تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

على ذلك ، ويضمرون الخلاف لهم والعداوة ، والمودة للكفرة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) [التوبة : ٧٤] (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) [التوبة : ٩٦] ، ونحو ذلك ، فذلك معنى قوله : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) ، والله أعلم.

وقوله : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ).

أي : حبطت أعمالهم التي عملوها قبل إسرار ما أسروا في أنفسهم إذ أسروا ذلك (١) ، (فَأَصْبَحُوا) ، أي : صاروا خاسرين بعد الافتضاح ؛ حيث ذهبت منافعهم التي كانت لهم قبل الافتضاح وظهور نفاقهم.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) : التي عملوا ظاهرا ؛ مراءاة للناس.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(٥٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ...) الآية

قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) : إن قوله : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) ـ وإن كان حرف توحيد وتفريد ـ فإن المراد منه الجماعة ؛ ألا ترى أنه قال : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ)؟! دل هذا على أن المراد منه الجماعة والعصابة ، ولأن الواحد ـ والاثنين ـ إذا (٢) ارتد عن الإسلام يؤخذ ويحبس ويقتل إن أبى الإسلام ، والجماعة إذا ارتدوا عن الإسلام احتيج إلى نصب الحرب والقتال ؛ على ما نصب أبو بكر الحرب مع أهل الردة.

وفي الآية دلالة إمامة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لأن العرب لما ارتدت [عن الإسلام](٣) بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاربهم ؛ فكان هو ومن قام بحربهم ممن أحب الله وأحبه الله.

وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) قال : هو ـ والله ـ

__________________

(١) في أ : في ذلك.

(٢) في ب : إذ.

(٣) سقط من ب.

٥٤١

أبو بكر وأصحابه ، رضي الله عنهم أجمعين (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) [الفتح : ١٦] : يدل على إمامة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لأنه كان الداعى إلى حرب أهل الردة.

فإن قيل : يجوز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي دعاهم ـ قيل له : قال الله ـ تعالى ـ : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) [التوبة : ٨٣] فمحال أن يدعوهم فيطيعوا ، وقد قال الله ـ تعالى ـ : إنهم لن يخرجوا معه أبدا.

فإن قيل : قد يجوز أن يكون عمر ـ رضي الله عنه ـ هو الذي دعاهم ـ قيل له : فإن كان ، فإمامة عمر ـ رضي الله عنه ـ ثابتة بدليل الآية ، وإذا صحت إمامته صحت إمامة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لأنه المختار له والمستخلف.

فإن قيل : قد يجوز أن يكون علي ـ رضي الله عنه ـ هو الذي دعاهم إلى محاربة من حارب ـ قيل له : قال الله ـ تعالى ـ : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] ، وهذه صفة من يحارب من مشركي العرب الذين لا تقبل منهم الجزية ، وعلي ـ رضي الله عنه ـ إنما حارب أهل البغي وهم مسلمون ، ولم يحارب أحد بعد النبي أهل الردة غير أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فكانت الآية دليلا على صحة إمامته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)

(فَسَوْفَ) كقوله : (عَسى) ، والعسى من الله واجب. أخبر ـ عزوجل ـ أنه يأتي بقوم يحبهم ؛ لبذلهم أنفسهم في مجاهدة [أعداء الله](٢) ، وتركهم في الله لومة لائم ؛ فذلك لحبهم لله ؛ لأنه لا أحد يبذل نفسه للهلاك ، وترك لومة لائم ـ إلا لمن يحب الله ، وأحبهم الله : لما أثنى عليهم بقوله : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) ، وحبهم لله : لما بذلوا أنفسهم في مجاهدة أعدائه ، وتركهم لومة لائم.

وفيه دلالة إثبات إمامة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لأنه ـ عزوجل ـ أثني عليهم بخروجهم في سبيل الله ومجاهدة أعدائه ؛ فلو كان غاصبا ذلك على علىّ ـ رضي الله عنه ـ أو كان غير محق لذلك ـ لم يكن الله ليثنى عليه بذلك ؛ لأنه كان آخذا ما ليس له أخذه

__________________

(١) أخرجه الطبري (٤ / ٦٢٣) ، رقم (١٢١٨٤) وما بعده ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وخيثمة الأترابلسي في فضائل الصحابة ، والبيهقي في الدلائل : كما في الدر المنثور (٢ / ٥١٧).

(٢) في أ : أعداؤه.

٥٤٢

ومضيعا حقا لغيره ، ومن كان هذا سبيله لم يكن يستوجب كل هذا الثناء من الله تعالى ؛ فهذا ينقض على الروافض قولهم وما روي : «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» (١) وغيره من الأخبار ، وذلك في الوقت الذي طلب علي ـ رضي الله عنه ـ الخلافة وحارب عليها ؛ لأنه لا يحتمل أن يعلم أن له الخلافة في زمن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ويرى الحق لنفسه ، ثم يترك طلبها ؛ لأنه كان مضيعا حق الله عليه ؛ فدل سكوته وترك طلبه على أن الحق ليس له ، ولكن كان لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

أي : للمؤمنين ، أي : ذوو (٢) رحمة ورأفة للمؤمنين.

(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ)

أي : شاقة شديدة على الكافرين ، وهو ما وصفهم ، عزوجل : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] الآية ، بذلك وصفهم عزوجل.

وقوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) اختلف فيه :

قال بعضهم : ذلك الجهاد في سبيل الله ، أي : في طاعة الله (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، وقيل : ذلك الإسلام (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ).

(وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)

قد ذكرنا هذا في غير موضع.

قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية.

قال بعض أهل التأويل : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) هو صلة قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [وكذلك قوله ـ تعالى ـ](٣) : (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥٧] هو صلة ما تقدم [ذكره](٤) : نهى المؤمنين أن يتخذوا الذين أوتوا

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٣٧١٣) ، وأحمد (٤ / ٣٧٠) ، والنسائي في خصائص على (ص ـ ١٥) ، وابن حبان (٢٢٠٥) ، والحاكم (٣ / ١٠٩) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (١٣٦٥ ، ١٣٦٦ ، ١٣٦٧ ، ١٣٦٨) ، والطبراني في الكبير (٤٩٦٨ ، ٤٩٦٩ ، ٤٩٧٠) من حديث زيد بن أرقم ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

(٢) في أ : ذو.

(٣) في ب : وقوله.

(٤) سقط من ب.

٥٤٣

الكتاب ، والذين لم يؤتوا الكتاب أولياء في غير آي من القرآن ، وأخبر أن الله ورسوله هو ولي الذين آمنوا ، والمؤمنون ـ أيضا ـ بعضهم أولياء بعض [كما في] قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] ، فإذا كان الله ـ عزوجل ـ ورسوله والذين آمنوا أولياء لمن آمن ـ لم ينبغ أن يتخذوا الكفار أولياء.

وذكر في بعض القصة أن عبد الله بن سلام قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن اليهود أظهروا لنا العداوة من أجل إسلامنا ، وحلفوا ألا يكلمونا ، ولا يخالطونا في شيء ، ومنازلنا فيهم ، وإنا لا نجد متحدثا دون هذا المسجد ؛ فنزلت الآية ـ فقالوا : قد رضينا بالله وبرسوله والمؤمنين أولياء.

ثم اختلف في نزوله :

قال بعضهم : نزلت في شأن علي ـ رضي الله عنه ـ تصدق بخاتمه وهو في الركوع (١).

ويقولون : خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو بمسكين ، فدعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هل أعطاك أحد شيئا» ، قال : نعم [يا رسول الله](٢) ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ذا؟» قال : خاتم فضة؟ قال : «من أعطاك؟» قال : ذلك الرجل القائم ـ يعني : عليا ـ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على أي حال أعطاكه؟ قال : أعطانيه وهو راكع ؛ فكبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعا له وأثنى عليه (٣). فاحتج الروافض بهذه الآية على تفضيل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ على أبي بكر وإثبات الخلافة له دون غيره.

ويقولون : نزلت في شأنه ـ رضي الله عنه ـ لما روي عن أبي جعفر ـ رضي الله عنه ـ قال : «تصدق علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بخاتمه وهو راكع ؛ فنزل : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(٤)

فيقال لهم : هب أن الآية نزلت في شأنه ، وليس فيها دلالة إثبات الخلافة له في زمن

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٤ / ٦٢٨ ـ ٦٢٩) (١٢٢١٥) عن السدي ، (١٢٢١٨) عن عتبة بن أبي حكيم ، (١٢٢١٩) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥١٩) ، وعزاه للخطيب في المتفق والمفترق وعبد الرزاق وعبد بن حميد وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس ، وللطبراني في الأوسط وابن مردويه عن عمار بن ياسر ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر عن سلمة بن كهيل ، وابن جرير عن مجاهد ، والسدي ، وعتبة بن أبي حكيم.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه الطبري (١٢٢١٥) عن السدي ، وبرقم (١٢٢١٦) عن أبي جعفر ، وبرقم (١٢٢١٩) عن مجاهد. وأخرجه الخطيب في المتفق والمفترق ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥١٩) عن ابن عباس ، وله طرق أخرى كثيرة. ينظر : الدر المنثور (٢ / ٥١٩ ـ ٥٢٠).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٢ / ٣٨٣).

٥٤٤

أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لأنا قد ذكرنا في الآية الأولى ما يدل على إثبات الإمامة له في الوقت الذي كان هو إماما ، ونحن لا نجعل لعلي ـ كرم الله وجهه ـ الخلافة له في الوقت الذي لم ير لنفسه فيه الخلافة ؛ لأنه روي عنه أنه قال : «إن أبا بكر هو خير الناس بعد رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١) أو كلام نحو هذا.

وفي الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو ولّيتم أبا بكر لوجدتموه قويّا فى دينه ، ضعيفا فى بدنه ، وإن ولّيتم عمر لوجدتموه قويّا فى دينه وبدنه ، وإن ولّيتم عليّا لوجدتموه هاديا مهديّا مرشدا» فنقول : نحن على ما كان من على وسائر الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ من تسليم الأمور (٢) إلى أبي بكر ، وتفويضهم إليه من غير منازعة ظهرت من على ـ كرم الله وجهه ـ في ذلك ؛ فلو كان الحق له في ذلك الوقت ، لظهرت منه المنازعة على ما ظهرت في الوقت الذي كان له.

فقالوا : لأن عليّا ـ رضي الله عنه ـ لم يكن له أنصار ، وفي الوقت الذي ظهرت المنازعة منه والطلب كان له أنصار.

قيل : لا يحتمل أن يكون الحق له فيها ثم لا يطلب ؛ لما لم يكن له أنصار ؛ ألا ترى أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ مع ضعفه في بدنه ، خرج وحده لحرب أهل الردة ، حتى لما رأوه خرج وحده حينئذ تبعوه؟! فأبو بكر لم يترك طلب الحق لعدم الأنصار ، مع ضعفه في بدنه ، فعلي ـ رضي الله عنه ـ مع شدته وقوته وفضل علمه بأمر الحرب ؛ حتى لم يبارز أحدا من الأعداء إلا غلبه وأهلكه ؛ فكيف توهمتم فيه ترك طلب الحق لفقد الأنصار له والأعوان في ذلك؟! هذا لعمري لا يتوهم في أضعف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضلا أن يتوهم في علي ـ رضي الله عنه ـ فدل ترك طلب ذلك منه على أنه ترك ؛ لما رأى الحق له ، والله أعلم.

واحتجوا بما روي عن [رسول](٣) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لعلي : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، غير أن لا نبىّ بعدى» (٤) ، وهارون كان خليفة موسى ؛ فلم أنكرتم ـ أيضا ـ أن

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٦ / ٣٥١) كتاب الفضائل : باب ما ذكر في فضل أبي بكر الصديق (٣١٩٥٠).

(٢) في الأصول : الأموال.

(٣) في ب : نبي.

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ١٨٧٠) كتاب فضائل الصحابة : باب من فضائل على بن أبي طالب ، حديث (٣٠ / ٢٤٠٤) ، وأحمد (١ / ١٧٧) ، وعبد الرزاق (٩٧٤٥) ، والحميدي (٧١) من حديث سعد بن أبي وقاص.

٥٤٥

عليّا ـ رضي الله عنه ـ كان خليفة رسول (١) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! قيل : لهذا جوابان :

أحدهما : أن قوله : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» يحتمل أن يكون في الأخوة التي كان آخاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس في إثبات الأخوة إثبات الخلافة له.

والثاني : أنه كانت له الخلافة في الوقت الذي كان هو ، وليس في الخبر جعل الخلافة له في الأوقات كلها وهكذا جواب ما روي عنه : «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» (٢) ، والله أعلم.

ثم إن كان الحديث الذي روي عن أبي جعفر ـ رضي الله عنه ـ صحيحا ؛ ففي الآية معنيان :

أحدهما : فضيلة علي ـ كرم الله وجهه ـ وقد كان كثير الفضائل ، مستكملا خصال الخير.

والآخر : أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها ، وقد روي في بعض الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خلع نعله في الصلاة ، وأنه مس لحيته ، وأنه أشار بيده ، وغير ذلك من العمل اليسير فعله في صلاته ؛ فيقاس كل عمل يسير على ما دل عليه الخبر على جواز الصلاة.

وفيه وجه آخر : وهو أن الصدقة التطوع تسمى زكاة ؛ لأن صدقة علي ـ رضي الله عنه ـ بالخاتم لم تكن صدقة مفروضة ، بل كانت تطوعا ؛ فسماها الله زكاة وإن كانت تطوعا ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٣٩] ، فسماها [الله](٣) زكاة ، وإن كانت تطوعا ؛ كما تسمى صلاة الفرض والتطوع : صلاة ، وصوم التطوع والفرض : صياما ؛ فعلى ذلك هذا.

وظاهر الآية في جملة المؤمنين ، [و] ليس علي ـ رضي الله عنه ـ أولى بها من غيره ، فإن كان فيه نزل ، فهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

ظاهر هذا لو صرف إلى أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ كان أقرب ؛ لأنه كان هو الغالب على أهل الردة من أول ما وقع بينهم إلى آخره ، وعلي ـ رضي الله عنه ـ إنما صار الأمر له في آخره حين حارب الخوارج ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً ...) إلى آخره

__________________

(١) في ب : الرسول.

(٢) تقدم.

(٣) سقط من ب.

٥٤٦

يحتمل النهي عن اتخاذ أولئك أولياء وجوها :

يحتمل : النهي قبل أن يتخذوا ؛ لئلا يتخذوا.

ويحتمل : النهي بعد ما اتخذوا أولياء : لا في الدين ، ولكن في بعض المكاسب.

ويحتمل : أن يكون النهي للمنافقين ألا يكونوا مع أولئك على المؤمنين ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

والحزب : هو العون والنصر في اللغة ؛ قال الكسائي : تقول العرب : فلان حزبي ، أي : ناصري وعوني.

وقوله : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً).

يخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاية سفههم بصنيعهم إذا نودي [إلى الصلاة](١) ؛ لأنه ذكر في القصة : أنهم إذا سمعوا المنادي يقول : «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ، قالوا : حرق الكاذب ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين من هذه الأديان أقل حظّا في الدنيا والآخرة منهم ، يعنون : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ فدخل (٢) خادمهم ليلة من الليالي بنار وهو نائم ، فسقطت شرارة ؛ فحرقت البيت واحترق هو وأهله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)

نفي عنهم العقل ؛ لما لم ينتفعوا بما عقلوا ؛ وإلا كانوا يعقلون ؛ وعلى ذلك يخرج قوله (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١٠] ، لما لم ينتفعوا بما سمعوا به وعقلوا ، وكذلك قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ...) الآية [البقرة : ١٨] : إنا نعلم أنهم كانوا يبصرون ويسمعون ؛ لكن نفي عنهم لما لم ينتفعوا بالبصر والسمع واللسان ؛ كمن ليس له ذلك في الأصل ، والله أعلم.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن شدة بغضهم وحسدهم [لنبينا محمد](٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم تمنعهم عن فهم ما خوطبوا به ، وتحول بينهم وبين معرفة ذلك ـ فكانوا كمن ليس لهم ذلك رأسا.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)(٥٩) الآية.

قيل : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) : هل تطعنون علينا ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه.

وقيل : وهل تعيبون علينا (٤).

__________________

(١) في ب : الصلاة.

(٢) في ب : فدخلت.

(٣) في ب : لمحمد.

(٤) ذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٥٢٧) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ٤٨) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ٤٠٣).

٥٤٧

وقال أبو عوسجة : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) ، أي : تنكرون منا (١).

وهو يرجع إلى واحد.

والنقم : هو العيب والطعن ، والانتقام : هو الانتصار ، ومعناه : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) ، أي : كيف تطعنون علينا وتعيبون ، وأنتم ممن قد دعوتم إلى الإيمان بالله ، والإيمان بما أنزل في الكتب ، وأنتم ممن قد أوتيتم الكتاب ، وفي كتابكم الإيمان بالله ، والإيمان بالكتب كلها ؛ فكيف تنكرون الإيمان بذلك كله ، وتعيبون علينا ، ولا تعيبون على أنفسكم بفسقكم وخروجكم عن أمر الله تعالى ، وعما أمركم كتابكم ودعاكم إليه ، ونهاكم عما أنتم فيه؟!

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) وهو القرآن ، وهو يصدق ما قبله من الكتب ، (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) من الكتب المتقدمة من التوراة والزبور والإنجيل ، وهي تصدق القرآن ، بعضها يصدق بعضا ، فكيف تنكرون الإيمان به؟!

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٦٠) الآية.

ذكر هذا ـ والله أعلم ـ على أثر قوله : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ...) على أثر قوله : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ....) الآية ؛ وذلك أنهم كانوا يستهزءون بالمؤمنين ويضحكون منهم ، ويطعنون في دينهم ويعيبون عليهم ؛ فقال على أثر ذلك : (قُلْ) يا محمد : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) ، أي : مما المؤمنون عليه (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) قالوا : من؟ قال الله : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ...) الآية ؛ فمن كان هذا وصفه فهو شر مما عليه المؤمنون ، وقد كان فيهم جميع ذلك مما غضب الله عليهم ولعنهم ، أي : حول جوهرهم إلى أقبح جواهر في الطبع وأوخسها ـ وهي القردة والخنازير ـ بسوء صنيعهم.

أو يكون ذلك على أثر قول ما قالوا : ما ذكر في بعض القصة : «والله ما نعلم من أهل دين أقل حظّا في الدنيا والآخرة من هؤلاء» ، يعنون : المؤمنين ؛ لأنهم كانوا يدّعون أن الدنيا والآخرة لهم ، وليس لهؤلاء لا دنيا ولا آخرة ؛ فقال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : (قُلْ) يا محمد : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) ، أي : ثوابا عند الله ، فقالوا : من هم؟ قال : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)

والملعون : هو المطرود عن الخيرات ، وجعل من حول جوهره إلى جوهر القرد

__________________

(١) ذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٥٢٧) ، ولم ينسبه لأحد.

٥٤٨

والخنزير ، وهو أقبح جوهر في الطبع والعقل وأوسخه ، ومن (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) يعنى : الشيطان (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) في الدنيا ؛ لما حول جوهرهم إلى أقبح جوهر في الأرض ـ من الذين لم يحول جوهرهم إلى ذلك ؛ إذ لم يروا أحدا من المؤمنين حوّل جوهره إلى جوهر من ذكر ، وقد رأوا كثيرا من أوائلهم قد حولوا من جوهرهم إلى هذه الجواهر المستقبحة في الطبع المؤذية. أو يكون على الإضمار على أثر أمر كان ونحن لم نعلم به ؛ فنزل عند ذلك.

وعن الحسن قال : قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) : الذين لعنهم الله ، والذين غضب عليهم ، والذين عبدوا الطاغوت ، والذين جعل منهم القردة والخنازير : منهم من جعله (١) قردة ، ومنهم من أبقى على جوهره الذي كان ، (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) في الدنيا والآخرة.

(وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ).

أي : أخطأ طريقا ودينا ، والله أعلم بالقصة.

قوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ)(٦١)

قيل : إن الآية في اليهود (٢).

وقيل : إنها في المنافقين (٣).

وهي في المنافقين أشبه ؛ ذكر أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويظهرون الموافقة [له](٤) ، ويخبرونه أنهم يجدون نعته وصفته في كتبهم ، ويضمرون الخلاف له في السر وهزءوا به ؛ فقال عند ذلك : (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) : أخبر ـ عزوجل ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنهم دخلوا بالكفر ؛ لأنهم يقولون ذلك استهزاء ، وعلى ذلك خرجوا ؛ ففيه دلالة إثبات رسالة [سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٥) ؛ لأنه أخبر عما أضمروا ؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك بالذي يعلم الغيب ، مع علمهم أنه لا يعلمه إلا الله ، والله أعلم بما كانوا يكتمون ويضمرون من الكفر والهزء.

__________________

(١) في ب : جعل.

(٢) أخرجه ابن جرير (٤ / ٦٣٦) ، (١٢٢٣٤) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٥٢٣ ـ ٥٢٤) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه ابن جرير (٤ / ٦٣٦) ، (١٢٢٣٥) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٥٢٤).

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب : رسول الله.

٥٤٩

قوله تعالى : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٦٢) الآية.

يحتمل أن يكون قوله : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) : من ملوكهم وعوامهم.

(يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) ، أي : في قول الكفر والعدوان ، والعدوان : هو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم ، ويسارعون ـ أيضا ـ في أكل السحت والسحت ، قيل : هو كل محرم ، وقيل : هو الرشوة في الحكم (١) ، وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : الرشوة : هي الكفر ، وأما السحت : هو أن يرفع حاجة أخيه إلى السلطان فيأكل عنده ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

ثم قال على أثر ذلك : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)(٦٣)

عاتب الله ـ عزوجل ـ الربانيين والأحبار عن تركهم نهي أولئك عن صنيعهم ، وأشركهم في الإثم شرعا سواء ؛ ليعلموا أن العامل بالإثم والمعصية والراضي به والتارك النهي عن ذلك ـ سواء ، وفيه دلالة أن تارك النهي عن المنكر يلحقه من الإثم ما يلحق الفاعل به.

والربانيون والأحبار قد ذكرنا فيما تقدم.

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(٦٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ...) [الآية](٢).

قال الحسن : [قول اليهود](٣) : «يد الله مغلولة» ، أي : محبوسة ممنوعة عن

__________________

(١) أخرجه ابن جرير في تفسيره (٤ / ٦٣٨) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ٤٩) ، وأبو حيان في البحر (٣ / ٥٣٢).

(٢) سقط من ب.

(٣) في أ : قوله تعالى.

٥٥٠

تعذيبنا (١) ؛ لقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ).

في الآخرة بالسلاسل إلى أعناقهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ).

بالمغفرة والتعذيب ؛ يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «قولهم : «يد الله مغلولة» : لا يعنون بذلك أن يده موثقة مغلولة حقيقة اليد والغل ؛ ولكن وصفوه بالبخل ، وقالوا : أمسك ما عنده ؛ بخلا منه ، تعالى الله عن ذلك (٢).

وقال آخرون : إن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد كان بسط على اليهود الرزق ؛ فكانت من أخصب الناس وأكثرهم خيرا ، فلما عصوا الله في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكفروا به ، وبدلوا نعمة الله كفرا بالنعمة ـ كف الله ـ تعالى ـ عنهم بعض الذي كان بسط عليهم من السعة في الرزق ؛ فعند ذلك قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ، لم يقولوا : يده مغلولة إلى عنقه ، ولكن ممسكة عنهم الرزق ، فلا يبسط كما (٣) كان يبسط ؛ وهو كقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩] : نهى عن البخل في الإنفاق ، لا أنه أراد حقيقة غل اليد إلى عنقه ؛ فعلى ذلك قولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) : كناية عن البخل ووصف به ، لا حقيقة الغل ، وبالله العصمة.

وتأويل قوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) على هذا التأويل ، أي : أيديهم هي الممسكة عن الإنفاق ، وهم الموصوفون بالبخل والشح.

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ، أي : نعمه مبسوطة : يوسع على من يشاء ، ويقتر على من يشاء.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : بل يداه يبسطان.

قال الفراء : يقال : وجه مبسوط ، ووجه بسط.

ثم لا يحتمل أن يفهم من إضافة اليد إلى الله ما يفهم (٤) من الخلق ؛ لما وجد إضافة اليد إلى من لا يحتمل أن يكون له اليد ، من ذلك قوله ـ تعالى ـ : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] : لا يفهم من القرآن اليد كما يفهم من الخلق ؛ فعلى

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٥٠) ، وأبو حيان في البحر (٣ / ٥٣٤) وعزاه للحسن البصري.

(٢) أخرجه ابن جرير (٤ / ٦٤٢) ، (١٢٢٤٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٢٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٣) في ب : ما.

(٤) في ب : فهم.

٥٥١

ذلك لا يجوز أن يفهم من إضافة اليد إلى الله ـ تعالى ـ كما يفهم من الخلق ؛ ألا ترى أنه قال : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ)(١)(يَداكَ) [الحج : ١٠] و (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ، لم يفهم منه اليد نفسها ؛ وكذلك قوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) [آل عمران : ١٨٢] ، لكن أضيف ذلك إلى اليد ؛ لما باليد يقدم ويعطي ويكسب ؛ ألا ترى أنه قال ـ تعالى ـ : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١] ، ومعلوم أنه لم يفهم من اليد : اليد نفسها ، ولكن أضيف ذلك إليها ؛ لما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلُعِنُوا بِما قالُوا)

قيل : عذبوا بما قالوا (٢) : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ، واللعن ـ في اللغة ـ : هو الطرد ؛ كأنه قال : طردوا عن رحمة الله وأيسوا عنها حتى لا ينالوها أبدا بقولهم الذي قالوا.

وقيل : فيه إخبار : أنهم يموتون على ذلك ، ولا يؤمنون ، فماتوا على ذلك ؛ فذلك دليل رسالته ، عليه الصلاة والسلام ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : يريد ما أنزل [الله](٣) إليك من القرآن ، (كَثِيراً مِنْهُمْ) ، يعني : اليهود (٤)(طُغْياناً وَكُفْراً).

وقيل : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) : من البيان عما كتموا من نعته وصفته التي كانت في كتابهم ، وما حرفوا فيه وغيروه من الأحكام ؛ فذلك مما زادهم طغيانا وكفرا.

قيل : (طُغْياناً) ، أي : تماديا بالمعصية (٥) ، (وَكُفْراً) : بالقرآن.

وقيل : الطغيان : هو العدوان (٦) ، وهو المجاوزة عن الحدّ الذي حد.

فإن قيل : ما معنى إضافة زيادة الطغيان إلى القرآن ، والقرآن لا يزيد طغيانا ولا كفرا؟ :

قيل : إضافة الأفعال إلى الأشياء تكون لوجوه ثلاثة :

منها : ما يضاف لحقيقة الفعل بها.

__________________

(١) في الأصول : كسبت.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٥٠) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ٤٢٦).

(٣) سقط من ب.

(٤) ذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٥٣٦) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ٤٣١).

(٥) ذكره ابن جرير (٤ / ٦٤٢).

(٦) تقدم.

٥٥٢

ومنها : ما يضاف للأحوال.

ومنها : ما يضاف لمكان ما به يكون الفعل ، وهاهنا أضيف ذلك إلى القرآن ؛ لما كان فيهم من الطغيان والكفر لمكان ما أنزل إليهم بالكفر الذي كان فيهم ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] : إنهن لا يضللن أحدا في الحقيقة ؛ ولكن لما صاروا بهن ضلالا أضيف إليهن ، وكقوله ـ عزوجل ـ : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الأنعام : ٧٠] والحياة الدنيا لا تغر أحدا ؛ ولكن لما [لو](١) كانت لها حواس لكان ما أبدت (٢) من الزينة لغرت.

وقوله : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)

اختلف فيه :

قال بعضهم : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) : بين اليهود والنصارى ، أي : لا يحب اليهودى نصرانيّا ، ولا النصرانى يهوديّا.

وقال آخرون : (بَيْنَهُمُ) ، أي : بين اليهود ؛ لأن اليهود على مذاهب مختلفة وأهواء مشتتة : منهم من يقول : عزير ابن الله ، ومنهم من يذهب مذهب التشبيه. هم على أهواء مختلفة ؛ فبينهم عداوة وبغضاء ، على ما ذكرنا (٣) الاختلاف الواقع بينهم.

ثم معنى ما أضاف من إلقاء العداوة بينهم إلى نفسه لا يخلو : إما أن يكون له في نفس العداوة فعل ، أو أن يكون في سبب العداوة ، ولا يجوز أن يكون له في فعل العداوة صنع ؛ لأنه فعلهم ، ولا في سبب العداوة ـ أيضا ـ لأن سببه الاختلاف ، والاختلاف فعلهم ـ أيضا ـ فإذا بطل أن يكون له في واحد من هذين صنع ؛ دل أن له ذلك من الوجه الآخر ، وهو أن خلق فعل العداوة وسبب العداوة منهم ، وبالله التوفيق والعصمة.

فإن قيل : ذكر هاهنا أنه تعالى ألقى بينهم العداوة والبغضاء ، وذكر في آية أخرى أن بعضهم أولياء بعض بقوله ـ تعالى ـ : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [المائدة : ٥١] كيف يجمع بينهما؟! :

قيل : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في أصل الدين وهو الكفر ، وبينهم عداوة ؛ لاختلاف الأهواء والمذاهب ، والله أعلم.

وفي الآية دلالة الامتنان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أخبر أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء ،

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في أ : بدت.

(٣) في ب : ذكر.

٥٥٣

ولو كانوا على مذهب واحد ، ولم يكن بينهم اختلاف وعداوة ـ لكان ذلك عليه أشد ، وفي المقام بينهم (١) أصعب ، لكن منّ عليه بالاختلاف فيما بينهم ؛ لما جعل الاختلاف والتنازع سبب الفشل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا ...) الآية [الأنفال : ٤٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : كلما أرادوا مكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجمعوا أمرهم على قتله ، أطلع الله نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ على ذلك ؛ حتى لم يقدروا على مكره (٢).

والثاني : كلما انتصبوا للحرب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجتمعوا عليه ، فرق الله شملهم ، وجعلهم بحيث لا يجتمعون على ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً)

يحتمل وجهين ـ أيضا ـ :

يحتمل : السعي بالفساد على حقيقة المشي على الأقدام ، وهو ما كانوا يسعون في نصب الحرب مع المؤمنين ، والاتصال بغيرهم من الكفرة ، والاستعانة بهم ؛ فذلك هو السعي في الأرض بالفساد.

والثاني : ما كتموا من نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته وحرفوا ما في كتبهم من أعلام نبوته وآيات رسالته ، ودعوا الناس إلى غير ما نزل فيه ؛ وذلك سعي في الأرض بالفساد ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)

لأنه لا يحب الفساد ، ولا يرضى به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)

عامل الله ـ عزوجل ـ خلقه معاملة أكرم الأكرمين ؛ حيث وعد لهم المغفرة ، وتكفير ما ارتكبوا في حال الكفر ، وقولهم في الله من القبيح (٣) الوخش ؛ لو آمنوا واتقوا الذي قالوا في الله ؛ وهو كما قال الله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] : وذلك ـ والله أعلم ـ أنه لما تاب ورجع عن صنيعه يرجع عن جميع ما كان منه ، ويندم على ذلك ،

__________________

(١) في ب : منهم.

(٢) في أ : مكروه.

(٣) في ب : القبح.

٥٥٤

ويتمنى أن يكون ما كان منه في تلك الحال من الشر : خيرا ؛ فهو كقوله ـ تعالى ـ : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] ؛ لأنهم يندمون على تلك السيئات التي كانت منهم ، ويتمنون أن يكون الذي كان منهم في تلك الحال خيرا لا شرّا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ)

يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل ، وبما أنزل إليهم من القرآن ـ لأكلوا من كذا مما ذكر.

ويحتمل : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) : على ما أنزل ، ورجعوا عما حرفوا فيها وغيروه وكتموه من نعت [نبينا](١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ، وما فيها من الأحكام ـ لكان لهم ما ذكر (٢) ، والله أعلم.

وذلك أنهم كانوا يخافون الضيق إذا أسلموا وهو ـ والله أعلم ـ قوله : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) [القصص : ٥٧] فأخبر الله ـ عزوجل ـ أنهم لو آمنوا لو آمنوا واتقوا الشرك ، لوسع عليهم العيش.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).

ليس على حقيقة الأكل ؛ ولكن يخرج على المبالغة في الوصف والذكر ؛ كما يقال : فلان من قرن رأسه إلى قدمه في نعمة : ليس على حقيقة ما وصف ؛ ولكن على المبالغة في الوصف بالسعة.

ويحتمل : أن يكون على حقيقة الأكل : أما ما يخرج من تحت الأرجل : فهو ما يخرج من الأرض من المأكول والمشروب ، ومن فوقهم : من الثمار والفواكه يخرج من الأشجار.

ويحتمل : ما ذكر (مِنْ فَوْقِهِمْ) : وهو الجبال ، و (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) : الأرض ، إخبار أن يكون لهم نزل الجبل والسهل جميعا.

وقيل : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) ، أي : أرسل الله عليهم مدرارا ، (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) : تخرج الأرض بركتها ، وتنبت لهم الثمرة (٣).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) زاد في ب : وهو.

(٣) أخرجه ابن جرير (٤ / ٦٤٥) ، (١٢٢٦١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٢٧) ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

٥٥٥

وقال قتادة : لأعطتهم الأرض نباتها (١) ، والمساء بركتها (٢) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : (أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) من أسلم منهم (٣).

وقيل : منهم أمة مقتصدة على كتاب الله لم يحرفوه ، ولا غيروه ، ولا كتموا شيئا ، ولا سعوا في الأرض بالفساد على ما عمل أكثرهم من التحريف والتغيير (٤) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٧١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)

هذا ـ والله أعلم ـ وذلك أن أهل الكفر كانوا على طبقات ثلاث :

منهم من يقول : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [سبأ : ٣١] ، وقولهم (٥) : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦].

ومنهم من كان يخوفه ويمكر به ، ليقتلوه ؛ كقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ...) الآية [الأنفال : ٣٠].

ومنهم من كان يعرض عليه النساء والأموال ؛ ليترك ذلك ، وألا يدعوهم إلى دينه الذي

__________________

(١) في ب : بركتها.

(٢) أخرجه ابن جرير (٤ / ٦٤٥) ، (١٢٢٦٢). وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٢٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي الشيخ.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٤ / ٦٤٦) ، (١٢٢٦٧) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٢٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير (٨ / ٤٦٤) (١٢٢٧٢) عن الربيع بن أنس ، وزاد نسبته لأبي الشيخ.

(٥) في ب : وقوله.

٥٥٦

هو عليه. كانوا على الوجوه التي ذكرنا ؛ فأمر الله ـ عزوجل ـ أن يقوم على تبليغ رسالته ، وألا يمنعه ما يخشى من مكرهم وكيدهم على قتله ؛ لأن المرء قد يمتنع عن القيام بما عليه إذا خشي هلاكه أو لطلب مودة وصلة. أو يمتنع عن القيام بما (١) عليه إذا كذّب في القول (٢) ، ولحقه أذى لذلك ؛ فأمر الله ـ عزوجل ـ نبيه بتبليغ ما أنزل إليه ، وإن خشى على نفسه الهلاك أو التكذيب في القول ، والأذى وترك طلب الموالاة ، أي : لا يمنعك شيء من ذلك عن تبليغ ما أنزل إليك.

أو أن يكون الأمر بتبليغ الرسالة في حادث الوقت : أن بلغ ما أنزل إليك في حادث الوقت ؛ كما بلغت في الماضى من الوقت.

أو أن يكون الأمر بتبليغ ما أنزل إليه أمرا بتبليغ البيان ، أي : بلغ ما أنزل إليك من البيان كما بلغت تنزيلا ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم : ٤] أخبر ـ عزوجل ـ أنه إنما أرسل الرسل على لسان قومهم ؛ ليبينوا لهم ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ).

أي : وإن [لم] تبلغ ما أنزل إليك ؛ لما تخشى من الهلاك والمكر بك ـ كان كأن لم تبلغ الرسالة رأسا. لم يعذر (٣) نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ترك تبليغ الرسالة إليهم ، وإن خاف على نفسه الهلاك ، ليس كمن أكره على الكفر أبيح له أن يتكلم بكلام الكفر ، بعد أن يكون قلبه مطمئنّا بالإيمان إذا خاف الهلاك على نفسه.

ولم يبح له ترك تبليغ الرسالة وإن خشي على نفسه الهلاك ؛ ذلك ـ والله أعلم ـ أن تبليغ الرسالة تعلق باللسان دون القلب ، والإيمان تعلقه بالقلب دون اللسان ؛ فإذا أكره على الكفر أبيح له التكلم به بعد أن يكون القلب على حاله مطمئنا بالإيمان. وأما الرسالة : فلا سبيل له أن يبلغها إلا باللسان ؛ لذلك لم يبح له تركها وإن خاف الهلاك ؛ وهذا يدل لقولنا في المكره بالطلاق والعتاق أنه إذا تكلم به عمل ؛ لتعلقهما (٤) باللسان دون القلب ؛ فالإكراه لا يمنع نفاذ ما تعلق باللسان دون القلب كالرسالة التي ذكرنا ، والله أعلم.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ، أي : لم تبلغ الرسالة في حادث الوقت كأن

__________________

(١) في أ : لما.

(٢) في ب : القوم.

(٣) في أ : يعذب.

(٤) في ب : لأن تعلقهما.

٥٥٧

لم تبلغ فيما مضى. أو إن لم تبلغ البيان كما بلغت التنزيل فما بلغت الرسالة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)

فيه دليل إثبات رسالته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه ـ عزوجل ـ أخبر أنه عصمه من الناس ؛ فكان ما قال ؛ فدل أنه علم ذلك بالله ، وكذلك في قوله ـ تعالى ـ : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [هود : ٥٥] : كان يقول بين ظهراني الكفرة : كيدوني جميعا ، ثم لم يلحقه من كيدهم شيء ؛ دل أنه كان ذلك بالله تعالى.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحرس ، فلما نزل قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) قال : «انصرفوا إلى منازلكم ؛ فإنّ الله عصمنى من النّاس» ؛ فانصرفوا (١).

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ، أي : بلغ ما أنزل إليك من الآيات والحجج والبراهين ، التي جعلها الله أعلاما لرسالتك ، وآثارا لنبوتك ؛ ليلزمهم الحجة بذلك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)

لا يبتدأ الكلام بمثل هذا إلا عن قول أو دعوى تسبق ، وليس في الآية بيان ما كان منهم ؛ فيشبه أن يكون الذي كان منهم ما ادّعوا أنهم على دين الله وعلى ولايته ، أو ما قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ، أو ما قالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، أو نحو ذلك من أمانيهم ودعاويهم التي ادعوا لأنفسهم ؛ فقال لرسوله : قل لهم : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

قال الحسن : قوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ، أي : حتى تقيموا ما قد حرفتم وغيرتم من التوراة والإنجيل وبدلتم ، وتثبتوا على ما أنزل وتؤمنوا به.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٦٤٧) ، (١٢٢٧٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٢٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم وأبي نعيم والبيهقي ، كلاهما في الدلائل ، وابن مردويه.

٥٥٨

وقال غيره : [قوله ـ تعالى ـ](١) : (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بالشهادة والتصديق لما فيهما.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ ...) : حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل من صفة محمد ونعته ومبعثه ونبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبينوه للناس ولا تكتموه (٢). وهو وما ذكرنا واحد.

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

من كتب أنبيائكم ، وحتى تقيموا ـ أيضا ـ ما أنزل من الكتب : كتب الرسل أجمع ؛ لأن الإيمان ببعض الرسل وببعض الكتب ، والكفر ببعض ـ لا ينفع ؛ حتى يؤمن بالرسل كلهم وبالكتب جملة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : القرآن في أمر الرجم والقصاص (طُغْياناً وَكُفْراً).

وقال بعضهم : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) هو ما أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغ ما أنزل عليه بقوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) : أي : لا تحزن على كفرهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، ونحو قوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨]

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية.

قال ابن عباس : هم الذين آمنوا بألسنتهم ، ولم تؤمن قلوبهم.

وقال بعضهم : هم الذين آمنوا ببعض الرسل لم يتسموا باليهودية ولا بالنصرانية.

(وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى)

قد ذكرنا (٣) فيما تقدم من هم؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

تأويل الآية ـ والله أعلم ـ : [وإن اختلفت](٤) أديانهم ، وتفرقت مذاهبهم لو آمنوا بالله

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٤ / ٦٤٩) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ٤٣٤).

(٣) في ب : ذكر.

(٤) في الأصول : وأنهم اختلف.

٥٥٩

وما ذكر ، فلا خوف عليهم بما كان منهم في حال كفرهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : على فوت ما أعطاهم ، أي : لا يفوتهم ذلك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ)

قد أخذ الله ـ عزوجل ـ الميثاق على جميع البشر ، وخصهم به دون غيرهم من الخلائق ؛ لما ركّب فيهم ما يعرف كلّ به شهادة الخلقة على وحدانية ربه ؛ كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [الأحزاب : ٧٢].

ثم خص بني إسرائيل من البشر بفضل الميثاق ؛ لما أرسل إليهم الرسل منهم ، وهو قوله : (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ، وكأنهم قد قبلوا تلك المواثيق ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ ...) إلى آخره ؛ وكقوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠] كان من الله لهم عهد [ومنهم لله عهد](١) ، فأخبر أنهم إذا أوفوا بعهده (٢) يوفى بعهدهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)

في الآية دلالة أنهم كانوا يخالفون دين الرسل بأجمعهم ؛ لما أحدثوا من اتباع أهوائهم ، وأن الرسل ـ وإن اختلفت أوقات مجيئهم ـ فإنهم إنما يدعون بأجمعهم إلى دين واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) : منهم من كذب ، ومنهم من قتل ، لكن القتل إن كان فهو في الأنبياء غير الرسل ؛ لأنه ـ تعالى ـ قال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] أخبر أنه ينصر رسله ، وليس في القتل نصر.

ويحتمل قوله : (وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) ، أي : فريقا قصدوا قصد قتلهم ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

قوله تعالى : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) في أ : بعده.

٥٦٠