تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

والثالث : الاتفاق أن الذي يقتص لا يلزمه الكفارة ، فمن وجب له حكم العمد لم تجب عليه الكفارة ، ولو أوجبنا الكفارة على القاتل جعلناها حقّا لله من حيث النفس لا من حيث معنى في الجناية له تجب ، وذلك المعنى في نفس القاتل والقتيل سواء ؛ فيكون ولي القتيل آخذا الذي له وقع القصاص والذي ليس له القصاص ، لكن له الكفارة فتلزمه ، فإذ لم تجب ، بان أنها تجب بحال في النفس والجناية ، فلم تجب فيما عدمت تلك الحالة.

والأصل : أنها لم تجعل للحظر ولا لنفس الحرمة ؛ إذ قد يوجد قتل نفس محظورة ولم تجعل فيها الكفارة ، نحو الذراري والنساء من أهل الشرك ، بل لو كان كذلك كان الخطأ من أبعد ما يجعل له الكفارة ؛ فثبت أنها لم تجعل لذلك ، ومن يقس ـ يقس بذلك ؛ فبطل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) اختلف فيه :

قال بعضهم : لا يجزئ إلا من صام وصلى.

وعن ابن عباس قال : الرقبة المؤمنة : كل مولود ولد في الإسلام ، صغيرا كان أو كبيرا (١).

والأشبه أن يجزئ الصغير من المسلمين ، ألا ترى أنهم أجمعوا أن على قاتل الصغير من المؤمنين مثل ما كان على قاتل الكبير منهم؟! فيجب أن يجزئ الصغير من المؤمنين على ما يجزئ عنه الكبير منهم ؛ إذ كان حكم الصغير من المؤمنين حكم الكبير منهم (٢).

ومما يدل على ذلك ـ أيضا ـ أن حكم الصغير من المؤمنين ، وميراثه ، وتزويجه ، وطلاق الرجل الزوجة الصغيرة ـ حكم الكبير ، فهم مؤمنون في الحكم وإن كانوا صغارا ، ولكن لسنا نذكر عن (٣) أصحابنا رواية منصوصة في جوازه ، والقياس ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ)

وصف الله ـ تعالى ـ الشهرين بالتتابع ، ووصف الرقبة بالإيمان ، فهو ـ والله أعلم ـ يحتمل أن يكون على التغليظ والتشديد ؛ لما يجوز أن يجاوز جرم حكم الخطأ جرم غيره من الأشياء ، نحو أن يقتله بعصا ، أو بسوط ، ونحوه ، قاصدا له ، ولا شك أن جرمه أعظم من جرم غيره من الأفعال التي توجب الكفارة من الأيمان والظهار وغيره ؛ فغلظ فيه ما لم

__________________

(١) ذكره بنحوه أبو حيان في البحر (٣ / ٣٣٤) ، ولم ينسبه لأحد.

(٢) في ب : منهما.

(٣) في ب : من.

٣٢١

يغلظ في غيره بالإيمان في الرقبة والتتابع في الصيام ، وهذا كما يقولون : إن ضرب التعزير أشد من ضرب حد الزنا وحد شرب الخمر وغيره ؛ لأن جرم فعل التعزير ربما يبلغ جرم الزنا أو يجاوز ، وهو أن يخنق آخر مرة أو مرتين ، لا شك أن حرمته أعظم من حرمة من قذف آخر ، أو شرب قطرة من خمر ؛ فغلظ فيه وشدد ؛ لما ذكرنا ، فعلى ذلك شرط الإيمان في العتاق في كفارة القتل ، والتتابع في الصوم ؛ تغليظا وتشديدا للمعنى الذي ذكرنا ، وهو أن يقتله قتل شبه العمد ؛ أي : عمد القصد ، خطأ الحكم ، ألا ترى أنه غلظ في الدية في شبه العمد ولم يغلظ في غيره.

وروي [عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ](١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قتيل السّوط والعصا فيه الدّية مغلّظة» (٢).

وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ شيء خطأ إلّا السّيف والحديد ، ولكلّ خطأ أرش» (٣).

ذكر الله ـ تعالى ـ قتل الخطأ والعمد ، فبين حكمهما ، ولم يذكر غيرهما في كتابه ، لكنا عرفنا قبل شبه العمد والحكم فيه بما روينا من خبر ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحديث النعمان عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «ألا إنّ قتيل خطأ العمد قتيل السّوط والعصا ، ففيه الدّية مغلظة : ثلاثون جذعة ، وثلاثون حقّة ، وأربعون ما بين ثنيّة إلى بازل عامها ، كلّها خلفة» (٤).

واختلف الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ :

روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ ما ذكرنا من الخبر المرفوع أثلاثا.

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قريبا منه أثلاثا.

وعن أبي موسى الأشعري والمغيرة ما روينا من الخبر المرفوع أثلاثا.

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في شبه العمد أرباعا : خمسة وعشرين حقة ، وخمسة وعشرين جذعة ، وخمسة وعشرين بنات لبون ، وخمسة وعشرين بنات مخاض.

__________________

(١) في ب : من غيره.

(٢) أخرجه أحمد في المسند (٢ / ١١) ، وأبو داود (٤ / ٦٨٤) ، كتاب الديات : باب في دية الخطأ (٤٥٤٩) ، والنسائي (٨ / ٤٢) ، كتاب القسامة : باب ذكر الاختلاف على خالد الحذاء ، وابن ماجه (٢ / ٨٧٨) كتاب الديات : باب دية شبه العمد (٢٦٢٨) ، والدارقطني (٣ / ١٠٥) ، كتاب الديات (٨٠) ، بلفظ : «ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا ـ دية مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها» يعني : مائة من الإبل.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

٣٢٢

ثم لا يحتمل أن يكون الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ قالوا ذلك رأيا من أنفسهم ؛ لأن هذا باب ما لا يوقف إلا بالسمع والخبر من الله ـ تعالى ـ فيجعل كأنهم جميعا سمعوا ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وقت واحد ؛ فدل أنه في وقتين مختلفين ، فهو على التناسخ ، فلم يظهر الأول منهما من الآخر ؛ فأوجب الأخف باليقين ، ولم يوجب الأغلظ بالشك ، وهذا قول أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ حيث قال في شبه العمد بالأرباع ، وأما محمد ـ رحمه‌الله ـ فإنه ذهب إلى ظاهر الخبر المرفوع بالأثلاث.

ثم اختلف أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ فيمن رمى آخر في بحر فغرق فمات :

قال أبو حنيفة (١) ـ رحمه‌الله ـ : لا يقتل به.

وقال فيمن أحرق آخر بالنار : قتل به ، وكان يفرق بينهما بوجهين (٢) :

__________________

(١) ذهب الحنفية إلى أن القتل لا يعتبر عمدا إلا إذا ارتكب بآلة قاتلة ، ويشترط الإمام أبو حنيفة أن تكون الآلة محددة ؛ فإن لم يكن القتل بذلك ـ لا يعتبر عمدا عنده ، ولم يستثن من غير المحدد إلا النار ؛ فاعتبر القتل بها عمدا ؛ لأنها تعمل عمل السلاح ، وفي رواية الأصل عنه : أن العبرة للحديد وإن لم يكن محددا.

كما أن الحنفية لم يعتبروا القتل بالتسبب ـ من العمد.

والظاهرية يعتبرون القتل عمدا ؛ متى كان نتيجة اعتداء بما يحتمل الموت منه ، أما الاعتداء بما لا يموت من مثله أحد عادة ـ فليس عندهم من العمد ولا من الخطأ ؛ وإنما هو هدر ولا شيء فيه إلا الأدب. وقد وافقهم الشافعية في اعتبار الموت بما لا يموت من مثله أحد هدرا ؛ لأنه لا يمكن إحالة الهلاك عليه عادة.

وقد ذهب المالكية في الرواية المشهورة عندهم إلى أن القتل يعتبر عمدا ؛ متى كان الفعل قاتلا ، سواء كان الاعتداء على سبيل العداوة أو اللعب ، أما إذا كان الفعل لا يقتل غالبا ـ فيعتبر القتل خطأ : إن كان الاعتداء على سبيل اللعب أو التأديب ، ويعتبر عمدا : إن كان على سبيل العداوة أو الغضب.

وأما الرواية التي تثبت شبه العمد فيكون الاعتداء بما لا يقتل غالبا ـ شبه عمد ؛ كما ذهب إلى ذلك جمهور. وقد ثبت شبه العمد بالسنة وبالمعقول ، وهو أن الاعتداء على الإنسان بما لا يقتل غالبا ـ دليل على عدم قصد القتل.

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن أي وسيلة تقتل غالبا تجعل القتل عمدا ، ولا فرق عندهم بين الجارح والمثقل ، ولا بين التسبب والمباشرة. وهم يكتفون في كون القتل عمدا بأن يفعل المعتدى بالمقتول فعلا الغالب من التلف.

والذي يؤيده الدليل هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة والمالكية في إحدى الروايتين عندهم من أنه لا فرق فيما يزهق الروح بين المثقل والمحدد ، ولا بين أن يكون الفعل القاتل تسببا أو مباشرة ؛ ما دام يغلب على الظن حصول الموت به ؛ فالذي يضرب الشخص بمحدد أو بمثقل أو يدفعه لأسد ، أو يقذفه من شاهق ، أو يقدم إليه سما ، فيأكله غير عالم به ؛ فيموت من ذلك ـ يعتبر قاتلا عمدا ؛ ويجب القصاص منه حتى يرتدع الناس عن القتل بهذه الوسائل التي تدل دلالة واضحة عند استخدامها في الاعتداء على توفر نية القتل ؛ فمتى كان الفعل الذي حصل به القتل مما يغلب على الظن حصول الموت به ـ يعتبر القتل عمدا ؛ إذ لا شبهة عند ذلك في قصد القتل به.

ينظر : نهاية المحتاج (٧ / ٢٣٨).

(٢) في ب : في وجهين.

٣٢٣

أحدهما : أن يكون (١) الرامي في الماء حسب (٢) أنه يحسن أن يسبح ، وذلك موجود في كثير من الناس ؛ فصار ذلك شبهة يزول بها القصاص عن الرامى ، وأما الذي رمى صاحبه في النار ليس له أن يدعى مثل تلك الشبهة ؛ لذلك لم يزل عنه القصاص.

والثاني : أن النار جارحة ؛ ألا ترى أنها تستعمل في موضع السلاح ، ويحارب بها؟! وهي من أشد السلاح ، ولا كذلك الماء ؛ لذلك افترقا.

ثم القول في مبلغ الدية من الإبل ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ودى رجلا بمائة من الإبل (٣) وروي أن الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم (٤) في العقول في النفس مائة من الإبل (٥).

وما روينا من خبر ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : خطب [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٦) فقال : «ألا إنّ قتيل خطأ العمد فيه الدّية مغلّطة مائة من الإبل» (٧).

ثم القول في أسنان الإبل في الدية ما روى عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دية الخطأ أخماس» (٨) ، وكذلك روي عن عبد الله بالأخماس ، وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ كذلك.

__________________

(١) في ب : يقول.

(٢) في ب : حسبت.

(٣) أخرجه البخاري (١٢ / ٢٣٩ ، ٢٤٠) ، كتاب الديات : باب القسامة ، رقم (٦٨٩٨) ، ومسلم (٣ / ١٢٩٢) كتاب القسامة : باب القسامة ، رقم (٢ ـ ١٦٦٩) ، وأبو داود (٢ / ٢٨٨ ، ٢٨٩) كتاب الزكاة : باب كم يعطي الرجل؟ رقم (١٦٣٨) ، والبغوي في شرح السنة (٥ / ٣٩٩).

(٤) هو أبو الضّحاك عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان ـ بفتح اللام ـ ابن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري ، ومنهم من ينسبه في بنى مالك ابن جشم بن الخزرج. وفي نسبه خلاف غير هذا. أول مشاهده : الخندق وله خمس عشرة سنة. استعمله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نجران سنة عشر ، ومات سنة ثلاث وخمسين بالمدينة. وقال أبو موسى في تاريخه : سنة إحدى وخمسين ، وقيل : سنة أربع. وذكر ابن سعد عن الواقدي قال : وبقي عمرو بن حزم حتى أدرك بيعة معاوية بن أبي سفيان لابنه يزيد ، ومات بعد ذلك بالمدينة.

ينظر : تهذيب الأسماء واللغات (٢ / ٢٦) ، وتهذيب التهذيب (٨ / ١٨).

(٥) أخرجه مالك في الموطأ (٢ / ٨٤٩) كتاب العقول : باب ذكر العقول رقم (١) ، والنسائي (٨ / ٥٧ ، ٥٨) كتاب القسامة : باب ذكر حديث عمرو بن حزم ، والحاكم في المستدرك (١ / ٣٩٧) ، والبغوي في شرح السنة (٥ / ٤٠٢) ، رقم (٢٥٣٢).

(٦) في ب : النبي عليه‌السلام.

(٧) رواه أحمد في المسند (٢ / ١١) ، وأبو داود (٤ / ١٨٤) كتاب الديات : باب في دية الخطأ رقم (٤٥٤٩) ، والنسائي (٨ / ٤٢) كتاب القسامة : باب ذكر الاختلاف على خالد الحذاء ، وابن ماجه (٢ / ٨٧٨) كتاب الديات : باب دية شبه العمد ، رقم (٢٦٢٨) ، من حديث عبد الله بن عمر.

(٨) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٧٤) كتاب الديات : باب من قال : هي أخماس ، وجعل أحد أخماسها بني المخاض دون بني اللبون.

٣٢٤

وعلى بن أبي طالب في الخطأ أرباع (١).

وكان أبو حنيفة يذهب إلى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى ما روي عن عمر وعبد الله ـ رضي الله عنهما ـ ويجعل دية الخطأ أخماسا من الإبل ، وفي شبه العمد أرباعا ؛ لما ذكرنا ، ومحمد ـ رحمه‌الله ـ يذهب إلى ما روى عن على ـ رضي الله عنه ـ بالأرباع في الخطأ ، وفي شبه العمد بالأثلاث ؛ بالخبر المرفوع ، والوجه فيه ما ذكرنا.

ثم المسألة في مبلغ الدية من الورق (٢) ، روي في بعض الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قضى بالدية اثنى عشر ألفا (٣).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن (٤) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل الدية اثني عشر ألفا (٥).

وروي عن عبيدة السلماني قال : وضع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الديات : فوضع على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق (٦) عشرة آلاف درهم ، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشياة ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة (٧).

ثم روى عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : قوّموا الإبل ؛ فقوموها أوقية (٨) ، ثم غلت

__________________

(١) رواه البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٧٤) كتاب الديات : باب من قال : هي أرباع ، على اختلاف بينهم في الأوصاف.

(٢) الورق ـ بكسر الراء ـ : الدراهم المضروبة من الفضة. ينظر : المغني في الإنباء (١ / ٢٠٨).

(٣) رواه الترمذي (٣ / ٦٥) كتاب الديات : باب ما جاء في الدية كم هي من الدراهم؟ رقم (١٣٨٨) ، والنسائي (٨ / ٤٤) كتاب القسامة : باب ذكر الدية من الورق ، وابن ماجه (٢ / ٨٧٨) كتاب الديات : باب دية الخطأ ، رقم (٢٦٢٩) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٧٨) ، من حديث ابن عباس.

(٤) في ب : عن.

(٥) السابق.

(٦) في ب : الفرق.

(٧) أخرجه أبو داود (٤ / ١٨٤) كتاب الديات : باب الدية كم هي؟ رقم (٤٥٤٢) ، والبغوي في شرح السنة (٥ / ٤٠٠).

(٨) في اللغة : الأوقية ـ بضم الهمزة وتشديد الياء ـ هي عند العرب أربعون درهما. وقال صاحب اللسان : الأوقية ـ بضم الهمزة وتشديد الياء ـ زنة سبعة مثاقيل ، وقيل : زنة أربعين درهما ، وكانت الأوقية قديما عبارة عن أربعين درهما ، وهي في غير الحديث نصف سدس الرطل ، وهو جزء من اثنى عشر جزءا ، وتختلف باختلاف اصطلاح البلاد.

وفي الاصطلاح : هي من أشهر الموازين التي كانت سائدة في الجزيرة العربية.

وقال المقريزي : والأوقية الفضة : أربعون درهما.

واتفق الباحثون على أن الأوقية تساوي أربعين درهما ، وقد قيل : إن مقدارها سبعة مثاقيل شرعية. كما يرى السيد الشبري أن وزنها سبعة مثاقيل ـ ونصف مثقال ـ شرعية. ويرى «هنتس» أن وزنها ١ / ١٢ من الرطل أي ١٢٥ جرام ، ولكن الذي نرجحه أن وزنها هو أربعون درهما دون ـ

٣٢٥

الإبل ؛ فقال : قوموا ؛ فقوّمت أوقية ونصفا ، ثم غلت ؛ حتى قومت عشرة آلاف درهم (١).

فلو علم عمر ـ رضي الله عنه ـ أن [رسول الله](٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدراهم ، لم يحتج إلى أن يقوموا (٣) الإبل ، ومحال أن يخفى على عمر وغيره من الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يضطروا إلى تقويم الإبل ؛ فدل أن الخبر في اثنى عشر غير (٤) ثابت.

ثم الاختلاف أن الدية من الدنانير ألف دينار ؛ فوجب أن تكون الدية من الورق عشرة آلاف ؛ لأنه روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه جعل قيمة كل دينار عشرة (٥).

وروي أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن تؤخذ الجزية من أهل الورق أربعين درهما ، ومن أهل الذهب أربعة دنانير (٦).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم (٧).

دل ما ذكرنا من قول الصحابة أن قيمة كل دينار عشرة دراهم ؛ فلما أجمعوا في أن الدية من الذهب ألف دينار ـ وجب أن تكون من الورق (٨) عشرة آلاف ؛ ألا ترى أنه (٩) يؤخذ في الزكاة من مائتي درهم خمسة دراهم ، وفي عشرين دينارا : نصف دينار؟! دل على أن الدية عشرة آلاف.

ثم يحتمل الخبر ـ إن ثبت ـ أن الدية اثنا عشر ألفا ، وزن ستة ؛ لأن الدية كان أصلها الإبل ، فقومت الإبل دراهم ؛ فبلغت اثني عشر ألفا من وزن ستة ، ثم ردّت الأوزان إلى وزن سبعة ؛ فكانت اثني عشر ألفا ، وكسر وزن سبعة ، ألقوا الكسر ؛ لأن القيم لا تعرف منصوصا ؛ وإنما تعرف بالاجتهاد ، وقد تزداد وتنقص ، ويكون بين القيمتين الشيء اليسير ؛

__________________

 ـ الاعتداد بوزن الأوقية ؛ بالمثاقيل لأن اعتبار المثاقيل في تحديد وزن الأوقية يؤدي إلى اضطراب في بقية الموازين الأخرى. ينظر المقادير الشرعية ص (٥٤ ـ ٥٥).

(١) أخرجه الشافعي في مسنده (٢ / ٣٦٧) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٩٥).

(٢) في ب : النبي.

(٣) في ب : يقومه.

(٤) في ب : عن.

(٥) ينظر تخريج الحديث السابق.

(٦) أخرجه مالك في الموطأ (١ / ٢٧٩) كتاب الزكاة : باب جزية أهل الكتاب والمجوس ، رقم (٤٣).

(٧) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٢٦٠ ، ٢٦١) كتاب السرقة : باب ما جاء عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فيما يجب به القطع.

(٨) في ب : الفرق.

(٩) في ب : أن.

٣٢٦

فتركوا ذلك الكسر ؛ لما وصفنا ، ولأنه لم يكن في الدية في أصلها كسر ، وهذا وجه محتمل ؛ فأخذ أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ بآخر التقديرين (١) ؛ لأن الأوزان استقرت على وزن سبعة ، وبطل وزن ستة ، ولا شك أن وزن سبعة هي الآخرة ؛ لاستقرارها في الناس على ذلك ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) قد ذكرنا معنى التتابع في ذلك. وفي قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) عند الجميع من جميع من ذكر من القائلين في هذه الآية ، ثم قوله ـ تعالى ـ : (تَوْبَةً مِنَ اللهِ)

قال بعض أهل العلم : ندامة من الله ـ تعالى ـ وقد يندم الرجل على [فعل يفعله](٢) خطأ.

لكن عندنا على حقيقة التوبة ؛ لأن الفعل فعل مأثم وإن كان خطأ ، ولأنه يجوز أن يكلف الإنسان وينهى في حال الخطأ ؛ لما لا يتأمل في ذلك ولا ينظر ؛ لئلا يترك التأمل في ذلك والنظر ؛ فتكون التوبة على الحقيقة ؛ لما ذكرنا.

وفي قوله أيضا : (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) قد بينا الوجه في ذلك.

وقال بعض أهل التأويل : التوبة ـ في الحقيقة : [هي](٣) الندامة على الأمر ، وكل من يتولد من فعله قتل أحد ؛ فهو يندم على ذلك الفعل الذي حدث منه الذي ذكر ، ويحزن عليه ؛ فيكون ـ على هذا التقدير ـ معنى التوبة من الله : إلقاء ذلك الحزن في قلبه ، أو رجوعه بالتأسف إلى الله بالإعتاق والصيام ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)

لمن قتله خطأ ولم يقصد ، ومن قصده ، أو (عَلِيماً) بما حكم عليكم من الدية والكفارة ، أو (عَلِيماً) بآجالكم ، (حَكِيماً) في قضائه وحكمه ؛ حيث وضع كل شيء موضعه ، والله أعلم به.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) يخرج ذلك عند ذكر هذه الآية ، وهو كذلك بذاته على أوجه :

أحدها : أنه عليم بالذي عليه خرج حقيقة فعل ذلك القاتل من القصد وغير القصد ، وهو حكيم بما حكم علينا الذي ذكر بظاهر أحوال القتيل ، وإن لم يعرف حقيقة الأمر في ذلك ؛

__________________

(١) في الأصول : التقدير.

(٢) في أ : فعله.

(٣) سقط من ب.

٣٢٧

إذ الذي له حكم العمد والخطأ لا يظهر لغيره.

والثاني : وكان الله لم يزل عليما بالذي يكون من عباده ، وبالذي به المصالح بينهم ؛ فحكم بما فيه المصالح ، فيما علم من وقوع الجنايات.

والثالث : يبين أنه لا عن جهل يقع الخلاف لأمره ولما [لم](١) يرض به من خلقه ، ولا عن خطأ في التدبير ، أي : عليم بالذي يكون من الخلق ، لا عن جهل بهم خرج أمرهم ، وحكيم في التدبير ، أي : لا يلحقه الخطأ في تدبير الخلائق ، على ما يكون منهم من الفساد والشر ؛ إذ بمثله من غيره يعلم الخطأ والجهل ؛ لما في ذلك ضرر يقع به ، والله يتعالى عن هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ...) الآية [النساء : ٩٣]. قيل في بعض القصة : إن رجلا قتل آخر عمدا ؛ فلما علم أنه يقتل به ارتد عن الإسلام ، ولحق بدار الحرب ؛ فنزل الوعيد.

وهذا ـ والله أعلم ـ كقوله تعالى : (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [فصلت : ٧] : كانوا يمنعون الزكاة لما كان عندهم أن الزكاة تنقص المال ؛ فجحدوا بها رأسا ، وكقوله : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر : ٤٣ ـ ٤٦] فتركوا الزكاة والصلاة ؛ لما يلحقهم بذلك مؤن وأشغال ، يشغلهم ذلك كله عما تهوى أنفسهم ؛ فأنكروا رأسا ؛ لأنهم إن صلوا وأدوا الزكاة [لا](٢) يكون ذلك صلاة وزكاة ؛ إذ كانوا يكذبون بيوم الدين ؛ فعلى ذلك قاتل المسلم عمدا إذا علم أنه مقتول به ترك دينه ؛ فصار من أهل النار خالدا مخلدا فيها.

ويحتمل قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) لدينه يقتله عمدا ، غير غالط فيه ولا جاهل ، عالما بذلك ، وإلى قتله لدينه قاصدا ، ومن كان هذه صفته فقد كفر ، ووجب له هذا الوعيد الذي ذكره في كتابه الكريم ، إلا أن يجدد إيمانا ؛ فإن الله ـ تعالى ـ يقبل إيمانه وتوبته.

والرابع : أن يكون [الوعيد الذي ذكره في كتابه](٣) ذلك جزاء ، ولله الإفضال عليه بالعفو والمجاوزة (٤) ؛ إذ ذلك جزاؤه إن لم يكن له حسنات يقابل به ، فأما إذا كانت له

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : والمجازاة.

٣٢٨

حسنات يقابل به ، يبدل الله بفضله ـ سيئاته حسنات ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠].

ثم الدليل أن الآية فيمن قتل مسلما لدينه ، قاصدا لنفسه دون دينه ـ قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨] وإنما يكتب عليهم إذا كان القتل قتل عمد ، وأبقى لهم بعد القتل اسم الإيمان ، ثم قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] ؛ فأبقى لهم اسم الإخوة ، ثم قال : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٧٨] : أطمعه في رحمته ـ عزوجل ـ وبعيد أن يكون له مع هذا خلود في النار ؛ فدلت الآية على بقاء اسم الإيمان ، وعلى رجاء الرحمة ، وهما معنيان ينقصان قول المعتزلة ؛ حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار ، ولأنه ـ تعالى ـ قال : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) ولم يقل : يجزيه ، وله أن يتفضل بالعفو عنه ، على ما وصفنا ، وبالله التوفيق (١) والنجاة.

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في تأويل الآية ما يؤيد ما قلنا : روي عنه أنه قال في قوله : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) ، قال : هي جزاؤه ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعا وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدلّ على راهب ؛ فأتاه فقال : إنّي قتلت تسعة وتسعين نفسا بغير حقّ ؛ فهل لي من توبة؟ فقال : لا. فقتله ، ثمّ سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل ، فأتاه فقال : إنّي قتلت مائة نفس بغير حقّ ؛ فهل لي من توبة؟ قال : نعم ، ومن يحول بينك وبين التّوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا ؛ فإنّ فيها أناسا يعبدون الله فاعبده معهم ؛ فانطلق ، حتّى إذا بلغ نصف الطّريق أتاه الموت ، فاختصم ملائكة الرّحمة وملائكة العذاب ، فأتاهم ملك ، فجعلوه حكما بينهم ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين ، أيّهما كان أدنى وأقرب فهو له ؛ فقاسوه فوجدوه أدنى للأرض (٢) الّتي أراد ؛ فقبضته (٣) ملائكة الرّحمة» (٤).

__________________

(١) في ب : المعونة.

(٢) في ب : إلى الأرض.

(٣) في ب : فقبضه.

(٤) أخرجه البخاري (٦ / ٥١٢) كتاب أحاديث الأنبياء : باب (٥٤) ، رقم (٣٤٧٠) ، ومسلم (٤ / ٢١١٩) كتاب التوبة : باب قبول توبة القاتل ، رقم (٤٧ ـ ٢٧٦٦) ، وأحمد (٢٠١٣ ، ٧٢) ، وابن ماجه (٤ / ٢١٥ ، ٢١٧) كتاب الديات : باب هل لقاتل مؤمن توبة؟ رقم (٢٦٢٢) ، وأبو يعلى في مسنده رقم (١٠٣٣) ، وابن حبان في صحيحه رقم (٦١١ ، ٦١٢).

٣٢٩

أفلا ترى أنه لما كان كافرا ، فقتل مائة نفس ، فقبلت توبته ، ولو كان مسلما كانت مظالم المقتولين في عنقه باقية ؛ فهذا الحديث يدل ـ والله أعلم ـ على أن التأويل ما ذكرنا ، وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(٩٤)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا ...) الآية.

قيل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية إلى دار الحرب ، فسمعوا سرية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تريدهم ؛ فهربوا ، وأقام رجل ؛ لإسلامه ؛ فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من العدو من حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فألجأ غنمه إلى [كهف](١) ، ثم قام دونها ، فسمع التكبير ؛ فهبط إليهم وهو يقول : لا إله إلا الله ، فأتاه رجل من هؤلاء ، فقتله واستاق غنمه وما معه ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه الخبر ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقتلتموه ؛ إرادة ما معه ، وهو يقول : لا إله إلّا الله؟!» فقالوا : إنه قال [ذلك](٢) متعوذا ؛ فقال : «هلّا شققتم عن قبله؟!» (٣).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية ، فلقيهم رجل ، فسلم عليهم وحياهم بتحية الإسلام ، فحمل عليه رجل من السرية فقتله ؛ فلامه أصحابه وقالوا : أقتلت رجلا حيانا بتحية الإسلام؟! فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبره بالذي صنع ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقتلته بعد أن (٤) قال : إنّي مسلم؟!» فقال : يا رسول الله ، إنما قالها متعوذا ؛ قال : «فهلّا شققت عن قلبه فتعلم ذلك؟!» ؛ فنزل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً)(٥).

__________________

(١) بياض بالأصول ، والمثبت من كتب الحديث.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه ابن جرير مطولا في التفسير (٩ / ٧٨ ، ٧٩) رقم (١٠٢٢١) ، وهو عند أحمد في مسنده (١ / ٢٢٩ ، ٢٧٢ ، ٣٢٤) ، والترمذي (٥ / ١٢٣) كتاب التفسير : باب ومن سورة النساء ، رقم (٣٠٣٠) ، وابن حبان (٤٧٥٢) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٢٣٥) ، والبيهقي (٩ / ١١٥).

(٤) في ب : ما.

(٥) أخرجه الطبري (٩ / ٧٦ ، ٧٧) رقم (١٠٢١٩) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٥٧) ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم بنحوه.

٣٣٠

فلا ندري كيفما كانت القصة؟ ولكن فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة ، والنهي عن الإقدام عندها ، وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أمر بالتثبت في الأفعال بقوله : (فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) ، وقال في الخبر : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات : ٦] أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة ، كما أمر في الأفعال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦].

وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة ؛ لأنه نهاهم أن يقولوا [لمن قال](١) : إني مسلم (٢) : لست مؤمنا ، وهم يقولون : صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ، وهو يقول ألف مرة على المثل : إني مسلم ، فإذا نهى أن يقولوا : ليس بمؤمن ؛ أمرهم أن يقولوا : هو مؤمن ؛ فيقال لهم : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) [البقرة : ١٤٠] على ما قيل لأولئك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا)

قيل : الغنيمة : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) هذا يحتمل وجهين :

يحتمل قوله : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي : أجر عظيم وجزاء كثير.

ويحتمل : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) يعطيها لكم في غير هذا ، كقوله ـ تعالى ـ (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ...) الآية [الفتح : ٢٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ ...) الآية.

اختلف فيه :

قيل : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) ضلالا كفارا ؛ (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالإسلام والهجرة ، وهداكم به.

وقيل : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تخفون إيمانكم من (٣) المشركين وتكتمونه ؛ (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بإظهار الإسلام وإبدائه.

وقيل : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تأمنون في قومكم من المؤمنين ب «لا إله إلا الله» ، ولا تخيفوا من قالها ؛ (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالهجرة.

وعن ابن عباس قال : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) كفارا تقاتلون على الدنيا

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : مؤمن.

(٣) في ب : في.

٣٣١

وعرضها (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَتَبَيَّنُوا)

عاد إلى الأول ، وأمر بالتثبت عند الشبهة ؛ ألا ترى أنه روى في الخبر أنه قال : «المؤمن وقّاف وزّان» : وقاف يقف عن الشبهة ، ووزان يزن الأعمال فيختار أفضلها.

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً)(٩٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)

قال الحسن : كان هذا في الوقت الذي كان الجهاد تطوعا ؛ لأنه لو كان فرضا لكان لا معنى لقوله : لا يستوي كذا من كذا ، وهما غير مستويين : أحدهما فرض عليه ، والآخر لا.

قيل له : هذا الذي ذكرت لا يدل على أن الجهاد ليس بفرض في ذلك الوقت ؛ ألا ترى أنه قال : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨] ، وقال : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) [الجاثية : ٢١] ، جمع بين متضادين ، ثم قال : (لا يَسْتَوُونَ) [التوبة : ١٩] ؛ فعلى ذلك [هذا] ، وهو أولى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) : استثنى أهل الضرر مجملا في هذه الآية ، وبيّن أمرهم وما زال (٢) عنهم من فرض الجهاد في آية أخرى ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النور : ٦١] ، وقوله عزّ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير في تفسيره (٩ / ٨٣) رقم (١٠٢٣٠) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٥٩) عن قتادة وابن زيد ، بنحوه.

(٢) في ب : أزال.

٣٣٢

وجل : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ...) الآية [التوبة : ٩١] ، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم ، وأزالوا الحرج عمن كان في مثل حال هؤلاء الذين وصفهم الله ـ تعالى ـ وعذرهم في تخلفهم عن الجهاد.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : لما ذكر الله ـ تعالى ـ فضيلة المجاهدين على القاعدين رغبهم (١) في الجهاد بقوله : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) الآية ـ أتاه عبد الله بن أم مكتوم الأعمى ، فقال : يا رسول الله ، ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين ، وحالنا ما ترى ، ونحن نشتهي الجهاد ؛ فنزل : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فجعل لهم من الأجر ما للمجاهدين ؛ لزمانتهم. وعلى ذلك أكثر أهل التفسير (٢).

وقال الكسائي : (الضَّرَرِ) مصدر الضرير والمضرور ، والضرير : الأعمى ، يقال : ضرّ بصره ، فهو ضرير ومضرور : إذا عمي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى)

القاعد والمجاهد

(وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)

قيل : هذا الفضل للمجاهد على القاعد الذي قعد لا لعذر [، جعل له الأجر العظيم.

وقوله : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً)(٣)

على القاعد الذي قعد لعذر ؛](٤) لأنه جعل فضيلته عليه بدرجة ، وفي الثاني جعل

__________________

(١) في ب : رحبهم.

(٢) أخرجه الطبري في التفسير بهذا السياق (٩٢١٩) رقم (١٠٢٤٢) ، ورواه البخاري (٩ / ١٣٥ ، ١٣٦) كتاب التفسير : باب لا يستوى القاعدون من المؤمنين ... ، رقم (٤٥٩٢) ، والترمذي (٥ / ١٢٥ ، ١٢٦) كتاب التفسير : باب ومن سورة النساء ، رقم (٣٠٢٣) ، والنسائي (٢ / ٥٤) ، (٦ / ٩) ، وأحمد (٥ / ١٨٤) ، والطبري في التفسير (٩١١٩) رقم (١٢٤٠) ، عن زيد بن ثابت.

(٣) قال القاسمي (٥ / ٣٩٧) : الأولى : دلت الآية على أن الجهاد ليس بفرض عين ؛ إذ لو كان فرضا من فروض الأعيان لم يكن للقاعد فضل ، ولكن تفاوت الفضل بينه وبين المجاهد ، وقال : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠].

الثانية : دلت أيضا على أن الجهاد أفضل من القرب التي يفعلها القاعد ، لأنه فضله على القاعد مطلقا ، ويؤيد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجهاد سنام الدين» ، وقد فرع العلماء على هذا أن رجلا لو وقف ماله على أحسن وجوه البر ، أو أوصى أن يصرف في أحسن وجوه البر ، فإنه يصرف في الجهاد ، خلاف ما ذكره أبو عليّ أنه يصرف في طلب العلم ، كذا في بعض التفاسير.

الثالث : قال السيوطي في الإكليل : في الآية تفضيل المجاهدين على غيرهم ، وأن المعذورين في درجة المجاهدين ، واستدل بقوله (بِأَمْوالِهِمْ) [النساء : ٩٥] على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديون أو نحوه.

(٤) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٣٣٣

فضيلته عليه بدرجات.

لكن قوله : «درجة» ، و «درجات» عندنا : واحد ؛ ألا ترى أنه ـ تعالى ـ قال : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة : ٢٢٨] ليس هو شيئا واحدا ؛ ولكنه أشياء ، والذي قعد لعذر يستوى في الأجر مع الذي خرج ؛ إذا كان يتمنى أن يخرج إن قدر ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان لا معنى للاستثناء.

وفي الآية دلالة أن فرض الجهاد ـ فرض كفاية : يسقط عن الباقين بقيام بعضهم ، وإن كان الخطاب يعمهم في ذلك ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) [التوبة : ١٢٢] ، وفرض الخروج لطلب العلم فرض كفاية : إذا خرج بعضهم لطلبه يسقط عن الباقين ذلك ؛ فعلى ذلك فرض الجهاد ، وإن كان ذلك خلاف ما عاتب الله ـ تعالى ـ عليه الثلاثة الذين خلفوا في سورة «براءة» ؛ لأن أولئك تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال الله ـ تعالى ـ (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) [التوبة : ١٢٠] ؛ فإنما عاتب أولئك لتخلفهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٧]

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : نزلت [هذه] الآية في قوم من المنافقين خرجوا مع (١) المشركين إلى بدر ، فلما التقى المسلمون والمشركون ، أبصروا قلة المسلمين ـ وهم مع المشركين على المؤمنين ، فقالوا : (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) [الأنفال : ٤٩]. وأظهروا النفاق ، فقتلوا ، عامتهم ؛ ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، فقالت لهم الملائكة : (فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ)(٢)

وقيل : إنها نزلت في نفر أسلموا بمكة مع [رسول الله](٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أقاموا عن الهجرة ، وخرجوا مع المشركين إلى القتال ، فلما رأوا قلة المؤمنين شكّوا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) [الأنفال : ٤٩] ، فقتلوا ، فقالت الملائكة : فيم كنتم؟ قالوا : كذا (٤).

وقيل : نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا ، وكانت الهجرة يومئذ مفترضة ؛

__________________

(١) في ب : من.

(٢) أخرجه ابن جرير في التفسير (٩ / ١٠٢ ، ١٠٣) ، رقم (١٠٢٦٠) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٦٥) ، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس.

(٣) في ب : النبي.

(٤) أخرجه ابن جرير في التفسير (٩ / ١٠٢) رقم (١٠٢٥٩) عن عكرمة ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٦٥).

٣٣٤

فكفروا بترك الهجرة (١) ، وهو كقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢] فلا ندري كيف كانت القصة ، وليس لنا إلى معرفة القصة؟ حاجة بعد أن يعرف ما أصابهم بما ذا أصابهم؟.

وقوله : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ)

هذا يتوجه وجوها :

أحدها : مع من كنتم : مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنتم وأصحابه أو مع أعدائهم؟

والثاني : (فِيمَ كُنْتُمْ) أي : في دين من كنتم : في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو في دين أعدائه؟

والثالث : «قالوا» بمعنى : «يقولون» أي : يقولون لهم في الآخرة : (فِيمَ كُنْتُمْ)؟ (قالُوا) : كنا كذا.

وقولهم : (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) : هذا ليس جوابا لقوله : (فِيمَ كُنْتُمْ) ؛ جوابه أن يقال : كنا في كذا ، ولكنه كأنه على الإضمار ، قالوا لهم : ما الذي منعكم عن الخروج والهجرة إلى محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالوا عند ذلك : (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) : اعتذروا ؛ أن كانوا مستضعفين في الأرض.

وظاهر هذا : أن منعنا عن الخروج إلى الهجرة ، و (٢) حال المشركون بيننا وبين إظهار الإسلام. فقالوا : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)

يعني : المدينة واسعة ، آمنة لكم من العدو ، فتخرجوا إليها ، فتقلبوا بين أظهرهم ، فهذا ـ والله أعلم ـ كأنهم اعتذروا في التخلف عن ذلك ؛ لما كانوا يتقلبون بين أظهر الكفرة ويتعيشون فيهم ، فقالوا : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) قطعوا عليهم.

ويحتمل وجها آخر : وهو أنهم إن منعوكم عن الإسلام ظاهرا و (٣) حالوا بينكم وبين إظهاره ؛ ألستم تقدرون على ادّيان الإسلام سرّا ، لا يعلمون هم بذلك؟!

(فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً).

أخبر أن لا عذر لهم في ذلك.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (فِيمَ كُنْتُمْ) دلالة إحياء الموتى في القبر والسؤال فيه عما عملوا في الدنيا والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ...) الآية.

__________________

(١) عزاه السيوطي في الدر (٢ / ٣٦٦) للطبراني عن ابن عباس.

(٢) في ب : أو.

(٣) في ب : أو.

٣٣٥

بين الله ـ تعالى ـ أهل العذر في ذلك ؛ حيث قال : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : كنت أنا وأمي من المستضعفين (١)

(فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ)(٢)

و «عسى» من الله واجب ؛ كأنه يقول : فأولئك يعفو الله عنهم.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٠٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً)

قيل : المراغم : المذهب والملجأ ، وسعة في الرزق ، أي : يجد في الأرض ، وفي غير الأرض التي هم فيها ـ ما ذكر.

وقيل : المراغم : المتزحزح ، أي : يجد متزحزحا عما يكره وبراحا.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : المراغم : التحول من أرض إلى أرض ، والسعة في الرزق (٣).

وقيل : من الضلالة إلى الهدى ، ومن العيلة إلى الغنى (٤).

وقيل : المراغم : المهرب (٥).

وقيل : لما نزلت هذه الآية (٦) سمعها رجل وهو شيخ كبير ـ وقيل : إنه مريض ـ فقال : والله ما أنا ممن استثنى الله ؛ وإنى لأجد حيلة ، والله لا أبيت الليلة بمكة ؛ فخرجوا به يحملونه حتى أتوا به التنعيم ، فأدركه الموت بها ؛ فصفق يمينه على شماله ، ثم قال : اللهمّ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (٩ / ١٠٩) رقم (١٠٢٧٠) ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٦٦) لعبد بن حميد وابن جرير.

(٢) قال القاسمي (٥ / ٤٠٣) : قال السيوطي في الإكليل : استدل بالآية على وجوب الهجرة من دار الكفر إلا على من لم يطقها. وعن مالك : الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تغيّر فيه السنن فينبغي أن يخرج منه. ا ه.

(٣) أخرجه ابن جرير الطبري (٩ / ١١٩) رقم (١٠٢٩٦) ، رقم (١٠٣٠٦) ، وعزاه السيوطي في الدر (٢ / ٣٦٨) لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن جرير.

(٤) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (٩ / ١٢١) رقم (١٠٣٠٨) عن قتادة ، وعزاه السيوطي في الدر (٣ / ٣٦٨) لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري في التفسير (٩ / ١٢٠ ، ١٢١) رقم (١٠٣٠٤) ولفظه : «المراغم : المهاجر» ، عن ابن وهب عن أبي زيد ، وعزاه له السيوطي في الدر (٣ / ٣٦٨).

(٦) في أ : السورة.

٣٣٦

هذه لك وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايعت (١) عليه رسولك. ومات ؛ فنزل فيه : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ)(٢) أي : وجب أجره.

وقيل : إنه لما سمع الرجل أن الملائكة ضربت وجوه أولئك وأدبارهم ، وقد أدنف للموت ؛ فقال : أخرجوني ؛ فاحتمل بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما انتهى إلى عقبة ، فتوفي بها ؛ فأنزل الله هذه الآية (٣) ، والله أعلم بذلك.

وفي قوله : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) ـ دلالة أن إسلام الولدان إذا عقلوا إسلامهم ـ إسلام ، وكفرهم كفر ؛ لأنه تعالى استثناهم وعذرهم في ترك الهجرة ؛ فلو لم يكن إسلامهم إسلاما ، ولا كفرهم كفرا ـ لكان (٤) مقامهم هنالك وخروجهم منها سواء ، ولا معنى للاستثناء في ذلك ؛ إذا لم يكن عليهم خروج ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً)(١٠١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ ...) الآية.

أباح الله ـ تعالى ـ القصر (٥) من الصلاة ؛ إذا ضرب في الأرض إذا خاف أن يفتنه الكفار ، ولم يبين القصر في ما ذا؟ فيحتمل : القصر قصرا من الركعات ؛ على ما قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله تعالى ـ ويحتمل : القصر من الركوع والسجود والقيام بالإيماء ؛ كقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) [البقرة : ٢٣٩] رخص للخائف الصلاة بالإيماء.

ويحتمل : القصر قصر الاقتداء ، وذلك ـ أيضا ـ مباح عند الخوف.

ثم تأول قوم أن الصلاة كانت ركعتين ، فزيدت في صلاة الحضر ، وأقرت في صلاة السفر ، ورخص في القصر من ركعتى السفر في حال الخوف ، وقالوا : صلاة الخوف ركعة.

__________________

(١) في ب : بعث.

(٢) أخرجه الطبري في التفسير (٩ / ١١٤) رقم (١٠٢٨٣) ، وعزاه السيوطي في الدر (٢ / ٣٦٩) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد ، وابن جرير والبيهقي.

(٣) رواه الطبري في التفسير (٩ / ١١٥) رقم (١٠٢٨٦) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٦٩).

(٤) في ب : فكان.

(٥) القصر ـ لغة ـ : التنقيص ، وشرعا : رد الصلاة الرباعية إلى ركعتين ، وسبب القصر : السفر ، وإن لم توجد مشقة ، بخلاف الجمع ؛ فإنه لا يختص بالسفر ؛ بل قد يكون بالمطر. ينظر : لسان العرب (قصر) ، وروضة الطالبين (١ / ٤٩٤).

٣٣٧

وروى عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : فرض الله ـ تعالى ـ صلاة الحضر أربعا ، وصلاة السفر ركعتين ، وصلاة الخوف ركعة ، على لسان نبيكم (١).

وكذلك روى عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : صلاة الخوف ركعة ، ركعة (٢).

وقال آخرون : إنما رخص الله ـ تعالى ـ في قصر الصلاة من أربع إذا كان الخوف ، فردها إلى ركعتين رخصة.

وقالوا ثمّ : إن رسول الله أعلمنا أن الله ـ تعالى ـ تصدق علينا أن نقصر في حال الأمن ؛ فثبت بالسنة أن القصر في غير الخوف جائز ؛ كما أجازه الله في حال الخوف.

والقصر ـ في قول هؤلاء ـ أن تردّ الأربع إلى ركعتين ، والقصر في قول الأولين أن يرد الركعتان في حال الخوف إلى ركعة.

وقال غيرهم : القصر إنما كان في حال الخوف كما قال الله تعالى. فأما الآن : فإن المسافر إذا صلى ركعتين ، فليس ذلك بقصر ؛ ولكنه إتمام بقول عمر ـ رضي الله عنه ـ حيث قال : صلاة السفر ركعتان ، تمام غير قصر على لسان نبيكم (٣).

وروي أن رجلا سأل عمر ـ رضي الله عنه ـ عن قوله ـ تعالى ـ : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، قال : وقد أمن الناس اليوم؟!. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : عجبت مما عجبت منه ؛ فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «صدقة [تصدّق الله تعالى بها](٤) عليكم فاقبلوا صدقته» (٥) ؛ فيحتمل أن يكون قوله : «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر» ـ يريد به أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال : «صدقة تصدّق الله بها عليكم» ؛ [صار الفرض](٦) ركعتين وارتفع القصر ، وصارت الركعتان تماما غير قصر ؛ إذ كانتا هما

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ١٣٧) رقم (١٠٣٣٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٧٤) وعزاه له.

(٢) أخرجه الطبري (٩ / ١٣٨) رقم (١٠٣٤٠) ، وروى صلاة الخوف من حديث جابر : البخاريّ (٧ / ٤٢٦) كتاب المغازي : باب غزوة ذات الرقاع (٤١٣٦) ، ومسلم (١ / ٥٧٦) كتاب صلاة المسافرين : باب صلاة الخوف ، رقم (٣١١ ـ ٨٣٤).

(٣) أخرجه ابن جرير (٩ / ١٣٤) (١٠٣٢٧) عن ابن عمر ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٧٣) وعزاه لعبد بن حميد ، عن سماك الحنفي ، عن ابن عمر.

(٤) في ب : تصدقها الله.

(٥) أخرجه مسلم (١ / ٤٧) كتاب صلاة المسافرين : باب صلاة المسافرين (٤ / ٦٨٦) ، وأبو داود (١ / ٣٨٤) كتاب الصلاة : باب صلاة المسافر (١١٩٩) ، والترمذي (٥ / ٢٢٧) ، وفي التفسير : باب (٥) (٣٠٣٤) ، وابن ماجه (١ / ٣٣٩) في إقامة الصلاة : باب تقصير الصلاة (١٠٦٥) ، والشافعي (١ / ٣١١).

(٦) في أ : فرضت.

٣٣٨

الفرض بعد الصدقة التي تصدق الله بها علينا ؛ فكل واحد من الخبرين موافق لصاحبه ؛ أعني خبر عمر ـ رضي الله عنه ـ مع ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : كان [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١) يسافر من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله ، يصلي ركعتين. وهذا يؤيد حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ : «صدقة تصدّق الله بها عليكم» ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يصلي وهو آمن ركعتين مع شرط الله الخوف ؛ إلا وقد رفع الله شرط الخوف عن المسافر.

وقال قوم : إن التقصير في السفر ، والحضر هو الإتمام. واحتجوا بقول الله ـ تعالى ـ : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) قال : فرفع الحرج عن المقصر ، ولو كان التقصير حتما لكان قال : وعليكم جناح ألا تقصروا من الصلاة [إن خفتم و](٢) ، [لكن الأمر](٣) ليس كما توهموا ؛ وذلك أنا قد ذكرنا أن النص في القصر إنما جاء في حال الخوف ، وأما حال الأمن فلا نص فيما يوجب القصر ، وإنما جاز القصر من الصلاة في حال الأمن ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدقة تصدّق الله بها عليكم» ، [وتقصيره في حال الأمن](٤) ومحال أن يتصدق الله بالركعتين علينا.

ويقول قائل : فرضها قائم ؛ فأين موضع الصدقة؟! إذ لو كان الأمر على ما [ذكرنا فما معنى](٥) قول عمر ـ رضي الله عنه ـ : «إن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر ؛ على لسان نبيكم» (٦) ؛ لأنه ـ والله أعلم ـ جعل الصدقة من الله بذلك مزيلة للفرض في الركعتين بعد الركعتين ؛ فبقيت الركعتان تماما ، إذا كانتا فرض المسافر؟ مع ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سافر أسفارا كثيرة ، فلم يرو عنه أحد أنه أتم الصلاة في شيء من الأحوال في سفره ، وكلّ روى أنه ـ عليه‌السلام ـ كان يصلي ركعتين ركعتين ؛ فلو كانت الفريضة أربعا ، والقصر رخصة ـ لأتم في وقت ؛ وقصر في وقت ، ألا ترى أن الإفطار في السفر لما كان رخصة غير حتم ـ أفطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوقات وصام في أوقات ؛ فدل ذلك أن فرض المسافر ركعتان غير قصر.

وروي عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى ركعتين ، ومع أبي بكر [الصديق ـ رضي الله عنه ـ](٧) ركعتين ، ومع عمر ـ رضي الله عنه ـ ركعتين ،

__________________

(١) في ب : النبي.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من أ.

(٤) في ب : وبتقصيره في سفره.

(٥) في ب : ذكر ، وهذا عندنا معنى.

(٦) تقدم.

(٧) سقط من ب.

٣٣٩

ومع عثمان ـ رضي الله عنه ـ صدرا من خلافته ، ثم صلى أربعا ، وما صلى أربعا (١) ؛ يحتمل أن يكون عزم على الإقامة (٢).

وكذلك روي عن الزهري قال : بلغني أنه إنما صلى أربعا ؛ لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج (٣).

وعن عمران بن حصين قال : [سافرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٤) فكان يصلي ركعتين ، [ركعتين](٥) حتى يرجع إلى المدينة ، وأقام بمكة [ثماني عشرة يوما](٦) لا يصلي إلا ركعتين ، وقال لأهل مكة : «صلّوا أربعا ؛ فإنّا قوم سفر» (٧).

وخالف بعض أهل العلم هذا الحديث ؛ لأنهم يقولون : إذا أقام ببلد في [غير حرب](٨) أربعا يتم بعد ذلك ، وإن لم يكن عزم على المقام بذلك البلد.

وروي عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة المسافر ركعتان حتّى يئول إلى أهله أو يموت» (٩).

وروي عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل عن الصلاة في السفر ، قال : ركعتان ركعتان ؛ من خالف السنة كفر (١٠).

واستدل قوم بقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)

أن القصر رخصة ، [وأن الأفضل](١١) إتمام الصلاة ؛ إذ «لا جناح» تستعمل في موضع التخفيف ، لا (١٢) في موضع الأمر ؛ على نحو الصيام بقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٦٥٥) في تقصير الصلاة : باب الصلاة بمنى (١٠٨٣) ، (١٦٥٥) ، ومسلم (١ / ٤٨٢) ، في صلاة المسافرين : باب قصر الصلاة بمنى (١٧ / ٦٩٤).

(٢) في ب : المقام.

(٣) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٢ / ٥١٦) كتاب الصلاة : باب الصلاة في السفر (٤٢٦٨).

(٤) في ب : حججت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) سقط من ب.

(٦) في أ : ثماني عشرة أيام.

(٧) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (٣ / ٧٠ ـ ٧١) (١٦٤٣) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (٢ / ٢٠٤) (٨١٧٤) ، وذكره الهندي في كنز العمال (٢٢٧١٤) وعزاه لابن خزيمة وابن أبي شيبة ، عن عمران ابن حصين.

(٨) في أ : السفر.

(٩) أخرجه الخطيب في التاريخ (١ / ٣١٢) ، وذكره الهندي في الكنز (٢٠١٦٩).

(١٠) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٢ / ٥٢٠) ، والطحاوي (١ / ٢٤٥) من طريق شعبة عن قتادة عن صفوان بن محرز ، ومن طريق شعبة عن أبي التياح عن مورق ، جميعا عن ابن عمر.

(١١) في ب : والفضل في.

(١٢) في ب : إلا.

٣٤٠