآيتين المقدمتين من الوعيد ما لا يقدر قدره ، وقد تقدم أن هذه الآيات وإن نزلت في أهل الكتاب فليست مختصة بهم ؛ بل هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله ؛ اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ويدخل فيه السبب دخولا أوليّا.

(٤) في أ : كلمة واحدة.

٥٣١

جحودا منه وإنكارا ، وما ذكر من الظلم والفسق ذلك في المسلمين ؛ لأنه قال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ...) إلى آخر ما ذكر ، ثم قال : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ، ثم قال : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) تركوا الحكم بما أنزل الله ؛ اتباعا لأهوائهم (١) لا جحودا ، فقد ظلموا أنفسهم ؛ لأن الظلم : هو وضع الشيء في غير موضعه ، والفسق : هو الخروج عن الأمر ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] ، أي : خرج.

ثم يجىء أن يكون هذا في حال الجهل به والعلم سواء ؛ لأنه إذا لم يحكم بما أنزل الله فقد وضع الشيء في غير موضعه ، وخرج عن أمر ربه ، لكن هذا في القول يقبح أن يقال : هو ظالم فاسق ، وهو ما يفعل ، إنما يفعل عن جهل به ، يجوز أن يقال : فعله فعل ظلم وفسق ، وأما في القول : فهو قبيح ؛ لما ذكرنا.

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) : من الأحكام أي حكم كان ، فهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٥٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ).

قوله : (بِالْحَقِ) قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)

قد ذكرناه ، أيضا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ).

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : مؤتمنا عليه (٢).

__________________

(١) في ب : لهواهم.

(٢) أخرجه سعيد بن منصور (٤ / ١٤٩٨) ، رقم (٧٦٣) ، والطبري (٤ / ٦٠٦) ، رقم (١٢١١٣) وما بعده ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (١ / ١١٧) ، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي ـ

٥٣٢

والكسائي قال : المهيمن : الشهيد (١) ، وقيل : الرقيب على الشيء ، قال : هيمن فلان على هذا الأمر ؛ فهو مهيمن ، إذا كان كالحافظ له والرقيب عليه (٢).

وعن الحسن قال : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) مصدقا بهذه الكتب ، وأمينا عليها (٣).

والقتبي قال : أمينا عليه (٤).

وأبو عوسجة قال : مسلطا عليه. وقيل : مفسرا يفسر التفسير.

وقال أبو بكر الكيسانى : قوله : (وَمُهَيْمِناً) هي كلمة مأخوذة من كتبهم معربة ، غير مأخوذة من لسان العرب (٥).

وفيه إثبات رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتأويله : هو شاهد وحافظ على غيره من الكتب ، ومصدقا لها أنها من عند الله نزلت سوى ما غيروا فيها وحرفوا (٦) ؛ ليميز المغير منها والمحرف من غير المغير والمحرف.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) ، يعني : القرآن شاهد على الكتب كلها (٧).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ

__________________

 ـ حاتم وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥١٢).

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٦٠٦) ، رقم (١٢١٠٩) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥١٣). وقاله مجاهد أيضا ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٦٠٦) ، رقم (١٢١١٢) ، وآدم بن أبي إياس وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥١٣).

(٢) قال الخليل وأبو عبيدة : يقال : قد هيمن الرجل يهيمن : إذا كان رقيبا على الشيء وشاهدا عليه حافظا. قال حسان :

إن الكتاب مهيمن لنبينا

والحق يعرفه ذوو الألباب

ينظر : مفاتيح الغيب (١٢ / ١١).

(٣) أخرجه الطبري (٤ / ٦٠٧) ، رقم (١٢١٢٦) ، وينظر : الجامع لأحكام القرآن (٦ / ١٣٦).

(٤) وقاله ابن عباس : قال : المهيمن : الأمين ، والقرآن أمين على كل كتاب قبله. أخرجه عنه الطبري (٤ / ٦٠٧) ، رقم (١٢١٢٠) ، وابن أبي حاتم والبيهقي كما في الدر المنثور (٢ / ٥١٢).

(٥) قال المبرد : أصله : ومؤيمن ؛ أبدل من الهمزة هاء ، كما فعل في «أرقت الماء : هرقت» ، وقاله الزجاج وأبو علي. وقال الجوهري : هو من آمن غيره من الخوف ، وأصله : أأمن فهو مؤامن بهمزتين ، قلبت الهمزة الثانية ياء ؛ كراهة لاجتماعهما فصار «مؤيمن» ، ثم صيرت الأولى هاء ؛ كما قالوا : هراق الماء وأراقه. ينظر : الجامع لأحكام القرآن (٦ / ١٣٦).

(٦) في ب : وحرفوه.

(٧) أخرجه الطبري (٤ / ٦٠٧) ، رقم (١٢١٢١) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥١٣).

٥٣٣

الْحَقِ)(١).

يحتمل قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الرجم في الزاني الثيب ، على ما ذكر في بعض القصة : أنهم رفعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الزاني والزانية منهم ، فطلبوا منه الجلد ، وكان في كتبهم الرجم.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) قولهم : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).

أو أن يقال : احكم بينهم بما أنزل الله من القتل ؛ لأنه ذكر في بعض القصة أن بني قريظة كانوا يرون لأنفسهم فضيلة على بني النضير ، وكانوا إذا قتلوا منهم أحدا لم يعطوهم القود ولكن يعطوهم الدية ، وإذا قتلوا هم أحدا منهم لم يرضوا إلا بالقود ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وهو القتل ، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) في تركهم القود ، وإعطائهم الدية ، والله أعلم بالقصة أن كيف كانت (٢) ، وليس بنا إلى معرفة القصة ومائيتها حاجة ، بعد أن نعرف ما أودع فيه وأدرج من المعاني.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ...) [الآية](٣).

فإن قيل : كيف نهاه عن اتباع أهوائهم ، وقد أخبر ـ عزوجل ـ : أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا ، وقد يجوز أن يكون ما هو هواهم شريعة لهم؟! :

قيل : يحتمل النهي عن اتباع هواهم ؛ لما يجوز أن يهووا الحكم بشريعة قد نسخ الحكم بها لما اعتادوا العمل بها ؛ فالعمل بالمعتاد من الحكم أيسر فهووا ذلك. أو كان ما نسخ أخف ؛ فيهوون ذلك ؛ فنهاه عن اتباع هواهم ؛ لأنه العمل بالمنسوخ والعمل بالمنسوخ حرام.

أو أن هووا (٤) في بعض على غير ما شرع ، وفي بعض : ما شرع ، فإنما نهي عن اتباع هواهم بما لم يشرع ، والله أعلم.

__________________

(١) قال القاسمي (٦ / ٢٣٢) : قال في الإكليل : هذا ناسخ للحكم بكل شرع سابق : ففيه أن أهل الذمة إذا ترافعوا إلينا يحكم بينهم بأحكام الإسلام لا بمعتقدهم ، ومن صور ذلك عدم ضمان الخمر ونحوه.

وقال : وفي الإكليل : استدل بهذه الآية من قال : إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا. وبقوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ ....) [المائدة : ٤٥] الآية من قال : إن شرع لنا ما لم يرد ناسخ. واستدل بالآية أيضا من قال : إن الكفر ملل لا ملة واحدة ، ولم يورث اليهود من النصارى شيئا. ا ه.

(٢) قلت : هذا عكس ما جاء في الأحاديث ، وقد مضى حديث ابن عباس : «وكان النضير أشرف من قريظة». ينظر : تفسير الطبري (٤ / ٥٨٣) ، والدر المنثور (٢ / ٥٠٤) ، وسيذكره المصنف بعد قليل على الصواب. ولفظه : «لما رأى بنو النضير لأنفسهم من الفضل على بني قريظة».

(٣) سقط من ب.

(٤) في الأصول : أو أن كان هودا.

٥٣٤

وقوله ـ تعالى ـ : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ، وليس في نسخ شريعة بشريعة خروج عن الحكمة [عند] من عرف النسخ ؛ لأن النسخ بيان منتهي الحكم إلى وقت ليس على ما فهمت اليهود من البداء والرجوع عما كان ، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم (١) ما فيه مقنع بحمد الله تعالى ومنّه.

[وقوله ـ عزوجل ـ : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً)](٢)

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «الشرعة : هي السبيل ، وهي الشريعة ، وجمعها : شرائع ، وبها سميت شرائع الإسلام ، وكل شيء شرعت فيه فهو شريعة.

وقال : «المنهاج : السنة ، [والشرعة : هي السبيل» (٣)](٤).

وقيل : الشرعة : السنة ، والمنهاج : السبيل (٥) ، يعني : الطريق الواضح الذي يتضح لكل سالك فيه إلا المعاند والمكابر ؛ فإنه يترك السلوك فيه مكابرة ، يخبر ـ عزوجل ، والله أعلم ـ أنه لم يترك الناس حيارى لم يبين لهم الطريق الواضح يسلكون فيه ؛ بل بيّن لهم ما يتضح لهم إن لم يعاندوا ؛ ليقطع عليهم (٦) العذر والحجاج ، وإن لم يكن لهم حجاج ، وبالله التوفيق.

وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً).

اختلف فيه ، قيل : لو شاء الله ، لجعلكم جميعا على شريعة واحدة ، لا تنسخ بشريعة أخرى ، لكن نسخ شريعة بشريعة أخرى ؛ لفضل امتحان ، ولله أن يمتحن عباده بمحن مختلفة ، كيف شاء بما شاء (٧).

وقيل : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ، أي : على دين واحد ، وهو دين الإسلام ، لم يجعل كافرا ولا مشركا ، ولكن امتحنكم بأديان مختلفة على ما تختارون وتؤثرون ، ثم اختلف في المشيئة :

قالت المعتزلة : هي مشيئة الجبر والقسر.

__________________

(١) وذلك في قوله ـ تعالى ـ : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦].

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : وقوله : (شِرْعَةً).

(٣) أخرجه الطبري (٤ / ٦١١) ، رقم (١٢١٤٨) وما بعده ، وعبد بن حميد وسعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥١٣). بلفظ : «سبيلا وسنة». وأخرجه الطبري (١٢١٣٦) وما بعده بلفظ : «سنة وسبيلا».

(٤) سقط من ب.

(٥) قاله مجاهد ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٦١١) برقمي (١٢١٤٦ ، ١٢١٤٧).

(٦) في الأصول : لهم.

(٧) ينظر : الجامع لأحكام القرآن (٦ / ١٣٧).

٥٣٥

وقال أصحابنا : المشيئة مشيئة الاختيار ، وقد ذكرناها في غير موضع (١).

وقوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).

قيل : سابقوا يا أمة محمد الأمم كلها بالخيرات (٢).

ويحتمل قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).

أي : سابقوا إلى ما به تستوجبون المغفرة ؛ كقوله : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد : ٢١].

وأصل قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) ، أي : اعملوا الخيرات ؛ كقوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً ...) الآية [سبأ : ١١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ)

نهى رسوله ـ عليه‌السلام ـ أن يتبع أهواءهم ـ على العلم : أنه لا يتبع أهواءهم ـ والوجه فيه ما ذكرنا : أن العصمة لا تمنع النهي ؛ بل تؤيد ، وقد ذكرنا فيما تقدم.

ويحتمل أن يرجع النهي إلى غيره ، ويراد بالنهي والأمر : غير المخاطب به ؛ على ما ذكرنا من عادة الملوك : أنهم إذا خاطبوا ، خاطبوا من هو أجل عندهم وأعظم قدرا ، وأرفع منزلة ؛ فعلى ذلك هذا. وقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) فيما غيروا وبدلوا ؛ هذا يحتمل.

ويحتمل ألا تتبع أهواءهم : فيما طلبوا منك من الجلد مكان الرجم ، أو الدية مكان القصاص ؛ لما رأى بنو النضير لأنفسهم من الفضل على بني قريظة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ).

قوله : (أَنْ يَفْتِنُوكَ) ، أي : يصدوك عن الحكم ببعض ما أنزل الله إليك ، والفتنة هي المحنة ، وهي تتوجه إلى وجوه ، وقد ذكرنا الوجوه فيه فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ).

[قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) : فإن أعرضوا](٣) عن الحكم الذي تحكم بما أنزل الله ؛ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) ، اختلف فيه :

قال بعضهم : إنما يعذبهم الله ببعض ذنوبهم ، لا يعذبهم بجميع ذنوبهم.

وقال آخرون : عذاب الدنيا عذاب ببعض الذنوب ، ليس هو عذابا بكل الذنوب ؛ لأنه لا

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي «مفاتيح الغيب» (١٢ / ١٢).

(٢) ينظر : تفسير الطبري (٤ / ٦١٣) ، وتفسير الرازي (١٢ / ١٣).

(٣) في ب : قوله : (قولوا) : أعرضوا.

٥٣٦

يدوم ، وأما في الآخرة : فإنهم يعذبون بجميع ذنوبهم ؛ لأن عذاب الآخرة دائم ؛ فهو عذاب بجميع الذنوب ، وعذاب الدنيا زائل ؛ فهو عذاب ببعض الذنوب ، والله أعلم (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

قال بعضهم : هذا صلة قوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) ؛ فقال الله ـ عزوجل ـ : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

وقال آخرون : روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يقول : فحكمهم في الجاهلية يبغون عندك يا محمد في القرآن (٢). يعني : بني النضير (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) [المائدة : ٥٠].

أي : لا أحد أحسن من الله حكما ، على إقرارهم أن الله إذا حكم لا يحكم إلا بالعدل.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ)(٥٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) وجوها :

يحتمل : لا تتخذوا أولياء في الدين ، أي : لا تدينوا بدينهم ؛ فإنكم إذا دنتم بدينهم صرتم أولياءهم.

ويحتمل : لا تتخذوهم أولياء في النصر والمعونة ؛ لأنهم إذا اتخذوهم أولياء في النصر والمعونة صاروا أمثالهم ؛ لأنهم إذا نصروا الكفار على المسلمين وأعانوهم فقد كفروا ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ...) الآية [آل عمران : ١١٨] نهاهم أن يتخذوا أولئك موضع سرهم وخفياتهم ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (١٢ / ١٤) ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٦ / ١٣٩). ولفظ القرطبي : «أي يعذبهم بالجلاء والجزية والقتل ، وكذلك كان ، وإنما قال : «ببعض» ؛ لأن المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم».

(٢) في أ : الجاهلية.

(٣) تقدم عن ابن عباس نحوه.

٥٣٧

والثالث : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) في المكسب (١) والدنيا ؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك لا بد من أن يميلوا إليهم ، ويصدروا عن رأيهم في شيء ؛ فذلك مما يفسقهم ، ويجرح شهادتهم ، فهذا النهي يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا ، والله أعلم.

وفي الآية دلالة أن الكفر كله ملة واحدة ، وإن اختلفت (٢) مذاهبهم ونحلهم ؛ فالواجب أن يرث بعضهم بعضا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) كما أن أهل الإسلام يرث بعضهم بعضا ، وإن اختلفت مذاهبهم ؛ ألا ترى أنه قال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] الآية؟! وليس ذلك بداخل في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتوارث أهل ملّتين» (٣) ؛ لما عليه الآية : أنهم كلهم ملة واحدة ، ولكن أحدا منهم لا يرث المسلم ولا يرثهم المسلم ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتوارث أهل ملّتين» ؛ فالإسلام ملة : ملة حق ، والكفر ملة : ملة باطل ، ولا نرثهم ولا يرثوننا ، وما روي : «لا نرث أهل الكتاب ، ولا يرثوننا إلّا أن يرث الرّجل عبده أو أمته ، ويحلّ لنا نساؤهم ولا يحلّ لهم نساؤنا» (٤) فما يرث عبده أو أمته ، ليس بميراث ؛ إنما هو ملك كان يملكه قبل موته ؛ فعلى ذلك بعد موته ، وروي [عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :](٥) «لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم» (٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).

يحتمل قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الوجوه التي ذكرنا : الولاية في الدين ، والولاية في النصر والمعونة ؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك صاروا منهم في حكم الدنيا والآخرة ، أو الولاية في المكسب والدنيا ؛ فيصيرون منهم في حكم الدنيا ، والله أعلم.

فإن قيل : أليس يرث المسلم المرتد ، وقد قال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) : أخبر أن

__________________

(١) في أ : الكسب.

(٢) في ب : اختلف.

(٣) أخرجه الترمذي في سننه (٣ / ٦١١) في باب لا يتوارث أهل ملتين (٢١٠٨) ، وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث جابر إلا من حديث ابن أبي ليلى. والدارقطني في سننه (٤ / ٧٥) ، والدارمي (٢ / ٣٦٩ ـ ٣٧٠) في الفرائض : باب في ميراث أهل الشرك وأهل الإسلام من طريق الحسن عن جابر بلفظ مختلف.

(٤) أخرجه الدارمي (٢ / ٣٦٩ ، ٣٧٠) ، والطبراني في الأوسط (٨ / ٣٧٤) ، رقم (٨٩١٦) ، والدار قطني (٤ / ٧٥) ، والبيهقي (٦ / ٢١٨) ، من طريق الحسن عن جابر مرفوعا : «لا نرث أهل الكتاب ولا يرثونا ، إلا أن يرث الرجل عبده أو أمته ، وننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا» ، وهذا لفظ الطبراني والدار قطني ، ورجاله ثقات ، قاله الهيثمي في المجمع (٤ / ٢٢٦).

(٥) في ب : عنه ، عليه‌السلام.

(٦) أخرجه البخاري (١٢ / ٥٠) كتاب الفرائض : باب لا يرث المسلم الكافر (٦٧٦٤) ، ومسلم (٣ / ١٢٣٣) كتاب الفرائض (١ / ١٦١٤).

٥٣٨

من تولاهم من المسلمين صار منهم ، ونحن لا نرث اليهود والنصارى ، كيف ورث من صار منهم من المسلمين؟! :

قيل : معنى قوله : (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) في الدين والكفر ، لا في الحكم والحقوق ؛ لأن المرتد إلى النصرانية ليس بمتروك على دينه ، فلم يكن من أهل تلك الملة ؛ وإنما الملة ما يقرّ عليها أهلها ؛ ألا ترى أن المرتد لا يرث النصراني إن كانوا أقرباء ، فلو كانت النصرانية له ملة ورثه أهلها ؛ لأنا نعلم أن النصارى يرث بعضهم بعضا ؛ فلمّا لم يرثوه دل ذلك على أنه ليس من ملتهم ، وأن حكمه في الميراث حكم الملة التي يجبر على الرجوع إليها ، وعلى ذلك جاءت الآثار عن الصحابة : روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه أتى برجل ارتد عن الإسلام ، فعرض عليه الإسلام ، فأبى ؛ فضرب عنقه ، وجعل ميراثه لورثته المسلمين. وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ كذلك.

وروي عن زيد بن ثابت مثله (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

قد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

وهم المنافقون ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [محمد : ٢٩] إلى قوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠] ، وهو وصف المنافقين.

(يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) : كانوا يظهرون الموافقة للمسلمين ؛ خوفا منهم ، وفي السر مع الكفرة ؛ لأنهم كانوا أهل ريب وشك ، ولا دين لهم ، يميلون إلى من رأوا السعة معهم والأمن ، وكانوا على شك من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وريب ، (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) : لعل محمدا لا ينصر ولا يتم أمره ؛ فأسروا في أنفسهم الموافقة (٢) للكفر والغش للإسلام وأهله ، ويظهرون الموافقة للمؤمنين ؛ لما كانوا يسمعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعد النصر والظفر للمؤمنين (٣) ، لكن ذلك لا يتحقق عندهم ، وكانوا كما قال الله ـ عزوجل ـ : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ...) الآية [النساء : ١٤٣] ، وكانوا ينتظرون النصر والظفر ؛ فيميلون إلى حيث كان النصر والظفر ؛ فيقولون للمؤمنين إن كان

__________________

(١) أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (٦ / ٢٧٩) ، (٣١٣٨٤ ، ٣١٣٨٥) ، والبيهقي (٦ / ٢٥٤) عن علي بن أبي طالب ، وابن أبي شيبة (٣١٣٨٣) ومن طريقه البيهقي عن عبد الله بن مسعود.

(٢) في ب : المودة.

(٣) في ب : للمسلمين.

٥٣٩

الظفر لهم : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) [النساء : ١٤١] ، وإن كان للكافرين فيقولون : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ).

أي (١) : بالنصر : نصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والظفر له على أعدائه ، وفتح البلدان والأمصار له ، وإظهار دينه : دين الإسلام ؛ على ما روي أنه قال : «نصرت بالرّعب مسيرة شهرين» (٢) ، وعلى ما فتح له البلدان كلها (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ).

قيل : عذاب أولئك الكفرة وهلاكهم (٤) في الدنيا (٥).

(فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ).

عند العذاب والهلاك ، أو يندمون في الآخرة ؛ لما أصابهم من العذاب.

(ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) : في الدنيا من المودة لهم ، والعداوة للمؤمنين ، والله أعلم.

وفي قوله : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه لا يحتمل أن يقولوا : (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) من حيث يسمع أهل الإسلام ذلك منهم ؛ دل ذلك لهم أنه إنما عرف ذلك بالله ؛ وكذلك بما أخبر من الوعد بالنصر له والظفر ، ثم كان على ما أخبره ووعد ؛ دل أنه خبر عن الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا).

بعضهم لبعض لما ظهر نفاق أهل النفاق قتلوا وافتضحوا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا) [الأحزاب : ٦١] ، قال المؤمنون عند ذلك : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ). وقد كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين ، ويحلفون [بالله](٦)

__________________

(١) في ب : أو.

(٢) أخرجه البخاري (١ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦) كتاب التيمم : باب (١) حديث (٣٣٥) ، ومسلم (١ / ٣٧٠ ـ ٣٧١) كتاب المساجد ، حديث (٣ / ٥٢١) ، والنسائي (١ / ٢١٠ ـ ٢١١) كتاب الطهارة : باب التيمم بالصعيد (٤٣٢) ، والدارمي (١ / ٣٢٢) ، والبيهقي (١ / ٢١٢) ، وأحمد (٣ / ٣٠٤) عنه مرفوعا بلفظ : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلى ـ فذكر منها ـ : «ونصرت بالرعب مسيرة شهرين».

(٣) في الأصول : كلهم.

(٤) في ب : وعذابهم.

(٥) أخرجه ابن جرير (٤ / ٦٢٣) ، (١٢١٨٤ ـ ١٢١٨٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥١٧) ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ وخيثمة في فضائل الصحابة والبيهقي في الدلائل.

(٦) سقط من ب.

٥٤٠