تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

قيل : عدة حسنة جميلة (١) : سأفعل وسأكسو.

وقيل : مروهم بالمعروف ، وانهوا عن المنكر (٢).

وقيل : علموهم الأدب والدين ، وقولوا لهم كلام البر واللين واللطف (٣).

قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ)(٤)

اختلف فيه :

قال بعضهم : قوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا) حرف ، «حتى» صلة ؛ وتأويله : وابتلوا اليتامى إذا بلغوا النكاح ؛ وهو قول الشافعي ، يجعل الابتلاء بعد البلوغ (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٧ / ٥٧٣) رقم (٨٥٦٩) ، عن مجاهد.

(٢) ينظر : اللباب لابن عادل (٦ / ١٨٥) ، والرازي (٩ / ١٥٢).

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٥٧٢ ، ٥٧٣) (٨٥٦٨) عن مجاهد ، وينظر : اللباب لابن عادل (٦ / ١٨٥) ، والرازي (٩ / ١٥٢) ، البحر لأبي حيان (٣ / ١٧٩).

(٤) قال القرطبي في تفسيره (٥ / ٢٤) : واختلف العلماء في معنى الاختبار : فقيل : هو أن يتأمل الوصيّ أخلاق يتيمه ، ويستمع إلى أغراضه ، فيحصل له العلم بنجابته ، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله ، والإهمال لذلك. فإذا توسم الخير قال علماؤنا وغيرهم : لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه ، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار ، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه. وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنه. وليس في العلماء من يقول : إنه إذا اختبر الصبي فوجده رشيدا ترتفع الولاية عنه ، وإنه يجب دفع ماله إليه وإطلاق يده في التصرف ؛ لقوله تعالى : حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ. وقال جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون غلاما أو جارية ؛ فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا ، أو أعطاه شيئا نزرا يتصرف فيه ؛ ليعرف كيف تدبيره وتصرفه ، وهو مع ذلك يراعيه ؛ لئلا يتلفه ؛ فإن أتلفه فلا ضمان على الوصي. فإذا رآه متوخيا سلم إليه ماله وأشهد عليه. وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه ، في الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته ، واستيفاء الغزل وجودته. فإن رآها رشيدة سلم أيضا إليها مالها وأشهد عليها ، وإلا بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما. وقال الحسن ومجاهد وغيرهما : اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم.

(٥) البلوغ : طور من أطوار الحياة ، به يستعد الشخص لأداء وظيفته النوعية وهي التناسل ، وقريب من هذا قول المازري : هي قوة تحدث للشخص تنقله من حال الطفولة إلى غيرها ، وللبلوغ علامات يعرف بها : بعضها خاص بالإناث ، والبعض الآخر يشترك فيه الإناث والذكور :

فالقسم الأول : الحمل ، والحيض.

والقسم الثاني ثلاثة أنواع : خروج المني ، والإنبات ، والسن.

ينظر : الأم (١ / ٢٢٠ ـ ٢٩٨) ، أحكام القرآن للشافعي (٨٥) ، المغني لابن قدامة (٤ / ١٦٨).

٢١

ويحتمل أن يكون المراد بالابتلاء ـ قبل البلوغ ؛ لوجهين :

أحدهما : أن يبتلي الأيتام قبل بلوغهم بأنواع العبادات والآداب ؛ ليعتادوا بها ويتأدبوا ؛ ليعرفوا حقوق الأموال وقدرها ، ويحفظوها إذا بلغوا ؛ لأنهم إذا ابتلوا بعد البلوغ لم يعرفوا ما عليهم من العبادات والفرائض وقت البلوغ ، وكان في ذلك تضييع حقوق الله وفرائضه ؛ إذ لا سبيل لهم إلى القيام بها حتى البلوغ ، فأمر الأولياء والأوصياء أن يبتلوهم قبل البلوغ ، حتى إذا بلغوا ، بلغوا عارفين لما عليهم من العبادات والحقوق ، حافظين لها ؛ ألا ترى إلى ما روي في الخبر أنه أمر الأب أنه يأمر ولده بالصلاة إذا كان ابن سبع ، وأمر بالضرب والتأديب (١) إذا كان ابن تسع و ، بالتفريق في المضاجع (٢) ، وهو من حقوق الخلق؟! فهذا ليعتادوا ، ويأخذوا الأدب قبل البلوغ ، حتى إذا بلغوا عرفوا ما عليهم ، وهان القيام بها ، وإذا لم يعوّدوا قبل ذلك يشتد عليهم القيام بإقامة العبادات وأداء الحقوق ؛ فعلى ذلك الأول.

ووجه آخر : أن يبتلي عقولهم بشيء من أموالهم يتجرون بها ، ويتقلبون فيها ؛ لينظروا : هل يقدرون على حفظ أموالهم عند حدوث الحوادث والنوائب؟ ففيه دليل جواز الإذن في التجارة في حال الصغر ؛ لأنه لا يظهر ذلك إلا بالتجارة.

وإن كان المراد بالابتلاء بعد البلوغ والكبر فهو ـ أيضا ـ يحتمل وجهين :

يحتمل العلم بها نفسه ؛ ويحتمل العمل بها والعلم ، ولا يضعوها في غير موضعها.

وقوله : «إن حرف (حَتَّى) صلة» : إنه لو جاز له أن يجعل هذا صلة ، لجاز لغيره أن يجعل الرشد صلة فيه ؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول أن يجعل صلة.

ثم اختلف في قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)

قال بعضهم : هو أن يصير هو من أهل الشهادة ؛ فحينئذ يدفع إليه المال ؛ فعلى قوله يجىء أن ينتزع الأموال من أيدي الفساق ؛ لأنه لا شهادة لهم ؛ ومن قوله : إن اليتيم من أهل الكفر لا يدفع إليه المال إلا بعد استئناس الرشد (٣) منه ، فلو كان شرط الرشد هو شهادة لكان الكافر لا يدفع إليه عنده ؛ لما لا يقبل الشهادة ما لزم الكفر على أحد ؛ دل أن

__________________

(١) في ب : التأدب.

(٢) ورد ذلك من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مروا أولادكم بالصلاة ، وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع». أخرجه أحمد (٢ / ١٨٧) ، وأبو داود (١ / ٣٣٣) كتاب الصلاة : باب متى يؤمر الغلام بالصلاة ، رقم (٤٩٥ ، ٤٩٦) ، والحاكم في المستدرك (١ / ١٩٧).

(٣) الرشد : نقيض الغي ؛ يقال : رشد الإنسان ، يرشد رشدا ـ وهو نقيض الضلال ـ : إذا أصاب وجه الأمر والطريق. ينظر : لسان العرب (٣ / ١٦٤٩) (رشد).

٢٢

الرشد ليس ما ذكر ، ولكن ما قيل من العقل والحفظ لماله ، والإصلاح فيها.

وروى عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) قال : إذا أدرك بحلم وعقل ووقار (١).

وهو يقول ـ أيضا ـ في قوله ـ تعالى ـ : (مِنْهُمْ رُشْداً) : إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول : اختبروا اليتامى من عند الحلم ، فإن عرفتم منهم رشدا في حالهم ، والإصلاح في أموالهم ـ : (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ).

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «فإن أحسستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم» (٢).

وفي حرف حفصة : «وابتلوا اليتامى في أموالهم حتى إذا بلغوا النكاح بعد كبرهم».

ثم لا يخلو منع الأموال منهم من أوجه ثلاثة :

إما أن يمنع ؛ لفرط البذل والإنفاق ، جودا وسخاوة ، وحسن الظن بالله أنه ـ عزوجل ـ يرزقهم ويعطيهم خلف نفقتهم ، وهذا (٣) لا يحتمل ؛ لأن هذا من أخلاق الأنبياء ـ صلى الله عليهم وسلم ـ وسيرتهم ؛ فلا يحتمل النهي عن ذلك.

أو يمنع ؛ لغلبة شهوتهم ، ولقضاء وطرهم وحاجتهم ، ينفقون الأموال ؛ ليصلوا إلى ذلك ، فإنهم إن منعوا عن أموالهم يتناولوا من أموال غيرهم ، ويتعاطوا ما لا يحل ولا يحسن ؛ فلا يحتمل أن يمنعوا لذلك.

أو أن يمنع عنهم الأموال ؛ لآفة في عقولهم (٤) ، ونقص في لبّهم ، فإن كان لهذا ما يمنع أموالهم عنهم ؛ فيجب أن يمنع أبدا ، لا وقت في ذلك ولا مدة إلا بعد ارتفاع ذلك وزواله عنهم ، وهو الوجه ، يمنع منه حتى يؤنس منه الرشد.

ثم جعل إدراكه وبلوغه بالاحتلام ؛ لأن كل جارحة من جوارح الإنسان يجوز استعمالها إلا الجارحتين منهما ؛ فإنه لا يقدر على استعمالهما إلا هو ، إحداهما : الذكر ، والأخرى : اللسان ؛ فإن هاتين الجارحتين لا يمكن استعمالهما إلا صاحبهما ؛ فجعل

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٥٧٥) (٨٥٧٧).

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) وأصل «أحستم» في قراءة ابن مسعود : أحسستم ، فحذفت إحدى السنين ، وهو حذف شاذ لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة ، وحكي أنها لغة سليم.

تنظر القراءة في : البحر المحيط (٣ / ١٨٠). المحرر الوجيز لابن عطية (٢ / ١٠) ، اللباب لابن عادل (٦ / ١٨٨).

(٣) في ب : هنا.

(٤) في ب : عقلهم.

٢٣

الاحتلام علما لبلوغه وإدراكه لذلك ؛ ولهذا لم يعمل الإكراه عليهما ، نحو من أكره [على الزنا](١) ؛ فزنا ؛ فإنه (٢) عليه الحد ؛ لأن الإكراه لا يعمل عليه (٣) ؛ فإنما كان بفعل منه ، إلا الوالي ؛ فإنه إذا أكره آخر بالزنا ففعل لم يقم عليه الحد ؛ لما جعلنا ذلك كالعلم بالسبب الذي يحل ؛ وكذلك لو أكره حتى وطئ امرأة لزمه المهر ، ولا يرجع على المكره.

ولو أكره على إتلاف مال من أمواله ففعل لرجع على المكره ؛ للمعنى الذي وصفنا ؛ ولهذا ما وقع طلاق المكره ونكاحه وعتاقه ؛ لأن هذه الأشياء إنما تقع باللسان ، واللسان مما لا يعمل عليه الإكراه ؛ لذلك جاز ، والله أعلم.

وأما البيوع والأشربة والعقود كلها سوى هؤلاء ، تكون بالتسليم والقبض دون النطق باللسان والتكلم بها ، فالإكراه مما يعمل عليها ؛ لما أمكن استعمالها غيره ؛ لذلك افترقا ؛ ولهذا ما قلنا : إن الإيمان يكون بالقلب دون اللسان ؛ لأنه إذا أكره حتى يكفر ؛ فأجرى كلمة الكفر على لسانه ، وكان قلبه مطمئنّا بالإيمان ـ لم يكفر ، فإذا اطمأن قلبه بالكفر ـ كفر ؛ لأن الإكراه لا يعمل على القلب ، ولا يصير المكره مستعملا له ، إنما المستعمل هو ؛ لا غير ؛ لذلك كان الجواب ما ذكرنا.

ومعنى جعل الاحتلام بلوغا هو إمكان استعمال سائر الجوارح دونه ـ يعني : الفرج ـ إلا بعد الكبر ، وما كان المعروف من الآباء والأولاد ، وما كان مما يجرى الأمر بابتغاء المكتوب من الولد يكون بعد البلوغ ، وبعيد ذلك ، إلا في الوقت الذي لو ابتغى لوجد ولقدر عليه ، وليس ذلك إلا في خروج الماء للشهوة.

ثم يكون في المتعارف الاحتلام عن ذلك ؛ فجعل علما له ؛ ولذلك قيل : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) ثم فرق في حق الكتاب بين اللسان وغيره ؛ من حيث لا يملك أحد قهر لسان آخر حتى ينطق دون صاحبه ؛ فبه يظهر سبب جري القلم من الإقرار بالبلوغ ، وهذا معنى ما جعل سببه بما لا يعلمه غيره ؛ ليكون أول أحوال البلوغ وقوع قوله بحيث البلوغ ، مع ما كان النطق فعل من يجري في جنسه الخطاب ؛ وكأنه اتصل أمره بالسبب الذي خص به

__________________

(١) في ب : بالزنا.

(٢) في ب : فإن.

(٣) مذهب الحنفية لو أكره الشخص بملجئ على الزنا ـ لم يرخص له ؛ لأن في الزنا قتل أنفس بضياعها ؛ إذ ولد الزنا هالك حكما ؛ لعدم من يربيه فلا يستباح بضرورة ما ؛ كالقتل. ولا يجد المكره عليه ؛ استحسانا. أما المرأة فيرخص لها الزنا بالإكراه الملجئ ، ولا يرخص لها بغير الملجئ ، لكنه مسقط للحد في زناها ، ولا يسقط غير الملجئ عن الرجل. انظر : رد المحتار (٥ / ١١٦) ، وحاشية الدسوقي (٢ / ٣٦٩) ، وقليوبي وعميرة (٤ / ١٧٩).

٢٤

الممتحن من العقل ؛ إذ كان العقل قد يعرف بالمحنة والاحتلام لا ؛ فأمرنا بالابتلاء من حيث العقول ، ولم نؤمر من حيث الاحتلام ، بل يقبل قوله في ذلك.

ودل قبول قول من بلغ بالإخبار عن احتلامه ، وبه يجري القلم عليه ، ويلزم الحقوق ـ أن يقبله ، يجوز في ذلك الوقت ـ وبخاصة على قول من يرى الابتلاء بعد الإدراك ـ أنه لو لم يقبل فبم نبتليه؟ ثم إذا (١) جاز قوله لزم كل أمر علق به ، وعلى ما ذكرت من أول ما علق به القول في حق البلوغ دليل اتصال حكم القول بالعقل ، وتمام العقل بالبلوغ ؛ إذ به يجري القلم.

ودل ما ذكرت من امتناع اللسان عن سلطان غير صاحبه عليه ـ على لزوم كل حق معلق به على الإكراه ؛ إذ لا يلزم بغيره ، وهو لا يجري عليه ، ثم كل أمر يكون لا به يصير اللسان سببا فيه (٢) كالمعلم عنه ، وهو مما يجري عليه القهر ، ويعلم به ؛ فيبطل ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً)(٣)

الإسراف : هو كل ما نهي عنه.

وقيل : الإسراف : هو أكل في غير حق (٤) ؛ وكأن الإسراف هو المجاوزة عن الحد ، وهو كقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) [الفرقان : ٦٧] ، وكان القتر مذموما ، فعلى ذلك الإسراف في النفقة في مال اليتيم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِسْرافاً وَبِداراً) ، قيل : البدار : هو المبادرة (٥) ، وكلاهما لغتان ، كالجدال والمجادلة ، وهو أن يبادر بأكل مال اليتيم ؛ خشية أن يكبر ؛ فيحول بينه وبين ماله ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «ولا تأكلوها إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا».

__________________

(١) في ب : إذ.

(٢) في ب : فيه به.

(٣) قال القرطبي (٥ / ٢٨) : ليس يريد أن أكل مالهم من غير إسراف جائز فيكون له دليل خطاب ؛ بل المراد : ولا تأكلوا أموالهم ؛ فإنه إسراف ، فنهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم.

(٤) ذكره ابن جرير بمعناه في تفسيره (٧ / ٥٧٩) ، وابن عادل في اللباب (٦ / ١٩٠) ، والسيوطي في الدر (٢ / ٢١٥) وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

(٥) أخرجه ابن جرير ٧ / ٥٨٠ (٨٥٩٠).

ينظر : اللباب لابن عادل (٦ / ١٩٠).

٢٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)

أطلق الله ـ تعالى ـ لولي اليتيم ـ بظاهر الآية ؛ إذا كان فقيرا ـ أن يأكل بالمعروف من غير إسراف ، وذلك هو الوسط منها ، وكذلك روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ رجلا سأله ، فقال : ليس لي مال ، ولي يتيم؟ فقال : «كل مال يتيمك غير مسرف ، ولا متأثّل (١) مالك بماله» (٢) وفيه دليل أن الغني لا يجوز له أن يأكل مال اليتيم ، وأن الفقير إذا أكل منه : أنفق نفقة لا إسراف فيها.

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم : إذا (٣) استغنيت استعففت ، وإذا احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت (٤).

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم ، ولا يكتسى عمامة (٥).

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : في قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(٦) ، قالت (٧) : يأكل والي اليتيم من مال اليتيم ؛ إذا كان يقوم له على ماله ،

__________________

(١) المتأثل من المال : المجموع ذو الأصل ، من أثلة الشيء وهي أصله ، وتأثل ماله : اكتسبه واتخذه وثمره. ينظر : لسان العرب (١ / ٢٨) (أثل) ، والنهاية لابن الأثير (١ / ٢٣) (أثل).

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ١٨٢) كتاب الوصايا : باب ما جاء فيما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم (٢٨٧٢). البستاني في المجتبى (٦ / ٥٦٧) كتاب : الوصايا : باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه ، وابن ماجة (٤ / ٢٨١) الوصايا : باب قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦] (٢٧١٨) وأحمد (٢ / ١٨٦ ، ٢١٥).

(٣) في ب : إن.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٨٢) (٨٥٩٧).

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٦) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير والنحاس في ناسخه وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطاب.

(٥) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٥٨٧) (٨٦٢٤) عن عكرمة و (٨٦٢٩) عن مكحول.

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٦).

(٦) قال القرطبي (٥ / ٢٩) : قال الحسن : هو طعمة من الله له ، وذلك أنه يأكل ما يسد جوعته ، ويكتسي ما يستر عورته ، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل. والدليل على صحة هذا القول إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قد فرض سهمه في مال الله ؛ فلا حجة لهم في قول عمر : فإذا أيسرت قضيت ـ أن لو صح. وقد روي عن ابن عباس وأبي العالية والشعبي أن الأكل بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي ، واستخدام العبيد ، وركوب الدواب إذا لم يضر بأصل المال ؛ كما يهنأ الجرباء ، وينشد الضالة ، ويلوط الحوض ، ويجذ التمر. فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للوصي أخذها. وهذا كله يخرج من قول الفقهاء : إنه يأخذ بقدر أجر عمله ، وقالت به طائفة ، وأن ذلك هو المعروف ، ولا قضاء عليه ، والزيادة على ذلك محرمة.

(٧) في ب : وقالت.

٢٦

ويصلح إذا كان محتاجا (١).

وقيل : يأكل قرضا (٢) ثم يرد عليه إذا أيسر ، وهو قول ابن عباس (٣) ، رضي الله عنهما.

وقيل : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) ، أي : من مال نفسه ، حتى لا يفضي إلى مال اليتيم (٤).

وقيل : يأكل إذا كان يعمل له ، ويقوم عليه (٥).

وقيل : يأكل قرضا ؛ ألا ترى إلى قول الله ـ تعالى ـ : (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ)(٦) : أمر بالإشهاد عليهم عند الدفع ، ولو كان أمانة في يده لم يحتج إلى الإشهاد في الدفع ، ولكن يجوز أن يأمر بالإشهاد لا لمكان الوصي نفسه ؛ ولكن لما يجوز أن يحدث بينه وبين ورثة الوصى خصومة فيشهد ؛ ليدفع تلك الخصومة عنهم.

وقيل : الأكل بالمعروف هو ما يسد به جوعه ، ويواري عورته (٧).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير بمعناه (٧ / ٥٩٣) (٨٦٥١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٦).

(٢) قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٤١) : قال الفخر الرازي : وبعض أهل العلم خص هذا الإقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها ، وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال ، وهذا قول أبي العالية وغيره ، واحتجوا بأن الله ـ تعالى ـ قال : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) فحكم في الأموال بدفعها إليهم. اه.

أقول ـ أي : القاسمي ـ : الكل محتمل ؛ إذ لا نص من الأصلين على واحد منهما ولا يخفي الورع.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٨٢ ، ٥٨٣) ، (٨٥٩٨) (٨٦٠٤) (٨٦٠٥) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٥ ، ٢١٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٨١ ، ٥٨٢) (٨٥٩٦) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والحاكم وصححه من طريق مقسم عن ابن عباس.

(٥) تقدم قريبا.

(٦) قال القرطبي (٥ / ٣٠ ـ ٣١) : أمر الله ـ تعالى ـ بالإشهاد ؛ تنبيها على التحصين وزوالا للتهم. وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء ؛ فإن القول قول الوصي ؛ لأنه أمين. وقالت طائفة : هو فرض ، وهو ظاهر الآية ، وليس بأمين فيقبل قوله ؛ كالوكيل إذا زعم أنه قد رد ما دفع إليه أو المودع ، وإنما هو أمين للأب ، ومتى ائتمنه الأب لا يقبل قوله على غيره ؛ ألا ترى أن الوكيل لو ادعى أنه قد دفع لزيد ما أمره به بعدالته لم يقبل قوله إلا ببينة ؛ فكذلك الوصي. ورأى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وابن جبير أن هذا الإشهاد إنما هو على دفع الوصي في يسره ما استقرضه من مال يتيمه حالة فقره.

قال عبيدة : هذه الآية دليل على وجوب القضاء على من أكل ؛ المعنى : فإذا اقترضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم. والصحيح أن اللفظ يعم هذا وسواه. والظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئا على المولى عليه فأشهدوا ، حتى ولو وقع خلاف أمكن إقامة البينة ؛ فإن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه بالإشهاد على دفعه ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (فَأَشْهِدُوا) فإذا دفع لمن دفع إليه بغير إشهاد فلا يحتاج في دفعها لإشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد. والله أعلم.

(٧) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٨٧ ، ٥٨٨) (٨٦٢٦) (٨٦٢٧) (٨٦٢٨) (٨٦٣٠) عن إبراهيم بن يزيد ، ـ

٢٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(١)

قيل : شهيدا بما أخذ من ماله وأنفق.

ويحتمل قوله : (حَسِيباً) يحاسبه في الآخرة ؛ إذا لم يحاسبه اليتيم في الدنيا.

قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(١٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ ...)(٢) الآية.

يحتمل أن تكون الآية ـ والله أعلم ـ نزلت بسبب ما لم يكن يورث أهل الجاهلية الإناث والصغار (٣) ، ويجعلون المواريث لذوي الأسنان من الرجال ، الذين يصلحون للحرب ، ويحرزون الغنيمة ؛ فنزلت الآية بتوريث الرجال والنساء جميعا.

ويقال : إن الآية نزلت في شأن رجل يقال له : أوس بن ثابت (٤) الأنصاري ، توفي

__________________

 ـ وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٦) وعزاه لعبد بن حميد والبيهقي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(١) قال القاسمي (٥ / ٤٢) : أي كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض ، أو محاسبا ؛ فلا تخالفوا ما أمركم به. ولا يخفى موقع هذا التذييل هنا ؛ فإن الوصي يحاسب على ما في يده. وفيه وعيد لولي اليتيم ، وإعلام له أنه ـ تعالى ـ يعلم باطنه كما يعلم ظاهره ؛ لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل ، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله.

(٢) قال القرطبي (٥ / ٣١) : قال علماؤنا : في هذه الآية فوائد ثلاث :

إحداها : بيان علة الميراث وهي القرابة. والثانية : عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد.

والثالثة : إجمال النصيب المفروض ، وذلك مبين في آية المواريث ؛ فكان في هذه الآية توطئة للحكم ، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي.

قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٤٢) : وإيراد حكم النساء على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام الرجال ، بأن يقال للرجال والنساء ... إلخ للاعتناء بأمرهن ، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين ، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية ؛ فإنهم كانوا لا يورثون النساء والأطفال ، ويقولون : لا يرث إلا من طاعن بالرماح ، وذاد عن الحوزة ، وحاز الغنيمة. وقد استدل بالآية على توريث ذوي الأرحام ؛ لأنهم من الأقربين. وهو استدلال وجيه ، ولا حجة لمن حاول دفعه.

(٣) في الأصول : الإناث والنساء والصغار.

(٤) أوس بن ثابت الأنصاري الخزرجي النجاري ، أخو حسان بن ثابت الشاعر ، شهد العقبة وبدرا ، قتل ـ

٢٨

وترك بنات وامرأة ، فقام رجلان من بنى عمه ـ وهما وصيان ـ فأخذا ماله ، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا ؛ فجاءت امرأة أوس بن ثابت (١) إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكت ، وأخبرت بالقصة ؛ فقال لها : «ارجعى في بيتك حتّى انظر ما يحدث الله في ذلك». فانصرفت ؛ فنزل قوله ـ تعالى ـ : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ...) الآية (٢).

وقيل : نزلت الآية في شأن امرأة سعد : أن سعدا استشهد بأحد ، وترك ابنتين وامرأة ، فاحتوى أخ لسعد على مال سعد ، ولم يعط المرأة ولا الابنتين شيئا ؛ فاختصمت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبرته بالقصة ؛ فقال لها : «لم ينزل الله علىّ فيكم شيئا». ثم نزلت الآية ، فأخذ من عمهما ثلثي المال ، ورده إليهما ، ودفع الثّمن إلى المرأة ، وترك البقية للعم (٣). والله أعلم أن فيم كان نزولها؟.

وفي هذا الخبر دليل أن للابنتين (٤) الثلثين ، كما للثلاث فصاعدا ، ليس كما قال بعض الناس : إن لهما النصف ؛ لأن الله ـ تعالى ـ إنما جعل الثلثين للثلاثة.

ثم تحتمل الآية وجهين بعد هذا :

تحتمل أن يكون المراد الأولاد خاصة لا غير ؛ فيدخل كل ولد : ولد البنات ، وولد البنين ؛ لأنهم كلهم أولاده.

ويحتمل أن يكون المراد منها الرجال والنساء ؛ فيدخل ذوو الأرحام (٥) في ذلك ، فلما لم يدخل بنات البنات في ذلك ـ وهم أولاد ـ دل أنه أراد النساء والرجال جميعا ، لا

__________________

 ـ أوس يوم أحد. ينظر : أسد الغابة (١ / ٣١٤) ، الاستيعاب. ترجمة (١٠٣) ، الإصابة : ترجمة (٥٦٨).

(١) اسمها : أم كحة ـ بضم الكاف والحاء المهملة.

ينظر : أسد الغابة لابن الأثير (٧ / ٣٨١).

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٧) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٣) أخرجه أحمد (٣ / ٣٥٢) ، وأبو داود (٣ / ٣١٦) : كتاب الفرائض ، رقم (٢٨٩٢) ، والترمذي (٤ / ٤١٤ ـ ٤١٥) : كتاب الفرائض ، رقم (٢٠٩٢) ، وابن ماجه (٢ / ٩٠٨ ، ٩٠٩) : كتاب الفرائض ، رقم (٢٧٢٠) ، والحاكم (٤ / ٣٤٢).

وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي.

(٤) في ب : للأنثيين.

(٥) ذوو الأرحام هم الأقارب ، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب ، ويطلق في الشرع على ذى القرابة مطلقا ، غير أنه في المواريث يراد به كل قريب ليس بذي سهم ـ أي : ذي فرض بمقدار ـ في كتاب الله ـ تعالى ـ أو سنة رسوله ، أو إجماع الأمة ، ولا عصبة تحرز المال عند الانفراد.

انظر شرح السراجية لعلي بن محمد الجرجاني ص (١٦٣).

٢٩

الأولاد خاصة.

وفيه دلالة نسخ الوصية للوارث (١) ؛ لأنه قال ـ عزوجل ـ : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ ...) إلى قوله : (مَفْرُوضاً) أي : معلوما بما أوجب في كل قبيل.

ثم قال في قوله : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) ، قيل : ذا يرجع إلى ما بين فرضه ، وهو أصحاب الفرائض دون العصبات (٢) ، فيكون على ما أشار إلى حقه من حيث الاسم في القرآن.

ويحتمل ما بين ، وقد جرى فيه ذكر حقين :

أحدهما : حق العصبة ، كما ذكر في الأب والإخوة والأولاد ، وحق أصحاب الفرائض ، ولو كان على ذلك فقد يتضمن الفرض ما يعلم بالإشارة إليه والدلالة ؛ لأن أكثر من (٣) يوصي بحق العصبة هو ما لا نص فيه ، والذي فيه النص هو في الأولاد والإخوة ـ خاصة ـ والوالد.

وقيل : يتضمن كل الأقرباء على اختلاف الدرجات ؛ فيكون منصوصا ـ أيضا ـ ومدلولا عليه ، ويؤيد هذا التأويل قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) ثم بيّن : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) وأولئك هم البعداء الذين لهم أخوة الدين والهجرة ، فإذا بقي في الرحم أحد ـ لم يصرف ذلك إلى المؤمنين ، وقد قدم حقهم على المؤمنين والمهاجرين بالرحم ؛ لذلك هم أولى ، مع ما للإمام صرف ذلك بحق الإيمان إليهم ؛ فيصير الدفع إليهم بحق الجواز ، وإلى غيرهم شك عند قيامهم ؛ فالدفع إليهم أولى لوجهين :

أحدهما : عموم الكتاب على تحقيق حق لكل آية منها ؛ دون إدخال حكم آية في حق آخرين بلا ضرورة.

والثاني : الإجماع من الوجه الذي ذكرت مع اتفاق أكثر الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ والفتوى إلى يومنا هذا.

__________________

(١) اختلف أهل العلم في الوصية للوارث : فذهب بعضهم إلى أنها باطلة وإن أجازها سائر الورثة ؛ كما أن الوصية للقاتل باطلة وإن أجازها الورثة. وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الورثة إن أجازوها جازت ، وبه قال مالك والشافعي ؛ كما لو أوصى لأجنبي بأكثر من الثلث ، وأجازه الورثة ـ جاز.

(٢) العصبة ـ : لغة الأقارب من جهة الأب ، لأنهم يعصبونه ، ويعتصب بهم أي : يحيطون به ويشتد به ؛ قال الأزهري : عصبة الرجل أولياؤه الذكور الذين يرثونه.

وفي الاصطلاح : هو كل من لم يكن له سهم مقدر من المجمع على توريثهم ؛ فيرث المال إن لم يكن معه ذو فرض أو ما فضل بعد الفروض. وهم بنو الرجل وقرابته لأبيه الذين يرثون عنه كلالة من غير والد ولا ولد. ينظر : لسان العرب (٤ / ٢٩٦٥) (٢٩٦٦) (عصب) ، نهاية المحتاج للشيخ الرملي (٦ / ٢٣).

(٣) في ب : ما.

٣٠

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى)(١) قيل فيه بوجهين :

قيل : أراد بالقسمة : قسمة المواريث بين الورثة بعد موت الميت (٢).

وقيل : أراد به : قسمة الموصى وهو الإيصاء ، يوصى ويبر لمن ذكر من الأقرباء واليتامى والمساكين (٣) بشيء ؛ فالخطاب للموصى.

ومن قال بقسمة المواريث : فالخطاب للورثة إن كانوا كبارا ، يعطون لهؤلاء شيئا ،

__________________

(١) قال القرطبي (٥ / ٣٣ ـ ٣٤) : بين الله ـ تعالى ـ أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة ، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا ، إن كان المال كثيرا ؛ والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ. وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم ؛ درهم يسبق مائة ألف. فالآية على هذا القول محكمة ؛ قاله ابن عباس.

وامتثل ذلك جماعة من التابعين : عروة بن الزبير ، وغيره ، وأمر به أبو موسى الأشعري.

وروي عن ابن عباس أنها منسوخة ، نسخها قوله ـ تعالى ـ : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١]. وقال سعيد بن المسيب : نسخها آية الميراث والوصية.

وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك. والأول أصح ؛ فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم ، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير : ضيع الناس هذه الآية. قال الحسن : ولكن الناس شحوا.

وفي البخاري عن ابن عباس في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) [النساء : ٨] قال : هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية قال : إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت ، لا والله ما نسخت! ولكنها مما تهاون بها ؛ هما واليان : وال يرث ، وذلك الذي يرزق ، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف ، ويقول : لا أملك لك أن أعطيك. قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ، ويتاماهم ، ومساكينهم من الوصية ، فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث. قال النحاس : فهذا أحسن ما قيل في الآية ، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير ، والشكر لله عزوجل. وقالت طائفة : هذا الرضخ واجب على جهة الفرض ، تعطى الورثة لهذه الأوصاف ما طابت به نفوسهم ، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب.

وقال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٤٤) : وأخرج سعيد بن منصور عن يحيى بن يعمر قال : ثلاث آيات مدنيات محكمات ضيعهن كثير من الناس : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) [النساء : ٨] ، وآية الاستئذان ، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ، وقوله : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، الآية. وقد ذكر هنا كثير من المفسرين آثارا عن بعض السلف بأن هذه الآية منسوخة بآية الميراث. وهي من الضعف بمكان. ولقد أبعد القائل بالنسخ عن فهم سر الآية فيما ندبت إليه من هذه المكرمة الجليلة. وهي إسعاف من ذكر من المال الموروث ، والنفس الأبية تنفر من أن تأخذ المال الجزل ، وذو الرحم حاضر محروم ، ولا يسعف ولا يساعد. فالآية بينة بنفسها ، واضحة في معناها وضوح الشمس في الظهيرة ، لا تنسخ أو تقوم الساعة.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ١٣) (٨٦٨٧) عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في الدر ٢ / ٢١٩ وزاد نسبته لابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه ، عن ابن عباس.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٨ / ١١) (٨٦٨٥) عن سعيد بن المسيب.

٣١

ويبرونهم بشيء ؛ وإن كانوا صغارا يقول الوصى : لهم (قَوْلاً مَعْرُوفاً) ، أي : يعد لهم عدة حسنة إلى وقت خروج الأنزال ، أو إلى وقت البيع إن باعوها.

ثم اختلف المتأولون فيها :

قال بعضهم : هي منسوخة.

وقال آخرون : هي محكمة ، وهو قول ابن عباس (١) ، رضي الله عنه.

ومن قال : هي منسوخة ، قال : نسختها (٢) آية المواريث : قوله ـ عزوجل ـ : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ...) الآية ؛ لأنهم كانوا يوصون الأولاد والآباء والأمهات ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ...) الآية [البقرة : ١٨٠] فنسخت آية المواريث وصية الموصي.

ومن قال : هي محكمة متقنة ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ومجاهد وغيرهم ؛ لأنه المعروف والبر والإحسان ، وذلك مما لا يحتمل النسخ.

وقيل : إن عبد الله بن عبد الرحمن (٣) قسم ميراث أبيه ، وعائشة حية ، فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا قسم له من ميراث أبيه ، وتلا هذه الآية : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ...) الآية (٤) ، فذكر ذلك لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فقال : ما أصاب ، ليس ذلك له ؛ إنما ذلك في الوصية ، يريد الميت أن يوصى لهم (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

قيل : إذا كان المال كثيرا ـ رضخ وأعطى لهم شيئا ، وإذا كان قليلا اعتذر إليهم ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه (٦).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٧) (٨٦٥٨) (٨٦٥٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٨) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس.

(٢) في ب : نسخها.

(٣) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، روى عن أبيه وخالته أسماء وأم سلمة ، وروى عنه ابنه طلحة ، وزيد بن عبد الله بن عمر ، وهو مقل.

تنظر ترجمته في : الخلاصة للخزرجي (٢ / ٧٢) ، تقريب التهذيب ترجمة (٣٤٤٧).

(٤) في ب : إلى آخره.

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ١٠) (٨٦٨١ ، ٨٦٨٢).

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٩) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن أبي مليكة : عن أسماء بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد ـ أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ... الحديث.

(٦) أخرجه ابن جرير (٨ / ١٦) (٨٧٠١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٨) وزاد في نسبته لأبي داود في ناسخه والحاكم وصححه من طريق عكرمة عن ابن عباس.

٣٢

وقيل : أمر من يرث أن يرضخ ويعطي لمن لا يرث شيئا ، وهو قول الحسن (١) ، ويقال لهم : (قَوْلاً مَعْرُوفاً).

والقول المعروف يحتمل ما ذكرنا : أن يعطى لهم إن كانوا كبارا ـ أعني : الورثة ـ ويعد لهم عدة إن كان المال ضياعا إلى وقت خروج الأنزال والغلات ، أو إلى وقت خروج الثمر ، أو يعطي الورثة إن كانوا كبارا ويعتذر إليهم الوصي إن كانوا صغارا.

وقوله ـ جل وعزّ ـ : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ)

قيل : هو الرجل يحضره الموت ، وله ولد صغار ، فيقول له آخر : أوص بكذا ، أو أعتق كذا ، أو افعل كذا ، ولو كان هو الميت لأحب أن يترك لولده ؛ فخوف هذا القائل بقوله : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) ، وأمر أن يقول له مثل ما يحب أن يقال له في ولده بالعدل بقوله ـ عزوجل ـ : (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه (٢).

وقيل : هو الرجل يحضره الموت ، فيقول له من يحضره : اتق الله ، وأمسك عليك لولدك الصغار والضعفاء ، ليس أحد أحق بمالك منهم ، ولا توص [من مالك](٣) شيئا. فنهي أن يقال له ذلك ؛ لما لو كان هو الموصي ، وله ورثة صغار ضعفاء ، أحبّ بألّا يقال له ذلك ؛ فكذلك لا يقول هو له (٤). والأول أشبه (٥).

وقوله : (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

قيل : عدلا ؛ يأمر أن يوصي بما عليه من الدّين والوصية ، ولا يجور في الوصية (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٤) رقم (٨٦٩٦) عن أبي العالية والحسن.

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ١٩) (٨٧٠٨) ، والبيهقي في السنن (٦ / ٢٧٠ ـ ٢٧١) ، وابن أبي حاتم في الدر (٢ / ٢٢٠).

(٣) في ب : بمالك.

(٤) قال بنحوه سعيد بن جبير ، أخرجه عنه الطبري (٨ / ٢١) (٨٧١٣ ، ٨٧١٤).

(٥) قال القرطبي (٥ / ٣٥) : هذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث ، وقد روي هذا عن سعيد بن جبير وابن المسيب.

قال ابن عطية : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ؛ بل الناس صنفان يصلح لأحدهما القول الواحد ، ولآخر : القول الثاني.

وقال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٤٧) : وفي الآية إشارة إلى إرشاد الآباء ، الذين يخشون ترك ذرية ضعاف ، بالتقوى في سائر شئونهم حتى تحفظ أبناؤهم ، وتغاث بالعناية منه تعالى. ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله تعالى. وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع. وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف. كما في آية : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) [الكهف : ٨٢] ، إلى آخرها. فإن الغلامين حفظا ، ببركة صلاح أبيهما ، في أنفسهما ومالهما.

(٦) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه عنه ابن أبي حاتم ؛ كما في الدر المنثور (٢ / ٢٢٠).

٣٣

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : نهي من حضر منهم مريضا عند الموت أن يأمره أن ينفق ماله في العتق والصدقة ، أو في سبيل الله ؛ ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين أو حق (١).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً)(٢)

أي : استحلالا ، فإذا استحل كفر ؛ فذلك الوعيد له.

وقيل : (ظُلْماً) : أي : غصبا.

والأكل : هو عبارة عن الأخذ ؛ كقوله : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [آل عمران : ١٣٠] إنما هو نهي عن أخذه ، وكذلك قوله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] ، وقوله : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٨] ـ إنما هو نهي عن قبض الربا ؛ فعلى ذلك الأكل ـ في هذه الآية ـ عبارة عن الأخذ والاستحلال.

ومن حمل الآية على الغصب (٣) جعل الوعيد عليه ، إلا أن يتوب ؛ إذ لله أن يعذب من

__________________

(١) أخرجه الطبري والبيهقي وابن أبي حاتم ، وقد مضى قريبا.

(٢) قال القرطبي (٥ / ٣٦) : روي أنها نزلت في رجل من غطفان يقال له : مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ فيه هذه الآية ، قاله مقاتل بن حيان ؛ ولهذا قال الجمهور : إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم. وقال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار. وسمي أخذ المال على كل وجوهه أكلا ؛ لما كان المقصود هو الأكل ، وبه أكثر إتلاف الأشياء. وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم ، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق. وسمي المأكول نارا بما يؤول إليه كقوله ـ تعالى ـ : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦] أي عنبا.

قال القاسمي (٥ / ٤٩) : روى أبو داود حديث (٢٨٧١) والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه ، من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل له الشيء من طعامه ، فيحبس له حتى يأكل أو يفسد. فاشتد عليهم ذلك. فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) [البقرة : ٢٢٠] الآية. فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه. وقد مضى ذلك في سورة البقرة.

قال الرازي ـ رحمه‌الله ـ : ومن الجهال من قال : صارت هذه الآية منسوخة بتلك. وهو بعيد. لأن هذه الآية في المنع من الظلم. وهذا لا يصير منسوخا. بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى ، إن كان على سبيل الظلم ، فهو من أعظم أبواب الإثم. كما في هذه الآية. وإن كان على سبيل التربية والإحسان ، فهو من أعظم أبواب البر ، كما في قوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة : ٢٢٠].

(٣) الغصب ـ : لغة ـ : مصدر «غصبه يغصبه» ـ بكسر الصاد ـ ويقال : اغتصبه ـ أيضا ـ وغصبه منه ، وغصبه عليه ـ بمعنى ، والشيء غصب ومغصوب ، وهو في اللغة : أخذ الشيء ظلما ، قاله الجوهري ، وابن سيده ، وغيرهما من أهل اللغة. انظر : المصباح المنير : (٢ / ٦١٣) ، الصحاح : (١ / ١٩٤) ، المطلع : (٢٧٤) المغرب : (٣٤٠).

واصطلاحا : عرفه أبو حنيفة وأبو يوسف بأنه : إزالة يد المالك عن ماله المتقوم ، على سبيل المجاهرة والمغالبة بفعل في المال. ـ

٣٤

شاء ممن ارتكب من عباده جرما ، كما جعل الوعيد على المستحل إلا أن يتوب.

وقيل : إنه على التمثيل أن الذي يأكل من مال اليتيم كأنه يأكل نارا ؛ لخبثه ولشدته.

وعن قتادة قال : ذكر لنا أن [رسول الله](١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم [كان](٢) يقول : «اتّقوا الله في الضّعيفين» ؛ قيل : ومن هما يا [رسول الله؟](٣) قال : «اليتيم والمرأة» ؛ فإن الله أيتمه وأوصى به ، وابتلاه وابتلى به (٤).

وقيل في قوله : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا) : للميت إذا جلس إليه (قَوْلاً سَدِيداً) ، أي : عدلا في وصيته ولا يجور ، ومن عدل في وصيته عند موته ، فكأنما وجه ماله في سبيل الله ؛ فقال (٥) سعد بن أبي وقاص (٦) : فسئل (٧) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كم يوصي الرجل من ماله؟ فقال : «الثّلث ، والثّلث كثير ، لأن تدع عيالك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكفّفون الناس». ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله ـ تعالى ـ تصدّق عليكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم عند وفاتكم» (٨).

__________________

ـ وقال محمد : الفعل في المال ليس بشرط لكونه غصبا.

وعرفه الشافعية بأنه : أخذ مال الغير ، على وجه التعدي.

وعرفه المالكية بأنه : أخذ مال غير منفعة ، ظلما قهرا لا بخوف قتال.

وعرفه الحنابلة بأنه : الاستيلاء على مال الغير ، بغير حق.

ينظر : بدائع الصنائع (٩ / ٤٤٠٣) ، تبيين الحقائق للزيلعي (٥ / ٢٢٢) ، مغني المحتاج (٢ / ٢٧٥) ، مواهب الجليل (٥ / ٢٧٤) ، حاشية الدسوقي (٣ / ٤٤٢) ، المغني (٥ / ٢٣٨) ، شرح منتهي الإرادات (٢ / ٣٩٩).

(١) في ب : نبي الله.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : نبي الله.

(٤) أخرجه عبد بن حميد ؛ كما في الدر المنثور (٢ / ٢٢٠).

(٥) في ب : فقام.

(٦) هو سعد بن مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن أبي وقاص ، الزهري القرشي ، أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وآخرهم موتا ، روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ، وكان أحد الفرسان ، وأول من رمى بسهم في سبيل الله ، مات سنة ٥١ ه‍. تنظر ترجمته في : الإصابة لابن حجر : ترجمة (٣٢٠٢) ، تذكرة الحفاظ (١ / ٤١) ، خلاصة الخزرجي (١ / ٣٧١).

(٧) في ب : فسأل.

(٨) هذا حديث من حديثين ، وسوف يذكر المصنف أنهما خبران بعد قليل فأما الحديث الأول : «الثلث والثلث كثير» فأخرجه مالك (٢ / ٧٦٣) كتاب الوصية : باب الوصية في الثلث ، حديث (٤) ، والبخاري (٣ / ١٦٤) كتاب الجنائز : باب رثاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعدا ، حديث (١٢٩٥) ، ومسلم (٣ / ١٢٥٠) كتاب الوصية : باب الوصية بالثلث ، حديث (٥ / ١٦٢٨) ، وأبو داود (٣ / ٢٤٨) كتاب الوصايا : باب ما لا يجوز للموصي في ماله ، حديث (٢٨٦٤) ، والترمذي (٤ / ٤٣٠) كتاب الوصايا : باب الوصية بالثلث ، حديث (٢١١٦) ، والنسائي (٦ / ٢٤١ ـ ٢٤٢) كتاب الوصايا : باب ـ

٣٥

قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(١١) (١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)

قيل : قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ) أي : يفرضكم الله (٢) ، وقد سمى الله ـ تعالى ـ الميراث

__________________

 ـ الوصية بالثلث ، وابن ماجه (٢ / ٩٠٣) كتاب الوصايا : باب الوصية بالثلث ، حديث (٢٧٠٨) ، وأحمد (١ / ١٧٩) ، والدارمي (٢ / ٤٠٧) كتاب الوصايا : باب الوصية بالثلث ، وأبو داود الطيالسي (١ / ٢٨٢ ـ منحة) رقم (١٤٣٣) وعبد الرزاق (٩ / ٦٤) رقم (١٦٣٥٧) ، والحميدي (١ / ٣٦) رقم (٦٦).

وأما الحديث الثاني وهو : «إن الله ـ تعالى ـ تصدّق عليكم بثلث أموالكم ؛ زيادة في أعمالكم عند وفاتكم» فأخرجه ابن ماجه (٢ / ٩٠٤) كتاب الوصايا : باب الوصية بالثلث ، حديث (٢٧٠٩) ، والبيهقي (٦ / ٢٦٩) كتاب الوصايا : باب الوصية بالثلث ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (١ / ٣٤٩) كلهم من طريق طلحة بن عمرو المكي عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم».

والحديث ذكره الحافظ في «التلخيص» (٣ / ٩١) وعزاه أيضا للبزار.

وقال البزار : لا نعلم رواه عن عطاء إلا طلحة بن عمرو ، وهو وإن روى عنه جماعة فليس بالقوى.

قال البوصيرى في الزوائد (٢ / ٣٦٦) : هذا إسناد ضعيف ؛ طلحة بن عمرو الحضرمي المكي ، ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة والبخاري وأبو داود والنسائي والبزار والعجلي والدارقطني وأبو أحمد الحاكم وغيرهم. أ. ه.

(١) قال القرطبي (٥ / ٤٠ ـ ٤١) : قال ابن المنذر : لما قال ـ تعالى ـ : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد المؤمن منهم والكافر ، فلما ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يرث المسلم الكافر» علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض ؛ فلا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم على ظاهر الحديث.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ : اعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب منها : الحلف والهجرة والمعاقدة ، ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) [النساء : ٣٣]. إن شاء الله تعالى. وأجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمّى أعطيه ، وكان ما بقى من المال للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ لقوله عليه‌السلام : «ألحقوا الفرائض بأهلها» رواه الأئمة. يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى. وهي ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس.

قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٥٥) : قال الحافظ ابن كثير : أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية.

(٢) قاله الزجاج ؛ كما في تفسير الفخر الرازي (٩ / ١٦٥).

٣٦

فريضة في غير آى من القرآن بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ) ثم قال : (نَصِيباً مَفْرُوضاً ...) [النساء : ٧] ، وقال ـ أيضا ـ في آخر هذه الآية : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) ، ولأنه شيء تولى الله إيجابه من غير اكتساب أهله ؛ فهو كالفرائض التي أوجبها الله على عباده من غير اكتساب أهلها ؛ فعلى ذلك سمى هذه فريضة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أوجبه ، والله أعلم.

وقيل : قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ، أي : يبين الله في أولادكم (١) ... إلى آخر ما ذكر.

وفيه نسخ الوصية للوالدين والأقربين في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠] ، ودليل نسخه ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله ـ تعالى ـ أعطى كلّ ذى حقّ حقّه ؛ فلا وصيّة للوارث» (٢).

ثم قيل : إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد والإناث [في الميراث](٣) ؛ وإنما كانوا يورثون الرجال ومن يحوز الغنيمة ؛ فنزل قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ ...) الآية [النساء : ٧] ؛ فالآية في بيان الحق للإناث في الميراث ، وكذلك قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فيه بيان حق الميراث للذكور والإناث جميعا (٤).

وقيل : تأويل هذه الآية ما بين في القرآن في ذوي الأرحام ، وإن كانوا مختلفين في سبب ذلك ، وإن الآيات التي بعدها من قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) إلى آخر الآيات

__________________

(١) ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٦ / ٢٠٨).

(٢) أخرجه أبو داود (٣ / ٢٩٠) كتاب الوصايا : باب الوصية للوارث ، حديث (٢٨٧٠) ، والترمذي (٤ / ٤٣٣) كتاب الوصايا : باب ولا وصية لوارث ، حديث (٢١٢٠) ، وابن ماجه (٢ / ٩٠٥) كتاب الوصايا : باب لا وصية لوارث ، حديث (٢٧١٣) ، وأحمد (٥ / ٢٦٧) ، والطيالسي (٢ / ١١٧ ـ منحة) رقم (٢٤٠٧) ، وسعيد بن منصور (٤٢٧) ، والدولابي في «الكنى» (١ / ٦٤) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (١ / ٢٢٧) ، والبيهقي (٦ / ٢٦٤) كتاب الوصايا : باب نسخ الوصية للوالدين ، كلهم من طريق إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة الباهلى ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع : «إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث».

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه ابن الجارود في «المنتقى» رقم (٩٤٩) من طريق الوليد بن مسلم قال : ثنا ابن جابر ، ثنا سليم بن عامر ، سمعت أبا أمامة ، فذكر الحديث.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٨٧٢٦) وابن أبي حاتم ؛ كما في الدر المنثور (٢ / ٢٢٢).

٣٧

التي فيها ذكر المواريث ـ فسر بها مبلغ النصيب الذي أوجبه الله للنساء والرجال في الآية الأولى مجملا ، وأجمعوا أن الرجل إذا مات وترك ولدا ذكورا وإناثا ؛ فالمال بينهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(١).

ويحتمل قوله : (فِي أَوْلادِكُمْ) ـ أولاد موتاكم ، وهذا جائز في اللغة ؛ لأنه لا يجوز أن يفرض على الرجل قسمة الميراث في أولاده وهو حي ؛ دلّ أنه أراد أولاد الموتى.

أو يحتمل ما ذكرنا أنهم كانوا لا يورثون الإناث من الأولاد والصغار منهم ؛ فخاطب الجملة بذلك ؛ لئلا يحرموا الإناث من الأولاد والصغار منهم.

وفي قوله ـ أيضا ـ : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ، أي : في أولاد من مات منكم ؛ إذ لا يحتمل خطاب الحي ما ذكر في ولده ؛ فهذا إن كان تأويل «يوصى» : يفرض أو يأمر.

وإن كان تأويل ذلك : يبيّن ، فذلك جائز أن يخبر الحي ما بيّن الله في أولاده بعد موته في ماله ، وذلك يمنع الوصية ؛ لأنه يزيل حق البيان ، ولما يمكن رفع القسمة وتحصيل الوصية على بعض لبعض ، وذلك بعيد ؛ إذ لا يملك في غيرهم.

ثم من الناس من رأي نسخ الوصية للوارث بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ...) الآية [النساء : ٧] ؛ لأن الآية أوجبت الميراث فيما قل أو كثر ، فلو كانت الوصية تجب للوالدين بقوله ـ تعالى ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ...) الآية [البقرة : ١٨٠] ، لكان الميراث لا يجب فيما قل منه ، وإنما يجب فيما يفضل منه ، لكن الآية إذا لم تمنع الوصية للأجنبي وهي تصرف السهم المفروض إلى ما يفضل من الوصية ؛ فمثله للوارث ، لكن في الآية دلالة على رفع الكتاب ؛ إذ في الأولى أنها كتبت ، فلما أوجب الحق في كل قليل وكثير لم يبق معه الفرض والوجوب ، ولكن يجب الفضل ، ثم كان حق الوالدين ومن ذكر بحق اللزوم ، وقد سقط ذلك ، وبه كان يجوز ، فلما سقط الحق جاء في الخبر أن «لا وصيّة للوارث» (٢).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ؛ فلا وصيّة للوارث» (٣) ؛ فسقط الحق بالآية من الوجه الذي ثبت ، والتنفل بقوله : «لا وصية ...».

فمن هذا الوجه الذي ذكرت يسقط حق الوصية بالقرآن ، لكن قد ذكر للمرأة لا بحرف الوجوب بقوله : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) [البقرة : ٢٤٠] ثم سقط ـ أيضا ـ بالخبر [الذي

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي (٩ / ١٦٥).

(٢) تقدم قريبا.

(٣) تقدم ، وانظر السابق.

٣٨

ذكرنا](١) ؛ إذ ليس في الآية ذكر المرأة بما ذكر فيها ميراث الأولاد والأقربين ، وقد بقى حق المتاع ؛ إذ له أن يوصى لغير الورثة ، لكن ذكر في ميراث المرأة وصية ، كقوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً) [البقرة : ٢٤٠] من الله ، والوصية منه مكتوبة على ما للوالدين والأقربين ، ثم أشرك الزوجين في ميراث الوالدين والأقربين مما (٢) قل أو كثر ، كقوله : «النصف» و «الربع» و «الثمن» مما ترك.

وقد بينا أن الآية نسخت ما ذكرت فصارت ناسخة للأمرين جميعا ، فهذا من جهة الاستخراج في حق النسخ.

على أنه على مذهبنا : السنة كافية في بيان نسخ الحكم [الذي](٣) بينه الكتاب (٤) ؛ إذ هو بيان منتهى الحكم من الوقت ، وقد جعل الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث البيان مما في القرآن.

وقوله ـ تعالى ـ : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] : فيه دلالة أن المال كله للذكر من الولد إذا لم يكن ثمّة (٥) أنثى ؛ لأنه جعل للذكر مثلي ما جعل للأنثى ، وجعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر ؛ بقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).

فدل أن للذكر من الولد إذا جعل له مثلى ما جعل للأنثى عند الجمع ، إنما جعل له ذلك بحق الكل ، ففي حال الانفراد له الكل.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ)

قال بعضهم : بين الحق لما فوق الثنتين ، ولم يبين للاثنتين ، ولهما النصف الذي ذكر للواحدة ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه (٦).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) في ب : فيما.

(٣) سقط من ب.

(٤) اختلف العلماء في جواز نسخ القرآن بالسنة : ووقوعه : فذهب جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة إلى جوازه ووقوعه ، وذهب مالك وأصحاب أبي حنيفة وابن جريج ـ إلى جوازه دون وقوعه ، وقطع الشافعي بالمنع مطلقا. ولكل فريق على مدّعاه أدلة.

ينظر في ذلك : البحر المحيط للزركشي (٤ / ١٠٩) ، البرهان لإمام الحرمين (٢ / ١٣٠٧) ، سلاسل الذهب للزركشي (٣٠٢) ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (٣ / ١٣٩) ، نهاية السول للإسنوي (٢ / ٥٧٨) ، منهاج العقول للبدخشي (٢ / ٢٥٢) ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري (٨٨) ، التحصيل من المحصول للأرموي (٢ / ٢٣) ، المنخول للغزالي (٢٩٢) ، المستصفى له (١٢٤).

(٥) في ب : ثم.

(٦) ذكره الفخر الرازي في تفسيره (٩ / ١٦٦).

٣٩

وأما عندنا : فإن للاثنتين ما للثلاث فصاعدا ؛ فيكون بيان الحق للثلاث بيانا للاثنتين ؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعل حق ميراث الواحدة من الأخوات : النصف ؛ بقوله : (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) [النساء : ١٧٦] ، كما جعل حق الابنة (١) النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ، ثم جعل للأختين الثلثين بقوله : (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) [النساء : ١٧٦] ، فإذا نزلت الأخوات منزلة البنات في استحقاق النصف إذا كانت واحدة ، واستحقاق الثلثين إذا كانتا اثنتين فصاعدا ؛ فعلى ذلك نزل بيان الحكم في الأختين منزلة بيان الحكم في الابنتين. قيل : يفوق اثنتين اثنتان فما فوقهما.

وقيل : بين (٢) الكتاب الاستواء [بين الابنة](٣) الواحدة والأخت الواحدة ؛ ليعلم استواء حق الولد وولد الأب ، ثم بين في الأخوات للثنتين الثلثان ، وفي البنات لما فوقهما ؛ ليكون الذكر في الأختين دليلا على الابنتين (٤) ، وفيما كثر من البنات على ما كثر من الأخوات ، وأيّد ذلك أمر الاجتماع بين البنتين والبنات ـ وإن كثروا ـ بالإخوة والأخوات ـ وإن كثروا ـ مع ما كان معلوما أن بنات الرجل أحق من بنات أبيه ؛ أيّد ذلك أن بنات ابنه قد يرثن ، وبنات ابن أبيه لا ؛ فلا يجوز أن تكون الأختان أكثر حقا من الابنتين.

وفي الأغلب أن يجعل (٥) لهن ميراث هؤلاء ، وأيد ذلك أنه ما دام يوجد في الأولاد من له فرض أو فضل ـ لم يصرف إلى أولاد الأب ؛ ثبت أنهم بمعنى الخلف من هؤلاء ، وعلى ما ذكرت جاءت الآثار ، واجتمع عليه أهل الفتوى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ)

اختلف فيه :

قال بعضهم : أراد بالولد الذكور خاصة ؛ لأنه جعل للأبوين لكلّ واحد منهما السدس إذا كان الولد ذكرا ، أما إذا كان الولد أنثى فللأب يكون الثلث.

وأمّا عندنا : فإن اسم الولد يجمع الذكور والإناث جميعا.

وبعد : فإنه إن كان الولد ـ هاهنا ـ ذكرا وأنثى ؛ فينظر :

__________________

(١) في ب : البنت.

(٢) في ب : يبين.

(٣) في ب : من البنت.

(٤) في ب : الاثنتين.

(٥) في ب : جعل.

٤٠