تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

يحتمل أن يكون الآية تفسيرا لما تقدم من قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) ووصف لهم ؛ إذ لا يتكلم بمثله إلا عن تقدّمه.

ويحتمل على الابتداء ؛ كقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ...) الآية [الزخرف : ٦٩].

ثم يحتمل وجوها :

يحتمل قوله : يبخلون بما عندهم من الأموال ، ويأمرون الناس به ، وهكذا دأب كل بخيل أنه يبخل ويأمر به غيره.

ويحتمل : يبخلون بما عندهم من العلوم والأحكام ، لم يعلّموا غيرهم ، ويأمرون الناس بذلك.

ويحتمل قوله : يبخلون بإظهار نعت (١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمرون الناس به ؛ ألا ترى أنه قال : (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي : يكتمون نعت (٢) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وصفته](٣).

ويحتمل قوله : (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [أي : يكتمون](٤) من العلوم والحكمة.

ويحتمل : ما ذكرنا : أنهم يكتمون ويبخلون بما آتاهم الله من فضله من الأموال ، ولا ينفقونها ، وفي ترك الإنفال والتصدق (٥) كتمان ما أنعم الله عليهم ، وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أتاه الله نعمة فلترى عليه» (٦) لعله أراد بقوله : «ترى عليه» أن ينفقها على نفسه ويتصدق بها ويلبسها.

وجائز أن يكون أراد ـ والله أعلم ـ الإنفاق والتصدق على غيرهم ، فعلى ذلك كتمان ما آتاهم الله من الأموال إذا تركوا الإنفاق على غيرهم ؛ لأن من كانت له الأموال لا يترك الإنفال على نفسه.

__________________

(١) في ب : بعث.

(٢) في ب : بعث.

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من ب.

(٥) في أ : والصدق.

(٦) أخرجه الترمذي (٤ / ٥١٠ ـ ٥١١) أبواب الأدب : باب ما جاء : إن الله ـ تعالى ـ يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، (٢٨١٩) ، والحاكم (٤ / ١٣٥) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده». وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

١٨١

وقيل في قوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) نزلت في كعب بن الأشرف كتم نعت (١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتب إلى الرؤساء من اليهود في الآفاق يأمرهم بكتمانه (٢).

وأيضا ، في قوله : (يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) : أي : بما أنعم الله عليهم من الأموال ، أو بما بين لهم من صفات الرسول ـ عليه أفضل الصلوات ـ أو بما أمروا به من العبادات ، حملهم على الكفر أحد هذه الأوجه الثلاثة ؛ أو كانوا استحلوا أحدها ، فكفروا بذلك ، لزمهم الذي ذكر في القرآن ، والله أعلم.

وكتمانهم يرجع إلى كتمان النعت والحقوق والعبادات (٣) في أنفسهم ؛ لئلا يعرفوا بالعدول عليهم عما في كتبهم ، وذلك تحريفهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)

ظاهر ، قد ذكرناه (٤) في غير موضع.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً)(٣٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) الآية [أي](٥) سرّا وقيل : إنها نزلت في المنافقين : كانوا ينفقون مراءاة ، ويصلون مراءاة كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بذلك ، وكانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر سرّا (٦).

وقيل : إنها نزلت في الذين يسعون في معاداة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرجون معه ينفقون أموالهم مراءاة للناس ، يطلبون بذلك الرئاسة (٧).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً)

يحتمل أن يكون هذا في الدنيا [كقوله] : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ...) الآية

__________________

(١) في ب : بعث.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٨ / ٣٥٣) ، رقم (٩٥٠١) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ؛ كما في الدر المنثور (٢ / ٢٨٩).

(٣) في ب : أو الحقوق أو العبادات.

(٤) في ب : ذكرنا.

(٥) سقط من ب.

(٦) قاله أبو جعفر الطبري (٨ / ٣٥٦).

(٧) ينظر : تفسير الفخر الرازي (١٠ / ٨١).

١٨٢

[فصلت : ٢٥].

ويحتمل في الآخرة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَبِئْسَ الْقَرِينُ. وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف : ٣٨ ـ ٣٩] فهذا ـ والله أعلم ـ لأن كلّا منهم كان يقبح الشيطان ويأنف عنه ، ويحسّن الملائكة ويحمدهم ، حتى ضرب مثل القبح من الأشياء بالشياطين ؛ كقوله : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) [الصافات : ٦٥] وضرب مثل الحسن بالملائكة ، وذلك لمعرفتهم بقبح الشياطين وحسن الملائكة ؛ وذلك إنما عرفوا بالخبر ؛ لأنهم لم يعاينوا ملكا عرفوا حسنه بالمعاينة ، ولا شاهدوا شيطانا عرفوا قبحه بالمشاهدة ، ولكنهم عرفوا ذلك بالخبر ؛ ففيه دليل إثبات النبوة ؛ لأنهم ما عرفوا ذلك إلا بهم ، دل (١) استقباح الجميع الشياطين واستنكارهم ، واستحسانهم الملائكة واستعظامهم من غير أن شهدوا من أحد من الفريقين ـ على قبول الأخبار ؛ إذ عن الألسن نطقوا به ؛ وعلى إثبات الرسالة ؛ إذ هم جاءوا بالآثار عمن شهدهم وأنشأهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

هذا ـ والله أعلم ـ صلة قوله : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)(٢) فمعنى قوله : فما ذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ـ والله أعلم ـ وذلك أنهم كانوا ينفقون مراءاة طلب الرئاسة وإبقائها ؛ فقال : لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله تبقى لهم تلك الرئاسة ، ويكون لهم الذكر ؛ بل لو آمنوا كان ذلك في الإيمان أكثر ذكرا ، وأعظم قدرا ومنزلة ؛ ألا ترى أنه من أسلم منهم من الأئمة من نحو ابن سلام وغيره كان لهم ذكر في الإسلام وبعد موتهم من غير حاجة وقعت بهم إليهم في حق شرائع الإسلام ، ومن مات منهم على الكفر لم يذكر أبدا ، فأخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن ليس في الإيمان بالله واتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذهاب شيء مما يخافون ذهابه من (٣) الرئاسة والمنافع التي يطمعون [في](٤) وصولها إليهم ، وغير ذلك ؛ حيث قالوا : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) [القصص : ٥٧] فقال : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي : لم يكن مما خافوا باتباع الهدى قليلا ولا كثيرا.

__________________

(١) في ب : دل به.

(٢) قال القاسمي (٥ / ١٤٨) : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ) عطف على (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) أو على «الكافرين» ، وإنما شاركوهم في الذم والوعيد ؛ لأن البخل كالإنفاق رياء ، سواء في القبح واستتباع اللائمة والذم.

(٣) في أ : عن.

(٤) سقط من ب.

١٨٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) يحتمل وجهين :

يحتمل : أنه كان على علم منه [بما يفعلون](١) من فعل الكفر والشر ونحوه من خلق إبليس ، لا عن جهل ولا غفلة ، ليس كصنيع ملوك الأرض أنهم إذا فعلوا فعلا ثم استقبل الخلاف فإنما يكون ذلك لفعله منهم وجهل بالعواقب ، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ كان لم يزل عالما بهم ، لكنه تركهم على ذلك لما لا يلحقه الضرر بالعصيان ، ولا النفع بالطاعة ، بل حاصل الضرر والنفع يرجع إليهم.

والثاني : يخرج مخرج التحذير لهم والتنبيه ؛ لأن من علم أن آخر يعلم بصنيعه كان أحذر وأخوف ممن يعلم أنه ليس عليه حافظ ولا رقيب ، وعلى هذا يخرج قوله : (كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١١ ـ ١٢] ليكونوا على حذر من ذلك.

وقيل : (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) أنهم لن يؤمنوا.

[وفي](٢) قوله ـ أيضا ـ : (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) أي : أنشأهم على العلم بما يفعلون ؛ يبين أنه أنشأهم ؛ ليعلم الخلائق أن مخالفتهم إياه لا تضره ؛ إذ كل من يضره الخلاف لا يتولى ابتداءه إلا على الغفلة ببعضه من الضرر يلحقه بالخلاف.

والثاني : على التحذير وقت الفعل بتذكير المراقب عليه على ما عليه الأمر المعتاد من الانتهاء عن أمور تهواها النفس بالمراقب عليه.

[ويحتمل](٣) : كان على إرادة نفي حدثية العلم ، أو أخبر بعلمه بفعلهم وما لهم من الجزاء ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)(٤٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) و (نَقِيراً) [النساء : ١٢٤] (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦]

ذكر هذا ـ والله أعلم ـ لئلا يظن جاهل إذا رأي ألم الأطفال والصغار وما يحل بهم أن ذلك ظلم منه لهم ، لكن ذلك ـ والله أعلم ـ ليعلم أن الصحة والسلامة إفضال من الله ـ

__________________

(١) في ب : يفعلون ما يفعلون.

(٢) في أ : في هذا.

(٣) سقط من ب.

١٨٤

تعالى ـ لهم ، لا لحق [لهم عليه في](١) ذلك ؛ إذ له أن يخلق كيف شاء : صحيحا ، وسقيما ، ثم من ظلم آخر في الشاهد إنما (٢) يظلم لإحدى خلتين :

إما لجهل (٣) بالعدل والحق ، وإما لحاجة تمسه يدفع ذلك عن نفسه ، فيحمله على الظلم ، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ غني بذاته ، عالم ، لم يزل يتعالى عن أن تمسه حاجة ؛ أو يخفى عليه شيء مع ما كان معنى (٤) الظلم في الشاهد هو التنازل مما ليس له بغير إذن من له وكل الخلائق من كل الوجوه له ؛ فلا معنى ثمّ للظلم.

ثم قيل في الذّرّة : إنها نملة (٥) ، وكذلك في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «مثقال نملة» (٦).

وقيل : مثقال حبة ، وهو على التمثيل ، ليس على التحقيق ، ذكر لصغر جثته أنه لا يظلم ذلك المقدار ، فكيف ما فوق ذلك؟! ، لا أن مثله يحتمل أن يكون ، لكن لو كان فهو بتكوينه (٧) ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)

هذا على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : من ارتكب كبيرة يخلد في النار ومعه حسنات كثيرة ، فأخبر ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) وهي الجنة ، وهذا لسوء ظنهم بالله ، وإياسهم من رحمته.

عن أنس ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله ـ تعالى ـ لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها إمّا رزق فى الدّنيا ، وإمّا جزاء في الآخرة» (٨).

وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله ـ تعالى ـ : أخرجوا من النّار من كان فى قلبه مثقال ذرّة من إحسان» قال أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ :

__________________

(١) في ب : عليهم.

(٢) في أ : أنه.

(٣) في ب : الجهل.

(٤) في ب : يخفي.

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه ابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٢ / ٢٩٠).

(٦) أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ؛ كما في الدر المنثور (٢ / ٢٩٠).

(٧) في ب : بتكونه.

(٨) أخرجه أحمد (٣ / ١٢٣ ، ١٢٥ ، ٢٨٣) ، وعبد بن حميد (١١٧٨) ، والبخاري في «خلق أفعال العباد» ص (٥٦) ، ومسلم (٤ / ٢١٦٢) : كتاب المنافقين وأحكامهم : باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة ، من طريق قتادة عن أنس بن مالك ، مرفوعا : «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة : يعطى بها في الدنيا ، ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر : فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا ؛ حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها».

١٨٥

فمن شك في ذلك فليقرأ : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ...) الآية (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)

يقول : بالنبي ، يعني : بنبيها وجئنا بك يا محمد على هؤلاء شهيدا عليهم ، يعني : على أمته ، شهيدا بالتصديق لهم ؛ لأنهم يشهدون على الأمم للرسل أنهم بلغوا ما أرسلوا [به لما](٢) هو دليل صدقهم ، وقامت براهينهم بالرسالة صارت شهادة على هؤلاء ؛ أي : لهؤلاء ؛ على هذا التأويل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] أي : لها ويحتمل عليهم لو كذبوا وزلوا.

وقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) يعني : نبيها ، (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد على أمتك شهيدا على تبليغ الرسالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) قيل فيه بوجوه :

إذا ميز الله أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، قال للوحش والطير والسباع : «كوني ترابا» ؛ فتكون ترابا ، فعند ذلك يتمنون أن يكونوا ترابا مثل الوحش [فسويت بهم](٣) الأرض (٤).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : يجحد أهل الشرك يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين ، فينطق الله ـ تعالى ـ جوارحهم ؛ فتشهد عليهم ؛ فيودون أنهم كانوا ترابا ؛ كقوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٧٨] وقوله ـ تعالى ـ : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) [الحاقة : ٢٧] ؛ فذلك قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) ليتنا لم نبعث

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٩٤) ، والترمذي (٤ / ٣٤٥) : أبواب صفة جهنم (٢٥٩٨) ، والنسائي (٨ / ١١٢) : كتاب الإيمان : باب زيادة الإيمان ، وابن ماجه (١ / ٨٥) ، المقدمة : باب في الإيمان (٦٠) ، من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» ، قال أبو سعيد : فمن شك فليقرأ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ)[النساء : ٤٠].

والحديث ـ مطولا ـ أخرجه البخاري (١٥ / ٣٨١) : كتاب التوحيد : باب قول الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٧٤٣٩) ، ومسلم (١ / ١٦٧) : كتاب الإيمان : باب معرفة طريق الرؤية (٣٠٢ ـ ١٨٣).

(٢) في أ : بها.

(٣) في أ : تسويت بتاء.

(٤) قاله أبو هريرة ، أخرجه عنه عبد بن حميد والطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «البعث والنشور» ؛ كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٧).

١٨٦

ولم نحيا ، ويقرأ «تسوّى» و «تسوّى» «وتسّوى» ، و «وتسوى» ، و «تستوى» ، و «تسوى» (١) ، وفي حرف حفصة : «لو تستوى بهم الأرض» (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً).

قيل : لما أنطق الله ـ تعالى ـ جوارحهم وشهدت عليهم حين أنكروا أن يكونوا مشركين بقوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ـ لم يستطيعوا أن يكتموا الله حديثا.

ويحتمل : على الاستئناف : لا يكتمون الله حديثا.

ويحتمل : أن يكونوا يؤدّوا في الآخرة ويتمنوا أن لم يكونوا كتموا في الدنيا حديثا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)

[اختلف في قوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)](٣) قيل : لا تدنوا مكان الصلاة وأنتم سكارى ، وكذلك الجنب لا يدنو مكان الصلاة ؛ وهو قول عن ابن مسعود ، رضي الله عنه (٤).

__________________

(١) وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم : «تسوّى» ـ بضم التاء وتخفيف السين ـ مبنيّا للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي : «تسوّى» بفتحها والتخفيف ، ونافع وابن عامر : بالتثقيل. فأما القراءة الأولى فمعناها : أنهم يودّون أن الله ـ تعالى ـ يسوّى بهم الأرض : إما على أن الأرض تنشق وتبتلعهم ، وتكون الباء بمعنى «على» ، وإما على أنهم يودّون أن لو صاروا ترابا كالبهائم ، والأصل : يودّون أن الله يسوّيهم بالأرض ؛ فقلب إلى هذا ؛ كقولهم : «أدخلت القلنسوة في رأسي» ، وإما على أنهم يودون لو يدفنون فيها ، وهو كمعنى القول ، وقيل : لو تعدل بهم الأرض أي : يؤخذ ما عليها منهم فدية.

وأما القراءة الثانية فأصلها «تتسوّى» بتاءين ؛ فحذفت إحداهما. وفي الثالثة حذفت إحداهما. ومعنى القراءتين ظاهر مما تقدم ؛ فإن الأقوال الجارية في القراءة الأولى ـ جارية في القراءتين الأخريين ، غاية ما في الباب أنه نسب الفعل إلى الأرض ظاهرا ينظر الدر المصون (٢ / ٣٦٧).

(٢) أخرجه عبد الرزاق (١ / ١٦٠) ، والطبري (٨ / ٣٧٣) ، رقم (٩٥٢١) ، والطبراني (١٠ / ٣٠٠ ـ ٣٠٢) ، رقم (١٠٥٩٤) والحاكم (٢ / ٣٩٤) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات ؛ كما في الدر المنثور (٢ / ٢٩٢).

(٣) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٤) أخرجه عبد الرزاق في التفسير (١ / ١٦٣) ، ومن طريقه الطبري (٨ / ٣٨٢) ، رقم (٩٥٥٢) عن معمر عن عبد الكريم الجزرى عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه ، في قوله (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) ، قال : هو الممر في المسجد.

١٨٧

وقيل : قوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(١) نهي عن الصلاة في حال السكر ؛ روي أن رجلا صنع طعاما فدعا أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّا ، وسعد بن أبي وقاص ، فأكلوا ، وسقاهم خمرا ، وذلك قبل أن تحرم ؛ فحضرت صلاة المغرب ، فأمهم رجل منهم فقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] بطرح اللاءات ؛ فنزل قوله ـ تعالى ـ : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(٢).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يصلّينّ أحدكم وهو لا يعقل صلاته» (٣).

وفي الآية دلالة : أن في الصلاة قولا فرضا ، نهي عن قربانها في حال السكر ؛ مخافة تركه ، أو نهي عن قربانها في حال السكر ؛ خوفا أن يدخل فيها قولا ليس منها ؛ وفي ذلك دليل فساد الصلاة بالكلام عمدا كان أو خطأ ؛ لأن السكران لا يفعل ذلك على العمد ، ولكن على الخطأ ، والأصل في هذا : أنه لم ينهه عن فعل الصلاة في حال السكر لنفس الصلاة ، ولكن فيه نهي عن السكر ، وكذلك (٤) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة للعبد الآبق ، ولا للمرأة النّاشزة» (٥) ليس النهي فيه عن الصلاة ، ولكن النهي (٦) عن الإباق والنشوز نفسه ، وهكذا كل عبادة (٧) نهي عنها بأسباب تتقدم ، فالنهي إنما يكون عن تلك الأسباب ، لا عن العبادة (٨) التي أمر بها ؛ لأن الإباق والنشوز والسكر ليسوا بالذي يعملون في إسقاط ذلك الفرض وتلك العبادة.

وفي الآية دلالة أن السكران مخاطب بقوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) نهي

__________________

(١) قال القرطبي (٥ / ١٣١) : والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر : سكر الخمر ؛ إلا الضحاك فإنه قال : المراد : سكر النوم ؛ لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه» ، وقال عبيدة السلماني : «وأنتم سكارى» يعني إذا كنت حاقنا ؛ لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا يصلين أحدكم وهو حاقن» في رواية «وهو ضام بين فخذيه».

(٢) قال عكرمة ، أخرجه عنه ابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٢٩٤).

(٣) أخرجه أحمد (٣ / ١٤٢ ، ١٥٠) ، والبخاري (٢ / ٤٢٢) : كتاب الوضوء : باب الوضوء من النوم ، (٢١٣) من حديث أنس بن مالك ، مرفوعا : «إذا نعس أحدكم في الصلاة ـ فلينم حتى يعلم ما يقرأ».

(٤) في أ : وذلك.

(٥) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (١١ / ٢٤٧) (٢٠٤٤٩) باب : الآبق من سيده ، والبغوي في شرح السنة (٢ / ٤٠٢) كتاب الصلاة : باب فيمن أم قوما وهم له كارهون ، بلفظ : «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم : العبد الآبق حتى يرجع ، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ، وإمام قوم وهم له كارهون».

(٦) في أ : نهي.

(٧) في أ : عادة.

(٨) في أ : العبادات.

١٨٨

عن قربان الصلاة في حال السكر ، فالنهي إنما وقع في حال السكر ، فإذا كان مخاطبا عمل طلاقه ونفذت عقوده ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] فلو لم يكن عليهم ذكر في حال السكر لم يكن ليصدهم عن ذكر الله معنى ولا ذكر عليهم ، دل أنه مخاطب ، ولهذا ما قال أبو يوسف ـ رحمه‌الله ـ : إنه إذا ارتد عن الإسلام يكون ارتداده ارتدادا (١) ؛ [و](٢) لما نفذ طلاقه وسائر عقوده وفسوخه ، فعلى ذلك الارتداد.

وعلى قول أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ لا يصير مرتدّا ؛ استحسانا ، ليس كسائر العقود والفسوخ ؛ لأن سائر العقود يتعلق جوازها باللسان ، وإن كان رضا القلب شرطا (٣) فيها ، وأما الإيمان والكفر فإنما يكون بالقلب ، وإن كانت (٤) العبادة باللسان تكون شرطا فيما بين الخلق ، فإذا كان كذلك فإذا سكر يذهب السكر القلب ؛ فجعل كأنه لم ينطق (٥) به ، وإما كان سائر العقود تعلقها باللسان ، فإذا نطق به جاز ، والله أعلم.

[ثم](٦) اختلف في قوله ـ تعالى ـ : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ...)

منهم من حمل على مكان الصلاة ؛ إذ الصلاة فعل ، والفعل لا يقرب.

ومنهم من حمل على الفعل ؛ أي : لا تصلوا (٧).

وأي الوجهين أريد به فالآخر داخل فيه ؛ لأنه إذا نهي عن حضور مكانها لحرمته فهي أعلى في الحرمة ، وأحق في المنع ؛ وأيد ذلك قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) والعلم بالقول يحتاج إليه في حق الفعل ؛ لئلا يترك المفروض من الذكر فيفسد ، أو يدخل المحرم فيه فيفسد ، وفي ذلك دلالة أحد الوجهين ، وفي حق العموم الوجهان جميعا ، وهو على الخطأ يقول ؛ فثبت أن الخطأ من القول في الصلاة مفسدا ؛ إذ لو كان لا يفسد لم يكن سوى النهي ، وفي التأخير نهي أيضا ، والله أعلم.

ولو أريد به الصلاة فإنما المكان لأجلها ، فلا وجه للحضور دون إمكان الفعل للفعل ،

__________________

(١) ينظر المبسوط (١٠ / ١٢٣) ، وبدائع الصنائع (٧ / ١٣٤) ، حاشية الدسوقي (٤ / ٣٥٩) ، المهذب للشيرازي (٢ / ٢٢١) ، المغني لابن قدامة (٨ / ١٤٧) ، الإنصاف (١٠ / ٣٣١).

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : مشروطا.

(٤) في ب : كان.

(٥) في ب : ينفق.

(٦) سقط من ب.

(٧) أخرجه بنحوه ابن جرير (٨ / ٣٧٧) (٩٥٢٩) (٩٥٣٠) عن مجاهد بن جبر ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٩٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

١٨٩

والله أعلم.

وعلى ذلك أمر الجنب ، واستثناء عابري السبيل ؛ ليكون (١) على فعل الصلاة بالتيمم ؛ فيكون في الآية دلالة التيمم للجنب ، أو المكان فيباح الدخول فيه على العبور فيه بالتيمم أيضا ، فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه ؛ إذ كان فيه بالتيمم ؛ والله أعلم.

وإذا أبيح للجنب على المنع عن دخول المسجد إلا بالتيمم ؛ فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة ، فله الصلاة به لعذر ، والله أعلم.

ثم في المروي دلالة عمن أمّ في المغرب ب (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] على طرح اللاءات في حال السكر حتى نزل قوله ـ تعالى ـ : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ـ أن كلام الكفر في حال السكر لا يكفر صاحبه ؛ إذ خاطبهم باسم الإيمان ؛ فلذلك لم يكن عند أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ كافرا ، على أن المخطئ لما يجرى على لسانه كلمة الكفر لا يصير كافرا في الحكم ، والسكران يجرى على لسانه على الخطأ ؛ دليله ما لا يذكره ، وما كان من (٢) عقد القلب فهو لا ينسى ، وبخاصة المذاهب كلها يختار عن فكر الأسباب ، وعن اختيار الأحق من الأمور عنده إما لحجة (٣) ، أو شبهة ، أو شهوة ، من نحو الإلف بالتقليد ، وحسن الظن ، والذي يكون على ما ذكرت لا يحتمل السهو عنه حتى لا يخطر بباله لو أراد بدعوة عن قريب ثبت أنه كان عن خطأ ، وقد جاء برفع الخطأ.

وأصله : أن اللسان معبر عن الاعتقاد في أمر الدين ، وبخاصة في الكفر الذي يكون بالقلب خاصة بلا استعمال اللسان ؛ فإذا كان مخطئا فهو أمر اللسان دون القلب الذي اللسان عنه معبر ، ومن عبر الكفر باللسان ووصفه لا يكفر إلا بأن يكون يعبّر عن نفسه أنه اعتقده ، فلذلك كان على ما بينا ، على أنه قد يجري بتلاوة القرآن على اللسان بالغلط ما يكفر عليه بالتعمد ؛ فلا يجوز أن يجعل تلاوته للتعظيم ، والإيمان به كفرا ، ثبت بذلك رفع [حكم](٤) الكفر عمن أخطأ في إجرائه على اللسان ، فمثله السكران ؛ إذ هو مخطئ ، والله أعلم.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ـ تعالى ـ : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) :

عن علي [بن أبي طالب](٥) ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : هو أن يكون مسافرا ولا يجد

__________________

(١) في ب : يكون.

(٢) في ب : عن.

(٣) في ب : بحجة.

(٤) سقط من ب.

(٥) سقط من ب.

١٩٠

الماء فيتيمم (١).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : هو المسافر (٢).

وقيل : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) نهى الجنب أن يدخل المسجد (٣) ومكان الصلاة إلا عابري سبيل ، إلا مجتازا (٤).

ومن تأول الآية على المرور في المسجد فهو غير بعيد ؛ يقول : إنما كره للجنب أن يستوطن المسجد ، فأما المار لأمر يعرض له ، فقد رخص له ؛ ألا ترى أن الجنب رخص (٥) له أن يقرأ بعض الآية ، ولا يجوز أن يتمها ، فمروره في المساجد إذا لم يجلس فيه كقراءته بعض الآية إذا لم يتمها ، وعلى ذلك أمر الجنب.

واستثناء عابرى السبيل يكون على فعل الصلاة بالتيمم ؛ فيكون في الآية دلالة التيمم للجنب ، أو المكان ؛ فيباح الدخول فيه على العبور فيه بالتيمم أيضا ؛ فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه إذا كان منه (٦) بالتيمم ، والله أعلم.

وإذا أبيح للجنب دخول المسجد بالتيمم ؛ فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة ، فله الصلاة به لعذر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ...) الآية.

أباح الله ـ تعالى ـ للمريض المقيم أن يتيمم ، والآية ذكرت المرض عامّا ، وأجمعوا أن المريض الذي لا يخاف أن يضر به الماء لا يتيمم ، وإنما أجازوا أن يتيمم إذا خاف ضرر

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠) (٩٥٣٧ ، ٩٥٤٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٩٤) وزاد نسبته للفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن على بن أبي طالب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠) (٩٥٣٥ ، ٩٥٣٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٩٥) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني عن ابن عباس.

(٣) في ب : المساجد.

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٨٢ ـ ٣٨٤) (٩٥٥٦) عن أبي الزبير المكي ، وبمعناه : عن : ابن مسعود رقم (٩٥٥٢) وابن عباس (٩٥٥٣ ، ٩٥٥٥) ، وإبراهيم النخعي (٩٥٥٨ ، ٩٥٥٩ ، ٩٥٦٠ ، ٩٥٦٨) وسعيد بن جبير (٩٥٦١) والحسن البصري (٩٥٥٧) (٩٥٦٥) وأبي عبيدة (٩٥٦٢) وعكرمة (٩٥٦٣) وأبي الضحى (٩٥٦٤) الزهري (٩٥٦٦) يزيد بن أبي حبيب (٩٥٦٧) مجاهد (٩٥٦٩) وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٩٥) ؛ وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس.

(٥) في ب : يرخص.

(٦) في ب : فيه.

١٩١

الماء إن هو توضأ به ؛ فدل أن الله ـ تعالى ـ لما أباح للمريض التيمم لم يبح باسم المرض ، ولكنه لمعنى في المرض ؛ دليله ما ذكر أنه لم يبح لكل مريض ، وإنما أبيح لمريض دون مريض.

وفيه دليل لقول أبي حنيفة (١) ـ رضي الله عنه ـ حيث أباح للمقيم الجنب التيمم إذا خاف على نفسه الهلاك ؛ ألا ترى أن الله ـ عزوجل ـ أباح للسفر التيمم ، ولم يبحه باسم السفر ، ولكنه أباح لمعنى فيه : وهو إذا كان بمكان إعذار والماء ؛ ألا ترى أنه لا يباح له التيمم في الأمصار ، وإن كان اسم السفر موجودا ؛ لعدم معنى السفر ؛ فعلى ذلك إباحة التيمم للمريض إباحة لمعنى في المرض (٢) ؛ ألا ترى أنه ذكر مجيئه من الغائط ، والغائط هو المكان المطمئن الذي يقضي فيه الحاجة ، ولا كل من جاء من ذلك المكان يلزمه الوضوء والتيمم ؛ دل أنه لمعنى فيه ، فعلى ذلك الأول.

وروي أن جريحا غسل فمات ، فبلغ الخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقال : «قتلوه ، فإنّما (٣) يكفيهم كفّ من تراب» ، وكذلك غسل محدود فمات ، فقال : «قتلوه ، فإنّما يكفيه (٤) [كف] من تراب» (٥) ونحو هذا ، فإذا ثبت أن المراد من المرض والسفر والغائط المعنى الذي فيه لا لعين المرض والسفر والغائط ؛ لما ذكرنا ؛ [دل] أن كل مريض يباح له التيمم ، وإنما يباح لمريض دون مريض ، وكذلك لم يبح لكل [سفر وإنما يباح](٦) لسفر دون سفر ، ومكان دون مكان ، وهو المكان الذي يعدم الماء فيه ويفقد.

فعلى ذلك المراد من قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(٧)

__________________

(١) ينظر حاشية الطحاوي على مراقي الفلاح ص (٦٢) ، وابن عابدين (١ / ١٥٦) ، وحاشية الدسوقي (١ / ١٤٩) ، ومغني المحتاج (١ / ٩٢) ، كشاف القناع (١ / ١٦٢).

(٢) في : المريض.

(٣) في ب : أما.

(٤) في ب : يكفيهم.

(٥) أخرجه أحمد (١ / ٣٣٠) ، والدارمي (١ / ١٩٢) كتاب الصلاة والطهارة : باب المجروح تصيبه الجنابة. وأبو داود في سننه (١ / ٩٣) كتاب الطهارة : باب في المجروح يتيمم (٣٣٧) ، وابن ماجه (٢ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩) : كتاب الطهارة : باب في المجروح تصيبه الجنابة ؛ فتخاف على نفسه إن اغتسل (٥٧٠٢) ، جميعا عن ابن عباس مرفوعا.

(٦) في ب : السفر ولكن.

(٧) قال القاسمي (٥ / ١٧٣) : قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء : ٤٣] الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم أسنده من طرق ، وبه يعلم أن حديث عائشة قرينة صرفت إرادة المعنى الحقيقي من اللمس ، وأوجبت المصير إلى معناه المجازي.

وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود ، فنحن لا ننكر صحة إطلاق اللمس على الجس باليد ، ـ

١٩٢

عين اللمس وهو الجماع ، وكذلك روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : الملامسة ، والمباشرة ، والإفضاء ، والرفث ، والجماع ـ نكاح (١) ، ولكن الله ـ تعالى ـ كنى.

وعن الحسن (٢) ، وعبيد بن عمير (٣) ، وعطاء ، قالوا : الملاسمة : الجماع.

فإن قيل : ما الحكمة في ذكر المرض والسفر والغائط والملامسة إذا كان المراد من ذكرها غيرها؟

قيل : الحكمة في ذكرها هو أن المرض في أغلب أحواله يعجز المرء عن إصابة الماء ، وكذلك السفر في أغلب أحواله يعجز صاحبه عن الماء ، فخرج الذكر على (٤) أغلب الأحوال ، وكذلك من جاء من الغائط ؛ الأغلب أنه إنما يجىء عن قضاء الحاجة ؛ لأنهم كانوا لا يخرجون إلا لقضاء الحاجة ، وكذلك الملامسة من الزوجين ، الأغلب فيها قضاء الوطر والحاجة ، فعلى الأغلب خرج الذكر وإن احتمل غيره ، وهذا يدل على أن الاحتجاج بالظواهر والعموم بحق المخرج باطل ؛ لما لا يجوز لأحد أن يحتج بظاهر هذه الآية أن يقول : على كل مريض ، أو على كل مسافر إلا كذا.

ثم اللمس إن أريد به الجماع ، فهو ممكن لوجهين :

أحدهما : البلية بالقبلة ، واللمس باليدين [من] الزوجين ظاهرا لا يحتمل ألّا يعرف به الرسول والأئمة من فعل العوام ، فلو كان الوصف فيه لازما لا يحتمل ترك إظهار البيان حتى يلزم أكثر الأمة المنكر في فعل الصلاة ، والله أعلم.

والثاني : أن يكون الأمر بالمعروف في كل لمس ومس جرى الذكر به بين الذكور والإناث فهو بحق الكناية عن الجماع ، وكذلك سائر الحروف المحتملة للكناية عنه ؛ من نحو : المباشرة ، والغشيان ، ونحو ذلك ، وبه قال كل من أجاز التيمم للجنب في حق الصلاة من الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ والله أعلم.

__________________

 ـ بل هو المعنى الحقيقي ، ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز. وأما قولهم : بأن القبلة فيها الوضوء ، فلا حجة في قول الصحابي ، لا سيما إذا وقع معارضا لما ورد عن الشارع ، ويؤيد ذلك قول اللغويين ، أن المراد بقول بعض الأعراب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن امرأته لا ترد يد لامس ، الكناية عن كونها زانية ، ولهذا قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : طلقها.

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٨٩ ـ ٣٩٢) (٩٥٨١ ـ ٩٦٠١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٩٧) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٩٢) (٩٦٠٣ ، ٩٦٠٥) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٩٨) وعزاه لابن أبي شيبة عن الحسن.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠) (٩٥٨٤ ـ ٩٥٨٧) وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٩٧) وزاد نسبته لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) في ب : عن.

١٩٣

وإن أريد به غير الجماع مما قد يحتمل وجوها ، فهو لا يجمع الكل ، ولكن يرجع إلى خاص ، وهو الذي في الغالب أن يكون ثم خروج وإن لم يكن ، وهي المباشرة الفاحشة ؛ دليله ذكر المرض والسفر على غير اقتران الحكم بنفسه ؛ إذ هو اسمان لوجوه ، فانصرفا إلى غاية ما له وقعت الرخصة من العجز والعدم ، فمثله أمر الوضوء في الأول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)

قيل : التيمم : القصد (١) ؛ يقال : تيممت الصعيد وأممته (٢) ، لغتان (٣).

وقوله : (فَتَيَمَّمُوا)(٤) : تعمدوا صعيدا طيبا ، فإذا كان التيمم القصد والتعمد إلى الصعيد ـ لم يجز إلا بالنية ؛ لأنه ـ عزوجل ـ أمر بالقصد إليه والتعمد ، وذلك أمر بالنية ؛ لأن القصد نية.

وفي حرف حفصة وابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ «فأموا صعيدا طيبا» أي : اقصدوا قصده ، والصعيد ، قيل : هو وجه الأرض (٥) ، وسمي : صعيدا ؛ لما يصعد عليها.

وقيل : الصعيد هو الأرض التي تنبت ؛ ألا ترى أنه روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، إلّا السّبخة والمقبرة» (٦) وقيل : إنها ملعونة ؛ ولهذا قال (٧) أبو يوسف ـ رحمه‌الله ـ : إن التيمم لا يجوز من الأرض السبخة (٨) ؛ لأنها ليست

__________________

(١) أخرجه بنحوه ابن جرير (٨ / ٤٠٧) (٩٦٤٣) عن سفيان ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٩٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) في ب : وأيمته.

(٣) ينظر لسان العرب (٦ / ٤٩٦٦) ، ترتيب القاموس (٤ / ٦٨١) ، المعجم الوسيط (٢ / ١٠٧٩).

(٤) قال القرطبي (٥ / ١٤٢) : أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا ، واختلفوا فيه في الحضر ؛ فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز ؛ وهو قول أبي حنيفة ومحمد ، وقال الشافعي : لا يجوز للحاصر الصحيح أن يقيم إلا أن يخاف التلف ، وهو قول الطبري ، وقال الشافعي أيضا والليث والطبري : إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم تيمم وصلى ثم أعاد ، وقال أبو يوسف وزفر : لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت ، وقال الحسن وعطاء : لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ولا غير المريض ، وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية.

(٥) انظر : ابن جرير (٨ / ٤٠٨).

(٦) أخرجه البخاري (١ / ٥٧٩) كتاب التيمم : أول باب فيه (٣٣٥) ، وأطرافه (٤٣٨) (٣١٢٢) ، ومسلم (١ / ٣٧٠ ـ ٣٧١) كتاب الصلاة ومواضع الصلاة (٣ / ٥٢١) بلفظ : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ... وفيه : وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا ... الحديث».

(٧) في ب : مما قال.

(٨) ينظر : اللباب (١ / ٣١١) ، وحاشية ابن عابدين (١ / ١٥٩) ، وفتح القدير (١ / ٨٨) ، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير (١ / ١٥٤) ، والدسوقي (١ / ١٥٥) ، ومغني المحتاج (١ / ٩٦) ، وحاشية البجيرمي على الخطيب (١ / ٢٥٢) ، والمغني (١ / ٢٤٧) ، وغاية المنتهي (١ / ٦١).

١٩٤

بطيب ، والطيب ما ينبت ، وأما أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ فإنه قال : الطيب : هو الطاهر الحلال ، له أن يتيمم به إذا عدم الماء ، الطيب : اسم ما [حل في كل نوع](١) من المقصود فيه ، والمقصود في التيمم التطهر ، فهو الطهور والطاهر ، وأيده الخبر الذي ذكر من جعل الأرض طهورا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)

الأمر يقع بمسح الأيدي على الذراعين دون الكفين (٢) ؛ دليله أمر الوضوء أنه يغسل الذراعان وقت غسلهما بلا غسل كفين ؛ إذ قد تقدم غسلهما ، فالذراعان دخلتا في المسح بذكر اليد ، وكذلك في الوضوء ؛ لأن الكفين يغسلان قبل غسل الوجه ، فالأمر بغسل اليد يقع على الذراعين وما وراء ذلك.

وعن موسى بن عقبة (٣) ، عن الأعرج (٤) ، عن أبي الجهيم (٥) قال : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غائط أو (٦) بول ، فسلمت عليه ، فلم يردّ على السلام ، فضرب باليد الحائط ضربة فمسح بها وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها يديه إلى المرفقين ، ثم ردّ السلام (٧).

وهكذا يقول أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ بالضربتين : ضربة للوجه ، وضربة للذراعين.

الأصل : أنه إذا قال الله ـ عزوجل ـ في الوضوء : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) : أنه في وقت الأمر يفعل الغسل إلى المرافق غير مخاطب بغسل الكفين على حق غسل الذراع ؛ إذ

__________________

(١) في أ : حمل.

(٢) في ب : الكعبين.

(٣) موسى بن عقبة بن أبي عياش ، الإمام الثقة الكبير أبو محمد القرشي ، مولى آل الزبير ، كان بصيرا بالمغازي النبوية ، وهو أول من صنف في ذلك ، وكان ثقة قليل الحديث. مات سنة ١٤١ ه‍.

تنظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء (٦ / ١١٤) رقم (٣١) ، تذكرة الحفاظ (١ / ١٤٨).

(٤) الإمام الحافظ الحجة المقرئ ، أبو داود عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، أخذ عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما ، وكان يكتب المصاحف. مات سنة ١١٧ ه‍.

تنظر ترجمته في : سير الأعلام (٥ / ٦٩) رقم (٢٥) ، تذكرة الحفاظ (١ / ٩٧).

(٥) في أ : أبي جهينة : والصواب ما أثبت ، وهو أبو الجهيم بن الحارث بن الصمة بن عمرو ، الأنصاري ، وحديثه مشهور في التيمم قبل رد السلام.

تنظر ترجمته في : الإصابة : ترجمة (٩٧٠٤).

(٦) في أ : و.

(٧) أخرجه الدارقطني في سننه (١ / ١٧٦ ـ ١٧٧) عن أبي جهيم بن الحارث في كتاب الطهارة : باب التيمم ؛ وذكره الزيلعي في نصب الراية (١ / ١٥٤) وقال : رواه الدارقطني من حديث أبي عصمة عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي جهيم .. الحديث ، ثم قال : أبو عصمة إن كان هو نوح بن أبي مريم ـ فهو متروك.

١٩٥

قد [مضى غسل فرضها](١) من قبل ؛ فصارت الآية كأنها في غسل الذراع بالأمر بغسل (٢) اليد ، وعرف [بذلك](٣) غسل الكف لا بها ، فمثله أمر التيمم ؛ فصارت الآية كأنها في حق الذراع ، ودخل الكف في ذلك بالخبر على أن أمر الطهارة فيما أضيفت إلى عضو أو بدن لم يحد لم يدخل كالمضاف إليه في الاشتراك بقضاء حقهما (٤) ، نحو الجنابة ، والوجه ، والرأس ، فكذلك أمر اليد في التيمم ، لكن قصر عن التمام ، بدلالة بيان السنة وعموم الفتيا ، وما لا يشك (٥) في قضاء حكم الوضوء ، وليس هو في بعض اليد فلا يجعل فيما ليس هو فيه بدله ؛ إذ حقه التقصير عن كمال وظيفة الأصل ، لا الزيادة عليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا)

لما مضى من الذنوب

(غَفُوراً) لما يستقبل.

والعفو : الصفح والمحو ، والغفر : الستر ، هو يعفو عنه ، ويستر على صاحبه.

[أو يعفو من](٦) التجاوز ؛ فيختلف اللفظ على إرادة معنى واحد.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(٤٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً)(٧) يقول : أعطوا حظّا من علم الكتاب ، وهم علماؤهم ، يشترون الضلالة بعلم الكتاب.

ويحتمل : يشترون الضلالة بالهدى ، [وكذلك قيل في حرف حفصة على ما ذكر في

__________________

(١) في أ : قضى فرض غسلهما.

(٢) في ب : يغسل.

(٣) سقط من ب.

(٤) في أ : حقها.

(٥) في أ : شك.

(٦) في أ : والعفو هو.

(٧) قال القرطبي (٥ / ١٥٧) : نزلت في يهود المدينة وما والاها. قال ابن إسحاق : وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود إذا كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوّى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك. ثم طعن في الإسلام وعابه ؛ فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا ...) الآية ، إلى قوله قَلِيلاً.

١٩٦

غير هذه الآية : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى)](١) وذلك أنهم كانوا آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث ، فلما لم يبعث على هواهم ، كفروا به ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

ويحتمل : يشترون ضلالة غيرهم بالتحريف ، والرشاء ، ونحو ذلك ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنفال : ٣٦] وقوله : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) [العنكبوت : ١٢].

(أَلَمْ تَرَ) حرف التعجب عن أمر قد بلغه ؛ فيخرج مخرج التذكير ، أو لم يبلغه ؛ فيخرج مخرج التعليم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) يحتمل وجهين :

(وَيُرِيدُونَ) أي : يتمنون أن تضلوا السبيل ؛ لتدوم لهم الرئاسة والسياسة ؛ إذ كانت لهم الرئاسة على من كان على دينهم ؛ ولم يكن لهم ذلك على من لم يكن على دينهم ؛ فتمنوا أن يكونوا على دينهم ؛ لتكون لهم الرئاسة عليهم.

وقيل : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي : يأمرونهم ويدعونهم إلى دينهم (٢) ؛ لما ذكرنا من طلب المنافع ، وإبقاء الرئاسة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ)

كأنهم ـ والله أعلم ـ يطلبون موالاة المؤمنين ، ويظهرون لهم الموافقة ، فنهي الله ـ تعالى ـ المؤمنين عن موالاتهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ...) [آل عمران : ١١٨] إلى قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ ...) الآية ، فأخبر الله ـ تعالى ـ المؤمنين أنه أعلم بأعدائكم منكم.

ويحتمل أن يكون المؤمنون استنصروهم ، واستعانوا بهم في أمر ، فأخبر ـ عزوجل ـ أنهم أعداؤكم ، وهو أعلم بهم منكم.

ثم قال : (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً)

أي : كفي به وليّا ومعينا ، وكفي به ناصرا.

ويحتمل قوله : (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) مما أعطاكم من أعطاكم ، أي : لا ولى أفضل من الله ـ تعالى ـ ولا ناصرا أفضل منه ، منه البراهين والحجج ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) ، وفي حرف ابن

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) انظر : ابن جرير (٨ / ٤٢٩). البحر المحيط لأبي حيان (٣ / ٢٧١ ـ ٢٧٢).

١٩٧

مسعود ـ رضي الله عنه ـ : (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً. مِنَ الَّذِينَ هادُوا) على الاستئناف ، والابتداء خبر ، وفي حرف غيره : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) ـ معناه والله أعلم : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا ، لا ذكر للنصارى (١) في ذلك.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ذكر النصارى في الذين أوتوا نصيبا.

وفي حرف حفصة ـ رضي الله عنها ـ : «من الذين هادوا من يحرف الكلم عن مواضعه».

ثم تحريف الكلم يحتمل وجهين :

يحتمل : تغيير (٢) المعاني وتبديل التأويل على جهالهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ ...) الآية [آل عمران : ٧٨].

ويحتمل : تغيير (٣) اللفظ والكتابة نفسها ؛ كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة : ٧٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا)

قيل : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ)

قيل : اسمع قولنا غير مسمع ، أي : غير مجيب.

وقيل : اسمع قولنا غير مسمع لا سمعت ؛ على السب (٥).

وقوله : (وَعَصَيْنا)

الإسرار به منهم أظهره الله ـ تعالى ـ عليهم ؛ ليكون آية للرسالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَراعِنا)

قيل : يقولون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : راعنا (٦) سمعك (٧).

__________________

(١) في ب : النصارى.

(٢) في ب : تغير.

(٣) في ب : تغير.

(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير (٨ / ٨٣٣) (٩٦٩٣ ـ ٩٦٩٥) عن مجاهد ، و (٩٦٩٦) عن ابن زيد وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٠) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن مجاهد.

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٣٣ ـ ٤٣٤) (٩٦٩٧) عن ابن زيد ، و (٩٦٩٨) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٠) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد وابن عباس ، وللطبراني عن ابن عباس أيضا.

(٦) في ب : ارعنا.

(٧) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦) (٩٧٠٣) عن الضحاك ، (٩٧٠٧) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٠) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس.

١٩٨

وقيل : (وَراعِنا) : أرعنا حقوقنا ؛ وهو من الرعاية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي : تحريفا (١) ، والتحريف ما ذكرنا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ...) الآية [آل عمران : ٧٨].

وقيل في قوله ـ تعالى ـ : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي : اسمع يا محمد منا قولنا غير مسمع منك قولك ، ولا مقبول ما تقول (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)

أي : لو قالوا : سمعنا قولك ، وأطعنا أمرك ، وانظرنا فلا تعجل علينا ننظر.

وقيل في قوله : (وَانْظُرْنا) : أفهمنا (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)

مما قالوا : سمعنا قولك وعصينا أمرك ، لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة : أما في الدنيا : فدوام الرئاسة التي خافوا فوتها لو أطاعوه واتبعوه ؛ إذ قد [من](٤) آمن منهم وأطاعوا نبيه فلم تذهب عنهم الرئاسة والذكر في الدنيا ؛ بل ازداد لهم شرفا وذكرا في الحياة وبعد الممات ، وأمّا في الآخرة فثواب دائم غير زائل أبدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَقْوَمَ)

أي (٥) : أعدل وأصوب لما ذكرنا.

(وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ)

واللعن : هو الطرد ، طردهم الله ـ عزوجل ـ من رحمته ودينه ، لما علم منهم أنهم لا يؤمنون باختيارهم الكفر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)

قيل : والقليل من أسلم ؛ من نحو ابن سلام وأصحابه وغيرهم (٦).

وقيل : قوله ـ تعالى ـ : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) منهم ، أو لا يؤمنون إلا بالقليل من

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦) (٩٧٠٤) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٠).

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٣٤) (٩٦٩٩ ، ٩٧٠٠) عن مجاهد بن جبر ، وعن الحسن البصري (٩٧٠١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ابن جبر.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٣٧) (٩٧١٠ ، ٩٧١١) عن مجاهد ، وذكره أبو حيان في تفسيره (٣ / ٢٧٥).

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب : يعنى.

(٦) ذكره أبو حيان في تفسيره (٣ / ٣٧٦) ، والرازي في تفسيره (١٠ / ٩٦).

١٩٩

الكتب والأنبياء ، عليهم‌السلام (١) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)(٤٨)

قوله تعالى : وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ)(٢) دلت هذه الآية أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب ؛ ولا ممن أوتوا الكتاب ؛ لأنه قال ـ عزوجل ـ : (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي : موافقا لما معكم وليس عند المجوس كتاب حتى يكون المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدقا لما معهم.

ثم قوله : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي : موافقا لما معكم ، وإنما كان موافقا لما معهم بالمعاني المدرجة فيه والأحكام ، لا بالنظم واللسان ؛ لأنه معلوم أن ما معهم من الكتاب مخالف للقرآن نظما ولسانا ، وكذلك سائر كتب الله ـ تعالى ـ موافق بعضها بعضا معاني وأحكاما ، وإن كانت مختلفة في النظم واللسان ؛ دل أنها من عند الله ـ تعالى ـ نزلت ؛ إذ لو كانت من عند غير الله كانت مختلفة ؛ ألا ترى أنه قال : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ففيه دليل لقول أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ حيث أجاز الصلاة بالقراءة الفارسية (٣) ؛ لأن تغير النظم واختلاف اللسان لم يوجب تغير المعاني واختلاف الأحكام ، حيث أخبر ـ عزوجل ـ أنه موافق لما معهم ، وهو في اللسان والنظم مختلف ، والمعنى موافق.

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره (١٠ / ٩٦) ، وابن عادل في اللباب (٦ / ٤١١).

(٢) قال القرطبي (٥ / ١٥٨) : واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية ؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا ، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين ، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟ قولان روي عن أبي بن كعب أنه قال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ) [النساء : ٤٧] من قبل أن تضلكم إضلالا لا تهتدون بعده يذهب إلى أنه تمثيل ، وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة ، وقال قتادة : معناه : من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء ، أي : يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب ؛ هذا معناه عند أهل اللغة ، وروي عن ابن عباس وعطية العوفي : أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا ؛ فيكون ذلك ردّا على الدبر ويمشي القهقري.

(٣) تنظر المسألة في : شرح المهذب (٣ / ٣٤١) ، الحاوي للماوردي (٢ / ١١٣) ، روضة الطالبين (١ / ٣٥٠) ، رد المحتار (٢ / ١٨٣ ، ١٨٤) ، المبسوط (١ / ٣٧ ، ٢٣٤) ، الهداية (١ / ٤٧) ، شرح فتح القدير (١ / ٢٤٧) ، مختلف الرواية (ص ١١٠) ، المغني لابن قدامة (٢ / ١٥٨) ، كشاف القناع (١ / ٣٤٠ ، ٣٤١) ، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (٢ / ٥٣).

٢٠٠