تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

موضعه ، وهم وضعوا أنفسهم في غير موضعها ، فإذا لم يعرفوا أنفسهم لم يعرفوا خالقها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ)

أي : جاءوك مسلمين ، تائبين عن التحاكم إلى غيرك ، راضين بقضائك ، نادمين على ما كان منهم ، (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) أي : تشفع (١) لهم الرسول ، (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٢) أي : قابلا لتوبتهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ).

قيل : قوله : (فَلا) صلة ، وكذلك في كل قسم أقسم به ؛ كقوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١] (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة : ١] ونحوه ، كله صلة ، كأنه قال : أقسم وربك لا يؤمنون.

وقيل : قوله : (فَلا وَرَبِّكَ) ليس هو على الصلة ، ولكن يقال ذلك على نفي ما تقدم من الكلام وإنكاره ؛ كقول الرجل : لا والله ، هو ابتداء الكلام ، ولكن على نفي ما تقدم من الكلام ، فعلى ذلك هذا.

وفيه دلالة تفضيل [رسولنا](٣) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غيره من البشر ؛ لأن الإضافة إذا خرجت إلى واحد تخرج مخرج التعظيم لذلك الواحد ، والتخصيص له ، وإذا كانت إلى

__________________

(١) في ب : يشفع.

(٢) قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣) : الأول : دلت الآية على أن توبة المنافق مقبولة عند الله وفاقا ، وأما في الظاهر فظاهر الآية قبولها ؛ لأنه جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستغفرا لهم وشافعا ، وعن الراضي بالله في الباطنية : إن أظهروا شبههم وما يعتادون كتمه ، دل ذلك على صدق توبتهم ، فيقبل وإلا فلا ، ودلت الآية على أن من تكررت منه المعصية والتوبة صحت توبته لقوله ـ تعالى ـ : تَوَّاباً وذلك ينبئ عن التكرار ، كذا في بعض التفاسير.

الثاني : قال الرازي : لقائل أن يقول : أليس لو استغفروا الله ، وتابوا على وجه صحيح ، لكانت توبتهم مقبولة؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم : قلنا : الجواب عنه من وجوه :

الأول : أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله ، وكان أيضا إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره ، فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم.

الثاني : إن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ، ظهر منهم ذلك التمرد ، فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد ، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويطلبوا منه الاستغفار.

الثالث : لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتوا بها على وجه الخلل ، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول ، انتهى.

أقول : وثمة وجه رابع : وهو التنويه بشأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن طاعته طاعته تعالى ، فرضاه رضاه وسخطه سخطه.

(٣) سقط من ب.

٢٤١

جماعة تعظيما له ؛ كقوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجن : ١٨] ، وقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٦] ، ونحوه.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكما وإن لم يحكموه ، ليس معناه ـ والله أعلم ـ : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي : حتى يرضوا بحكمك [وقضائك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ)

أي : اختلفوا بينهم وتنازعوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لا يَجِدُوا (١) فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ)

قيل ضيقا (٢).

وقيل : شكّا مما قضيت بينهم أنه حق (٣).

وقيل : إثما (٤).

ثم في الآية دلالة أن الإيمان يكون بالقلب ؛ لأنه قال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي : في قلوبهم ؛ ألا ترى أنه قال الله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] ذكر ضيق الصدر ، وذكر ضيق الأنفس ، وهو واحد ؛ ألا ترى أنه قال [الله ـ عزوجل ـ](٥) في آية أخرى : (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة : ٤١] فهذه الآيات ترد على الكرامية (٦) قولهم [؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال : (لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) وهم يقولون : بل يؤمنون](٧) ، فيقال لهم : أنتم أعلم أم الله؟!.

ثم قيل : إن الآية نزلت في اليهودي والمنافق اللذين (٨) تنازعا ، فتحاكما إلى الطاغوت (٩).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) ذكره أبو حبان في تفسيره (٣ / ٢٩٧).

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥١٨ ـ ٥١٩) (٩٩٠٨ ـ ٩٩١٠) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٣) وزاد نسبته لابن المنذر وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد بن جبر.

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥١٩) (٩٩١١) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٣) وعزاه لابن المنذر.

(٥) سقط من ب.

(٦) الكرامية : فرقة من فرق الخوارج تنسب لابن كرام. ينظر : نشر الطوالع ص (٣٩٠).

(٧) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٨) في ب : التي.

(٩) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٢٣ ـ ٥٢٤) (٩٩١٥ ، ٩٩١٦) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدرر (٢ / ـ

٢٤٢

وقيل : نزلت في شأن رجل من الأنصار والزبير بن العوام كان بينهما تشاجر في الماء ، فارتفعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال للزبير : «اسق ، ثمّ أرسل الماء إلى جارك» ، فغضب ذلك الرجل ؛ فنزلت الآية (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية (١).

ولا ندري كيف كانت القصّة؟ وفيم كانت؟.

ثم روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الأخبار أنه قال : «لا يؤمن أحد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه ، وأهله ، وولده ، وماله ، والنّاس جميعا» (٢).

وقيل في قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي : في قلوبهم (حَرَجاً) أي : شكّا (٣)(مِمَّا قَضَيْتَ) أنه هو الحق (وَيُسَلِّمُوا) لقضائك لهم وعليهم (تَسْلِيماً)(٤).

وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) قيل : تأويله : أنه ما أرسل رسولا في الأمم السالفة إلا ليطيعوه ، فكيف تركتم أنتم طاعة الرسول الذي أرسل إليكم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) ما أرسل الله رسولا إلا وقد أمرهم أن يطيعوه ، لكن منهم من قد أطاعه ، ومنهم من لم يطع.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ

__________________

 ـ ٣٢٢) ، وزاد نسبته لابن المنذر.

(١) أخرجه البخاري (٥ / ٦٥٠ ـ ٦٥١) كتاب الصلح : باب إذا أشار الإمام بالصلح ، فأبي ـ حكم عليه بالحكم البين (٢٧٠٨) ، عن عروة بن الزبير (٥ / ٣٠٧) في كتاب المساقاة : باب سكر الأنهار (٢٣٥٩ ، ٢٣٦٠) ، ومسلم (٤ / ١٨٢٩) كتاب الفضائل باب وجوب اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٢٩ / ٢٣٥٧) عن عبد الله بن الزبير.

(٢) أخرجه البخاري (١ / ٧٤ ـ ٧٥) كتاب الإيمان : باب حب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإيمان (١٤) ، ومسلم (١ / ٦٧) كتاب الإيمان : باب وجوب محبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».

(٣) تقدم.

(٤) قال القاسمي (٥ / ٢٨٩) : قال النووي : فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق ، وأنه يجوز هجرانهم دائما ، فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام إنما هو في هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا ، وأما هجر أهل البدع ، فيجوز على الدوام ، كما يدل عليه هذا مع نظائر له ، لحديث كعب بن مالك.

وقال أيضا (٥ / ٢٩١) : وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (فتوى له) قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله ـ تعالى ـ افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله ، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه ، في كل ما أمر به ونهى عنه ، إلا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى كان صدّيق الأمة وأفضلها بعد نبيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنه يقول : أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ، واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه ، وذلك هو الواجب.

٢٤٣

مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً)(٧٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ...) الآية.

قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ : لو كانت (١) علينا نزلت يا رسول الله ، لبدأت بنفسي وأهل بيتي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذاك لفضل يقينك على يقين النّاس ، وإيمانك على إيمان النّاس» (٢).

وعن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال رجل من الأنصار : والله ، لو كانت (٣) علينا لقتلنا أنفسنا ، فقال [النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٤) : «والّذي نفس محمّد بيده للإيمان أثبت فى صدور الرّجال من الأنصار من الجبال الرّواسي» (٥).

وقيل : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ...) الآية : هم يهود [يعني العرب](٦) كما أمر أصحاب موسى ، عليه‌السلام (٧).

وقيل : قال عمر ـ رضي الله عنه ـ ونفر معه : والله لو فعل ربنا لفعلنا ، فالحمد لله الذي لم يجعل بنا ذلك ، فقال [رسول الله](٨) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للإيمان أثبت فى قلوب المؤمنين من الجبال الرّواسى» (٩).

__________________

(١) في ب : كان.

(٢) ذكره بمعناه السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٤) وعزاه لابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، وذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٢٩٧).

(٣) في ب : كتب.

(٤) في ب : عليه‌السلام.

(٥) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٤) بلفظ «للإيمان أثبت ...» الحديث ، وعزاه لابن أبي حاتم عن طريق هشام عن الحسن البصري مرسلا.

(٦) كذا بالأصل ، وفي الدر المنثور : يعني والعرب قال الشيخ محمود شاكر : «هم يهود يعني والعرب» ومثلها في الدر المنثور ، وهو تصرف من السيوطي ، وتبعه الناشر الأول ، وذلك أنه شك في معنى «أو كلمة تشبهها» فحذفها ، وزاد في أول الكلام «هم» ولكن قوله : «أو كلمة تشبهها» أي تشبه «يعني» في معناها ، كقولك «يريد» أو «أراد».

(٧) أخرجه الطبري (٨ / ٥٢٥ ـ ٥٢٦) ، رقم (٩٩١٨) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٣٢٣).

(٨) في ب : النبي.

(٩) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٢٦) رقم (٩٢٢١) عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا بنحوه.

٢٤٤

ثم اختلف في قتل الأنفس :

قال بعضهم : هو أن يقتل كلّ نفسه.

وقال آخرون : هو أن يأمر أن يقتل بعض بعضا ، وأما قتل كلّ نفسه فإنه لا يحتمل لوجهين :

أحدهما : وذلك أنه عبادة شديدة مما لا يحتمل (١) أحد ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] أخبر أنه لا يكلف ما لا طاقة له.

والثاني : أن فيه قطع النسل وحصول الخلق للإفناء خاصة ، وذلك مما لا حكمة في خلق الخلق للإفناء خاصة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) ، قيل : هو عبد الله بن مسعود ، وعمار (٢) ، وفلان ، وفلان ـ رضي الله عنهم ـ ولا تدري أيصح أم لا؟ ولو كان قوله ـ تعالى ـ : (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(٣) قتل بعض بعضا فذلك ما (٤) أمروا به بمجاهدة العدو ، والإخراج من المنزل ، والهجرة ، ثم أخبر أنهم لا يفعلون ذلك إلا قليل منهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) يحتمل هذا وجهين :

لو فعلوا ما يؤمرون به من الإسلام والطاعة لكان خيرا لهم من ذلك.

ويحتمل : لو أنهم فعلوا ما يؤمرون به من القتل لو كتب عليهم ، لكان خيرا لهم في الآخرة ، (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) قيل : حقيقة.

وقيل : تحقيقا في الدنيا.

وقيل : ما يوعظون به من القرآن

(لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) في دينهم

(وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) يعني : تصديقا بأمر الله (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) يحتمل وجهين :

__________________

(١) في ب : يتحمل.

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٤) وعزاه لابن المنذر عن عكرمة.

(٣) قال القاسمي (٥ / ٢٩٥) : قال بعض المفسرين : أراد حقيقة القتل والخروج من الديار ، وقيل : أراد التعرض للقتل والجهاد ، وأراد الهجرة بالخروج من الديار ، والمعنى : لو أمر المنافقون كما أمر المؤمنون ما فعلوه. ا ه. والقول الثاني بعيد ؛ لأنه لا يعدل عن الحقيقة إلا لضرورة ، ولمنافاته للآثار المذكورة الصريحة في الأول.

(٤) في ب : مما.

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٢٩) (٩٩٢٢) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن السدي.

٢٤٥

الأجر العظيم في الآخرة.

ويحتمل : في الدنيا ؛ كقوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) [الليل : ٧].

وقوله : (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ، فهو الهادى للعباد إلى الطريق المستقيم.

وقيل : تثبيتا لهم في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ...)(١) الآية.

قيل في بعض القصة : إن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبكى ، ثم قال : والذي لا إله غيره لأنت أحبّ إلىّ من نفسى وولدي وأهلي ، وإني لأذكرك ، فلو لا أني أجىء فأنظر إليك ، لرأيت أني سأموت ، وذكرت موتي وموتك ، ومنزلتك في (٢) الجنة ترفع مع (٣) النبيين ، فإني وإن أدخلت (٤) الجنة كنت دون ذلك ، وذكرت فراقي إياك عند الموت ، فبكيت (٥) لذلك. فما أجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ...) [الآية](٦) ، فقال [رسول الله](٧) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [«أبشر يا أبا فلان ، أنت معي في الجنّة ، إن شاء الله» (٨) وروي](٩) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج ذات يوم على بعض أصحابه ، فرأي بوجوههم (١٠) كآبة

__________________

(١) قال القاسمي (٥ / ٢٩٨) : الأول : قال الرازي : ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين ... إلخ ـ كون الكل في درجة واحدة ، لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول ، وأنه لا يجوز ؛ بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإن بعد المكان ، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا ، وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه ، فهذا هو المراد من هذه المعية.

والثاني : دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف ، وهو كون الإنسان صديقا ، ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة.

(٢) في ب : من.

(٣) في ب : من.

(٤) في ب : دخلت.

(٥) في ب : فبكت.

(٦) سقط من ب.

(٧) في ب : النبي.

(٨) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٣٤) (٩٩٢٤) عن سعيد بن جبير ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥) ، وزاد نسبته للطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة ، وحسّنه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ وللطبراني وابن مردويه من طريق الشعبي عن ابن عباس ، ولسعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي.

(٩) بدل ما بين المعقوفين في ب : ادعوا لى فلانا ، فقال : له أبشر ، ثم قرأ عليه هذه الآية ، وقيل.

(١٠) في ب : وجوههم.

٢٤٦

وجزعا (١) ، قال : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لكم؟ وما غيّر وجوهكم ولونكم؟» فقالوا : يا رسول الله ، ما بنا من مرض ولا وجع ، غير أنا إذا لم نرك ولم نلقك اشتقنا إليك ، واستوحشنا وحشة شديدة حتى نلقاك ، فهذا الذي ترى من أجل ذلك ، ونذكر الآخرة فنخاف ألا نراك هناك ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ...)(٢) الآية.

ويحتمل : أن لم يكن في واحد من ذلك ، ولكن في وجوه آخر.

أحدها : أن اليهود ، وغيرهم من الكفرة ، والذين آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفرطوا في تعنتهم وتمردهم في ترك إجابتهم إياه ، وطاعتهم له ـ ظنوا أنهم وإن أسلموا وأطاعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقبل ذلك منهم توبتهم ، ولم ينزلوا منزلة من لم يؤذه ، ولم يترك طاعته ، فأخبر ـ عزوجل ـ : أنه إذا أطاع الله والرسول فيكون : (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) كأن (٣) لم يترك طاعته أبدا ـ والله أعلم ـ كما قال ـ تعالى ـ : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

ويحتمل : أن يكون ذلك لما سمعوا أن لكل أحد في الجنة مثل الدنيا فظنوا ألا يكون لهم الاجتماع والالتقاء ؛ لبعد بعضهم من بعض ، فأخبر ـ عزوجل ـ أن يكون لهم الاجتماع ؛ لأن ذلك لهم في الدنيا من أعظم النعم وأجلها.

ويحتمل : أن يكون على الابتداء : أن من أطاع الله ـ تعالى ـ والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ [مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ)(٤)] في دار واحدة ، لا يكونون في غيرها ؛ فهذه الوجوه كأنها أشبه ـ والله أعلم ـ إذ هم بالطاعة أجابوا ، والله أعلم.

ثم اختلف في (وَالصِّدِّيقِينَ)(٥) ؛ قال بعضهم : أتباع الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ

__________________

(١) في ب : وحزنا.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : كأنه.

(٤) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٥) قال القاسمي (٥ / ٢٩٧ ـ ٢٩٨) : قال الرازي : للمفسرين في الصديق وجوه : الأول : أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق ، والدليل عليه قوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩].

الثاني : قال قوم : الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

الثالث : أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فصار في ذلك قدوة لسائر الناس ، وإذا كان الأمر كذلك ، كان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أولى الخلق بهذا الوصف ، ثم جود الرازي الكلام في سبقه ـ رضي الله عنه ـ إلى التصديق ، وفي كونه صار قدوة للناس في ذلك. فانظره.

٢٤٧

وخلفاؤهم في كل أمر من التعليم ، والدعاء لهم إلى كل خير وطاعة.

وقيل : الصديق : هو الذي يصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول دعوة دعاه إلى دين الله ـ تعالى ـ وفي أول ما عاينه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالشُّهَداءِ) قيل : الشهيد : الذي قتل في سبيل الله (١).

وقيل : الشهيد : هو القائم بدينه (٢).

وقيل : الصديقون والشهداء والصالحون كله واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) دلت الآية على أن الجزاء إفضال من الله ـ تعالى ـ إذ قد سبق من عنده الإنعام والإفضال عليهم ؛ فيخرج طاعتهم له مخرج الشكر له ، لا أن عليه ذلك وأن الجنة لا يدخل فيها إلا برحمته وفضله.

وقوله : ـ أيضا ـ (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) أي : ذلك الإنعام الذي أنعم عليهم فضل من الله.

ويحتمل قوله : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) أي : ما أحسن من الرفقة بينهم ؛ فذلك فضل منه.

والآية ترد على أصحاب الأصلح ؛ لأن تلك الأفعال إنما صارت قربة لله بإنعام من الله وإفضاله وتوفيقه ، وبه استوجبوا الثواب.

وقوله ـ تعالى أيضا ـ : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) بعد العلم بأن الفضل هو بذل ما لم يكن عليه ، وبذل ما عليه هو الوفاء ، لا الفضل في متعارف اللسان والمعتاد.

ثم لا يخلو من أن يرجع منه إلى الخيرات التي اكتسبوها ؛ فيبطل به قول المعتزلة بما لا يخلو من أن كان منه ذلك الفضل (٣) أو مثله إلى الكافر أولى ، فإن كان منه لم يكن للامتنان منه بالذي كان منه وجه يستحقه ، وقد كان منه إلى غيره ، فلم ينل تلك الدرجة ، ولا بلغ تلك الرتبة ؛ فبان أنه لا بذلك بلغ من بلغ ، فيكون منه فيما لم يكن.

وأيضا : إنه لو لم يكن معه ذلك عنهم لم يكن البذل فضلا لما ذكرت ؛ ثبت أن ليس الحق عليه كل ما به الأصلح في الدين ؛ لما يزيل معنى الفضل ، وإن لم يكن إعطاء الكافر مثله فهو عندهم محاباة منه على المؤمن ، وقد منع ما عليه في الأصلح ، وذلك عندهم بخل ، جل الله عما وصفوه.

__________________

(١) ينظر تفسير ابن جرير (٨ / ٥٣٢) ، وتفسير الرازي (١٠ / ١٣٩) ، واللباب (٦ / ٤٧٩).

(٢) ينظر الرازي (١٠ / ١٣٩) ، اللباب (٦ / ٤٨٠).

(٣) في ب : الفعل.

٢٤٨

وإن كان ذلك في الثواب دل أن له أن يثيب حتى يصير ما أثاب عليه فضلا ، ولا يحتمل ألا يرضى بطاعة العبد واتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فثبت أن الرضا ليس هو المراد ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) قيل : عليما بالآخرة وثوابها.

وقيل : (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بما وعد من الخير في الآخرة لهؤلاء الأصناف.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : الصديقون هم [الذين أدركوا الرسل ـ عليهم‌السلام ـ وصدقوهم.

وعن أبي ذر (١) ـ رضي الله عنه ـ قال : الصديقون هم المؤمنون.

وقيل الصديقون](٢) : السابقون ، الذين سبقوا إلى تصديق النبيين (٣) ، أنعم الله عليهم بالتصديق ، والشهداء : هم الذين أنعم الله عليهم بالشهادة.

والصالحون : هم المؤمنون أهل الجنة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً)(٧٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)

قيل : خذوا عدتكم من السلاح (٤).

وقيل : قوله : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) من جميع ما يحترز به العدو (٥) ؛ كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ...) الآية [الأنفال : ٦٠] ، وكقوله ـ

__________________

(١) هو أبو ذر جندب ـ بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة ، وبفتحها أيضا ـ ابن جنادة ـ بضم الجيم وفتح النون المخففة ، ويقال : جندب بن السكن ـ بفتح السين والكاف ـ ابن كعب بن سفيان بن عبيد بن حرام ـ بفتح الراء ، ويقال : عبيد بن الوقيعة بن حرام بن غفار ، الغفاري.

وهو من أعلام الصحابة وزهادهم والمهاجرين ، وهو أول من حيا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحية الإسلام.

سكن الربذة إلى أن مات بها سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ وصلى عليه ابن مسعود.

ينظر : أسد الغابة (٦ / ٩٩) ، سير أعلام النبلاء (٢ / ٣١) ، المعارف (٢٥٢).

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٣) ينظر تفسير ابن جرير (٨ / ٥٣٠) ، الرازي في تفسيره (١٠ / ١٣٨) ، البحر المحيط (٣ / ٣٠٠).

(٤) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٦) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان ، والرازي في تفسيره (١٠ / ١٤١).

(٥) انظر تفسير ابن جرير (٨ / ٥٣٦) نحو هذا المعنى ، والرازي في تفسيره (١٠ / ١٤١).

٢٤٩

تعالى ـ : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) [التوبة : ٤٦] أمر الله ـ عزوجل ـ بالاستعداد (١) للعدو ، والإعداد له ، وألا يوكل الأمر في ذلك إلى الله دون الإعداد للعدو.

وقيل : لقاؤه ، وإن كان يقدر [على](٢) نصر أوليائه وقهر عدوه من غير الأمر بالقتال معهم ؛ إذ في ذلك محنة امتحنهم بها ؛ فعلى ذلك أمرهم بالإعداد للعدو ، وأخذ الحذر لهم ، وذلك أسباب تعد قبل لقائهم إياه.

وفيه دلالة تعلم آداب الحرب قبل لقاء العدو ؛ ليحترس منه.

وفيه دلالة إباحة الكسب ؛ لأنه فرض عليهم الجهاد ، وأمر بالإعداد له ؛ ليحترس من العدو ، ولا يوصل إلى ذلك إلا بالكسب ، والله أعلم.

وفي قوله ـ أيضا ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي : ما تحذرون به عدوكم ، وما تحذرونه وجوه : منها : الأسلحة ، ومنها : البنيان ، ومنها : النّكر (٣) عند الالتقاء ، والثبات ، وذكر الله ـ عزوجل ـ كما قال : (فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) [الأنفال : ٤٥]

وفي هذا الأمر بالإعداد للعدو قبل اللقاء ، وأيد ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) [التوبة : ٤٦] ، وكذلك قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال : ٦٠] فيكون الأمر بالإعداد قبل وقت الحاجة دليل جواز الكسب لحاجات تجددت (٤) ، وأن الاستعداد للحاجات ليس برغبة في الدنيا ؛ إذ لم يكن الإعداد فشل ولا ترك التوكل ، على أن الجوع وحاجات النفس تعين وتلقى العدو ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً)(٥) قيل : الثبات : هو السرايا (٦)(أَوِ

__________________

(١) في ب : بالاعتداد.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : النكار.

(٤) في ب : تحدث.

(٥) قال القاسمي (٥ / ٣٠٤) : قال في الإكليل : فيه الأمر باتخاذ السلاح ، وأنه لا ينافي التوكل ، قال بعض المفسرين : دلت الآية على وجوب الجهاد ، وعلى استعمال الحذر ، وهو الحزم من العدو ، وترك التفريط ، وكذلك ما يحذرونه وهو استعمال السلاح على أحد التفسيرين فتكون الرياضة بالمسابقة والرهان في الخيل ، من أعمال الجهاد فَانْفِرُوا [النساء : ٧١] أي : اخرجوا إلى الجهاد. ثُباتٍ [النساء : ٧١] جمع «ثبة» بمعنى الجماعة.

قال القرطبي (٥ / ١٧٨) : ذكر ابن خويزمنداد : وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله ـ تعالى ـ : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] وبقوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ)[التوبة : ٣٩] ؛ ولأن يكون (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) منسوخا بقوله : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً)[النساء : ٧١] وبقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)[التوبة : ١٢٢] أولى ؛ لأن فرض الجهاد تقرر على الكفاية ، فمتى سد الثغور بعض المسلمين أسقط الفرض عن الباقين ، والصحيح أن الآيتين ـ

٢٥٠

انْفِرُوا جَمِيعاً) يعني : عسكرا.

وقيل : (ثُباتٍ) يعني : فرقا (١) ، (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) : مجموعا.

وقيل : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) أي : عصبا (٢) ، (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : زحفا.

وقيل الثبات : الأثبات ، والثبة في كلام العرب الجمع الكثير ، ومعناه : انفروا كثيرا أو (٣) قليلا ، وفي ذلك دلالة الأمر بالخروج إلى العدو فرادى وجماعة ، وفرقا وجماعة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) أي : إذا استنفرتم فانفروا ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) ومعلوم أن عليهم الدفع ، فيحتمل أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (انْفِرُوا) إذا أزّوا ؛ أي : على ما استنفرتم من جميع أو بعض ؛ فيكون في ذلك دلالة قيام البعض عن الكل على غير الإشارة إلى ذلك ، وقد يجب فرض في مجهول على كل القيام حتى يعلم الكفاية [بمن خرج ، وهو كفرائض](٤) تعرف لا تعرف بعينها ، أو حرمات تظهر لا يعرف المحرم بعينه ، فعلى من حرم عليه الإيفاء (٥) والقيام بجميع الفرائض ؛ ليخرج عما عليه ، ثم إذا غلب عليهم في التدبير الكفاية بمن خرج سقط عن الباقين ، ولو لم يكن يسقط (٦) لم يكن للإمام استنفار البعض ؛ يدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ...) الآية [التوبة : ١٢٢] ، وقوله ـ تعالى ـ : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] وأصله أنه فرض لعله لا يجوز بقاؤه (٧) ، وقد زالت العلة ، على أن خروج الجميع (٨) من جهة إبداء للعورة من

__________________

 ـ جميعا محكمتان ، إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعين الجميع ، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها.

(٦) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٣٧) (٩٩٢٩) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٦) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٣٧) (٩٩٣٠) عن مجاهد و (٩٩٣١ ، ٩٩٣٢) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد عن مجاهد.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٣٧) (٩٩٣٣) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٧) وزاد نسبته لأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عباس ولابن أبي حاتم عن السدي.

(٣) في أ : و.

(٤) في ب : ممن خرج وهذا كفرائض.

(٥) في ب : الإبقاء.

(٦) في ب : سقط.

(٧) في أ : نفاده.

(٨) في ب : الجمع.

٢٥١

جهات ؛ فلذلك لم يحتمل تكليفه (١) بخروج الجميع من جهة استنفر منها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) قوله : (مِنْكُمْ) يحتمل وجوها :

يحتمل : في الظاهر منكم.

ويحتمل : في الحكم منكم.

ويحتمل : في الدعوى ؛ لأنهم كانوا يدعون أنهم منا ، ويظهرون الموافقة للمؤمنين ، وإن كانوا ـ في الحقيقة ـ لم يكونوا.

وقوله ـ تعالى ـ (لَيُبَطِّئَنَ) قيل : إن المنافقين كانوا يبطئون الناس عن الجهاد ويتخلفون (٢) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) [الأحزاب : ١٨] كانوا يسرون ذلك ويضمرونه ، فأطلع الله ـ عزوجل ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى.

وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ...) على التقديم والتأخير [يسرّ ويفرح](٣) إذا أصابتكم (٤) مصيبة كأن لم يكن بينكم وبينه مودة ؛ لأن [كل](٥) من كان بينه وبين آخر مودة إذا أصابته نكبة يحزن عليه ويتألم ، فأخبر الله ـ عزوجل ـ أن هؤلاء المنافقين إذا أصابت المؤمنين نكبة يسرون بذلك ولا يحزنون ، كأن لم يكن بينهم مودة ولا صحبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) يعني : الغنيمة (٦) والفتح (٧) ،

__________________

(١) في ب : تكليف.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٣٩) (٩٩٣٨) عن ابن جريج ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٧) ، وزاد نسبته لابن المنذر.

(٣) في ب : يفرح بذلك.

(٤) في الأصول : أصابتهم.

(٥) سقط من ب.

(٦) الغنيمة ـ في اللغة ـ : ما ينال الرجل أو الجماعة بسعى ، ومن ذلك قول الشاعر :

وقد طوفت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

وتطلق الغنيمة على الفوز بالشيء بلا مشقة ، ومنه قولهم للشيء يحصل عليه الإنسان عفوا بلا مشقة «غنيمة باردة».

واصطلاحا :

عرفها الشافعية : بأنها مال أو ما ألحق به : كخمر محترمة ، حصل لنا من كفار أصليين حربيين مما ـ

٢٥٢

[يقولون :](١)(يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) أي : يأخذ من الغنيمة نصيبا وافرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) هذا قول المكذب الشامت (٢) : (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ ...) الآية ، هو قول الحاسد ؛ وهو قول قتادة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) يعنى : ليتخلفن عن النفير : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) يعنى : شدة وبلاء من العيش والعدو (٣) ، (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) فيصيبنى ما أصابهم : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) دل أن فرض الجهاد فرض كفاية (٤)

__________________

 ـ هو لهم ، بقتال منا أو إيجاف خيل ، أو نحو ذلك.

وعرفها الحنفية : بما نيل من أهل الشرك عنوة ، أي : قهرا أو غلبة ، والحرب قائمة.

وعرفها المالكية : بما أخذه المسلمون من الكفار بإيجاف الخيل أو الركاب.

وعرفها الحنابلة : ما أخذ من مال حربي قهرا بقتال ، وما ألحق به.

ينظر : الإقناع للخطيب (٢ / ٥١٧) ، أنيس الفقهاء (١٨٣) ، وكشاف القناع (٣ / ٧٧.

(٧) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٧) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٣٩) (٩٩٣٧ ، ٩٩٤٠) (٩٩٣٨ ، ٩٩٤١) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة وابن المنذر عن ابن جريج.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٧) وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر عن مقاتل ابن حيان.

(٤) عرض الفقهاء لحكم الجهاد في الإسلام فقال ابن حجر : ذكر أبو الحسن الماوردى أنه كان فرض عين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المهاجرين ؛ ويؤيد هذا وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة ؛ لنصرة الإسلام. وقال السهيلى : كان عينا على الأنصار دون غيرهم ؛ ويؤيده مبايعتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة على أن يؤووا الرسول ، وينصروه. فيخرج من قولهما : إنه كان عينا على الطائفتين ، كفاية في حق غيرهم. وليس ذلك على التعميم ؛ بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق ، وفي حق المهاجرين إذا أراد قتله أحد من الكفار ابتداء. وقيل : كان عينا في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون غيرها.

والتحقيق : أنه كان عينا على من عينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو لم يخرج ، وأما بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو فرض كفاية ، إن كان الكفار مستقرين ببلادهم ، وفرض عين ؛ إن هجموا على بلاد المسلمين ...

وهذه التفرقة في الحكم بين زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما بعده إنما ذكرها الشافعية في كتبهم. وأما غير الشافعي من الأئمة المجتهدين ـ ووافقهم على ذلك جمهور العلماء ـ فقد ذكروا الحكم مطلقا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما بعده ، وقالوا : إذا لم يكن النفير عاما ، ولم يهجم الكفار على بلد من بلاد المسلمين ـ فالجهاد فرض كفاية : إذا قام به البعض ، وحصل المقصود بهم ـ سقط عن الباقين. وإذا تركه الكل أثموا جميعا. واستدلوا على الفرضية بالأوامر القطيعة ؛ كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) ـ

٢٥٣

يسقط بقيام البعض عن الباقين ؛ لأنه قال : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أمر بنفير

__________________

 ـ [التوبة : ٣٦] وعلى الكفاية : بقوله ـ عزوجل. (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى)[النساء : ٩٥] وبقوله تعالى (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة : ١٢٢] ، وأقل ما يفعل مرة في كل عام.

(قال ابن قدامة في تعليل ذلك : لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام وهي بدل القدرة ؛ فكذا مبدلها وهو الجهاد. فيجب في كل عام مرة إلا من عذر مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو عدة ، أو يكون ينتظر المدد يستعين به ، أو يكون الطريق إليهم فيها مانع أو ليس فيها علف أو ماء ، أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الإسلام ، فيطمع في إسلامهم إن أخر قتالهم ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال ؛ فيجوز تركه بهدنة ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صالح قريشا عشر سنين ، وأخر قتالهم حتى نقضوا عهده. وأخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة وإن دعت الحاجة إلى القتال في عام أكثر من مرة وجب ذلك ؛ لأنه فرض كفاية ؛ فوجب منه ما دعت الحاجة إليه ، وقد خالف في الفريضة ابن شبرمة والإمام الثوري وقالا : إن القتال غير واجب ولا يصح قتال الكفار حتى يبدءونا ؛ لقوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] وقوله جل شأنه : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] وهكذا روى عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وسئل عطاء ، وعمرو بن دينار : الغزو أواجب؟ قالا : ما علمناه واجبا.

وخالف في الكفاية ابن المسيب ، وقال : إنه فرض عين في الأحوال كلها ؛ لقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] ، وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) [البقرة : ٢١٦] ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات ولم يغز ، ولم يحدّث نفسه بالغزو ـ مات على شعبة من النفاق».

ولكن النصوص الصريحة تبطل هذا القول. وعمل الرسول ـ عليه‌السلام ـ «خصه ، فإنه لو كان فرض عين في الأحوال كلها لما وعد الله القاعدين بالحسنى في قوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٩٥] الآية ولما قعد عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واكتفي ببعث السرايا ولا أذن لغيره بالتخلف ، ولأن فريضة القتال المقصود إعزاز الدين ، وقهر المشركين ؛ فإذا حصل هذا المقصود بالبعض سقط عن الباقين. ولأن في جعله فرض عين ـ حرجا عظيما ؛ حيث تتعطل أمور الناس من زراعة ، وتجارة إذا خرجوا جميعا للجهاد. والحرج منتف. (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨].

ويكون الجهاد فرض عين بلا خلاف بين الفقهاء ؛ إذا هجم العدو على بلد من بلاد المسلمين ؛ فيتعين على كل واحد من آحادهم ممن هو قادر عليه ؛ لأن الوجوب على الكل ثابت بالنصوص.

وسقوطه عن البعض بحصول المقصود بالبعض الآخر. فإذا لم يتحقق الدفع إلا بالكل ـ يبقى فرضا عينيا عليهم جميعا ؛ كالصلاة ، والصوم ...

إذا التقى الزحفان ، وتقابل الصفان ؛ فيحرم على من حضر الانصراف ، ويتعين عليه المقام ، إلا متحرفا لقتال ، أو متحيزا إلى فئة ، وما دام الكفار لم يزيدوا على ضعف عدد المسلمين ؛ قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال : ٤٥] وقال جل شأنه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[الأنفال : ١٥ ـ ١٦].

وإذا استنفرهم الإمام ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ ـ

٢٥٤

الثبات ، فلو كان لا يسقط بقيامهم عن الباقين لم يكن للأمر به معنى ، وتأويله ـ والله أعلم ـ : إذا قيل لكم ، انفروا ، فانفروا ثبات أو انفروا جميعا.

قوله تعالى : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) كأنه ـ والله أعلم ـ نهي المنافقين بالخروج إلى الغزو كقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) [التوبة : ٨٣] وأمر المؤمنين أن يخرجوا لذلك ؛ لأنه قال الله ـ تعالى ـ : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) والمؤمنون هم الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي سَبِيلِ اللهِ) قيل : في إظهار دين الله (١).

وقيل : في طاعة الله ـ تعالى ـ ونصر أوليائه (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) في الآية دلالة أن من بذل نفسه وماله لله ـ تعالى ـ غاية ما يجب أن يبذل استوجب العوض قبله ، وإن لم يتلف نفسه فيه ولا أحدث ؛ لأنه قال ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) [التوبة : ١١١] جعل لمن يتلف نفسه فيه الثواب والعوض الذي تلفت نفسه فيه ؛ لأنه إذا غلب لم تتلفت نفسه فيه ، وكذلك قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [التوبة : ١١١] جعل لمن قتل ولم يقتل فيه العوض ؛ فهذا يدل على مسائل لنا : من ذلك : أن المرأة إذا سلمت نفسها [إلى زوجها](٣) في الوقت الذي كان عليها التسليم استوجب كمال الصداق وإن لم يقبض الزوج منها.

__________________

 ـ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) [التوبة : ٣٨ ـ ٣٩] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا استنفرتم فانفروا».

ينظر : فتح الباري لابن حجر (٦ / ٢٧ ـ ٢٨) ، المغني (١٠ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(١) ينظر تفسير ابن جرير ٨ / ٥٤١.

(٢) ذكره السيوطي (٢ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨) وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

(٣) في ب : لزوجها.

٢٥٥

ومن ذلك : البائع ـ أيضا ـ [إذا سلم](١) المبيع إلى المشترى كان مسلّما وإن لم يقبض المشترى.

وكذلك من صلى صلاة الظهر في منزله ، ثم خرج إلى الجمعة (٢) يصير رافضا للظهر ؛ لأن عليه الخروج إليها ؛ فيصير بالخروج إليها كالمباشر لها ، وإن لم يباشر ؛ على سبيل ما جعل الباذل لنفسه لله ـ عزوجل ـ والمسلم إليه ، كأنها أخذت منه في استيجاب العوض الذي وعد له ؛ فعلى ذلك يجب أن يجعل تسليم ما ذكرنا إلى المحق كأخذ المحق منه ، وإن لم يأخذ ، وليس كالقيام إلى الخامسة ، ولا كالمتوجه إلى عرفات قبل فراغه من العمرة ؛ لأن على هؤلاء الفراغ مما كانوا فيه ، ثم التوجه إلى عرفات والقيام إلى الخامسة ؛ فلم يصح ذلك.

وأما المرأة والبائع ومؤدى الظهر في منزله عليهم التسليم والبذل ؛ لذلك كان ما ذكرنا ، والله أعلم.

وفي الآية أن الله ـ تعالى ـ عامل عباده معاملة أهل الفضل والإحسان كأن لا حق له ، لا معاملة ذى الحق ، وإن كانت الأنفس والأموال كلها له في الحقيقة ؛ حيث فرض عليهم (٣) الجهاد ، وجعل لهم بذلك عوضا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ، وقال الله ـ عزوجل ـ في آية أخرى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١] من المؤمنين كثيرا من لا حق له فيها ، وهي له في الحقيقة ، ووعد لهم على ذلك عوضا وأجرا عظيما.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، وقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ...) الآية [التوبة : ٣٨] ، مثل هذا لا يقال إلا لتفريط سبق منهم ، ثم لم يزل اسم الإيمان منهم بذلك ، وكان (٤) الجهاد فرضا عليهم ؛ فهذا ينقض على من يخرج مرتكب الكبيرة من الإيمان.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين (٥)؟!.

__________________

(١) في ب : إن أسلم.

(٢) في ب : الجهة.

(٣) في ب : لهم.

(٤) في أ : وما كان.

٢٥٦

وكذلك روى عن الكسائي.

وفيه دلالة : أن على المسلمين أن يستنقذوا أسراهم من أيدي الكفرة إذا أسروا بأي وجه ما قدروا عليه : بالأموال ، والقتال ، وغير ذلك ، وذلك فرض عليهم ، وحق ألا يتركوهم في أيديهم ؛ لأنه قال الله ـ تعالى ـ : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها ...)(١) الآية.

وفي الآية دلالة أن إسلام الصغار إسلام ، وكفرهم كفر (٢) إذا عقلوا ؛ لأنه قال الله ـ تعالى ـ : (وَالْوِلْدانِ) والكبار من الرجال والنساء لا يسمون : ولدانا ، إنما يسمون الصغار منهم ؛ لأنه عاتبهم بتركهم في أيدي الكفرة ، فلو كانوا على حكم أولاد الكفرة لم يكن للتعبير والعتاب وجه بتركهم في أيديهم ؛ إذ لم يعاتبوا بترك ولدان الكفرة في أيديهم ؛ فدل أنه إنما لحقهم العتاب لإسلامهم ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ...) الآية [النساء : ٩٧] ، ثم استثنى المستضعفين ، فقال ـ عزوجل ـ : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) [النساء : ٩٨] فلو لم يكن إسلام الولدان إسلاما ، ولا كفرهم كفرا ، لم يكن لاستثنائهم من أولئك وإخراجهم من الوعيد الذي ذكر ـ معنى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ ...) سألوا الله ـ عزوجل ـ أن يخرجهم من القرية ، وهم علموا أنه لا يتولى نحوه (٣) السماء ، ولكن على أيدي قوم يعينهم على ذلك ، وهم علموا أن لله ـ تعالى ـ في ذلك صنعا ، والمعتزلة لم يعلموا ،

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٤٤) (٩٩٤٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٨) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

(٢) قال القاسمي (٥ / ٣٠٩) : قال بعض المفسرين : ثمرة هذه الآية تأكيد لزوم الجهاد ؛ لأنه ـ تعالى ـ وبخ على تركه ، وتدل الآية على لزوم استنقاذ المسلم من أيدي الكفار ، ويأتي مثل هذا استنقاذه من كل مضرة ، من ظالم أو لص وغير ذلك ، ووجه مأخذ ذلك ، أنه ـ تعالى ـ جعل ذلك كالعلم للانقطاع إليه ، وتدل على أن حكم الولدان حكم الآباء ، لأن الظاهر أنه أراد الصغار.

(٣) اختلف العلماء في إسلام الصبي على مذهبين :

الأول : يصح إسلام الصبي في الجملة ، وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك والحنابلة ، غير أن الحنفية اشترطوا في الصبي العقل.

الثاني : لا يصح إسلامه وهو مذهب الشافعي وزفر ، وتنظر أدلة كل من الفريقين وترجيح الأول في : بدائع الصنائع (٧ / ١٣٥) ، تحفة الفقهاء للسمرقندى (٣ / ٣٠٩) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (٣ / ٣٠٨) ، المغني لابن قدامة (٨ / ١٣٣) ، وشرح المهذب (١٨ / ٥) ، المهذب (٢ / ٢٢١) ، المبسوط (١٠ / ١٢٠).

(٤) في الأصول : نحو.

٢٥٧

وذلك ينقض قولهم ، وبالله التوفيق.

وقوله : (الظَّالِمِ أَهْلُها) قيل : المشرك أهلها : كل ظالم منعهم عن الخروج إلى دار الإسلام والهجرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) في ديننا ، ونصيرا يمنعنا عن المشركين ، ويقال : مانعا يمنع عنا المشركين ، وقد ذكرنا الولى والنصير في غير موضع ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٧٦] وسبيل الله : ذكرنا الذي يأمر خلقه بالسلوك فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) قال ابن عباس : الطاغوت : هو الشيطان في هذا الموضع (١) ؛ لأنه هو الذي يدعو ويأمر بالسلوك في سبيله.

وفي الآية دلالة ألا يؤمر الكفار بالجهاد ، ولا بالصلاة ، ولا بالزكاة ، ولا بغيرها من العبادات ؛ لأنه أخبر أنهم لو قاتلوا إنما يقاتلون في سبيل الشيطان ، وكذلك إذا صلوا ، صلوا له ، وكذلك سائر العبادات ، ولكن يؤمرون أولا بإتيان ما لو فعلوا من العبادات كانت في سبيل الله ، وهو الإيمان ، وهذا ينقض قول من يقول : إن الكافر مأمور مكلف بالصلاة ، والزكاة ، وغيرها من العبادات ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) هذا يدل على أن الطاغوت هو الشيطان هاهنا ، وكل ما عبد دون الله فهو طاغوت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) يحتمل قوله : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ) : أي : كيد أولياء الشيطان (كانَ ضَعِيفاً) إذا كان الله ناصركم ؛ كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) [آل عمران : ١٦٠].

ويحتمل أن كيد الشيطان كان ضعيفا ؛ لأنه لا يعمل سوى الدعاء والأمر يدعوهم إلى سبيله ؛ فذلك لضعفه لا يباشر القتال ولا الضرب ، إنما هو إشارة منه ودعاء ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ) [إبراهيم : ٢٢]

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧٧)

__________________

(١) تقدم في الآية رقم (٥١) من هذه السورة.

٢٥٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ...) الآية.

اختلف فيه ؛ قيل : نزلت الآية في بنى إسرائيل (١) ، وهي الآية التي ذكرها (٢) الله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ...) إلى قوله : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) [البقرة : ٢٤٦].

وقيل : إنها نزلت في المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتال كفار مكة سرّا ؛ لكثرة ما يلقون من الأذى منهم ؛ فنزل قوله ـ تعالى ـ : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي : لم أؤمر بالقتال ، فنهاهم عن ذلك ، فلما كتب عليهم القتال وأمروا به كرهوا ذلك ؛ فدل قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ ...) الآية (٣).

وقيل : إنها نزلت في المنافقين الذين كانوا يقاتلون مع النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ) أي : يخشون الناس ـ يعني المنافقين ـ كخشية المؤمنين الله أو أشد خشية ؛ كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا) [البقرة : ١٦٥].

وإن كانت في المؤمنين ؛ فتأويله : يخشون الناس في القتال كخشية الله في الموت أو أشد خشية ؛ لأنه أهيب وأسرع نفاذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل أيضا ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ...) الآية.

تكلموا في ذلك :

فمنهم من جعله خبرا عن أمر بنى إسرائيل الذين قالوا لنبي لهم : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً ...) الآية ، أنهم إذا أمروا بالكف عن مقاتلته تمنوا الإذن في ذلك ، وسألوا نبيهم ـ عليه‌السلام ـ عن ذلك ، ثم فيهم من أعرض عن الطاعة ، وقد كان أهل الإيمان يتمنون الإذن في ذلك ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) [آل عمران : ١٤٣] فوعظوا بمن ذكرت ؛ ليقبلوا العافية ، ولا يتمنوا محنة فيها شدّة ؛ فيبعثهم على ما بعث

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٨ / ٥٥٠) (٩٩٥٥) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) في ب : ذكر.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٤٩ ـ ٥٥٠) (٩٩٥١) عن ابن عباس ، و (٩٩٥٢) عن عكرمة ، و (٩٩٥٣) عن قتادة ؛ وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٨) وزاد نسبته للنسائي ، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس ولعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.

(٤) ذكره بمعناه أبو حيان في البحر (٣ / ٣٠٩).

٢٥٩

أولئك.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تتمنّوا لقاء العدوّ واسألوا ربّكم العافية ، وإذا لقيتموهم فشوروا فى وجوههم» (١)

أو كان في علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يأمرهم ، فأخبروا بالذين قتلوا وحل بهم ؛ لئلا يفعلوا مثل فعلهم ، والله أعلم.

وخشيتهم كخشية الله ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ ...) إلى تمام القصة.

وقد قيل : الآية نزلت فيما سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأجيبوا في ذلك ، ثم خاطبهم الذي ذكر.

لكن اختلف في ذلك :

فمنهم من يقول : كان ذلك في المصدقين ؛ لكن اشتد عليهم الأمر ، وذلك [نحو](٢) ما كان منهم يوم حنين وأحد [ونحو ذلك](٣) ، حتى أغاثهم الله ـ تعالى ـ وفرج عنهم بمنّه ، وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) [آل عمران : ١٤٣] أي : ما فيه الموت من الجهاد ، وعلى ذلك : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) ، فلما عاينوا السبب الذي فيه هلاكهم ، وتبلغ عند ذلك الخشية غايتها ؛ نحو قرب الموت وشدة المرض ؛ يكون المرء يخشى منه الموت ما لا يخشى لو لا تلك الحال ؛ لأنه يرى الموت من المرض ، وإن كان الذي يظهر عليه من خشية الموت في تلك الحال أشد ، فهو ـ في الحقيقة ـ خشية من الله ـ تعالى ـ أن يكون جعل ذلك سبب الموت ، وأنه حضره وقرب منه ؛ فيكون في ظاهر الأمر كمن يخشى من تلك الأحوال ، وقد جعل لما جبل عليه الخلق في مثله معروف مثله ؛ أعني : أن المريض [عند الموت لما يغلب](٤) عليه الإياس من حياته ، وإن كان الذي يصيبه يستوى عليه أحواله ، فعلى ذلك أمر الأول.

وعلى ذلك فيما طبع عليه الخلق من طمأنينة القلب عند ملك أسباب الرزق والقدرة

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٥ / ١٤١) كتاب التمني : باب كراهية تمني لقاء العدو (٧٢٣٧) ، ومسلم (٣ / ١٣٦٢) كتاب الجهاد والسير : باب كراهة تمني لقاء العدو ، والأمر بالصبر عند اللقاء (١٧٤٢) ، عن عبد الله بن أبي أوفى بلفظ «يا أيها الناس : لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ؛ فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» ، واللفظ لمسلم.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في الأصول : بعد الموت لما يغلب عليه الموت لما يغلب.

٢٦٠