تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

منه ؛ لأن البازي ونحوه مستوحش عن الناس ينفر طبعه عنهم ؛ فدل إلفه الناس وإجابة أصحابهم على التعلم وإن أكل منه ، ولا يحتمل أن يكون بالتناول منه يخرج عن حد التعليم ؛ لأنه إنما يعلم بالأكل من الصيد ، وأما الكلب : فإنه يألف الناس ولا يستوحش ، ومن طبعه الأكل إذا أخذ الصيد ؛ فدل إمساكه عن التناول منه على أنه معلم.

وقد روي عن على ـ رضي الله عنه ـ وابن عباس ما يدل على تأييد ما ذكرنا ، قالا : إذا أكل الصقر فكل ، وإن أكل الكلب فلا تأكل. وعن سلمان كذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

يحتمل قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) ؛ فلا تستحلوا ما لم يذكر (١) اسم الله عليه ؛ فإنها ميتة.

ويحتمل : اتقوا الله في ترك ما أمر ونهى كله.

(إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ، يحتمل السرعة : كناية عن الشدة.

وقوله تعالى (سَرِيعُ الْحِسابِ) : شديد العقاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) :

يحتمل قوله : (الْيَوْمَ) حرف افتتاح يفتتح به الكلام ، لا إشارة إلى وقت مخصوص ؛ على ما ذكرنا في قوله ـ تعالى ـ : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، وقد يتكلّم باليوم لا على إشارة وقت مشار إليه. وهو ـ والله أعلم ـ ما حرم عليهم من الثمانية الأزواج التي ذكر الله ـ تعالى ـ في سورة الأنعام ، وهو قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ...) [الأنعام : ١٤٣] إلى آخر ما ذكر.

ثم قال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما ...) الآية [الأنعام : ١٤٦] ، وما حرموا هم على أنفسهم من : البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، وغيرها من المحرمات التي كانت ، فأحل الله ذلك لهم ؛ فقال : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ، وكانت محرمة عليهم قبل ذلك ، لكن أهل التأويل صرفوا الآية إلى الذبائح ، لم يصرفوا إلى ما ذكرنا ، وقد ذكرنا المعنى الذي به صارت الذبائح طيبات فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)(٢) :

__________________

(١) في ب : بذكره.

(٢) قال القاسمي (٦ / ٨٠) : قيل : هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا ، وإن ذكروا غير اسم الله ـ تعالى ـ. وعن ابن عمر : لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله تعالى ، لا يحل ذلك.

وهو قول ربيعة. وسئل الشعبي وعطاء ، عن النصراني يذبح باسم المسيح؟ فقال : يحل. فإن الله ـ تعالى ـ قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي أو النصراني وذكر ـ

٤٦١

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ، أي : ذبائحهم حل لكم ، وذبائحكم حل لهم (١). إلى هذا حمل أهل التأويل ، فإن قيل : أليس جعل ذبائحنا محللة لهم وذبائحهم محللة لنا ، ثم تحل ذبائحنا لهم ولغيرهم؟ كيف لا حل ذبائحهم وذبائح غيرهم ، وهو ذبائح المجوس؟ (٢) قيل : حل الذبائح شرعي ، وليس للمجوس كتاب آمنوا به ؛ فتحل ذبائحهم ، وأما أهل الكتاب ، فإنهم آمنوا بما في الكتاب ، حله وحرمته ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم.

والآية على قول أصحاب العموم توجب حل جميع طعام أهل الكتاب لنا وحل جميع طعامنا لهم ؛ لأنه قال : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) ؛ فعلى قولهم لكل واحد من الفريقين أن يتناول طعام الفريق الآخر ؛ دل على أن مخرج عموم اللفظ لا يوجب الحكم عامّا للفظ ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) :

اختلف فيه :

قال بعضهم : (وَالْمُحْصَناتُ) أراد به الحرائر (٣).

وقال آخرون : أراد به العفائف منهن غير زانيات (٤) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور : ٣] ، نهى عن نكاح الزانيات ، ورغب في نكاح العفائف ، وهذا أشبه من الأول ؛ لأنه قال في آخر الآية : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) ؛ دل هذا على أنه أراد بالمحصنات : العفائف منهن (٥) لا الحرائر ، ودلت الآية على حل نكاح الحرائر من الكتابيات ، وعلى ذلك اتفاق أهل العلم ، لكن يكره ذلك.

روي عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه كره تزوجهن (٦) ، فهذا عندنا على غير تحريم

__________________

 ـ غير اسم الله ، وأنت تعلم ، فلا تأكل. وإذا غاب عنك فكل. فقد أحله الله لك. كذا في (اللباب) وقول الحسن ـ في هذا البحث ـ هو الحسن.

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٩ / ٥٧٨) ، رقم (١١٢٤٨) ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٦٢).

(٢) الأئمة الأربعة على عدم جواز ذبائح المجوس عبدة النار.

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه عنه ابن جرير الطبري (٩ / ٥٨٢) ، برقمى (١١٢٥٦ ، ١١٢٥٧) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ٤٦٢).

(٤) قاله الضحاك ، أخرجه عنه عبد بن حميد كما في الدر المنثور.

(٥) في الأصول : منهم.

(٦) أخرجه ابن أبي شبية في المصنف (٣ / ٤٧٥) رقم (١٦١٦٥) عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يكره نكاح نساء أهل الكتاب ، ولا يرى بطعامهم بأسا. وأخرجه أيضا برقم (١٦١٦٦) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ٤٦٢) عن ميمون بن مهران عن ابن عمر ، بنحوه.

٤٦٢

منه لتزويجهن (١) ، ولكن رأى تزويج المسلمات أفضل وأحسن ؛ لمشاركتها المسلم في دينها.

وروي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ كراهة (٢) ذلك ؛ وذلك لأن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ تزوج يهودية ؛ فكتب إليه عمر ـ رضي الله عنه ـ يأمره بطلاقها ، ويقول : «كفى بذلك فتنة للمسلمات» (٣) ، فهذا ـ أيضا ـ [لا](٤) على سبيل التحريم ، ولكن لما ذكر من الفتنة : فتنة المسلمات ، فأصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ يكرهون أيضا تزويج الكتابيات ولا يحرمونه.

واختلف أهل العلم في تزويج إمائهن :

فتأول قوم قول الله ـ تعالى ـ : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) على الحرائر ، وتأوله آخرون على العفائف. وقد ذكرنا أن صرف التأويل إلى العفائف أشبه ؛ بدلالة قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) مع ما لو كانت المحصنات هاهنا هن الحرائر ، لم يكن فيه حظر نكاح إماء الكتابيات ؛ لأنه إباحة نكاح الحرائر من الكتابيات ، وليس في إباحة شيء في حال حظر (٥) غيره فيه ، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم ، فالمجوسية ليست عندنا من أهل الكتاب ؛ والدليل على ذلك قول الله ـ تعالى ـ : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) [الأنعام : : ١٥٥ ، ١٥٦] ، فأخبر الله ـ تعالى ـ أن أهل الكتاب طائفتان ؛ فلا يجوز أن يجعلوا ثلاث طوائف ، وذلك خلاف ما دل عليه القرآن ؛ ألا ترى [أنه لو قال رجل](٦) : «إنما لي عليك يا فلان ، درهمان» ، لم يكن له أن يدعي عليه أكثر من ذلك ، ولو قال : «إنما لقيت اليوم رجلين» ، وقد لقي ثلاثة ، كان كاذبا ؛ لأن قوله : [«إنما لقيت رجلين»](٧) ، كقوله : لقيت اليوم رجلين ، ولا يجوز مثل هذا في أخبار الله ؛ لأنه الصادق في خبره عزوجل.

فإن قيل : هذا شيء حكاه الله ـ عزوجل ـ عن المشركين ، وقد يجوز أن يكونوا

__________________

(١) في ب : في تزويجهن.

(٢) في أ : كرهه.

(٣) أخرجه ابن أبي شيبة (٣ / ٤٧٤) رقم (١٦١٦٣) ، والبيهقي في السنن (٧ / ١٧٢) من طريق الصلت بن بهرام عن شقيق قال : تزوج حذيفة يهودية ؛ فكتب إليه عمر : أن خلّ سبيلها ؛ فكتب إليه : «إن كانت حراما خلّيت سبيلها»؟! فكتب إليه : «إني لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن». وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (٦ / ٧٨) رقم (١٠٠٥٧) ، من طريق قتادة بنحوه.

(٤) سقط من ب.

(٥) في أ : نظر.

(٦) في ب : أن رجلا لو قال.

(٧) في ب : إنما لقيت اليوم رجلين.

٤٦٣

غلطوا ، فحكي الله ـ تعالى ـ عنهم ما قالوا.

قيل له : لم يحك الله ـ تعالى ـ هذا القول عن المشركين ، ولكن قطع بالقرآن عذرهم ، فقال : (أُنْزِلَ الْكِتابُ) ؛ لئلا يقولوا : (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) ، فهذا كلام الله واحتجاجه على (١) المشركين ، وليس بحكاية عنهم.

ومن الدليل على أن المجوس ليسوا (٢) من أهل الكتاب ما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو في مجلس بين القبر والمنبر : ما أدري كيف أصنع بالمجوس ، وليسوا بأهل الكتاب؟» ، فقال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سنّوا بالمجوس سنّة أهل الكتاب» (٣). صرح عمر ـ رضي الله عنه ـ بأنهم ليسوا أهل الكتاب (٤) ،

__________________

(١) في أ : عن.

(٢) في أ : ليس.

(٣) أخرجه مالك (١ / ٢٧٨) كتاب الزكاة : باب جزية أهل الكتاب والمجوس ، حديث (٤٢) ، والشافعي (٢ / ١٣٠) كتاب الجهاد : باب ما جاء في الجزية ، حديث (٤٣٠) ، وعبد الرزاق (٦ / ٦٨ ـ ٦٩) كتاب أهل الكتاب : باب أخذ الجزية من المجوس ، حديث (١٠٠٢٥) ، وابن أبي شيبة (١٢ / ٢٤٣) كتاب الجهاد : باب ما قالوا في المجوس تكون عليهم جزية ، حديث (١٢٦٩٦) ، وأبو عبيد في الأموال ص (٤٠) حديث (٧٨) والبيهقي (٩ / ١٨٩ ـ ١٩٠) كتاب الجزية : باب المجوس أهل كتاب والجزية تؤخذ منهم ، وأبو يعلى (٢ / ١٦٨) رقم (٨٦٢) ، كلهم من حديث جعفر بن محمد عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ؛ فقال عبد الرحمن ابن عوف : أشهد أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب».

وفي تنوير الحوالك (١ / ٢٠٧) قال ابن عبد البر : هذا حديث منقطع ؛ فإن محمد بن عليّ لم يلق عمر ولا عبد الرحمن بن عوف.

قال الحافظ في «التلخيص» (٣ / ١٧٢) : وهو منقطع ؛ لأن محمد بن عليّ لم يلق عمر ولا عبد الرحمن ، وقد رواه أبو على الحنفي عن مالك عن جعفر عن أبيه عن جده. قال الخطيب في الرواة عن مالك : تفرد بقوله عن جده أبو علي ، قلت ـ أي : الحافظ ـ : وسبقه إلى ذلك الدار قطني في غرائب مالك ، وهو مع ذلك منقطع ؛ لأن علي بن الحسين لم يلق عمر ولا عبد الرحمن إلا أن يكون الضمير في جده يعود على محمد ؛ فجده محمد سمع منهما ، لكن في سماع محمد من حسين نظر كبير. ا ه.

وللحديث شاهد من حديث السائب بن يزيد :

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٦ / ١٦) عنه قال : شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما عهد إلى العلاء حين وجهه إلى اليمن قال : «ولا يحل لأحد جهل الفروض والسنن ويحل له ما سوى ذلك». وكتب للعلاء : «أن سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب».

وقال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم.

لكن لحديث عبد الرحمن طريق آخره ذكره الحافظ في «التلخيص» (٣ / ١٧٢) فقال : ورواه ابن أبي عاصم في كتاب النكاح بسند حسن ، قال : ثنا إبراهيم بن الحجاج ، ثنا أبو رجاء جار لحماد بن سلمة ، ثنا الأعمش عن زيد بن وهب قال : كنت عند عمر بن الخطاب فذكر من عنده المجوس ؛ فوثب عبد الرحمن بن عوف فقال : أشهد بالله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسمعته.

(٤) في ب : كتاب.

٤٦٤

ولم ينكر عبد الرحمن ذلك عليه (١) ، ولا أحد من الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فلو كانوا أهل الكتاب لقال : «هم أهل الكتاب» ، لم يقل : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب».

وكذلك روي عن الحسن بن محمد ، [أنه](٢) قال : كتب رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مجوس هجر ، فقال : «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، ومن أبى فعليه الجزية ، غير آكلي ذبائحهم ، ولا ناكحي نسائهم» (٣). [و] إلى هذا ذهب أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ في قولهم : إن المجوس ليسوا بأهل كتاب.

[وأما نصارى بني تغلب (٤) : فإن عليّا ـ رضي الله عنه ـ قال : لا تحل ذبائح نصارى العرب ؛ فإنهم ليسوا بأهل كتاب ، وقرأ] : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ)(٥) [البقرة : ٧٨].

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ تؤكل ، وقرأ : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ...)(٦). والآية الأولى تدل على أنهم أهل كتاب ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ قد جعلهم منهم بقوله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) ، فحكمهم حكمهم ؛ إذ أخبر الله ـ عزوجل ـ أنهم منهم.

ومما يدل على ذلك ـ أيضا ـ قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «لا يختلجنّ فى صدرك

__________________

(١) في أ : عليهم.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (٦ / ٦٩ ـ ٧٠) ، رقم (١٠٠٢٨) ، والبيهقي في السنن (٩ / ١٩٢ ، ٢٨٥) بنحوه ، والحسن بن محمد هو الحسن بن محمد بن على بن أبي طالب ، وأبوه محمد بن الحنفية. وقال البيهقي : هذا مرسل ، وإجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده ، ولا يصح ما روي عن حذيفة في نكاح مجوسية.

(٤) بنو تغلب بن وائل بن ربيعة بن نزار ، من صميم العرب ، انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية ، وكانوا قبيلة عظيمة لهم شوكة قوية ، واستمروا على ذلك حتى جاء الإسلام ، فصولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم ؛ عوضا من الجزية. ينظر : أحكام أهل الذمة (١ / ٧٥ ـ ٧٦).

(٥) أخرجه الشافعي في المسند (٢ / رقم ٦١٤) ، وعبد الرزاق في المصنف (٦ / ٧٢) بأرقام (١٠٠٣٤ ـ ١٠٠٣٦) ، والطبري في التفسير (٩ / ٥٧٥) بأرقام (١١٢٣٠ ـ ١١٢٣٢) ، والبيهقي (٩ / ٢٨٤) من طريق محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : لا تأكلوا ذبائح نصارى بنى تغلب ؛ فإنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر. وقال الحافظ في الفتح (١١ / ٦٧) : أخرجه الشافعي وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة.

(٦) أخرجه الطبري (٤ / ٦١٨ ـ طبعة دار الكتب العلمية) ، رقم (١٢١٦٩) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٥١٦) عن ابن عباس قال : «كلوا من ذبائح بني تغلب ، وتزوجوا من نسائهم ؛ فإن الله يقول في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ... الآية [المائدة : ٥١] ، ولو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم». وأخرجه عبد الرزاق (٦ / ٧٣) ، رقم (١٠٠٣٧) ، والبيهقي (٩ / ٢١٧) عنه مختصرا.

٤٦٥

طعام ضارعت فيه النّصرانيّة» (١) ؛ لأنه عم فيه النصارى ؛ فدخل فيه عربهم وعجمهم ؛ لأنهم دانوا بدينهم ، وكل من دان بدين قوم فهو منهم.

ومن الدليل على أن العرب إذا دانوا بدين أهل الكتاب فهم من أهل الكتاب ـ : أن العجم لما أسلموا صار حكمهم حكم عرب أهل الإسلام ؛ فإن ارتد أحد منهم ، وسأل أن تؤخذ منه الجزية ؛ كما [كانت](٢) تؤخذ في الابتداء من (٣) المجوس ـ لم يجب إلى ذلك ، وقيل له : إما أن تسلم ، وإما أن تقتل ، فهو بمنزلة عربي مسلم لو ارتد عن الإسلام ، فلما كان حكم العجمي إذا دان بدين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم العرب ـ وجب أن يكون حكم العربي إذا دان بدين العجم من أهل الكتاب أن يجعل حكمه حكمهم ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) : ذكر إيتاء أجورهن ، وقد يحللن لنا إذا لم نؤت أجورهن ؛ دل أن ذكر الحكم في حال لا يوجب حظره في حال أخرى ؛ فهو دليل لنا في جواز نكاح الإماء من أهل الكتاب ، وإن ذكر في الآية المحصنات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ...) الآية.

أي : ومن يكفر بالذي عليه الإيمان به ، وهو المؤمن به ، أي : الله ؛ لأنه لا يكفر بالإيمان ، ولكن يؤمن به ، وهو كقوله : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩] ، أي : الموقن به ؛ فعلى ذلك الأول معناه : ومن يكفر بالذي عليه الإيمان به ، وهو المؤمن به (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، وبالله العصمة والهداية.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٢٢٦) ، وأبو داود (٢ / ٣٧٨) كتاب الأطعمة : باب في كراهية التقذر للطعام (٣٧٨٤) ، والترمذي (٣ / ٢٢٤) أبواب السير : باب ما جاء في طعام المشركين ، (١٥٦٥) ، وابن ماجه (٤ / ٣٥٦) كتاب الجهاد : باب الأكل في قدور المشركين (٢٨٣٠) ، والبيهقي (٧ / ٢٧٩) من طريق سماك بن حرب قال : سمعت قبيصة بن هلب يحدث عن أبيه قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طعام النصارى ؛ فقال : «لا يختلجن في صدرك طعام ضارعت فيه النصرانية». وهذا إسناد ضعيف ؛ فقبيصة بن هلب مقبول كما في التقريب. قال ابن الأثير في معنى «لا يختلجن» : أي لا يتحرك فيه شيء من الريبة والشك ، ويروى بالحاء. وأصل الاختلاج : الحركة والاضطراب». ينظر : النهاية (خلج).

(٢) سقط من ب.

(٣) في الأصول : في.

٤٦٦

فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) : لو حملت الآية على ظاهرها لكان لا سبيل لأحد (١) [على] القيام [بأداء](٢) ما فرض الله عليه من الصلاة ؛ لأنه كلما قام إلى الصلاة يلزمه الوضوء ؛ فلا يزال يبقى فيه ، لكنها على الإضمار ؛ كأنه قال : «إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم [إلى المرافق](٣) ؛ وإلا فظاهر (٤) الآية يوجب ما ذكرنا ، لكن الحدث مضمر فيه.

ومن الناس من يوجب الوضوء لكل صلاة بظاهر هذه الآية ، وقد جاء عن (٥) الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ الفعل بذلك : روي عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ أنهم توضئوا لكل صلاة (٦). وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو ذلك (٧) ، وروى أن على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ صلى الظهر ، ثم قعد في الرحبة ، فلما حضرت العصر دعا بكوز من ماء ، فغسل يديه ووجهه وذراعيه ورجليه ، وشرب فضله ، وقال : «هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفعل» ، وقال : «هذا وضوء من لم يحدث» (٨).

__________________

(١) في ب : إلى أحد.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : ظاهر.

(٥) في أ : من.

(٦) أخرجه ابن جرير الطبري (٤ / ٤٥٣ ـ طبعة دار الكتب العلمية) ، (١١٣٢٧) عن ابن سيرين : أن الخلفاء كانوا يتوضئون لكل صلاة.

(٧) أخرجه البخاري (١ / ٤٢٣) كتاب الوضوء : باب الوضوء من غير حدث (٢١٤) ، وأحمد (٣ / ١٣٢) ، وأبو داود (١ / ٩٢) كتاب الطهارة : باب الرجل يصلي الصلوات بوضوء واحد ، (١٧١) ، والترمذي (١ / ١٠٣) أبواب الطهارة : باب الوضوء لكل صلاة ، (٦٠) ، والنسائي (١ / ٨٥) كتاب الطهارة : باب الوضوء لكل صلاة ، وابن ماجه (١ / ٥٠٩) كتاب الطهارة : باب الوضوء لكل صلاة (٥٠٩) ، من طريق عمرو بن عامر عن أنس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قلت : كيف كنتم تصنعون؟ قال : يجزي أحدنا الوضوء ما لم يحدث.

(٨) أخرجه أحمد (١ / ٧٨ ، ١٢٣ ، ١٣٩ ، ١٥٣) ، والنسائي (١ / ٨٥) كتاب الطهارة : باب صفة الوضوء من غير حدث ، وابن خزيمة (١٦ ، ٢٠٢) من طريق عبد الملك بن ميسرة عن النّزّال بن سبرة أنه شهد عليّا صلى الظهر ، ثم جلس في الرحبة في حوائج الناس ، فلمّا حضرت العصر دعا بتور من ـ

٤٦٧

وروي عن عبيد بن عمير ، أنه كان يتوضأ لكل صلاة ، وتأول هذه الآية.

وروي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه كان يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان يوم فتح مكة ، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد ؛ فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ يا رسول الله ، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله؟ فقال : «إنّي عمدا فعلته يا عمر» (١). وروي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرت فى كلّ صلاة الوضوء ، ومع كلّ وضوء السّواك» (٢).

وكل ما روي من الأخبار بالوضوء لكل صلاة ، هو على الفضل عندنا والاستحباب لا على الحتم ؛ ألا ترى أنه روي عن [النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٣) ـ أنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد ، وقال : «إنّي عمدا فعلته» (٤) ؛ دل ذلك [على] ما ذكرنا.

وقد يحتمل تأويل الآية معنى آخر : ما روي عن بعض الصحابة أن رسول الله ـ صلى

__________________

 ـ ماء ، فمسح به ذراعيه ووجهه ورأسه ورجليه ، ثم شرب فضل وضوئه وهو قائم ، ثم قال : إن ناسا يكرهون أن يشربوا وهم قيام ؛ إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنع مثل ما صنعت وقال : «هذا وضوء من لم يحدث». والحديث أخرجه البخاري (١١ / ٢١٢) كتاب الأشربة : باب الشرب قائما ، (٥٦١٦) ، بنحوه دون قوله : «هذا وضوء من لم يحدث».

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٣٥٠ ، ٣٥١ ، ٣٥٨) ، ومسلم (١ / ٢٣١) كتاب الطهارة : باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد (٨٦ ـ ٢٧٧) ، وأبو داود (١ / ٩٣) كتاب الطهارة : باب الرجل يصلي الصلوات بوضوء واحد (١٧٢) ، والترمذي (١ / ١٠٣) أبواب الطهارة : باب ما جاء أنه يصلّي الصلوات بوضوء واحد (٦١) ، والنسائي (١ / ٨٦) كتاب الطهارة : باب الوضوء لكل صلاة ، وابن ماجه (١ / ٤١٣) كتاب الطهارة : باب الوضوء لكل صلاة (٥١٠) من حديث بريدة بن الحصيب ، به.

(٢) أخرجه مالك (١ / ٦٦) كتاب الطهارة : باب ما جاء في السواك ، حديث (١١٤) ، والبخاري (٢ / ٤٣٥) كتاب الجمعة : باب السواك يوم الجمعة حديث (٨٨٧) ، ومسلم (١ / ٢٢٠) كتاب الطهارة : باب السواك حديث (٤٢ / ٢٥٢) ، وأبو عوانة (١ / ١٩١) ، والنسائي (١ / ١٢) كتاب الطهارة : باب الرخصة في السواك بالعشي للصائم ، حديث (٧) ، والدارمي (١ / ١٧٤) ، كتاب الطهارة : باب في السواك ، والشافعي في «المسند» (١ / ٣٠) كتاب الطهارة : باب في صفة الوضوء حديث (٧٢) ، وفي «الأم» (١ / ٢٣) باب السواك ، والحميدي (٢ / ٤٢٨) رقم (٩٦٥) ، وابن خزيمة (١ / ٧٢) ، وابن حبان (١٠٦٨) ، وأبو يعلى (١١ / ١٥٠) رقم (٦٢٧٠) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١ / ٤٤) ، والبيهقي (١ / ٣٥) كتاب الطهارة ، والبغوي في «شرح السنة» (١ / ٢٩٣) ، كلهم من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، به.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه مسلم (١ / ٢٣٢) كتاب الطهارة : باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد (٨٦ / ٢٧٧) ، وأبو داود (١ / ٤٤) كتاب الطهارة : باب الرجل يصلي الصلوات بوضوء واحد (١٧٢) ، والترمذي (١ / ٨٩) أبواب الطهارة : باب ما جاء أنه يصلى الصلوات بوضوء واحد (٦١) ، والنسائي (١ / ٨٥) كتاب الطهارة : باب الوضوء لكل صلاة ، وابن ماجه (١ / ١٧٠) كتاب الطهارة وسننها : باب الوضوء لكل صلاة (٥١٠).

٤٦٨

الله عليه وسلم ـ كان إذا أراق ماء نكلمه فلا يكلمنا ، ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى يأتي أهله فيتوضأ وضوءه للصلاة ؛ فقلنا له في ذلك ؛ حتى نزلت آية الرخصة [في قوله تعالى](١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ؛ فهذا يدل أن معنى الآية على الإضمار : إذا قمتم إلى الصلاة (٢) وأنتم محدثون ، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم.

وروي في تأويل الآية : إذا قمتم من المضجع إلى الصلاة ، فاغسلوا وجوهكم (٣). وقد رويت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة بإيجاب الوضوء من النوم ؛ فكان ذلك شاهدا لهذا التأويل : روي عن ابن عباس عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه كان ينام ، ثم يصلي الصبح ولا يتوضأ ؛ فسئل عن ذلك؟ فقال : «إنّي لست كأحد منكم ؛ إنّه ينام عيناي ولا ينام قلبي ، ولو أحدثت لعلمت» (٤).

وروي عن صفوان بن عسال قال : إذا كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر يأمرنا ألا ننزع خفافنا إذا أدخلناهما طاهرتين ، ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ، إلا من جنابة».

فهذه الأحاديث توجب الوضوء من النوم مجملا ، وجاء حديث آخر مفسرا بإيجاب الوضوء إذا نام مضطجعا : روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «ليس على من نام قاعدا وضوء حتّى يضطجع ، فإذا اضطجع استرخت مفاصله» (٥).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه الطبري (٤ / ٤٥٥) ، (١١٣٤٢) ، والطبراني في الكبير (١٨ / ٦) رقم (٣) من حديث علقمة بن الفغواء ، به. وفيه جابر الجعفي : وهو ضعيف ، قاله الهيثمي في المجمع (١ / ٢٧٦) ، وزاد السيوطي نسبته إلى ابن أبي حاتم في الدر المنثور (٢ / ٤٦٣) ، وقال : سنده ضعيف.

(٣) قاله زيد بن أسلم ، أخرجه عنه مالك في الموطأ (١ / ٢١) ، ومن طريقه : الطبري (٤ / ٤٥٢) ، رقم (١١٣٢٣) ، والشافعي وعبد بن حميد وابن المنذر والنحاس كما في الدر المنثور (٢ / ٤٦٣).

وكذلك قاله السدي أيضا ، أخرجه عنه الطبري (١١٣٢٤).

(٤) لم أجده بهذا اللفظ ، ولكن أخرجه أحمد (١ / ٢٧٤) ، والطبراني في الكبير (١٢ / رقم ١٢٤٢٩) ، وأبو نعيم في الحلية (٤ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥) من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أقبلت يهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، نسألك عن أشياء إن أجبتنا فيها اتبعناك وصدقناك وآمنا بك ، قال : فأخذ عليهم أخذ إسرائيل من نفسه ؛ قالوا : الله على ما نقول وكيل. قالوا : أخبرنا عن علامة النبي؟ قال : «تنام عيناه ولا ينام قلبه ...» الحديث. وأخرج الشيخان حديثا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أنه سأل عائشة : كيف كانت صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان؟ قالت : «ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة : يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثا. فقالت عائشة : فقلت : يا رسول الله ، أتنام قبل أن توتر؟ فقال : «يا عائشة ، إن عيني تنامان ولا ينام قلبي». أخرجه البخاري (١١٤٧ ، ٢٠١٣) ، ومسلم (١٢٥ ـ ٧٣٨).

(٥) أخرجه أبو داود (١ / ٥٢) كتاب الطهارة : باب الوضوء من النوم (٢٠٢) وقال : هو حديث منكر ، ـ

٤٦٩

[فهذا يفسر](١) الأخبار التي جاءت مجملة.

وقد جاءت الأخبار أنه إذا نام في الصلاة قائما أو قاعدا أو ساجدا ، فلا وضوء عليه ؛ فيدل ذلك على أن النوم في الصلاة ليس بحدث.

وروي عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : لا يجب الوضوء حتى يضع جنبه وينام (٢). فهذا يؤيد ما قلنا مع ما اجتمع أهل العلم في أن الوضوء ليس بواجب على من قام إلى الصلاة وهو غير محدث ؛ فكان التأويل ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)

[الخطاب من](٣) الله ـ عزوجل ـ بغسل الوجه : ما يعرف أهله الوجه ؛ فالتكلم فيه والتحديد أنه من كذا إلى كذا فضل تكلم.

والأمر (٤) بالغسل يرجع إلى ما ظهر وعرف أهله أنه وجه ، وكذلك الأمر بمسح الرأس ، يرجع إلى ما عرف أهله أنه رأس ، وليس كالأذنين ؛ لأن معرفة الأذنين أنهما من الرأس سمعي ؛ لأنهما لا تعرفان أنهما من الرأس إلا بالسمع ، وكذلك الأمر بغسل اليد ، وغسل الرّجل ، يقع على ما يعرف الناس ، وعرف الناس اليد إلى الإبط ، والرجل إلى الركبة ؛ فخرج ذكر المرافق في غسل الأيدي على إخراج ما وراء المرافق ، وكذلك ذكر الكعب في الرجل (٥) ؛ لإخراج ما وراء الكعب ؛ لأن اسم اليد على الإطلاق يقع من أطراف الأصابع إلى الإبط.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)

قرءوا بالنصب ، وقرءوا (٦) بالخفض (٧) :

__________________

 ـ الترمذي (١ / ١١٨ ، ١١٩) أبواب الطهارة : باب (الوضوء من النوم) حديث رقم (٧٧) ، ابن أبي شيبة (١ / ١٣٢) ، وأحمد (١ / ٢٥٦) ، وعبد بن حميد (٦٥٩) ، وأبو يعلى (٢٤٨٧) ، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (٣٤٢٩) ، والطبراني في الكبير (١٢٧٤٨) ، وابن عدي في الكامل (٧ / ٢٧٣١) ، والدار قطني (١ / ١٥٩) ، والبيهقي (١ / ١٢١).

(١) في أ : فهذه.

(٢) أخرجه مالك في الموطأ (١ / ٢١) رقم (١٠) ، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (١ / ١١٩) عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب قال : إذا نام أحدكم مضطجعا فليتوضأ. قال البيهقي : هذا مرسل.

(٣) في أ : خطاب.

(٤) في ب : والأصل.

(٥) في ب : الكعب.

(٦) في ب : قرءوه.

(٧) قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم : «أرجلكم» نصبا ، وباقى السبعة : «وأرجلكم» جرا ، والحسن بن أبي الحسن : و «أرجلكم» رفعا. ينظر الدر المصون (٢ / ٤٩٣).

٤٧٠

قال بعضهم : من قرأ بالنصب ، فهو يرجع إلى الغسل ؛ نسقا على الوجه ، وبالخفض يرجع إلى المسح : مسح الخفاف ؛ نسقا على مسح الرأس ، لكن هذا بعيد ؛ لأنه تناقض : لا يجوز أن يأمر بالغسل والمسح جميعا. ومعنى الخفض ؛ لقرب جواره بقوله ـ تعالى ـ : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، وقد يجوز ذلك ؛ نحو قوله تعالى : (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) [الواقعة : ٢١ ـ ٢٣] ، فمن قرأ بالخفض إنما قال : لقرب الجوار بالخفض ؛ فعلى ذلك الأول ، ثم الحكمة في الأمر بغسل هذه الأعضاء ؛ ليذكرهم تطهير باطنهم.

والمعنى في غسل هذه الأعضاء الظاهرة ـ والله أعلم ـ لمعنيين :

أحدهما : [أما اليد](١) ؛ شكرا لما بها يتناول ويقبض. وأما الرجل ؛ لما بها يمشى ، وبها يصل إليه. والوجه ؛ لأنه مجمع الحواس التي بها يعرف عظيم نعم الله ـ عزوجل ـ من نحو : البصر ، والفم ، وغيرهما (٢) من الحواس التي يكون بها التلذذ والتشهي.

أو أمر بذلك ؛ تكفيرا لما ارتكب بهذه الحواس من الإجرام ؛ لأنه بها يرتكب جلّ الآثام ، وبها يوصل إليها من : المشى ، والقبض ، وغير ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)

قيل : اغتسلوا : تأخذ الجنابة الظواهر من البدن وبواطنه ، والحدث لا يأخذ إلا الظواهر من الأطراف ؛ لأن السبب الذي يوجب الجنابة لا يكون إلا باستعمال جميع ما فيه من القوة ؛ ألا ترى أنه به يضعف إذا أكثره وبتركه. يقوى؟! فعلى ذلك أخذ جميع البدن ظاهره وباطنه.

وأما الحدث : فإن سببه يكون بظواهر هذه الأطراف ، من نحو : الأكل والشرب ، والحدث ليس باستعمال كل البدن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ...) الآية ذكر المرض والسفر والمجيء من الغائط ، والملامسة ، ثم الحكم لم يتعلق باسم المرض ولا باسم السفر ؛ ولكن باسم الغائط ، ولكن كان متعلقا لمعنى فيه ؛ ففيه دلالة جواز القياس ؛ لأنه ذكر الغائط والمجيء منه ، والغائط : هو المكان الذي تقضى فيه الحاجات ، والمراد منه : المعنى وهو قضاء الحاجات ؛ فهذا أصل لنا أن النص إذا ورد لمعنى ، فوجد ذلك المعنى في غيره ـ وجب ذلك الحكم في ذلك الغير ، فإذا عدم الماء

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : وغيرها.

٤٧١

في المكان الذي يعدم ، وإن لم يكن سفرا ـ يجوز التيمم فيه ؛ وكذلك إذا خاف الضرر من الماء ـ جاز له التيمم ، [وإن لم يكن](١) مريضا ؛ لأنه ليس أباح ذلك للمريض باسم المرض ولا باسم السفر ؛ ولكن لمعنى فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) : قد ذكرنا فيما تقدم أن الملامسة : هي (٢) الجماع ؛ كذلك روي عن على (٣) وابن عباس (٤) ـ رضي الله عنهما ـ وقال ابن عباس : «الملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والغشيان كله جماع ، ولكن الله كريم يكنى» (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)

جعل الطهارة بالماء والتراب ؛ لأنه بهما معاش الخلق ، وبهما قوام الأبدان ، حتى جعل جميع أغذية الخلق وجل مصالحهم منهما ؛ فعلى ذلك جعل قيام هذه العبادات بهما ، والله أعلم.

ثم الحكمة في وجوب الطهارة وجهان :

أحدهما : ما ذكرنا : أن يذكرهم طهارة الباطن.

والثاني : تكفيرا لما ارتكبوا بهذه الجوارح من الإجرام ، أو شكرا لما أنعم عليهم من المنافع التي جعل لهم فيها من القبض والبسط ، والتناول والأخذ والمشي ، وغير ذلك مما يكثر.

ثم الحكمة في جعل الطهارة في أطراف البدن للتزين والتنظيف ؛ لأنه يقدم على الملك الجبار ، ويقوم بين يديه ويناجيه ، ومن أتى ملكا من ملوك الأرض يتكلف التنظيف والتزيين ، ثم يدخل عليه ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) : قال عبد الله بن مسعود وعمر ـ رضي الله

__________________

(١) في أ : يكون.

(٢) في الأصول : هو.

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ٣٩٢ ـ طبعة دار المعارف بتحقيق محمود شاكر) ، رقم (٩٦٠٢) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٢٩٧).

(٤) أخرجه الطبري (٨ / ٣٨٩) رقم (٩٥٨٣) ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٢٩٧).

(٥) أخرجه عبد الرزاق في التفسير (١ / ١٨٤ ـ ١٨٥) ، وسعيد بن منصور (٤ / ١٢٦٢ ـ ١٢٦٣) ، رقم (٦٤٠) ، والطبري (٨ / ٣٨٩) برقمي (٩٥٨١ ، ٩٥٨٢) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٢٩٧).

٤٧٢

عنهما ـ : «الملامسة : ما دون الجماع» (١) ، وقالا : «إن الجنب لا يتيمم ، وإن لم يجد الماء شهرا» (٢). وإنما قالا : «إنه لا يتيمم» ؛ لما قالا : «إن اللمس ما دون الجماع» ؛ فلم يدخل الجنب في هذه الآية ، فأوجبوا (٣) عليه الغسل بقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ، وجعلا قول الله ـ تعالى ـ : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [النساء : ٤٣] على مرور الجنب في المسجد ، ولم يجعله على أنه يصلي إذا كان مسافرا ولم يجد (٤) الماء بالتيمم ، فهذا الذي منع عبد الله أن يطلق للجنب أن يصلي بالتيمم على [كل] حال.

فأما علي وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فإنهما جعلا اللمس الذي ذكره الله ـ تعالى ـ في هذه الآية الجماع (٥) ، وقالا : «كنى الله ـ تعالى ـ عن الجماع بالمسيس والغشيان والمباشرة» ، وجعل قول الله ـ تعالى ـ : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) في المسافر الذي لم يجد الماء وهو جنب.

وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه أذن للجنب من الجماع أن يتيمم : إذا لم يجد

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (١ / ١٣٣) ، رقم (٥٠٠) ، سعيد بن منصور (٤ / ١٢٥٧) ، رقم (٦٣٨) ، وابن أبي شيبة في المصنف (١ / ٤٩) ، رقم (٤٩٢) ، والطبري (٨ / ٣٩٣) ، رقم (٩٦٠٦) وما بعده ، وابن المنذر في الأوسط (١ / ١١٨) ، والطبراني (٩ / ٢٨٥) بأرقام (٩٢٢٧ ـ ٩٢٢٩) ، والحاكم (١ / ١٣٥) ، والبيهقي (١ / ١٢٤) ، ومسدد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٢٩٧) ، من طرق عن عبد الله بن مسعود في قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ـ قال : اللمس : ما دون الجماع ، والقبلة منه ، وفيه الوضوء. أما أثر عمر فأخرجه الحاكم (١ / ١٣٥) ، والبيهقي (١ / ١٢٤) عنه قال : إن القبلة من اللمس فتوضئوا منها».

(٢) أخرج البخاري (١ / ٥٨٨) كتاب التيمم : باب المتيمّم هل ينفخ فيهما؟ (٣٣٨) ، ومسلم (٢ / ٢٩٤ ـ شرح النووى) كتاب الحيض : باب التيمم (١١٢ ـ ٣٦٨) عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أن رجلا أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال : لا تصلّ ؛ فقال عمّار : أما تذكر ـ يا أمير المؤمنين ـ إذ أنا وأنت في سرية ، فأجنبنا ، فلم نجد ماء : فأما أنت فلم تصلّ ، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصليت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثم تنفخ ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك». فقال عمر : اتق الله يا عمار ، قال : إن شئت لم أحدّث به. وأخرج البخاري (١ / ٦٠٥) كتاب التيمم : باب التيمم ضربة (٣٤٧) ، ومسلم في الموضع السابق (١١٠ ـ ٣٦٨) عن الأعمش عن شقيق قال : كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري ، فقال أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن ، أرأيت لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا : كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله : لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا ...) الحديث. قال القرطبي في تفسيره (٦ / ٦٩) ، وقد صح عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا إلى ما عليه الناس ، وأن الجنب يتيمم.

(٣) في الأصول : وأوجبوا.

(٤) في أ : يريد.

(٥) في ب : جماعا.

٤٧٣

الماء (١) ؛ فكان ذلك حجة على من منع الجنب من التيمم.

ثم قول الشافعي قول ثالث خارج عن قول الصحابة والسلف جميعا ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ لأنه يزعم أن اللمس هو الجماع وما دونه ، فذلك ابتداع في الآية قولا وتفسيرا (٢) ؛ خالف فيه ما روي في تفسيرها عن الصحابة جملة والسلف ؛ لذلك كان مخطئا مبتدعا ، وأصله أن الله ـ تعالى ـ ذكر الوضوء وأمر به في الآية ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ...) الآية : ولم يذكر الحدث ، وأمر بالاغتسال من الجنابة ، وهو قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ولم يذكر من أيّ جنابة؟ ثم ذكر الحدث في قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) ؛ فعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) كان بيانا (٣) لما تقدم من الأمر بالاغتسال من الجنابة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، قيل : اقصدوا صعيدا طيبا (٤) ، والصعيد : هو وجه الأرض.

وقوله : (طَيِّباً) قال بعضهم : الطيب : ما ينبت من الزرع وغيره.

وقال آخرون : الطيب ـ هاهنا ـ هو الطاهر (٥) ؛ روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، أينما أدركتني الصّلاة تيمّمت وصلّيت» (٦) : أخبر أن الأرض

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٦٠٧) كتاب التيمم (٣٤٨) ، ومسلم (٣ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ شرح النووى) كتاب المساجد : باب قضاء الصلاة الفائتة ، (٣١٢ ـ ٦٨٢) عن عمران بن حصين الخزاعي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأي رجلا معتزلا لم يصلّ في القوم ؛ فقال : يا فلان ، ما منعك أن تصلي في القوم؟! فقال : يا رسول الله أصابتني الجنابة ولا ماء ؛ قال «عليك بالصعيد ؛ فإنه يكفيك» ، هذا لفظ البخاري.

(٢) مذهب الإمام الشافعي : واللمس يطلق على الجس باليد ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) [الأنعام : ٧] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لماعز ـ رضي الله عنه ـ : «لعلك قبلت أو لمست ...» الحديث. ونهي عن بيع الملامسة ، وفي الحديث الآخر : «واليد زناها اللمس» ، وفي حديث عائشة : «قلّ يوم إلا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطوف علينا ، فيقبل ويلمس». قال أهل اللغة : اللمس يكون باليد وبغيرها ، وقد يكون بالجماع ، قال ابن دريد : اللمس أصله باليد ؛ ليعرف مس الشيء ، وأنشد الشافعي وأصحابنا وأهل اللغة ـ في هذا ـ قول الشاعر :

لمست بكفي كفه طلب الغنى

ولم أدر أن الجود من كفه يعدي

والناظر في الأم للإمام الشافعي يجد أنه يفسر اللمس بما ذكره الإمام النووى. ينظر : الأم (١ / ٧٤).

(٣) في ب : تبيانا.

(٤) قاله سفيان ، أخرجه عنه الطبري (٨ / ٤٠٧) ، رقم (٩٦٤٣) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٢٩٨).

(٥) قاله الطبري. ينظر : تفسيره (٨ / ٤٠٩).

(٦) أخرجه البخاري (١ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦) كتاب التيمم : باب (١) حديث (٣٣٥) ، ومسلم (١ / ٣٧٠ ـ

٤٧٤

جعلت له مسجدا وطهورا ؛ فكان قوله : «طهورا» تفسيرا لقوله : «طيبا» ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)

قد ذكرنا فيما تقدم أن التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)

يحتمل هذا وجهين : يحتمل ما يريد أن يضيق عليكم ليأمركم بحمل الماء إلى حيثما كنتم في الأسفار وغيره ؛ [ولكن جعل لكم التيمم ، ورخص لكم أن تؤدوا ما فرض عليكم به ، ولم يكلفكم حمل الماء في الأسفار وغيره ،](١) والله أعلم.

ووجه آخر : ما أراد الله بما تعبدكم من أنواع العبادات أن يجعل عليكم من حرج ؛ ولكن أراد ما ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)

يحتمل يريد ليطهركم به : بالتوحيد والإيمان به وبالرسل جميعا.

ويحتمل قوله : (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الذنوب والآثام التي ارتكبوها ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤].

ويحتمل : التطهير من الأحداث والجنابات كما قال أهل التأويل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)

تمام ما ذكرنا من التوحيد والإيمان والهداية لدينه ، والتكفير مما ارتكبوا ، ويجوز أن يكون هذا في قوم علم الله أنهم يموتون على الإيمان ؛ حيث أخبر أنه يتم نعمته عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ)

أمر ـ والله أعلم ـ بشكر ما أنعم عليهم من أنواع النعم.

(وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ)

يحتمل الميثاق : ميثاق الخلقة وشهادتها ؛ إذ خلقة كلّ أحد تشهد على وحدانيته وربوبيته. ويحتمل الميثاق الذي ذكر : ميثاق قول قالوه وقبلوا ما دعوا إليه.

وقوله : (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) قال بعضهم : أجبنا دعوتك ، وأطعنا أمرك.

وقال آخرون : سمعنا قولك ، وأطعنا أمرك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّقُوا اللهَ)

__________________

 ـ ٣٧١) كتاب المساجد ، حديث (٣ / ٥٢١) ، والنسائي (١ / ٢١٠ ـ ٢١١) كتاب الطهارة : باب التيمم بالصعيد (٤٣٢) ، والدارمي (١ / ٣٢٢) ، والبيهقي (١ / ٢١٢) ، وأحمد (٣ / ٣٠٤).

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٤٧٥

في ترك ما أمركم ربكم ، وارتكاب ما نهاكم.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

وهو على الوعيد.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ...) الآية يحتمل أن تكون الآية في الشهادة نفسها ؛ كأنه قال : أن قوموا شهداء لله ، واجعلوا الشهادة له ، فإذا فعلوا هكذا لا يمنعهم بغض أحد وعداوته ، ولا رضا أحد وولايته ـ القيام بها. ندبهم الله أن يقوموا في الشهادة لله والحكم له : يحكم للعدو كما يحكم للولي ، ويقوم في الشهادة للعدو كما يقوم للولى ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون في بيان الحق والحجج وتعليم الأحكام والشرائع ؛ كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : قوموا في بيان الحجج والحق وتعليم الأحكام لله ، لا يمنعكم بغض قوم ولا رضاهم على ألا تبينوا الحق لهم ، ولا تعلموا الحجج والأحكام لهم.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) ، أي : لا يحملنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) ، أي : بغض قوم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) فيهم (١) ؛ فإنما العدل لله في الرضا والسخط ، (اعْدِلُوا) ، يقول : قولوا العدل بالحق ؛ فإنه أقرب للتقوى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)

أي : اعدلوا هو التقوى ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، أي : رحمة الله للمحسنين ؛ لأن العدل ليس إلا التقوى.

(وَاتَّقُوا اللهَ)

في ترك ما أمركم به ، وارتكاب ما نهاكم عنه.

(إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)

__________________

(١) أخرجه الطبري (٤ / ٤٠٤) ، برقمى (١٠٩٩٦ ، ١٠٩٩٧).

٤٧٦

وتضمرون من العدل والجور ، خرج على الوعيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال بعضهم : هذه الآية [هي](١) صلة ما تقدم في قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ...) إلى آخر ما ذكر. فإذا فعلوا ، وقاموا في الشهادة والعدل في الحكم ، كان لهم ما ذكر من الوعد ، والله أعلم. ولكن يحتمل هي على الابتداء ـ والله أعلم ـ كأنه قال : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وعدا ، ثم بين ما في ذلك الوعد ، فقال : لهم مغفرة وأجر عظيم : يستر على ذنوبهم ، ويتجاوز عنها ، وأجر عظيم : الجنة ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «لهم مغفرة في الدنيا لذنوبهم ، وأجر عظيم في الآخرة : الجنة» (٢) ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)

قيل : كفروا بآيات الله وكذبوا بآياته ، يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

وقيل : (كَفَرُوا) بتوحيد الله ، (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) : بالقرآن بأنه ليس من الله تعالى ، وهما واحد ؛ وهذا يدل أن الآية على الابتداء خرجت ، ليس على الصلة على ما قالوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ)

يحتمل أن تكون هذه المنة التي ذكر الله ـ تعالى ـ في هذه الآية من كف أيدي الأعداء عنهم ، بعد ما بسطوا إليهم أيديهم في جملة المؤمنين ؛ لأن المؤمنين كانوا في ابتداء الأمر مختفين (٣) فيما بين الكفرة ، لا يقدرون على إظهار الإسلام وإعلانه ، وقد هموا قتل المؤمنين غير مرة ، وفيما كف أيديهم عنهم منة عظيمة علينا وعليهم وعلى جميع المسلمين.

ويحتمل أن يكون في قوم خاص قد أحاطوا بهم ، وبسطوا أيديهم إليهم ، وهموا بقتلهم ؛ فكف الله ـ عزوجل ـ بفضله أيديهم عنهم ، وأنقذهم من أيديهم.

ثم اختلف فيه :

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «همّ بنو قريظة أن يبسطوا إليهم أيديهم بالقتل ؛

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وقاله أيضا سعيد بن جبير ، أخرجه عنه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٣٦).

(٣) في ب : مخيفين.

٤٧٧

فكف الله ـ تعالى ـ أيديهم عنهم بالمنع» (١).

وقيل : نزلت في اليهود : دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حائطا لهم في النخل ، وأصحابه وراء الجدار ، واستعانهم في مغرم دية غرمها ، ثم قام من عندهم ، فائتمروا بينهم بقتله ، فخرج يمشي القهقرى معترضا ينظر من خيفتهم ، ثم دعا أصحابه إليه رجلا رجلا ، حتى تناهوا إليه (٢). فلا ندري كيفما كانت القصّة؟ وليس لنا إلى معرفة القصّة حاجة بعد أن نعرف منة الله ـ تعالى ـ التي من علينا بكف الأعداء عنهم ، ونشكر له على ذلك.

وفي هذه الآية دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر عما كان منهم من غير أن يشهد (٣) ذلك ؛ ليعلم أنه بالله علم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

أي : على الله يكل المؤمن في كل أمره ، وبه يثق.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)(١٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً)(٤)

__________________

(١) أخرج الطبري (٤ / ٤٨٧) ، رقم (١١٥٦٧) ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٤٧١) من طريق العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : «إن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه طعاما ؛ ليقتلوه ؛ فأوحي الله إليه بشأنهم ؛ فلم يأت الطعام ، وأمر الصحابة فلم يأتوه.

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٤٨٥) ، رقم (١١٥٦٢) وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٤٧٠).

(٣) في ب : شهد.

(٤) قال القرطبي (٦ / ٧٥) : ففي الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الريفية والدنيوية ؛ فتركب عليه الأحكام ، ويرتبط به الحلال والحرام.

وفيها أيضا دليل على اتخاذ الجاسوس ـ والتجسس : التبحث ـ وقد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبسة عينا. أخرجه مسلم.

٤٧٨

هذا ـ والله أعلم ـ تعليم من الله ـ تعالى ـ هذه الأمة وإنباء منه أنه قد أخذ العهود والمواثيق على الأمم السالفة ، كما أخذ منكم ؛ لأنه ذكر أنه : قد أخذ من هؤلاء الميثاق بقوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ ...) الآية ، ثم أعلمهم بما وعد لهم من الثواب إن وفوا بتلك العهود والمواثيق التي أخذت عليهم ، وبما أوعد لهم من العقاب إن نقضوا العهود التي أخذ عليهم ؛ ليكونوا على حذر من نقضها ، وليقيموا على وفائها.

أو أن يقال : إنه إنما ذكر ما أخذ على أولئك من العهود والمواثيق ؛ ليكون ذلك آية من آيات رسالة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه إخبار عن الأمم السالفة ، وهو لم يشهدها ولا حضرها ؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك بالله.

ثم تحتمل تلك العهود والمواثيق التي أخذت عليهم : ما ذكر على أثرها وسياقها ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ ...) إلى آخر ما ذكر.

ويحتمل ما قال ابن عباس : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) في التوراة : ألّا تشركوا به شيئا ، وبالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وإحلال ما أحل الله ، وتحريم ما حرم الله ، وحسن مؤازرتهم (١).

(وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) ، يعني : ملكا ، وهم الذين بعثهم موسى إلى بيت المقدس ؛ ليعلموا له علمها.

ويحتمل : أن يكونوا اختاروا من بينهم أولئك ، فسألوا موسى أن يجعلهم عليهم قدوة يقتدون بهم ويعلمونهم الدين والأحكام ، ويأخذ عليهم المواثيق والعهود ؛ فيكون ما أخذ على أولئك من المواثيق والعهود عليهم ، والله أعلم.

ثم اختلف في النقيب : قال بعضهم : النقيب : هو الملك ، وهو قول ابن عباس (٢).

وقال أبو عوسجة : النقيب : هو المنظور إليه ، والمصدور عن رأيه ، وهو من وجوه القوم ، وجمعه : النقباء ، مثل العرفاء.

__________________

(١) أخرجه بنحوه الطبري (٤ / ٤٨١) ، رقم (١١٥٥٥) ، والطبراني في الكبير (١٢ / ٢٥٦) ، رقم (١٣٠٣١).

(٢) أخرج الطستي عن ابن عباس ، أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله ـ عزوجل ـ : (اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً)[المائدة : ١٢] ؛ قال : اثني عشر وزيرا ، وصاروا أنبياء بعد ذلك ، قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم ؛ أما سمعت قول الشاعر يقول :

وإني بحق قائل لسراتها

مقالة نصح لا يضيع نقيبها

ينظر : الدر المنثور (٢ / ٤٧٢).

٤٧٩

وقال أبو عبيد : النقيب : الأمير والضامن على القوم (١).

وقال الكسائي والفراء يقال منه : نقبت عليه ، أنقب ، نقابة ، وهو فوق العريف ؛ يقال من العريف : عرفت عليهم عرافة ، وهم النقباء والعرفاء.

والمناكب ، واحدهم (٢) : منكب ، وهم كالعون يكون مع العريف.

وقال القتبي : النقيب : الكفيل على القوم ، والنقابة والنكابة : شبيهة بالعرافة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) ، قال بعضهم : قال للنقباء : إني معكم في النصر والدفع عنكم ، (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ ...) إلى آخر ما ذكر ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه (٣).

ويحتمل أن يكون هذا الوعد لكل من قام بوفاء ذلك : النقباء وغير النقباء ، وما ذكر من الوعيد في الآية التي هي على أثر هذه على كل من نقض [ذلك](٤) العهد : النقيب وغير النقيب.

ثم قوله : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) يحتمل وجهين :

يحتمل : أنه أراد بالصلاة : الخضوع والثناء له ، وبالزكاة : تزكية النفس وطهارتها ، وذلك في العقل على كل أحد القيام به في كل وقت.

ويحتمل : أن يكون أراد بالصلاة والزكاة : الصلاة المعروفة المعهودة ، والزكاة المعروفة ؛ ففيه دليل وجوب الصلاة والزكاة على الأمم السالفة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي)

يحتمل : أن تؤمنوا برسلي جميعا ، ولا تفرقوا بينهم : أن تكفروا ببعض وتؤمنوا ببعض ؛ كقولهم : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠].

(وَعَزَّرْتُمُوهُمْ)

قال القتبي وأبو عوسجة : وعزرتموهم ، قالا : وعظمتموهم ، والتعزير : التعظيم (٥).

وقال بعضهم : نصرتموهم (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٤ / ٤٨٩) ، ولم يسم قائله.

(٢) في ب : واحد منهم.

(٣) قاله الربيع بن أنس ، أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٧٣).

(٤) سقط من ب.

(٥) وقاله أبو عبيد ، كما في تفسير الطبري (٤ / ٤٩٣).

(٦) أخرجه الطبري (٤ / ٤٩٢) ، رقم (١١٥٨٢) ، وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٧٣).

٤٨٠