تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] ؛ قيل له : يا طعمة ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاطعك ؛ فخرج هاربا إلى مكة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني : [غير](١) دين المؤمنين.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «ويسلك غير سبيل المؤمنين».

وقوله ـ عزوجل ـ : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى)

أي : نتركه وما تولى من ولاية الشيطان.

وقيل : ندعه وما اختار من الدين غير دين المؤمنين (٢).

(وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) ، أي : ندخله جهنم في الآخرة.

وقيل : قوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) ، أي : نوله في الآخرة ما تولى في الدنيا (٣)

(وَساءَتْ مَصِيراً)

يقول : بئس المصير صار إليه.

وقوله ـ تعالى ـ : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) أنه تولى الشيطان ؛ فجعله الله وليّا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) ، وغير ذلك ، ويكون نخذله فيما اختاره ، ونكون نجزه جزاء توليه ، ويكون بخلق توليه منه جورا باطلا ، مهلكا له ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً)(١٢٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ...) الآية.

في الآية دليل ألا يصير بكل ذنب مشركا ؛ على ما قاله الخوارج لما قسم الكتاب ، ولا

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ذكره بنحوه البغوي في تفسيره (١ / ٤٨٠) ، ابن عادل في اللباب (٧ / ١٧).

(٣) ذكره بنحوه البغوي في تفسيره (١ / ٤٨٠) ، ابن عادل في اللباب (٧ / ١٧).

٣٦١

يحتمل إضمار التوبة ؛ لأن الشرك مما (١) : يغفر بالتوبة ؛ فبطل قولهم.

وفيه بطلان قول من يبطل المغفرة في الكبائر بلا توبة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعل لنفسه مشيئة المغفرة ، وذلك فيما في الحكمة دفعه سفه ؛ فلزم الذي ذكرنا الفريقين جميعا.

ثم الذي ينقض قول الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الصغائر ـ ما بلى بها الأنبياء والأولياء ؛ وما يكفر صاحبه ـ يسقط النبوة والولاية ، ومن كان وصف إيمانه بالأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ هذا ؛ فهو كافر بهم.

وعلى المعتزلة في ذلك أن الله وصف الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ بالدعاء له تضرعا وخيفة ، وخوفا وطمعا ، وبكائهم على ما كان منهم من الزلات وتضرعهم إليه ؛ حتى أجيبوا في دعائهم ، ولو لم يكن ذنوبهم بحيث يحتمل التعذيب عليها في الحكمة ، لكان في ذلك تعدى الحد والوصف بالجور والتعوذ به ، وذلك أعظم من الزلات.

فهذا ينقض قول المعتزلة في إثبات المغفرة في الصغائر ، وإخراج فعل التعذيب عن الحكمة ، وقول الخوارج بإزالة اسم الإيمان بها ، ولا عصمة إلا بالله.

ثم قوله : (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ـ يحتمل : الشرك في الاعتقاد ، وهو أن يشرك غيره في ربوبيته وألوهيته ، وبين أن يشرك غيره في عبادته ؛ ألا ترى أنه قال : ـ عزوجل ـ : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الكهف : ١١٠] ثم قال الله ـ تعالى ـ في آخره : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] : جعل الإشراك في الألوهية والربوبية ، والإشراك في العبادة واحدا ؛ كله شرك بالله (٢) ، وبالله التوفيق.

ثم قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) لا يحتمل ما قالت المعتزلة : إنه وعد المغفرة فيما يشاء (٣) ، ثم بين ذلك في الصغائر بقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] وقد ثبت الوعيد في الكبائر ؛ بقي الوعد بحقه لم يزل بالذي ذكر لاحتماله.

وقيل : قوله : (لِمَنْ يَشاءُ) كناية عن الأنفس المغفورات ، لا عن الآثام والأجرام التي تغفر ، لم (٤) يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس ؛ لأنه لم يقل : ما شاء ، ولكن قال ـ عزوجل ـ : (لِمَنْ يَشاءُ) ؛ فذلك كناية عن الأنفس.

وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم ، وفيما جاء على ما قيل : لا صرف في

__________________

(١) في ب : قد.

(٢) في ب : به.

(٣) في ب : شاء.

(٤) في ب : لمن.

٣٦٢

ذلك ؛ فهو أولى.

وبعد : فإنه قال : (لِمَنْ يَشاءُ) ، والصغائر عندهم مغفورة بالحكمة لا بالوعد ، والآية في التعريف ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً)

عن الحسن قال : الإناث : الأموات التي لا روح فيها (١) وكذلك روي عن ابن عباس (٢) ، رضي الله عنه.

وقيل قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا إِناثاً) : هم الملائكة ؛ لأنهم يقولون : الملائكة بنات الله في السماء ؛ فعبدوها (٣) ؛ فإنهم (٤) إنما عبدوا الإناث عندهم وفي زعمهم.

وقيل : إناثا من الوثن ؛ وكذلك روي في حرف عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تقرأ : «إن يدعون من دونه إلا أوثانا» (٥) ، وهو الصنم ؛ سمي إناثا لما صوروها بصور (٦) الإناث ، وحلّوها ، وقلدوها قلائد ، وزينوها بزيهم ، ثم يعبدونها لم يعبدوها على ما كان في الأصل ؛ فسمي بذلك.

وقيل : سمي إناثا ؛ لأنهم كانوا يسمون ما يعبدون من الأصنام والأوثان : اللات ، والعزى ، ومناة ؛ فأسماؤهن أسماء إناث ، والله أعلم (٧).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) :

أخبر الله ـ عزوجل ـ [أنهم](٨) وإن كانوا يفرون من الشيطان ويأنفونه ـ فإنهم بعبادتهم

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٠٨) (١٠٤٣٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٩٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد بن حميد.

(٢) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٠٨) (١٠٤٣٤) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٩٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩) (١٠٤٣٧) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٩٤) ، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) في ب : أفهم.

(٥) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢١٠) (١٠٤٤٢) عن هشام بن عروة عن أبيه ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٩٤) ، وعزاه لأبي عبيد في فضائل القرآن ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن عائشة.

(٦) في ب : صورها بصورة.

(٧) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٠٧) (١٠٤٣٠) (١٠٤٣١) عن أبي مالك ، (١٠٤٣٢) عن السدي ، (١٠٤٣٣) عن أبي زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر عن أبي مالك.

(٨) سقط من أ.

٣٦٣

الأصنام ؛ والأوثان يعبدون الشيطان ؛ لأن الشيطان هو الذي يدعوهم إلى عبادتهم الأصنام ؛ فكأنهم عبدوه ؛ ألا ترى أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قال : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) [مريم : ٤٤] : جعل عبادة الصنم عبادة للشيطان (١) ؛ حيث قال له : (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ؛ فدل أن عبادتهم الأوثان عبادة للشيطان ، وبالله العصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَرِيداً) ، قال ابن عباس : المريد : هو العاتى (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَنَهُ اللهُ)

اللعنة : هي (٣) الإبعاد من رحمة الله ، فسمي : ملعونا ؛ لأنه مبعد من رحمة الله ، مطرود منها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً).

إنه ـ لعنه الله ـ وإن قطع القول فيه : لأتخذن من كذا ، قطعا ـ فهو ظن في الحقيقة ؛ ألا ترى أنه قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [سبأ : ٢٠] ؛ دل أن ما قاله ، قاله ظنّا ، لكنه خرج مقطوعا محققا ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) ، أي : مبينا معلوما ، والنصيب المفروض هو ما ذكر : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ...) إلى آخر ما ذكر (مَفْرُوضاً) ، أي : مبينا : من يطيعه ومن لا يطيعه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الآية.

قيل : هذا إخبار عن الله ـ تعالى ـ عباده عن صنيع اللعين ؛ ليكونوا على حذر منه.

ثم قوله : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) ـ ليس على حقيقة (٤) الإضلال ؛ لأنه لا يقدر أن يضل أحدا ، لكنه يدعو إلى الضلال ويزين عليهم طريقه ، ويلبس عليهم طريق الهدى ؛ فذلك معنى إضافة الإضلال إليه ؛ وإلا لم يملك إضلال أحد في الحقيقة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ...) الآية [إبراهيم : ٢٢]. ثم إذا ضلوا بدعائه إلى ذلك وتزيينه عليهم سبيله ـ يمنيهم عند ذلك ؛ حتى يتمنوا أشياء ؛ كقوله (٥) : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ...) الآية [الأحقاف : ١١] ، وكقوله (٦) ـ تعالى ـ

__________________

(١) في ب : الشيطان.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (١ / ٤٨١) ، وبمعناه ذكره ابن عادل في اللباب (٧ / ٢٢).

(٣) في ب : هو.

(٤) في ب : حقيقته.

(٥) في ب : كقولهم.

(٦) في ب : وقوله.

٣٦٤

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) [البقرة : ١١١] ونحو ذلك من الأماني ، وذلك مما يمنيهم الشيطان ، لعنة الله عليه.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) ، يعني : عن الدين ، (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أن يصيبوا خيرا لا محالة ؛ ليأمنوا.

وفي حرف ابن مسعود : «ولأعدنهم ولأمنينهم ولأحرمن عليهم الأنعام ولآمرنهم فليبدلن خلقك ولآمرنهم فليبتكن».

وقوله : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ)

فجعلوها نحرا للأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ)

يحتمل هذا وجهين ، سوى ما قال أهل التأويل :

أحدهما : أن الله ـ تعالى ـ خلق هذا الخلق ؛ ليأمرهم بالتوحيد ، وليجعلوا عبادتهم له ، لا يعبدون دون الله غيره ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ ...) الآية [الذاريات : ٥٥ ـ ٥٦] ؛ فهو دعاهم (١) أن يجعلوا عبادتهم لغير الله ، وهو ما قيل في قوله ـ عزوجل ـ : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الروم : ٣٠] ، قيل : لدين الله ؛ فعلى ذلك يحتمل قوله : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) ، أي : عن الذي كان خلقه إياهم لذلك ، والله أعلم.

والثاني : أنه ـ عزوجل ـ خلق الأنعام والبهائم لمنافعهم ، وسخرها لهم ، فهم حرموها على أنفسهم ، وجعلوها للأوثان والأصنام : كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ؛ منعوا منافعها التي خلقها لهم عن أنفسهم ، وذلك تغيير (٢) ما خلق الله لهم ، والله ـ تعالى ـ أعلم.

وأما أهل التأويل فإنهم قالوا غير الذي ذكرنا :

قال بعضهم : قوله : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) : الإخصاء ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه (٣).

وقال آخرون : هو دين الله (٤).

__________________

(١) في ب : دعاؤهم.

(٢) في ب : تغير.

(٣) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢١٥ ـ ٢١٧) (١٠٤٤٨ ، ١٠٤٥١ ، ١٠٤٦٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٩٥) ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد.

(٤) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢١٨ ـ ٢٢٠) (١٠٤٦٣ ـ ١٠٤٦٧) ، (١٠٤٨١) ، عن إبراهيم ، (١٠٤٦٨ ـ

٣٦٥

وروي عن ابن عباس (١) ـ رضي الله عنه ـ أنه قال ـ أيضا ـ : دين الله.

وقيل : هو ما جاء من النهي عن الواشرة (٢) ، والنامصة (٣) ، والمتفلجة (٤) ، والواصلة (٥) ، والواشمة (٦).

ولا يحتمل أن يكون خطر بباله يومئذ أنه أراد بتغيير خلق الله ما قالوا من الإخصاء ، أو المثلة ، والواشرة ، والنامصة ؛ لأنه إنما قال ذلك يوم طلب من ربه النظرة إلى يوم البعث ، ولا يحتمل أن يكون له علم ألا يحل هذا أو النهي عن مثله ؛ إذ قد يجوز أن ترد الشريعة في مثله ؛ لذلك بعد [هذا](٧) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ).

أي : يطيعه ويجيبه إلى ما دعاه ، ويعبده دون الله

(فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً).

في الدنيا والآخرة : أما في الدنيا فذهاب المنافع عنهم التي جعلوها للأصنام والأوثان ، وفي الآخرة العقوبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعِدُهُمْ)

إما فقرا وإما سعة

__________________

 ـ ١٠٤٧٠) وعن عكرمة ، (١٠٤٧١ ـ ١٠٤٧٤) وعن مجاهد ، (١٠٤٧٥ ـ ١٠٤٧٦) وعن قتادة ، (١٠٤٧٧) وعن القاسم بن أبي بزة ، (١٠٤٧٨) وعن السدي ، (١٠٤٧٩) وعن الضحاك ، (١٠٤٨٠) وعن أبي زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٩٦) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن المنذر والبيهقي عن إبراهيم ، ولعبد الرزاق وآدم وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد.

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢١٨) (١٠٤٦٣) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٩٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٢) الواشرة : المرأة التي تحدد أسنانها وترقق أطرافها ، تفعله المرأة الكبيرة ؛ تتشبه بالشواب. ينظر : النهاية (٥ / ١٨٨).

(٣) النامصة : هي التي تنتف الشعر من وجهها. النهاية (٥ / ١١٩).

(٤) الفلج : فرجة ما بين الثنايا والرّباعيات ، والمتفلجة : هي من تفعل ذلك بأسنانها ؛ رغبة في التحسين ، ينظر : النهاية (٣ / ٤٦٨).

(٥) الواصلة : هي التي تصل شعر المرأة بشعر غيرها ؛ تزيد بذلك طول الشعر ؛ لتوهم أن ذلك من شعرها. المغني عن الإنباء (١ / ٤٩٥).

(٦) أخرجه بنحوه ابن جرير (٩ / ٢٢١) (١٠٤٨٧ ـ ١٠٤٨٩) عن ابن مسعود ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٩٦) وعزاه لابن جرير عن ابن مسعود.

والواشمة : من الوشم في اليد ، وكانت المرأة تغرز معصم يدها بإبرة أو مسلة حتى تدميه ، ثم تحشوه بالكحل ؛ فيخضر ، تفعل ذلك بدارات ونقوش.

ينظر : غريب الحديث لأبي عبيد (١٦٧٨) ، المغني عن الإنباء (١ / ٤٩٦).

(٧) سقط من ب.

٣٦٦

(وَيُمَنِّيهِمْ)

هو ما ذكرنا من الأماني وقضاء الشهوات في الدنيا

(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً)

والغرور : هو أن يرى شيئا يظهر خلافه.

(أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً)

الآية ظاهرة ، قيل : مفرا ، وقيل : ملجأ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً)

قد ذكرنا هذا فيما تقدم : أن الإيمان هو التصديق ، والأعمال الصالحات غير التصديق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً)

تأويل هذا ـ والله أعلم ـ أن يقال : إنكم ممن تقبلون الأخبار والقول من الناس ، ثم لا أحد أصدق قولا من الله ـ تعالى ـ ولا أنجز وعدا منه ؛ كيف لا تقبلون قوله وخبره أنه بعث ، وجنة ، ونار ، وتكذبون قول إبليس أن لا جنة ، ولا نار ، ولا بعث؟!.

قوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)(١٢٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)

أخبر ـ عزوجل ـ أن الأمر ليس بالأماني ؛ ولكن إلى الله ـ عزوجل ـ فهو ـ والله أعلم ـ يحتمل أن يكون في المنزلة والقدر عند الله ؛ لأنهم قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، وقالوا : (قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [آل عمران : ٢٤] ، وغير ذلك من الأماني.

وأهل التأويل يذهبون إلى غير هذا ، وقالوا : إن كل فريق منهم كانوا يقولون : إن ديننا خير من دينكم ، ونحن أفضل من هؤلاء ؛ فنزل : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ). وذلك بعيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)

اختلف فيه ؛ قال بعضهم : قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، يعنى : ركا يجز به ؛ يدل على ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا

٣٦٧

وَلا نَصِيراً) ، وذلك وصف الكافر ألا يكون له ولى يتولى حفظه ، ولا نصير ينصره ؛ ألا ترى أنه قال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) ؛ ذكر الذين يعملون الصالحات ـ وهم مؤمنون ـ أن يدخلوا الجنة ؛ فهذا ـ أيضا ـ يدل أن قوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) أراد به الشرك.

وقال آخرون : قوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، أي : كل سوء يدخل فيه المسلم والكافر ؛ ألا ترى أنه روي عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لما نزلت هذه الآية ، قال : يا رسول الله ، كيف الفلاح بعد هذا وكل شيء عملناه جزينا به؟! قال : «غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تحزن؟ ألست تنصب؟ ألست تمرض؟ ألست يصيبك الأذى؟ فهذا ما تجزون به ، يجزى به المؤمن في الدّنيا ، والكافر فى الآخرة» (١) ، فإن كان التأويل هذا ؛ فقوله : (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) : هو في الكافر ؛ أي : لا يجد له وليّا ولا نصيرا إذا لم يرجع عن كفره ومات عليه ، وأما إذا رجع عن ذلك ، وتاب ، ومات على الإيمان ؛ فإنه يجد له وليا ونصيرا : ينصره الله ـ تعالى ـ وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ)

في الآية دليل أن الأعمال الصالحات غير الإيمان ؛ لأنه قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ... وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، ولو كان إيمانا ؛ فيصير كأنه قال : ومن يعمل الإيمان وهو مؤمن ؛ فدل ـ بما ذكرنا ـ أنها غير الإيمان ، وفيه دلالة ـ أيضا ـ أن الأعمال الصالحة إنما تنفع إذا كان ثمة (٢) إيمان ؛ لأنه شرط فيه الإيمان بقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ؛ دل أن الأعمال الصالحة لا تنفع إذا لم يكن ثمة (٣) إيمان ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً)

قد ذكرناه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ...) الآية.

يحتمل وجهين :

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده (١ / ١١) ، والبيهقي في الكبرى (٣ / ٣٧٣) في كتاب الجنائز : باب ما ينبغي لكل مسلم أن يستشعره من الصبر على جميع ما يصيبه من الأمراض ، الحاكم في المستدرك (٣ / ٧٤) وصححه وأقره الذهبي ، وابن جرير (٩ / ٢٤٠ ـ ٢٤٣) (١٠٥٢١ ـ ١٠٥٢٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤٠٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وهناد بن السري ، والحكيم الترمذي ، وأبي يعلى ، وابن المنذر ، وابن حبان ، وابن السني في عمل اليوم والليلة ، والضياء في المختارة.

(٢) في ب : ثم.

(٣) في ب : ثم.

٣٦٨

يحتمل من أحسن دينا من المسلمين ممن يعمل جميع عمله موافقا لدينه ـ ممن لم يعمل؟! بل الذي عمل بجميع عمله موافقا لدينه ـ أحسن دينا من الذي لم يعمل شيئا ، [وهو](١) كما روي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنه](٢) قال : «لو وزن إيمان أبي بكر الصّدّيق ـ رضي الله عنه ـ بإيمان جميع أمتى ، لرجح إيمانه» (٣) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوى في دينه ، ضعيف في بدنه» ؛ ألا ترى أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده؟! وذلك لقوته في الدين وصلابته فيه ، لا لزيادة الإيمان ، ولا لنقصان إيمان في غيره ، والله أعلم.

والثاني : مقابلة سائر الأديان ، أي : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ـ ممن لم يسلم وجهه لله ... إلى آخر ما ذكر ، والله أعلم.

ثم قوله ـ تعالى ـ : (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) ، عن الحسن قال : أسلم جميع جهة أمره إلى الله ، أي : جميع ما يعمل إنما يعمل لله ، لا يعمل لغير الله.

وقيل : (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) ، أي : أخلص نفسه لله (٤) ، ولا يجعل لأحد فيها شركا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) [الزمر : ٢٩] الآية ، أي : يسلم نفسه له ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) ـ يحتمل وجهين :

يحتمل : قوله : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) : يحسن ما يعمل ، أي : جميع ما يعمل ؛ لعلم له فيه.

ويحتمل قوله : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) : من الإحسان ، وهو أن يزيد العمل على المفروض عليه : يؤدي المفروض عليه ، ويزيد على ذلك أيضا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)

الملة : قيل : هي الدين (٥).

وقيل : الملة : السنة ، [وكأن السنة](٦) أقرب ؛ لأن دين الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلهم واحد ، لا يختلف دين إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ودين غيره من الأنبياء ، عليهم‌السلام.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه البيهقي في الشعب (١ / ٦٩) عن عمر بن الخطاب ، مرفوعا ، بلفظ : «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم» ، وابن عدي في الكامل (٤ / ١٥١٨) عن ابن عمر ، مرفوعا ، بلفظ : «لو وضع إيمان أبي بكر على إيمان هذه الأمة لرجح بها» ، وفي سنده عيسى بن عبد الله ؛ ضعيف ، وذكره العجلوني في كشف الخفا (٢ / ٢٣٤) وعزاه لإسحاق بن راهويه والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن عمر ، ولابن عدى والديلمي : عن ابن عمر.

(٤) ذكره بمعناه البغوي في تفسيره (١ / ٤٨٤) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ٣٧).

(٥) ذكره بمعناه البغوي في تفسيره (١ / ٤٨٤) وابن عادل في اللباب (٧ / ٣٧).

(٦) في أ : وهو.

٣٦٩

وأما السنن والشرائع فيجوز أن تخلف ؛ ألا ترى أنه روى في الخبر : «ملة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١) ، وفي بعضها : «سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : جعل السنة تفسير الملة ؛ فالملة بالسنة أشبه.

ثم خص ملة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن سننه كانت توافق سنن نبينا [محمد](٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَنِيفاً) قيل : مخلصا (٣).

وقيل : سمى حنيفا ، أي : مائلا إلى الحق ؛ ولذلك سمي الأحنف : أحنفا ؛ لميل أحد قدميه إلى الأخرى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)

ذكر في بعض الأخبار أن الله ـ عزوجل ـ أوحى إلى إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن لي خليلا في الأرض ؛ فقال : يا رب ، من هو؟ قال : فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه : لم؟ أي : لم تسألنى عنه؟ قال : حتى أحبه و (٤) أتخذه خليلا كما اتخذته خليلا ، أو كلام نحو هذا ؛ فقال : أنت يا إبراهيم.

وأصل الخلة : المنزلة ، والرفعة ، والكرامة ، يقول : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ، أي : جعل له عنده منزلة وكرامة لم يجعل مثلها لأحد من الخلائق ؛ لما ابتلاه الله ببلايا ، وامتحنه بمحن لم يبتل أحدا بمثلها ، فصبر عليها ، من ذلك : ما ألقى في النار ، فصبر ، ولم يستعن بأحد سواه ، وما ابتلى بذبح ولده ، فأضجعه ، وما أمر أن يترك أهله وولده الطفل في جبال مكة : لا ماء هنالك ، ولا زرع ، ولا نبات ؛ ففعل ، ومن ذلك أمر المهاجرة ... مما يكثر ذلك ؛ فجائز تخصيصه بالخلة لذلك ، والله أعلم.

وجائز أن يكون ذلك كرامة [أكرمه](٥) الله بها ؛ لأن أهل الأديان كلهم ينتسبون إليه ، ويدّعون أنهم على دينه ، وعلى ذلك يخرج قوله : «اللهمّ صلّ على محمّد ، وعلى آل

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند (٢ / ٥٩) ، وابن حبان كما في الزوائد (٣ / ٤٧ ـ ٤٨) (٧٧٢ ـ ٧٧٣) ، وهو في الإحسان (٥ / ٤٣) (٣٠٩٩) (٣١٠٠) ، وأبو يعلى في المسند (١٠ / ١٢٩ ـ ١٣٠) (٥٧٥٥) ، وابن أبي شيبة (٣ / ٣٢٩) باب : ما قالوا إذا وضع الميت في قبره ، والنسائي في عمل اليوم والليلة (١٠٨٨) ، والبيهقي في الجنائز (٤ / ٥٥) ، باب ما يقال إذا دخل الميت قبره ، وصححه الحاكم (١ / ٣٦٦) ، ووافقه الذهبي ، جميعا عن ابن عمر ، مرفوعا.

(٢) سقط من ب.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (١ / ٤٨٤) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ٣٧).

(٤) في ب : أو.

(٥) سقط من ب.

٣٧٠

محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم ، [وعلى آل إبراهيم (١)](٢). قيل : خص هو بهذين الوجهين اللذين ذكرتهما في الخلة.

وقيل : إنه اتخذه خليلا ؛ لأنه كان يعطي ولا يأخذ (٣) ، وكان يحب الضيف ، وكان لا يأكل وحده وإن بقي طويلا ، والله أعلم بذلك.

وأصل الخلة ما ذكرنا من الكرامة والمنزلة ؛ لأن من يحب آخر يبره ويكرمه ، ومن لا يحبه يعاده ، ويظهر له الجفاء ، ولا قوة إلا بالله.

واختلف في المعنى الذي وصف إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بالخلة أنه خليل الله :

فقد قيل : بما سخت نفسه في بذل كل لذة من لذات الدنيا لله ، وله تبوّأ في مكان إتيان الأضياف وأبناء السبيل ، وكان لا يأكل وحده ، وكانت عادته التقديم بكل ما يتهيأ له عند نزول الأضياف عليه ، والابتداء بذلك قبل كل أمر ، والقيام للأضياف (٤) مع عظم منزلته ؛ أيد ذلك أمر الملائكة الذين جاءوه بالبشارة ، والله أعلم.

وقيل : إنما امتحنه الله بأمور فصبر عليها ؛ نحو النار ألقى فيها لله ، وذبح الولد ، والهجرة مرتين ، وبذل الأهل والولد لله ، حيث لا ضرع ، ولا زرع ، ولا ماء ، وغير ذلك مما أكرمه الله ـ تعالى ـ بالثناء عليه : بوفاء ما امتحن ، وإتمام ما ابتلى من قوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] ، وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة : ١٢٤].

ويحاج فرعونه وجميع قومه ، ويجادلهم فيمن يعبدونهم ، فغلبهم ، وألزمهم حجة الله ، وغير ذلك من وجوه المحن.

وقيل : بما به كان بدء البيت الذي جعله الله قياما للناس ، ومأمنا للخلق ، ومثابا لهم ومنسكا ؛ فعظم شأنه فيما بالخلق إليه حاجته في أمر الدين ؛ وعلى ذلك أكرمه الله ـ تعالى ـ بميل القلوب إليه ، وإظهار التدين بدينه من جميع أصناف أهل الأديان ، والله

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه (٨ / ٥٣٩٢) كتاب التفسير : باب (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ...) الآية [الأحزاب : ٥٦] ، ومسلم (١ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦) ، كتاب الصلاة : باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد التشهد (٦٦ / ٤٠٦) ، وأبو داود (١ / ٢٥٧) كتاب الصلاة باب الصلاة : على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٩٧٦) ، والترمذي (٢ / ٣٥٢) أبواب الصلاة : باب ما جاء في صفة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤٨٣) ، والنسائي (٣ / ٤٧ ـ ٤٨) ، وابن ماجه (١ / ٢٩٢ ـ ٣٩٣) ، كتاب إقامة الصلاة : باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٩٠٤).

(٢) سقط من ب.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤٠٧) وعزاه لابن المنذر عن ابن أبزى وللديلمي بسند واه عن أبي هريرة ، مرفوعا.

(٤) في ب : بالأضياف.

٣٧١

أعلم.

وقيل : إنما هو : لله خصائص في أهل الخيرة من الرسل وأولى العزم منهم : اختصهم بأسماء عرفن في الفضائل والكرامات ، نحو القول بكليم الله ، وروح الله ، وذبيح الله ، وحبيب الله ؛ فعلى ذلك كان لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ خصوصية في الاسم ؛ فسماه الله خليلا ؛ [فنحن نقول](١) ـ وبالله التوفيق ـ : ونحن نعلم بأن الله ـ تعالى ـ لا يسميه بالذي ذكر عبثا باطلا ؛ ولكنه سماه به تعظيما لقدره ، وإظهارا لكرامته ، وبيانا لمنزلته عنده لما شاء من الوجوه التي لعلها لم يطلع عليها من الخلق ، ولا يحتمل أن يدرك ذلك إلا بالوحي ؛ فحق ذلك علينا تعظيمه ومعرفته بالذي اختصه الله واصطفاه ، دون تكلف المعنى الذي له كان ذلك ، مع ما لا وجه ولا معنى صار حقيق ذلك وأكرم به ، إلا بمعنى أكرمه الله وأكرمه بفضل الله ورحمته ؛ فلله أن يبتدئه بالخلة ثم يكرمه بأنواع الكرامات التي هي آثار الخلة ، وأن يكرمه بأنواع الكرامات التي لديها تقع كرامات الخلة ويصلح ، ولله المنّ في ذلك والفضل ، وعلينا الحمد لله والشكر ؛ بما أكرمنا من معرفة كرام خلقه ، وجعل [قلوبنا عامرة بمودتهم](٢) ؛ حتى صاروا ـ بفضل الله ورحمته ـ أحب إلينا من أمسّ الخلق بنا ، بل من أنفسنا ، ولا قوة إلا بالله.

ثم ليس للنصارى ادعاء البنوة لله من حيث الكرامة على الاعتبار بالخلة ؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ عظم أمر الأولاد حتى جعله كالشرك ، ولا كذلك أمر الخلة ، ولأن أمر الأولاد حقه المجانسة ، والخلة حقه الموافقة.

ثم أصل الأولاد : الشهوة والحاجة ، والخلة : الطاعة والتعظيم ، مما يرجع أحد الوجهين إلى شهوة الولد وحاجته ، والآخر إلى تعظيم يكون من ذلك العبد وتبجيله والطاعة له والخضوع.

ثم الأصل : أن المعنى الذي تقتضيه الخلة [قد يجوز](٣) أن يظفر كل بالطاعة ، وإن كان الاسم له في حق النهاية ؛ نحو قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ...) الآية [البقرة : ٢٢٢] ، وقوله ـ تعالى ـ : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] ، والمحبة قريبة من الخلة ، ومحال أن يحق معنى الأولاد والبنوة بشيء من الطاعة ؛ لذلك اختلف الأمران ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : فنقول نحن.

(٢) في ب : في قلوبنا مودتهم.

(٣) سقط من ب.

٣٧٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) الآية.

تأويل هذه الآية ـ والله أعلم ـ أنه وإن أكرمهم وأعظم منزلتهم عنده وأعلاها ـ فإنهم لم يأنفوا عن عبادته ، ولم يخرجوا أنفسهم من أن يكونوا عبيدا ؛ بل كلما (١) ازداد لهم عند الله ـ والله أعلم ـ منزلة وقدر ـ كانوا أخضع له وأطوع ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧] ، وفي موضع آخر : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ...) الآية [الأنبياء : ١٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)

أي : أحاط بكل شيء علمه ، وهو يخرج على الوعيد ، أي : عن علم منه خلقهم لا عن جهل بصنيعهم كملوك الأرض ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ أيضا : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) وبصيرا ، وعليما ، ونحو ذلك ، يخرج على التوعيد والتخويف ؛ ليكونوا مراقبين له ، حذرين ؛ كمن يعلم في الأمور أن عليه رقيبا ، والله أعلم.

ويخرج على الابتلاء (٢) : أنه أمر من يكتب الأعمال لا للخفاء عليه ، لكن بما إذ لا يمتحن لحاجة به ؛ ولكن لمصلحة عباده (٣) ، فيمتحن بما شاء ، فامتحن أولئك الكتبة بما يكونون أبدا متيقنين ناظرين ، لا يغفلون عن ذلك ؛ طاعة منهم لله.

والثاني : أن يكون العلم بمن يكتب عليه كل أمره ـ فيما جبل عليه البشر ـ أذكر له وأشد في التنبيه ؛ فجرى حكم الله في ذلك ؛ إذ أمر المحنة موضوع على المصلحة ، وذلك أبلغ في الوجود ، والله أعلم.

ويخرج على أن الله ـ تعالى ـ كان بذلك محيطا ؛ ليعلموا أنهم لا يتركون سدى ، بل يحصى عليهم للجزاء ، والله أعلم.

وجملة ذلك : أن الله ـ تعالى ـ قال كان كذا ؛ ليعلم أنه لا عن جهل خلق الخلق وبعث الرسل ، وأنشأ الآيات ، مما عليه أمر الخلق أنهم كيف يعاملون من ذكرت ، وذلك خارج على حد الحكمة ، وإن كان لا يعرفون في بعث الرسل إلى من يكذبهم ، ولا تقوية الأعداء على ما به قهر الأولياء ، ولا الأمر والنهي لمن يعلم أنه لا يأتمر ولا ينتهي ـ كبير حكمة ، وبما كان ذلك من الله فهو خارج على حد الحكمة ؛ إذ ذلك كله من الخلق يقع لحاجة أو

__________________

(١) في ب : كلها.

(٢) في الأصول : النساء.

(٣) في ب : لعباده.

٣٧٣

لمنفعة ترجع إليهم ؛ فإذا ناقض ـ خرج الفعل من الحكمة. فأما الله ـ سبحانه وتعالى ـ يمتحن عباده ، ويبعث الرسل ـ عليهم‌السلام ـ لحاجة بالمبعوث إليهم وبالممتحنين ، ولمنافع ترجع إليهم ؛ فيكون ذلك منه كهدايا ؛ فمن لا يقبلها فنفسه يضر ولحقها يبخس ، لا أن يرجع إليه ذلك ؛ فزال ذلك المعنى الذي له خرج الفعل من الخلق عن حد الحكمة ؛ فلزم القول بموافقة الحكمة والمصلحة ، ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً)(١٣٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ...) الآية.

ذكر الاستفتاء في النساء ، وليس فيه بيان عما وقع به السؤال ؛ إذ قد يجوز أن يكون في الجواب بيان المراد في السؤال ، وإن لم يكن في السؤال بيان ؛ نحو قوله ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢٢٢] ؛ دل الأمر باعتزال النساء في المحيض ـ على أن السؤال عن المحيض إنما كان عن الاعتزال ، وإن لم يكن في السؤال بيان المراد ؛ وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ ...) الآية [البقرة : ٢٢٠] ؛ دل قوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) على أن السؤال إنما كان عن مخالطة اليتامى ، وكقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٩] ؛ دل قوله : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) على أن السؤال عن الخمر والميسر ـ ما ذكر في الجواب من الإثم ، وإن لم يكن في السؤال بيان ذلك.

ثم قوله ـ تعالى ـ : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) ليس في السؤال ولا في الجواب بيان ما وقع به السؤال ؛ فيحتمل أن يكون السؤال في أمورهن جميعا : في الميراث وغير ذلك من الحقوق ، ثم ذكر واحدا فواحدا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ) [النساء : ٧] ، كقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا

٣٧٤

وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) الآية [النساء : ٣٢] ، هذا في الميراث. وأما في الحقوق فقال الله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٢٨]. ويحتمل غيرها من الحقوق سوى حقوق النكاح ، فترك البيان في الجواب ؛ لما ذكر واحدا فواحدا في غيرها من الآي ؛ إذ الجواب خرج مخرج العدة أنه يفعل بقوله ـ عزوجل ـ : (يُفْتِيكُمْ) ، وقد فعل هذا ، والله أعلم.

ويحتمل غير هذا : وهو أن يترك البيان في السؤال والجواب ؛ لنوازل يعرفها أهلها ، لم يحتج إلى بيان ما وقع به السؤال ؛ لمعرفة أهلها [به](١).

ويحتمل ما قاله أهل التأويل : وهو أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد ؛ وإنما كانوا يورثون المقاتلة من الرجال والذين يحرزون الغنائم ، فلما بين الله ـ عزوجل ـ للنساء وللصغار (٢) نصيبا في الأموال ، وفرض لهم حقّا ، سألوا [عند ذلك](٣) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) ، وكذلك روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ وذكر القصة هكذا ، والله أعلم.

ويحتمل : أن يكون السؤال وقع عن يتامى النساء ؛ ألا ترى أنه قال ـ عزوجل ـ : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) الآية.

قيل : كانت اليتيمة في حجر الرجل ذات مال ؛ يرغب عن أن يتزوجها لدمامتها ، ويمنعها عن الأزواج ؛ رغبة في مالها ، وهكذا روي عن عائشة ، رضي الله عنها (٤).

وعلى ذلك يخرج قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ...) الآية [النساء : ٣].

وقوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ)

هذا ـ والله أعلم ـ كأنه معطوف على قوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) ، والمستضعفون من الولدان ، على ما ذكرنا من الميراث والحقوق.

(وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ)

في إبقاء حقوقهم وأداء ما لهم عليكم.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : والصغار.

(٣) سقط من ب.

(٤) تقدم في أول السورة.

٣٧٥

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً)

فيجزيكم به ، أو كان به عليما : من يفعل الخير ومن لا يفعل الخير ، والله أعلم.

وعن الحسن في قوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) ، أي : ترغبون عن نكاحهن (١).

وعن ابن سيرين : لا يرغب في نكاحها ؛ لدمامتها ، ولا يزوجها غيره ؛ رغبة في مالها (٢).

وعلى ذلك يخرج قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ ...) الآية ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ...) الآية [النساء : ٣].

وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) دلالة أن للولي أن يزوج اليتيمة الصغيرة ؛ لأنه لو لم يكن [له] ذلك ـ لم يكن للعتاب على ترك تزويجهن من غيرهم معنى.

فإن قيل : اسم اليتيم يقع على الصغيرة والكبيرة جميعا (٣) ؛ فلعل المراد من اليتيمة : الكبيرة هاهنا ، قيل : هو كذلك ، غير أن الغالب يقع على الصغائر منهن ، والله أعلم.

وفيه دلالة : أن النكاح قد يقوم بالواحد ؛ لأنه قال ـ عزوجل ـ : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) ؛ فلو لم يكن له أن يتزوجها ـ لم يكن لهذا العتاب معنى ؛ دل أن (٤) له أن ينكح.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً)

قيل : خافت ، أي : علمت من بعلها نشوزا (٥).

وقيل : الخوف ـ هاهنا ـ خوف لا غير ، فمن قال بالخوف فهو حمل على أن يظهر لها منه جفاء ؛ يجفوها لدمامتها أو لكبرها ، ويسىء صحبتها ؛ لترضى بالفراق عنه ؛ ليتزوج غيرها ، وهو الخوف حقيقة.

وهكذا روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : إن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلقها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلت يومها لعائشة (٦) ـ رضي الله عنها ـ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَإِنِ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣) (١٠٥٥٩ ـ ١٠٥٦٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٠) وزاد نسبته لابن أبي شيبة.

(٢) زاد في ب : وقول ابن سيرين : و «ترغبون» يرغب في نكاحها ؛ رغبة في مالها.

(٣) تقدم في أول السورة.

(٤) في ب : أنه.

(٥) ذكره البغوي في تفسيره (١ / ٤٨٦) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ٥٠).

(٦) أخرجه الترمذي (٥ / ١٣٤) باب سورة النساء (٣٠٤٠) ، وقال : حسن صحيح غريب ، والبيهقي في سننه (٧ / ٢٩٧) ، والطيالسي في مسنده (٢٦٨٣) ، والطبراني في الكبير (١١ / ٢٨٤) (١١٧٤٦).

٣٧٦

امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ...) الآية. ثم قال : فهذا الصلح الذي أمر الله. فجعل الخوف ـ هاهنا ـ خشية.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : هي المرأة تكون عند الرجل دميمة ، ولا يحبها زوجها ؛ فتقول : لا تطلقني ، وأنت في حل من شأني (١).

وقيل : (خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) أي : علمت (٢) ، والعلم هو أن يكون للرجل امرأتان : إحداهما كبيرة أو دميمة (٣) ، والأخرى شابة ، يميل قلبه إلى الشابة منهما ، ويكره صحبة الكبيرة منهما ، ويستثقل المقام معها ، وأراد فراقها ؛ فتقول : لا تفارقني ، واجعل أيامي لضرتي ، أو يصالحها على أن يكون عند الشابة أكثر من عند الكبيرة ، وهو ما روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : هي المرأة تكون عند الرجل دميمة (٤) ، ولا يحبها [زوجها](٥) ؛ فتقول : لا تطلقني ، وأنت في حل من شأني.

فالخوف هو ما يظهر لها من نشوزه قبل تزوج أخرى ـ بأعلام ، والعلم هو ما يظهر من ترك مضاجعته إياها ، وسوء صحبته معها.

وعلى هذين الوجهين روي عن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ عن بعضهم :

يكون عند الرجل امرأتان : إحداهما كبيرة ، والأخرى شابة ؛ فيؤثر الشابة على الكبيرة ؛ فيجري بينهما صلح على أن يمسكها ولا يفارقها على الرضا منها بإبطال حقها أو بدونه ، وهو ما روينا من خبر ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن سودة ـ رضي الله عنها ـ جعلت أيامها لعائشة ـ رضي الله عنها ـ خشية أن يفارقها (٦). وكذلك روي عن عمر ، رضي الله عنه (٧).

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه أتاه رجل يستفتيه في امرأة خافت من بعلها نشوزا ؛ قال : هي المرأة تكون عند الرجل ؛ فتنبو عيناه من دمامتها أو كبرها ، أو فقرها ، أو سوء خلقها ؛ فيكون فراقه ، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له ، وإن جعلت من أيامها شيئا لغيرها فلا حرج (٨).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٧١ ـ ٢٧٢) (١٠٥٨٥) ، (١٠٥٨٦) ، (١٠٥٨٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١١) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : ذميمة.

(٤) في ب : ذميمة.

(٥) سقط من ب.

(٦) تقدم.

(٧) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٦٩) (١٠٥٧٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١١).

(٨) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩) (١٠٥٧٥ ـ ١٠٥٧٨) ، وذكره السيوطي في الدر وزاد نسبته للطيالسي ، وابن أبي شيبة وابن راهويه وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي.

٣٧٧

دلت هذه الأحاديث التي ذكرنا على أن الرجل إذا كان له نسوة أن يسوي بينهن ، فيقيم عند كل واحدة يوما ، إلا أن يصطلحا على غير ذلك ، والصلح خير ، كما قال الله ، عزوجل.

وبين قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ...) الآية.

أن على الرجل ـ وإن عدل بين نسائه في قسمة الأيام ـ ألا يخلي إحداهن من الوطء ، والله أعلم. ولا يكون وطؤه كله لغيرها ، وتكون الأخرى كالمعلقة التي ليست بأيم ولا ذات زوج ، لكنها إذا رضيت بإبطال حقها أو بدون حقها فإنه لا حرج على الزوج في ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً)

يحتمل : أن يكون رفع الحرج عن الزوج خاصة ، وإن كان الفعل مضافا إليهما ؛ إذ ليس للمرأة في ترك حقها حرج ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] ليس على المرأة جناح في الافتداء ؛ لأنها تفتدى بمالها ، ولها أن تملّك على مالها من شاءت ؛ فكأنه قال ـ عزوجل ـ : فلا جناح عليه في أخذ ما افتدت ، أو في إبطال حقها إذا رضيت.

ويحتمل : أن يكون على ما ذكر ، وهو أن لا حرج على المرأة المقام معه وإن استثقل الزوج ذلك ويكره صحبتها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ).

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : شحت المرأة بنصيبها من زوجها أن تدعه للأخرى ، وشح الرجل بنصيبه من الأخرى (١).

وقيل : الشح : الحرص (٢) ، وهو أن يحرص كل على حقه. وكأن الشح والحرص واحد ، وإن كان أحدهما في المنع ، والآخر في الطلب ؛ لأن البخل يحمله على الحرص ، والحرص يحمله على المنع ، وكل واحد منهما يكون سببا للآخر (٣) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا)

في أن تعطوهن أكثر من حقهن ، وتتقوا في ألا تبخسوا من حقهن شيئا.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠) (١٠٦٠٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٢) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٢) أخرجه ابن جرير في تفسيره (٩ / ٢٨٢) ، والبغوي في تفسيره (٤٨٧) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ٥٤).

(٣) في ب : سبب الآخر.

٣٧٨

ويحتمل : (وَإِنْ تُحْسِنُوا) في [إبقاء](١) حقهن ، والتسوية بينهن ، وتتقوا الجور والميل ، وتفضيل بعض على بعض.

ويحتمل : (وَإِنْ تُحْسِنُوا) في اتباع ما أمركم الله من طاعته ، وتتقوا عما نهاكم الله من معاصيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

على الترغيب والوعيد ، وقد ذكرنا معناه في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ).

عن ابن عباس في قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) في إيفاء (٢) الحق أن يستوي في قلوبكم (٣) الحب (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على العدل ؛ لا تقدرون عليه في ذلك.

(فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ).

إلى التي تحب في النفقة والقسم ؛ فتأتي الشابة التي تعجبك ، وتدع الأخرى بغير قسم ولا نفقة.

روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يقول : اللهمّ أما قلبي فلا أملك ، ولكن أرجو أن أعدل فيما سوى ذلك (٤).

والعدل ـ هاهنا ـ التسوية ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١٥٠] ليس هو ضد الجور ؛ ولكن التسوية : يسوون بين ربهم وبين الأصنام في العبادة.

وعن عبيدة قال : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) في الحب (٥).

وروي عن أبي قلابة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعدل بين نسائه في القسمة ويقول : «اللهمّ هذه قسمتي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك أنت ولا أملك(٦).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : إبقاء.

(٣) في أ : قلوبهم.

(٤) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٨٦) (١٠٦٣٥) ، وذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٣٨١) ونسبه لعمر بن الخطاب.

(٥) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦) (١٠٦٢٧ ، ١٠٦٣٠ ، ١٠٦٣٢ ، ١٠٦٣٣) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤١٢) ، وعزاه لابن أبي شيبة والبيهقي عن عبيدة.

(٦) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٨٦) (١٠٦٣٧) ، وله شاهد من حديث عائشة : أخرجه كل من النسائي في عشرة النساء (٧ / ٦٣ ـ ٦٤) باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض ، وابن ماجه في النكاح (٣ / ٣٩٢) باب القسمة بين النساء (١٩٧١) ، وأبو داود في النكاح (١ / ٦٤٨) باب القسمة بين النساء (٢١٣٤) ، والبيهقي في سننه (٧ / ٢٩٨) في القسمة والنشوز : باب ما جاء في قول الله : (وَلَنْ ـ

٣٧٩

وأصل ذلك : أن في كل ما كان المرء مدفوعا مضطرّا ـ فإنه غير مكلف في ذلك ، وفي كل ما كان باختيار منه وإيثار غير عليه ـ فإنه مكلف في ذلك ، والحب مما يدفع المرء فيه ويضطر ، ولا صنع له فيه ، لم يكلف التسوية فيما يكون مدفوعا فيه مضطرّا ؛ لأنه لا يملك التسوية ، وعلى هذا يخرج قولنا : إن الكافر مكلف بالإيمان في حال الكفر ؛ لشغله به ، واختياره فعل الكفر ، ليس كالمضطر ، وقد ذكرنا ـ فيما تقدم ـ : أن الاستطاعة تكون على ضربين : استطاعة أحوال وأسباب ، واستطاعة أفعال ، والاستطاعة التي هي استطاعة الأحوال والأسباب من نحو الصحة والسلامة وغيرهما يجوز قبل ومع وبعد ، وأما استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) : في النفقة والقسمة ، معناه : لا يحملنكم شدة الحب والميل بالقلب أن تتركوا الإنفاق عليها وإيفاء (١) الحق ، أعني : حق القسم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ)

ليست بأيم ولا ذات بعل ، ليست هي بأيم تتكلف هي مئونتها كما تتكلف الأيم ، ولا ذات بعل يتحمل البعل مئونتها.

وفي حرف أبي بن كعب : «فتذروها كالمسجونة» ، وهو ما ذكرنا : لا ينفق هو عليها ، ولا يطلقها ؛ لتتزوج زوجا آخر ، فهي كالمحبوسة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا)

هو ما ذكرنا في قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)

هذا ينقض قول من يقول : إنه لم يكن رحيما ثم صار رحيما ؛ لأنه أخبر أنه كان رحيما ، وهو يقول : صار رحيما ، وبالله العصمة.

ثم المسألة : بأن المرأة إذا جعلت أيامها لضرتها ، كان لها أن ترجع وتفسخ ذلك ؛ لأنها جعلت لها ما لم يجب بعد ولم يلزم ؛ فكان كمن أبرأ آخر عن حق لم يجب بعد ، فإن إبراءه ـ باطل ، له أن يعود إليه ، فيأخذه به إذا وجب ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)

__________________

 ـ تَسْتَطِيعُوا ...) الآية ، والحاكم وصححه (٢ / ١٨٧) وقال : صحيح على شرح مسلم ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا.

(١) في ب : إبقاء.

٣٨٠