تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) : ولم يبين ما الفتنة التي حسبوا ألا تكون ، فأهل التأويل اختلفوا فيها :

قال قائلون : الفتنة : المحنة التي فيها الشدة ، حسبوا ألا يأتيهم الرسل بامتحانهم على خلاف هواهم ، بل جاءتهم الرسل ؛ ليمتحنوا على خلاف ما أحدثوا من هوى أنفسهم.

وقال بعضهم : قوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) : أي : هلاك وعذاب بتكذيبهم الرسل ، وقصدهم قصد قتلهم.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «ألا يكون شرك» (١).

وقيل : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) : أي : حسبوا ألا يبتلوا بتكذيبهم الرسل ، وبقتلهم الأنبياء بالبلاء والقحط ، فعموا عن الهدى ، فلم يبصروه ، وصموا عن الهدى فلم يسمعوه ؛ لما لم ينتفعوا به ، ثم تاب الله عليهم فرفع عنهم البلاء ، فلم يتوبوا بعد رفع البلاء (٢).

ويحتمل أن يكون قوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) : ما ذكره في آية أخرى : وهو قوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) إلى قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ...) الآية [الإسراء : ٤ ـ ٦] ؛ تابوا مرة ثم رجعوا ثم تابوا ؛ فذلك قوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا ....) الآية.

قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٤ / ٦٥١) ، (١٢٢٩٤).

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٤ / ٦٥١) ، (١٢٢٩١) عن قتادة ، (١٢٢٩٢) عن السدي ، (١٢٢٩٣) عن الحسن ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٣١) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن ، ولعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن السدي.

٥٦١

ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٧٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ...) [الآية](١) :

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) : أي : كفروا بعيسى ؛ لأن عيسى كذبهم في قولهم : «إنه ابن الله» بقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ...) الآية ، وبقوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) [آل عمران : ٥١] ، وبقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ ...) الآية [مريم : ٣٠] ، أخبر أنه عبد الله ، ليس هو إلها ولا ابنه ، تعالى الله عن ذلك.

والثاني : كفروا بعلمهم ؛ لأنهم علموا أنه ابن مريم ، وسموه ابن مريم ، ثم قالوا : هو الله أو ابن الله ، فإن (٢) كان ابن مريم أنّى يكون له ألوهية؟! فإذا كانت أمه لم تستحق الألوهية وهي أقدم منه ، كيف يكون لمن بعدها؟! ولكن لسفههم قالوا ذلك ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ) : إذا حرم عليه الجنة صار مأواه النار.

وقيل : سمي : مسيحا ؛ قال الحسن : سمي ذلك ؛ لأنه ممسوح بالبركات (٣) ، وسمي الدجال : مسيحا ؛ لأنه ممسوح باللعنة.

وقيل : المسيح بمعنى الماسح ، وذلك جائز ؛ الفعيل بمعنى الفاعل ، وهو ما كان يمسح المريض والأكمه والأبرص فيبرأ ، ويمسح الموتى فيحيون ، ومثل ذلك ؛ فسمي بذلك ، والله أعلم.

والفعيل بمعنى المفعول جائز ـ أيضا ـ يقال : جريح ومجروح ، وقتيل ومقتول ؛ هذا كله جائز في اللغة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : فإذا.

(٣) أخرجه ابن جرير (٣ / ٢٦٨) ، (٧٠٦٠) عن إبراهيم النخعي ، (٧٠٦١) عن سعيد بن أبي عروبة.

وذكره البغوي في تفسيره (١ / ٣٠١ ـ ٣٠٢).

٥٦٢

قوله تعالى : (كَفَرَ) بعلمهم ، علموا [بوحدانيته](١) ، فكيف يكون ثالث ثلاثة وهو واحد (٢)؟! فإذا قالوا : هو الله فلا يكون هناك ثان ولا ثالث ، وذلك تناقض في العقل (٣).

__________________

(١) في ب : أنه الله.

(٢) في ب : الله.

(٣) لم ينقل من طريق صحيح عن ملة من الملل ـ إسلامية أو غير إسلامية ـ أنها صرحت بأن الله ـ تعالى ـ اتخذ صاحبة ؛ وإنما الذي نقل : هو أن طائفة من النصارى قالت : المسيح ابن الله ، وطائفة من اليهود قالت : عزير ابن الله ، وقد جاء القرآن بآيات كثيرة ترد على هاتين الطائفتين. ولنقصر الكلام على هذه الآية مع تبيين جهة الرد الذي تضمنت :

قال ـ تبارك وتعالى ـ : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الأنعام : ١٠١]. اعلم أن الإبداع عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال ؛ ولذلك فإن من أتى في فن من الفنون بطريقة لم يسبقه غيره فيها يقال : إنه أبدع فيه ؛ إذا علم هذا فنقول : إن الله ـ تعالى ـ سلم للنصارى أن عيسى حدث من غير أب ولا نطفة ، بل إنما حدث ودخل في الوجود ؛ لأنه أخرجه إلى الوجود ؛ من غير سبق الأب. إذا علمت هذا فنقول : المقصود من هذه الآية أن يقال : إنكم إما أن تريدوا بكونه ولدا لله ـ تعالى ـ أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ووالد ، وإما أن تريدوا بكونه ولدا لله ـ تعالى ـ كما هو المألوف المعهود من كون الإنسان ولدا لأبيه ، وإما أن تريدوا بكونه ولدا لله ـ تعالى ـ مفهوما ثالثا مغايرا لهذين المفهومين.

أما الاحتمال الأول : فباطل ؛ وذلك لأنه تعالى ـ وإن كان محدث الحوادث في هذا العالم الأسفل ؛ بناء على أسباب معلومة ووسائط مخصوصة ـ إلا أن النصارى معترفون بأن العالم الأسفل ؛ محدث ومبدع من غير سبق مثال وإذا كان الأمر كذلك لزمهم الاعتراف بأن خلق السموات والأرض من غير سابقة مادة ولا مدة ؛ وإذا كان الأمر كذلك وجب أن إحداثه للسماوات والأرض إبداعا ؛ فلو لزم من مجرد كونه مبدعا لإحداث عيسى ـ عليه‌السلام ـ كونه والدا له ـ لزم من كونه مبدعا للسماوات والأرض كونه والدا لهما ، ومعلوم أن ذلك باطل بالاتفاق ؛ فثبت أن مجرد كونه مبدعا لعيسى ـ عليه‌السلام ـ لا يقتضي كونه والدا له ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)[الأنعام : ١٠١] فبهذا بطل الوجه الأول.

وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون مراد القوم من الولادة هو الأمر المعتاد المعروف من الولادة في الحيوانات ـ فهذا أيضا باطل لوجوه :

إحداها : أن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة وشهوة ، وينفصل منه جزء ، ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة ، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يجوز عليه الاجتماع والافتراق ، والحركة والسكون ، والحد والنهاية ، والشهوة واللذة ؛ فكان ذلك على خالق العالم محالا ، وإلى ذلك الإشارة بقوله ـ تعالى ـ : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ)[الأنعام : ١٠١].

ثانيها : أن تحصيل الولد بهذا الطريق إنما يحصل في حق من لا يكون قادرا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة ؛ فلما أراد الولد وعجز عن تكوينه دفعة واحدة عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد ، أما من كان خالقا لكل الممكنات قادرا على كل المحدثات ، فإذا أراد إحداث شيء قال له : كن فيكون ، ومن كان هذا صفته ونعته ـ امتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).

ثالثها : أن هذا الولد إما أن يكون قديما أو محدثا : ولا جائز أن يكون قديما ؛ لأن القديم يجب ـ

٥٦٣

__________________

 ـ أن يكون واجب الوجود لذاته ، ومن كان واجب الوجود لذاته كان غنيّا عن غيره ، وامتنع عن كونه ولدا لغيره ؛ فبقي أنه لو كان ولدا لوجب كونه حادثا ؛ فنقول : إنه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات ، فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالا ونفعا ، أو يعلم أنه ليس الأمر كذلك.

فإن كان الأول : فلا وقت يفرض أن الله ـ تعالى ـ خلق هذا الولد فيه إلا والداعي لإيجاد هذا الولد كان حاصلا قبل ذلك ، ومتى كان الداعي لإيجاده حاصلا قبله ، وجب حصول الولد قبل ذلك ، وهذا يوجب كونه ذلك أزليّا ، وهو محال.

وإن كان الثاني : فقد ثبت أن الله ـ تعالى ـ عالم بأنه ليس له في تحصيل الولد كمال حال ولا ازدياد مرتبة في الألوهية ، وإذا كان الأمر كذلك وجب ألا يحدثه البتة في وقت من الأوقات ، وإلى ذلك الإشارة بقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ؛ فثبت بما ذكرناه أنه لا يمكن إثبات ولد لله ـ تعالى ـ بناء على هذين الاحتمالين المعلومين.

فأما إثبات الولد لله ـ تعالى ـ على احتمال ثالث : فذلك باطل ؛ لأنه غير متصور ولا مفهوم عند العقل ، فكان القول بإثبات الولادة بناء على ذلك الاحتمال الغير المتصور ـ خوضا في محض الجهالة وإنه باطل ، فهذا هو المقصود من هذه الآية الشريفة.

القائلون بالاتحاد والحلول : ادعت النصارى القول بحلول الله في المسيح واتحاده به ، وأنه ابن الله ، وادعت اليهود أن عزيرا ابن الله ، وقد نعى الله عليهم في كتابه العزيز ؛ حيث يقول : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[التوبة : ٣٠] ، وإنا لو تأملنا في اعتقاد هؤلاء لعلمنا أن كفر عابد الوثن دون كفرهم ؛ فإن عابد الوثن لا يقول : إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم ، ولا يصف الأوثان بصفات الألوهية ، ولا يقول بإلهين واجبي الوجود ، وإن أطلق على هذه الأوثان اسم الآلهة ؛ بل اتخذوها على أنها تماثيل الأنبياء أو الزهاد أو الملائكة أو الكواكب ، واشتغل بتعظيمها على رجاء العبادة ؛ توصلا بها إلى ما هو إله حقيقة ، وفي ذلك يقول الله ـ تعالى ـ : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)[الزمر : ٣] ؛ فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ)[المجادلة : ١٩].

الشبهة التي أوقعت اليهود والنصارى في اعتقادهم :

أما النصارى : فإن الذي أوقعهم في هذه الظلمات هو ما جاء في الإنجيل في عدة مواضع من ذكر الله بلفظ الأب ، وذكر عيسى بلفظ الابن ، وذكر الاتحاد تصريحا أو تلويحا.

فمن ذلك : ما جاء في إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع ـ ويوحنا هو أحد الحواريين ـ : سأل عيسى ـ على نبينا وعليه الصلاة والسلام ـ : إنك تقول : قال أبي كذا ، وأمرنى أبي بكذا ؛ أرنى أباك ؛ فقال عيسى ـ عليه‌السلام ـ : «يا فيلسوف ؛ من يراني ويعاينني فقد رأي الأب ؛ فكيف تقول أنت : أرنا الأب ، ولا تؤمن أني بأبي ، وأبي بي واقع واقع ، وأن الكلام الذي أتكلم به ليس من قبل نفسي ؛ بل من قبل أبي الحال فيّ ، وهو الذي يعمل هذه الأعمال التي أعمل؟! آمن وصدق أني بأبي وأبي بي».

فهذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربية ، المتداول عندهم ؛ فأخذ بعضهم الاتحاد من قوله : «من يراني ويعاينني فقد رأى الأب» ، وأخذ بعضهم الحلول من قوله : «أبي الحال في» ، وأخذ بعضهم البنوة من التصريح بلفظ الأب مرة بعد أخرى ، وهذا لا يصلح دليلا لهم ؛ لوجهين :

أحدهما : تضافر الأدلة على حصول التغيير والتبديل ؛ فثبت عدم صلاحيته دليلا لهم.

ثانيهما : أننا نتنزل ونقول لهم : سلمنا أنه لا تغيير ولا تبديل في ذلك المنقول ، لكن دلالته على مدعاهم ليست يقينية ؛ لجواز أن يكون المراد بالحلول المصرح به في بعض الجمل : حلول آثار صنع ـ

٥٦٤

__________________

الله : من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، ولجواز أن يكون المراد من الأب : المبدئ ؛ فإن القدماء كانوا يطلقون الأب على المبدئ ؛ إذن فمعنى أبي : مبدئي وموجدي ، وسمى عيسى ابنا ؛ تشريفا ؛ كما سمى إبراهيم خليلا. وأيضا : فمن كان متوجها بشيء ومقيما عليه يقال له : ابنه ؛ كما يقال : أبناء الدنيا ، وأبناء السبيل ؛ فجاز أن يكون تسمية عيسى بالابن ؛ لتوجهه في أكثر أحواله إلى الحق ، واستغراقه في أغلب الأوقات في جانب القدس ومما يؤكد ذلك : أنه جاء في الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا المذكور ؛ حيث دعا عيسى للحواريين ما لفظه : «وكما أنت يا أبي بي وأنا بك ، فليكونوا هم نفسا واحدة ؛ ليؤمن أهل العلم بأنك أنت أرسلتني ، وأنا قد استودعتهم المجد الذي مجدتنى به ورفعته إليهم ؛ ليكونوا على الإيمان واحدا ، كما أنا وأنت أيضا واحد ، وكما أنت حال في كذلك أنا فيهم ؛ ليكون كمالهم واحدا». وهذا لفظ الإنجيل ، وقد تبين فيه معنى الاتحاد والحلول على وجه مغير لما فهموه.

وجاء في الإصحاح التاسع عشر ما نصه : «إنى صاعد إلى أبيكم وإلهي وإلهكم». وهذا يدل بواسطة العطف على أن المراد من الأب : الإله ، وعلى أن عيسى مساو لهم في معنى البنوة والعبودية ، وإنه لمما يؤسف له : قلب هؤلاء القوم للحقائق ، ولبسهم الحق بالباطل ؛ فهذه ديانتهم بنيت على أساس التوحيد الخالص المعقول ـ جعلوها ديانة وثنية ؛ بتثليث غير معقول أخذوه من تثليث اليونان والرومان ، ديانة وشريعة سماوية نسخوا شريعتها برمتها وأبطلوها ، واستبدلوا بها بدعا وتقاليد غريبة عنها ، ديانة زهد وتواضع وتقشف وإيثار وعبودية ـ جعلوها ديانة طمع وجشع ، وكبرياء وترف ، واستعباد للبشر.

وبالجملة فإنهم غيروا وبدلوا ؛ حتى صارت الديانة التي هم عليها مقتبسة من الوثنية الأولى ، ولم يرد كلمة تدل على عقيدتها عن أنباء بني إسرائيل ، ونسبوها إلى المسيح ـ عليه‌السلام ـ وليس عندهم نص من كلامه في أصول عقيدتها ـ التي هي التثليث ـ وإنما بقي عندهم نصوص قاطعة من كلامه في حقيقة التوحيد والتنزيه وإبطال التثليث ، وعدم المساواة بين الأب والابن الذي أطلق لفظه مجازا عليه وعلى غيره من الأبرار ، على أنه كان يعبر عن نفسه في الأكثر بابن الإنسان ، ولو لم يكن عندهم من النصوص إلا ما رواه يوحنا في الفصل السابع عشر من إنجيله ـ لكفي ؛ وهو قوله ـ عليه‌السلام ـ : «وهذه هي الحياة الأبدية ، إن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته» : فبين أن الله ـ تعالى ـ هو الإله وحده ، وأنه هو رسوله ، وهذا هو الذي دعا إليه القرآن ، وكان يجب أن يكون ذلك أساس عقيدتهم ، يرد إليه كل ما يوهم خلافه ـ ولو بالتأويل ـ لأجل التطابق بين المعقول والمنقول.

ونقل مرقس في الفصل الثاني عشر من إنجيله : أن أحد الكتبة سأله عن أول الوصايا؟ فأجاب يسوع : «أول الوصايا : اسمع يا إسرائيل ؛ الرب إلهنا رب واحد» ، فقال له الكاتب : جيدا يا معلم بالحق؟ فقال : «لأنه واحد وليس آخر سواه» ، فلما رأى يسوع أنه أجاب تفضل فقال له : «لست بعيدا عن ملكوت السموات فعلم من هذا أن التوحيد الخالص هو العقيدة المعقولة التي تؤخذ على ظاهرها بلا تأويل ، فإن فرضنا أنه ورد ما ينافيها وجب رده إليها.

ولو كان هؤلاء النصارى يقبلون نصوص إنجيل برنابا ـ لأتيناهم بشواهد منه على التوحيد مؤيدة بالبراهين العقلية والنقلية على أن المسيح بشر رسول قد خلت من قبله الرسل ، وليس بدعا فيهم ، ويكفي ردّا عليهم ما في الفصل الخامس والتسعين من إنجيل برنابا ـ الذي يحتج فيه بأقوال الأنبياء في التوحيد ، وأنه ـ تعالى ـ خلق كل شيء بكلمته وأنه يرى ولا يرى ، وأنه غير متجسد ولا مركب ، وغير متغير ، وأنه لا يأكل ولا يشرب ، ثم قال : «فإني بشر منظور ، وكتلة من طين أمشي على الأرض ـ

٥٦٥

والثاني : أنهم لم يروا غير الله خلق السموات والأرض ، ولا رأوا أحدا خلقهم سوى الله ، كيف سموا دونه إلها ولم يخلق ما ذكرنا؟! إنما خلق ذلك الله الذي لا إله غيره ، وذلك قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي : يعلمون أنه لا إله إلا [الله](١) إله واحد ، لكنهم يتعنتون ويكابرون في ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) : عما تقدم ذكره (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) : عن مقالتهم الشرك ، فإن فعلوا فإن الله غفور رحيم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] ، وبالله العصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ)

في الآية دلالة المحاجة مع الفريقين ؛ كأنهم كانوا فريقين : أحد الفريقين كانوا ينكرون (٢) أنه رسول ، والفريق الآخر يدعون له الربوبية والألوهية ، فقال : إنه ابن مريم ،

__________________

 ـ كسائر البشر ، وأنه كان لي بداية ، وسيكون لي نهاية ، وإني لا أقتدر أن أبتدع خلق ذبابة» ؛ فدين المسيح مبني على التوحيد الخالص ، وهو دين الله الذي أرسل به جميع رسله ، فها هي النصوص تدحض حجتهم ، وتلك هي البراهين تسفه آراءهم وتلزمهم ـ إذا أرادوا الحق ـ بالرجوع إلى ما قضت به الأدلة العقلية المتقدمة من استحالة الاتحاد والحلول والبنوة.

شبهة اليهود :

أما اليهود الذين قالوا : إن عزيرا ابن الله : فقد أشار الله ـ تعالى ـ إليه بقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)[التوبة : ٣٠] ، وإنما نسب ذلك القول إلى اليهود ، مع أن القائل طائفة مخصوصة ؛ جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد ؛ يقال : فلان يركب الخيول ، ولعله لم يركب إلا واحدا منها. وفلان يجالس السلاطين ، ولعله لا يجالس إلا واحدا منهم. ولعل هذا المذهب كان فاشيا فيهم ثم انقطع ؛ فحكى الله ذلك عنهم ، ولا عبرة بإنكار اليهود ؛ فإن حكاية الله عنهم أصدق.

السبب الذي دعاهم إلى هذا القول :

أن اليهود أضاعوا التوراة ، وعملوا بغير الحق ؛ فأنساهم الله ـ تعالى ـ إياها ونسخها من صدورهم ؛ فتضرع عزير إلى الله ، وابتهل إليه ؛ فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، وأنذر قومه بها ، فلما جربوه ووجدوه صادقا في دعواه ، قالوا : ما هذا العزير إلا ابن الله. وهذه شبهة واهية ، لا يصح الاستناد إليها ؛ لأن إجابة المطلب مرتبطة بالقبول والقرب من الله ـ تعالى ـ والخضوع لأوامره واجتناب نواهيه ، لا بالبنوة كما يزعمون ، فهذا جملة المحكي عنهم والرد عليه ، أسأل الله أن يوفقنا إلى اتباع خير العقائد ، وأن يهدينا سواء السبيل وحسن الخاتمة ؛ إنه ولى التوفيق والهادى إلى الصراط المستقيم.

ينظر : صفة الوحدانية لعبد الحميد فتح الله (ص / ٩٤ ـ ١٠٢).

(١) سقط من ب.

(٢) في أ : يكفرون.

٥٦٦

وابن مريم لا يحتمل أن يكون إلها.

والثاني : أخبر أنه رسول قد خلت من قبله الرسل ، أي : قد خلت من قبل عيسى رسل مع آيات وبراهين لم يقل أحد من الأمم السالفة : إنهم كانوا آلهة ، فكيف قلتم أنتم بأن عيسى إله ، وإن كان معه آيات وبراهين لرسالته؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ).

قيل : مطهرة عن الأقذار كلها ، صالحة.

وقيل : (صِدِّيقَةٌ) : تشبه (١) النبيين ، وذلك أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ لما أتاها وقال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [مريم : ١٩] صدقته كتصديق الأنبياء والرسل الملائكة (٢) ، وأما سائر الخلائق : إنما يصدقون الملائكة بإخبار الرسل إياهم ، وهي إنما صدقت جبريل بإخباره أنه ملك ، وأنه رسول ؛ لذلك سميت صديقة ، والله أعلم.

وقيل : كل مؤمن صديق ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ...) [الآية](٣) [الحديد : ١٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ)(٤) : فيه الاحتجاج عليهم من وجهين :

أحدهما : أن الجوع قد كان يغلبهما ويحوجهما إلى أن يدفعا ذلك عن أنفسهما ، ومن غلبه الجوع وقهره كيف يصلح أن يكون ربّا إلها؟!.

والثاني : أنهما إذا احتاجا إلى الطعام لا بد من أن يدفعهما ذلك إلى إزالة الأذى عن أنفسهما ودفعه ، والقيام في أخبث الأماكن وأقبحها ، فمن دفع إلى ذلك لا يكون إلها ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) : والآيات ما ذكر من وجوه المحاجة عليهم :

أحدها : أنه ابن مريم ، ومن كان ابن آخر لا يكون إلها.

__________________

(١) في ب : شبه.

(٢) ذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٥٤٥) ، ونسبه للحسن البصري والرازي في تفسيره (١١ / ٥٢).

(٣) سقط من ب.

(٤) قال القاسمي (٦ / ٣٢٠) : إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى ، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم‌السلام ، ترقيا في باب الاستدلال من الجليّ للأجلى ، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم ، حتى إذا لم يسلّم في الجلى لغموضه عليه ، ويورد له الأجلى تعريضا بغباوته. فيضطر للتسليم ، إن لم يكن معاندا ولا مكابرا.

٥٦٧

والثاني : أنه رسول ، وقد كان قبله رسل مع آيات وبراهين ، لم يدع أحد لهم الألوهية والربوبية.

والثالث : أنه كان يأكل الطعام ، ومن كان تحت غلبة آخر وقهره ، لا يكون إلها.

والرابع : من أكل الطعام احتاج أن يدفع عن نفسه الأذى ، ويقوم في أخبث مكان ، ومن كان هذا (١) أمره لم يكن ربّا.

وليس في القرآن ـ والله أعلم ـ آية أكثر ولا أبين احتجاجا على النصارى وأولئك ، ولا أقطع لقولهم من هذه الآية ؛ للمعاني التي وصفنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي : من أين يكذبون.

قال أبو عبيد : (يُؤْفَكُونَ) : يصرفون ، ويخادعون (٢) عن الحق ، كل من صرفته عن شيء فقد أفكته (٣). ويقال : أفكت الأرض ، إذا صرف عنها القطر (٤).

وقوله : (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات : ٩]

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأحقاف : ٢٨] قال : أضلهم (٥) ، فإذا أضلهم ، فقد صرفهم عن الهدى.

قال أبو عوسجة : الإفك عندي : الصرف عن الحق ، وفي الأصل : الإفك : الكذب (٦).

وقال القتبي : (يُؤْفَكُونَ) : يصرفون عن الحق ويعدلون.

وقيل : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يخدعون بالكذب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) إن (٧) خالفتموه (وَلا نَفْعاً) إن أطعتموه.

ويحتمل : قوله : (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) إن كان الله أراد بكم نفعا ، ولا نفعا إن حل بكم الضر ، أي : لا يملكون دفعه عنكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ) : لنسبتكم عيسى إليه تعالى ، (الْعَلِيمُ)

__________________

(١) في ب : بهذا.

(٢) في أ : ويحادون.

(٣) في أ : أمكنه.

(٤) ينظر : تفسير الطبري (٤ / ٦٥٤) ، وتفسير الرازي (١٢ / ٥٢) ، واللباب في علوم الكتاب (٧ / ٤٦٤).

(٥) أخرج الطبري (١١ / ٢٩٦) ، رقم (٣١٣٠٧) عن ابن عباس : أنه كان يقرؤها : «وذلك أفكهم» ، يعني : بفتح الألف والكاف ، وقال : أضلهم.

(٦) ينظر : تفسير الطبري (١٢ / ٥٢) ، واللباب في علوم الكتاب (٧ / ٤٦٤).

(٧) في أ : و.

٥٦٨

بعبادتكم غير الله.

ويحتمل : (السَّمِيعُ) المجيب لدعائكم ، (الْعَلِيمُ) بنياتكم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ).

خاطب الله ـ عزوجل ـ بالنهي عن الغلو في الدين أهل الكتاب ، لم يخاطب أهل الشرك بذلك فيما خاطب بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) [النساء : ١٧١] ؛ وذلك أن أهل الكتاب ادعوا أنهم على دين الأنبياء والرسل [الذين](١) كانوا من قبل ، فنهاهم الله ـ عزوجل ـ عن الغلو في الدين. والغلو : هو المجاوزة عن الحد الذي حد ، والإفراط فيه والتعمق ؛ فكأنه ـ والله أعلم ـ قال : لا تجاوزوا في الدين الحد الذي حد فيه بنسبة الألوهية والربوبية إلى غير الله والعبادة له.

وأما أهل الشرك : فإنهم يعبدون ما يستحسنون ، ويتركون ما يستقبحون ، ليس لهم دين يدينون به.

وأما هؤلاء : فإنهم يدّعون أنهم على دين الأنبياء والرسل ؛ لذلك خرج الخطاب لهم بذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) : يعني : الرؤساء بذلك ، والله أعلم.

[(وَأَضَلُّوا كَثِيراً) : أي : أتباعهم. (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) : أي : عن قصد طريق الهدى](٢).

قوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : وأضلوا أتباعهم ، وضلوا عن قصد طريق الهدى.

٥٦٩

(٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٨٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)

قال بعضهم : لعنوا بكل لسان ؛ لعنوا على عهد موسى ـ عليه‌السلام ـ في التوراة ، وعلى عهد داود في الزبور ، وعلى عهد عيسى في الإنجيل ، وعلى عهد [رسولنا](١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن ؛ وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه (٢).

وقيل : مسخوا بدعائهم بما اعتدوا ، فصاروا قردة وخنازير (٣).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا» (٤).

وقال الحسن : «انقطع ذلك النسل» (٥).

وأصل اللعن : هو الطرد ؛ كأنهم طردوا عن رحمة الله.

ويحتمل تخصيص اللعن على لسان داود ؛ لأن داود ـ عليه‌السلام ـ كان به غلظة وخشونة ، وهو الذي كان اتخذ الأسلحة وآلات الحرب ، وعيسى كان به لين ورفق ؛ ليعلم أن اللعن الذي كان منهما كان لتعديهم (٦) الحدود ـ حدود الله ـ وعصيانهم ربهم ، وكانوا مستوجبين لذلك محقين ؛ ولذلك استجيب دعاؤهم عليهم باللعن [أعني : دعاء الرسل ، عليهم‌السلام](٧).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه الطبري (٤ / ٦٥٦) برقمي (١٢٣٠١) وما بعده ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٥٣٤).

(٣) قاله أبو مالك الغفاري ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٦٥٧) برقمي (١٢٣٠٧ ، ١٢٣٠٨) ، وأبو عبيد ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥٣٤). وقاله قتادة ، أخرجه عنه (٤ / ٦٥٧) ، رقم (١٢٣٠٦) ، وعبد بن حميد وأبو الشيخ ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥٣٥).

(٤) اختلفت الرواية في ذلك عن ابن عباس : فأخرجه ابن المنذر عنه بمثل ما ذكره المصنف ، كما في الدر المنثور (١ / ١٤٧) ، وأما الرواية الأخرى : «أن المسخ لم ينسل» فأخرجها عنه الطبري (١ / ٣٧٠) ، رقم (١١٣٩) ، وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (١ / ١٤٧).

(٥) أخرجه عنه ابن المنذر كما في الدر المنثور (١ / ١٤٧).

(٦) في الأصول : لاعتدائهم.

(٧) سقط من ب.

٥٧٠

وقوله ـ عزوجل ـ : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)(١)

ذكر في بعض القصة عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمّا وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ؛ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» قال : فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان متكئا فقال : «لا والّذى نفسي بيده حتّى تأطروهم [على الحقّ](٢) أطرا» (٣) قال أبو عبيد : يعني تعطفوهم عطفا (٤) ، وقال غيره : حتى تكسروهم كسرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)

قيل : قوله : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) يعني : المنافقين ، (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : اليهود يتولون الذين كفروا ويعاندون رسول الله وأصحابه.

وقيل : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) : يعني : من اليهود : (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مشركي العرب وغيرهم ، كانوا يظاهرون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، ويعاونون عليهم ، وقد كان من الفريقين جميعا ذلك.

ويحتمل وجها آخر : قوله : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) من هؤلاء الذين شهد لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتولون الذين كفروا ، يعني : أسلافهم ورؤساءهم ؛ كقوله : (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً ...) الآية [المائدة : ٧٧] ، تولى هؤلاء أولئك واتبعوا أهواءهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) : أي : ما

__________________

(١) قال القرطبي (٦ / ١٦٤) : قال ابن عطية : والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه ، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين ؛ فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. وقال حذاق أهل العلم : وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية ؛ بل ينهى العصاة بعضهم بعضا. وقال بعض الأصوليين : فرض على الذين يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضا ، واستدلوا بهذه الآية.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه أحمد (١ / ٣٩١) ، وأبو داود (٢ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥) كتاب الملاحم : باب الأمر والنهي ، حديث (٤٣٣٦ ، ٤٣٣٧) ، والترمذي (٥ / ١٣٩) كتاب التفسير : باب سورة المائدة ، حديث (٣٠٤٧) ، وابن ماجه (٥ / ٤٨٢) كتاب الفتن : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حديث (٤٠٠٦) ، وأبو يعلى (٥٠٣٥) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (١١٦٤) ، والطبراني في الكبير (١٠٢٦٤ ، ١٠٢٦٥ ، ١٠٢٦٦) ، وفي الأوسط (٥٢٣) من طريق أبي عبيدة عن ابن مسعود ، به. وإسناده ضعيف ؛ لانقطاعه. وروي مرسلا عن أبي عبيدة.

(٤) ينظر : غريب الحديث لأبي عبيد (١ / ٣٠١).

٥٧١

قدمت أنفسهم سخط الله عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ)

يعني : المنافقين ، في أحد التأويلين. وفي تأويل آخر : اليهود ، أي : لو صدق هؤلاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمنوا به وصدقوا ما أنزل إليه من القرآن ـ ما اتخذوا أولئك أولياء.

ثم يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) في الدين أو في النصر والمعونة والنصرة (١) ، (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) تحتمل الآية وجوها :

تحتمل : أن يكون ما ذكر من شدة عداوة اليهود للذين آمنوا قوما مخصوصين منهم.

وتحتمل : اليهود الذين كانوا بقرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه هم أشد عداوة لهم.

وتحتمل : اليهود جملة ، فهو ـ والله أعلم ـ على ما كان منهم من قتل الأنبياء وتكذيبهم إياهم ، ونصب القتال والحرب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وما كان منهم من قول الوخش في الله ـ سبحانه ـ ما لم يسبقهم أحد بمثل ذلك ما وصفوا الله ـ عزوجل ـ بالبخل والفقر ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] وقالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] ، وغير ذلك من القول ؛ وذلك لشدة بغضهم وعداوتهم وقساوة قلوبهم ؛ فعلى ذلك كل من دعاهم إلى دين الله تعالى ، فهم له أشد عداوة ، وأقسى قلبا.

وأمّا النصارى : فلم يكن منهم واحد مما كان من اليهود : من قتل الأنبياء ، ونصب الحروب والقتال معهم ، ولم يروا في مذهبهم القتال ولا الحرب ، ولا كان منهم من القول الوخش ما كان من اليهود ، بل كان فيهم اللين والرفق ؛ حتى حملهم ذلك على القول في عيسى ما قالوا ، وذلك منهم له تعظيم فوق القدر الذي جعل الله له ، حتى رفعوه من قدر العبودية إلى قدر الربوبية ؛ لذلك كفروا ، وإلا كانوا يؤمنون بالكتب والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ من قبل ؛ ألا ترى أنه قال : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) أخبر ـ عزوجل ـ أن منهم قسيسين ورهبانا ، والرهبان : هم العباد.

وقيل : القسيسون : [هم](٢) الصديقون (٣) ، ولم يكن من اليهود رهبان ولا قسيسين ؛

__________________

(١) في أ : والمظاهر.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرج الطبراني في الكبير (٦ / ٢٦٦) ، رقم (٦١٧٥) من طريق حامية بن رباب قال : سمعت سلمان ـ وسئل عن قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) [المائدة : ٨٢] ـ قال : الرهبان : ـ

٥٧٢

لذلك كان النصارى أقرب مودة وألين قلبا من اليهود ، والله أعلم.

فإن كان ذلك في قوم مخصوصين مشار إليهم ، وهو ما ذكر في القصة أن بني قريظة وبني النضير كانوا يعاونون ويظاهرون مشركي العرب على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمرونهم بذلك ، ظاهروا وأعانوا لمن لم يؤمن بنبي ولا كتاب قط على من قد آمن بالأنبياء والكتب جميعا ؛ وذلك لسفههم وشدة تعنتهم ؛ حتى قاتلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجلاهم من بلادهم إلى أرض الشام.

وإن كان ذلك عن قوم بقرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وهو ما كان من يهود المدينة ؛ حيث بايعوا أهل مكة على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا عيونا لهم عليهم وطلائع ، ولم يذكر في قصة من القصص أنه كان من النصارى شيء من ذلك ، كان أقرب مودة للمؤمنين ، والله أعلم.

وما قال بعضه أهل التأويل بأن من أسلم منهم كان أقرب مودة للمؤمنين من اليهود (١) فحاصل هذا الكلام أن المؤمن أقرب مودة للمؤمنين من الكافر ، وذلك كلام لا يفيد معنى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ).

سرورا على أنفسهم مما ظفروا مما كانوا يسمعون من نعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ويطمعون خروجه ، وقد يعمل السرور هذا العمل إذا اشتد به وفرح القلب فاضت عيناه سرورا.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) ؛ حزنا على قومهم ؛ حيث لم يؤمنوا بعد أن بلغهم ما بلغ هؤلاء من أعلام النبوة وآثار الرسالة ؛ إشفاقا عليهم أن كيف لم يؤمنوا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) [التوبة : ٩٢] : قد فاضت أعينهم حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ، والله أعلم.

وقوله : (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) بما أنزلت واتبعنا الرسول (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [الآية](٢) :

__________________

 ـ الذين في الصوامع. قال سليمان نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا». قال الهيثمي في المجمع (٧ / ١٧) : وفيه يحيى الحماني ونصير بن زياد ، وكلاهما ضعيف. وأخرجه أبو عبيد في فضائله ، وابن أبي شيبة في مسنده ، وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه ، والحارث بن أبي أسامة في مسنده ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والبزار وابن الأنباري في المصاحف ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥٣٩).

(١) ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٧ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦).

(٢) سقط من ب.

٥٧٣

قيل : مع الأنبياء والرسل (١).

وقيل : مع أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو واحد (٢).

ثم ذكر في القصة : أنها نزلت في النجاشي (٣) وأصحابه (٤).

وقيل : نزلت في أربعين رجلا من مسلمي أهل الإنجيل : بعضهم قدموا من أرض الحبشة ، وبعضهم قدموا من أرض الشام ، فسمعوا القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ما أشبه هذا [بالذي](٥) نحدّث من حديث عيسى!! فبكوا وصدقوا ؛ فنزلت الآية فيهم (٦) ، فلا ندري كيف كانت القصة؟ وفيمن (٧) نزلت؟ إذ ليس في الآية بيانه ، وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما فيه من شدة رغبتهم في القرآن ، وسرورهم على ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ)

[الحق](٨) يحتمل : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل : القرآن ، ويحتمل : كليهما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ).

قال الحسن : قوله ـ تعالى ـ : (وَنَطْمَعُ) : أي : نعلم أن يدخلنا ربنا الجنة إذا آمنا بالله وما جاءنا من الحق.

قيل : نطمع : هو الطمع والرجاء ، أي : نطمع ونرجو أن يدخلنا ربنا في دين قوم صالحين.

و (الصَّالِحِينَ) : يحتمل : ما ذكرنا من الأنبياء والرسل.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (١٢ / ٧٥).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٥ / ٧) ، برقم (١٢٣٣٤ ، ١٢٣٣٦) وما بعده ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٣١٣) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥٤٣).

(٣) النجاشي أصحمة ملك الحبشة ، أسلم قبل الفتح ، ومات قبله أيضا ، وهو الذي زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأم حبيبة ، وأمهرها أربعمائة دينار ، وبعثها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع شرحبيل ابن حسنة. ينظر : المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء (٢ / ٦٢) ، وتهذيب الأسماء واللغات (١ / ١٢٣).

(٤) أخرج الطبري (٥ / ٧) رقم (١٢٣٣٣) عن ابن إسحاق قال : سألت الزهري عن الآيات : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) [المائدة : ٨٢] الآية ، وقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] قال : ما زلت أسمع علماءنا يقولون : نزلت في النجاشي وأصحابه.

وقاله ـ أيضا ـ عروة بن الزبير ، أخرجه عنه الطبري (١٢٣٣١ ، ١٢٣٣٢).

(٥) سقط من ب.

(٦) قاله السدي ، أخرجه عنه الطبري (٥ / ٦) ، رقم (١٢٣٢٩) ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٥٣٨). وقاله عروة بن الزبير أيضا ، أخرجه عنه ابن أبي شيبة وأبو الشيخ ، كما في الدر المنثور (٢ / ٥٣٨).

(٧) في ب : فيما.

(٨) سقط من ب.

٥٧٤

ويحتمل : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) : الثناء الحسن في الدنيا ؛ حيث ذكرهم في القرآن ؛ فيذكرون إلى يوم القيامة ، ويثنى عليهم ، وفي الآخرة : الجنة ونعيمها.

(وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ).

المحسن : كأنه هو الذي يتقي المعاصى ، ويأتي بالخيرات والحسنات جميعا ، يعمل عملين جميعا.

والتقي : هو الذي يتقي المعاصى والمكاره خاصة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) :

قال بعضهم : «الجحيم» : هو اسم معظم النار (٢).

وقال غيرهم : هو اسم درك من دركات النار ؛ وكذلك «السعير».

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(٨٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ)

[الآية ترد على المتقشفة (٣) ؛ لأنه نهانا ألا نأكل طيبات ما أحل الله لنا](٤) وهم يحرمون ذلك ، وقال الله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، ثم لا فرق بين تحريم ما أحل الله لنا من الطيبات ، وتحليل ما حرم الله علينا من الخبائث ، ثم يلزمهم أن يحرموا على أنفسهم التناول من الخبز والماء ، وهما من أطيب الطيبات ؛ ألا ترى أن المرء قد يمل ويسأم (٥) من غيرهما من الطيبات إذا كثر ذلك ، ولا يمل البتة من الخبز والماء ؛ دل أنهما من أطيب الطيبات ، إلا أن يمتنعوا من التناول من غيرهما ؛ إيثارا منهم غيرهم على أنفسهم ؛ لما يلحق القوم من المئونة في غيرهما من الطيبات ولا يلحق في الخبز والماء ؛ لأنهما موجودان ، يجدهما كل أحد ولا يجد غيرهما من الطيبات ، إلا من تحمل مئونة عظيمة ، فإن كان تركهم التناول منها لهذا الوجه ، فإنه لا بأس.

__________________

(١) ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٧ / ٤٨٦).

(٢) قاله أبو مالك ، أخرجه عنه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (١ / ٢٠٩).

(٣) يقال : تقشف فلان : ترك الترفه والتنعم. ينظر : لسان العرب (قشف).

(٤) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٥) سئم : أملّ. لسان العرب (سأم) ، ينظر : المعجم الوسيط (١ / ٤١٣).

٥٧٥

وبعد : فإن الله ـ تعالى ـ جعل الأطعمة والأشربة والفواكه للبشر في الوقت والحال التي تطيب أنفسهم بها وتلذ ؛ لأنه لم يحل لهم في أول خروجها من الأرض والنخيل ، إنما أحل لهم بعد نضجها وينعها واتخاذها خبزا ، وبلوغها في الطيب نهايته ، وجعل للبهائم ذلك في أول ما يخرج ، فإذا كان البشر خصوا بذلك لم يجب أن يحرم ذلك ، ويبطل ذلك التخصيص والتفضيل ، والله أعلم.

فإن قيل : إنما لم يتناول منها لما يعجز عن شكر الله ؛ لذلك يقتصر على ما يقيم الرمق (١) منه.

قيل له : فيجب ألا يتزوج من النساء إلا أدونهن جمالا وأكبرهن سنّا ؛ لأنها تصونه عن الفجور ، فإن لم يكن في تزويج (٢) العجائز والقبائح وترك الشبان الحسان زهادة ، فليس في أكل خبز الشعير وترك المحور (٣) والميدة (٤) زهادة ، ولكن لما خاف أن يدخله الرغبة في طيب الطعام في شبهة مكسبه ، فواجب عليه ألا يدخل في ذلك المكسب ، وينزه نفسه عنه ، ويقتصر على القوت الذي لا بد له منه.

وقيل : الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم : عمر وعلي وابن مسعود وعثمان ابن مظعون (٥) والمقداد (٦) وسالم ، رضوان الله عليهم أجمعين. وهؤلاء حرموا على أنفسهم الطعام والنساء ، وهموا أن يقطعوا مذاكيرهم ، وأن يلبسوا المسوح ويدخلوا

__________________

(١) الرمق : بقية الروح. لسان العرب (رمق) ، المعجم الوسيط (١ / ٣٧٣).

(٢) في ب : تجويز.

(٣) المحور : الخشبة يبسط بها العجين. المعجم الوسيط (حور).

(٤) الميدة : لغة في المائدة ، وهي الخوان عليه الطعام والشراب ، ينظر : لسان العرب (ميد) ، والمعجم الوسيط (ميد).

(٥) عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة الجمحي ، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا ، وهاجر إلى الحبشة ـ هو وابنه السائب ـ الهجرة الأولى في جماعة ، توفي بعد شهوده بدرا في السنة الثانية من الهجرة. ينظر : الإصابة رقم (٥٤٦٩) ، وأسد الغابة رقم (٣٥٩٥).

(٦) المقداد بن الأسود : هو أبو معبد ، وقيل : أبو الأسود ، المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة ابن ثمامة بن مطرود بن عمرو الكندي. وقيل : إنه قضاعي ، وقيل : هو حضرمي ؛ وذلك أن أباه حالف كندة ؛ فنسب إليها ، وحالف المقداد الأسود بن عبد يغوث الزهري ؛ فقيل له : زهري ، وإنما سمي ابن الأسود ؛ لأنه كان حليفه ، أو لأنه كان في حجره. كان قديم الإسلام ، شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها ، وعداده في أهل الحجاز ، وكان من الفضلاء النجباء الكبار الأخيار من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. مات بالجرف ـ بضم الجيم ، وسكون الراء ، وبالفاء ـ : موضع على ثلاثة أميال من المدينة ، فحمل على رقاب الناس ، ودفن بالبقيع سنة ثلاث وثلاثين ، وهو ابن سبعين سنة.

ينظر : المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء (٢ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧) ، والاستيعاب (١٤٨٠) ، وتهذيب التهذيب (١٠ / ٢٥٤).

٥٧٦

الصوامع ؛ فيترهبوا فيها ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتى منزل عثمان فلم يجدهم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لامرأة عثمان : «أحقّ ما بلغنى عن عثمان وأصحابه؟» قالت : ما هو يا رسول الله؟ فأخبرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذي بلغه ، فكرهت أن تكذب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو تبدي على زوجها ؛ فقالت : إن كان عثمان أخبرك فقد صدقك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولي لزوجك إذا جاء : إنّه ليس منّا من لم يستنّ بسنّتنا ويأكل ذبيحتنا» (١) ، فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرته امرأته بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقال عثمان : والله لقد بلغ النبي أمرنا فما أعجبه ؛ فذروا (٢) الذي كره ؛ فأنزل الله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ...) الآية ، فلا ندري كيف كانت القصة؟ ولكن فيه بيان ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) :

يحتمل أن يكون الحلال هو الطيب ، والطيب هو الحلال ؛ سماهما باسمين وهما واحد.

ويحتمل : أن يكون قوله : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً) : بالشريعة والدين ، [والله أعلم](٣).

(طَيِّباً) : بالطبيعة ؛ لأن الحل والحرمة معرفتهما بالشريعة ، والطيب ما تستطيب به الطبائع.

وفي الآية [دليل](٤) أنه قد يرزق ما هو خبيث ليس بطيب ؛ لأنه لو لم يرزق لم يكن لشرط الحلال والطيب معنى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)

في الآية دلالة أن الخطاب للمؤمنين ؛ لأنه قال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ولم يقل : «إن كنتم مؤمنين» ونحو هذا ، قد سماهم مؤمنين مطلقا ؛ دل أنه يجوز أن يسمى (وَاتَّقُوا اللهَ) ولا تحرموا ما أحل الله لكم ، (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أنه لا يحل ولا يحرم إلا هو ، وليس إلى من دونه تحليل وتحريم.

قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢٣٥١) عن ابن عباس ، وبرقم (١٢٣٥٢) عن مجاهد بنحوه. وينظر : الدر المنثور (٢ / ٥٤٤ ـ ٥٤٨). وقد روي نحو هذا عن أنس بن مالك ، أخرجه البخاري (٥٠٦٣) ، ومسلم (٥ / ١٤٠١).

(٢) في ب : قدروا.

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من ب.

٥٧٧

إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٨٩)

مسألة (١) :

اختلف الناس في تأويل أحرف ذكرت في قوله ـ عزوجل ـ : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ...) إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) مما للناس حاجة إلى معرفة حقيقة ما في كل حرف منها : أنه لم يزل يتنازع أهل الفقه في أحكامه ، مما يعلم أن حق البيان في الخطاب لا يبلغ ما يقطع موضع التنازع فيه ، ولا بحيث يبلغ حقيقته كل سامع ، وأن في شرط المحن بالأسباب التي يمتحن بها (٢) لزوم الفكر فيها ، والبحث عنها ، والسؤال عنها الذين (٣) خصوا بفهمها بسؤالهم من ولي الإبانة عنها ، أو مقابلتهم بما سبق لهم العلم بها في معرفة ذلك بيان ما خفي من معنى الذي قرع سمعه ، أو بغير ذلك مما فيه دليل ذلك ؛ إذ لا تجوز المحنة بالذي لا يحتمل الوسع الوصول إليه ، ولا في جملة ما به امتحن إيضاح ذلك لما يوجب الأمر بفعل ما هو عنه ممنوع ، وذلك بعيد ، بل يكون البيان السمعى على قدر البيان العقلي أن من المعارف ما يكون بالحواس ، ومنها ما بها يوصل إليها : إما بالتعليم ، أو بالاستدلال ، فمثله حق السمعى ، والله أعلم.

من ذلك : قوله ـ تعالى ـ : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أنه ـ عزوجل ـ ذكر يمينا لا يؤاخذ فيها في موضعين من غير أن ذكر أنها أي يمين هي؟ ولا بأي شيء لا يؤاخذ فيها والحاجة لازمة ؛ إذ ذلك في موضع الامتنان منه ـ جل وعلا ـ في العفو عن أمر كان له المؤاخذة ، وحق على السامع معرفة منّة الله تعالى ؛ ليشكره عليها.

ثم معلوم أن اليمين لو كانت بالطلاق (٤) والعتاق (٥) ، كان صاحب ذلك يؤاخذ بهما ؛

__________________

(١) في أ : وقوله.

(٢) في ب : بما.

(٣) في أ : الذي.

(٤) عرفه الحنفية بأنه : إزالة النكاح الذي هو قيد معنى.

وعرفه الشافعية بأنه : حلّ عقد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه. أو هو : تصرف مملوك للزوج يحدثه بلا سبب ؛ فيقطع النكاح.

وعرفه المالكية بأنه : إزالة القيد ، وإرسال العصمة ؛ لأن الزوجة تزول عن الزوج.

وعرفه الحنابلة بأنه : حل قيد النكاح أو بعضه.

ينظر : الاختيار لتعليل المختار (ص ٦٢) ، التبيين (٢ / ١٨٨) ، الدرر (١ / ٣٥٨) ، البدائع (٤ / ١٧٦٥) ، مغني المحتاج (٣ / ٢٧٩) ، والخرشي على مختصر سيدي خليل (٣ / ١١) ، الكافي ـ

٥٧٨

بما روي عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ ثلاثا جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ : الطّلاق ، والعتاق ، والنّكاح» (١) ، واللاغي لا يعدو أمرين مع ما كانا يلزمان بلا شرط يصير به الموقع حالفا ، وأعظم ما في رفع المؤاخذة في اليمين أن يرفع عنه اليمين وهما يجبان دونهما فيقعان من غير أن كان في الآية ذكر التفضيل ، ولكن يجب معرفة حقيقة ذلك بالذي بيّنّا من الخبر والنظر ، مع ما لا يعرف في ذلك خلافا ، وهذا يوضح أن العفو فيما كانت الأيمان بالله تعالى ؛ فعلى ذلك ما نسق على ما لا يؤاخذ من المؤاخذة ، وذلك يمنع من احتج بإيجاب الكفارة على الحالف بالقرب من حيث كان ذلك منه يمينا ، والله أوجب في اليمين كفارة ، وإنما ذلك في اليمين لا في اليمين بالقرب ، ثم كانت اليمين بالقرب لو كانت على مخرج اليمين بالله لم يجب فيها شيء ؛ نحو أن يقول : «بالعتق لا أفعل كذا ...» ، أو : «بالصلاة ...» أو «بالصيام ...» ، ولو قال : «بالله ...» يجب ؛ ثبت أن وجوب ذلك وصيرورته يمينا كان بحق النذور ، وقد أمر الله ورسوله في النذور بالوفاء ؛ فكذلك اليمين بها ، ومما يبين ذلك أنه لو قال : «إن فعل كذا فعليه قتل فلان ، أو إتلاف ماله» ، أنه لا يلزمه شيء ؛ ثبت أن ما لزم ـ لزم بحق لزوم ذلك في النذور ، وحق ذلك الوفاء لا غير ، مع ما جاء الخبر بالأمر بالحلف بالله ، والنهي عن الحلف بغيره (٢) والنذور أبدا تكون

__________________

 ـ (٢ / ٥٧١) ، كشاف القناع (٥ / ٢٣٢) ، والمغني (٧ / ٣٦٣).

(٥) عرفه الحنفية بأنه : خروج الرقيق عن الملك ؛ لله تعالى.

وعرفه الشافعية بأنه : إزالة الرق عن الآدمي.

وعرفه المالكية بأنه : خلوص الرقيق من الرق بصيغة.

وعرفه الحنابلة بأنه : تحرير الرقيق وتخليصه من الرق.

ينظر : البحر الرائق (٤ / ٢٣٨) ، تبيين الحقائق (٣ / ٦٦) ، مغني المحتاج (٤ / ٤٩١) ، بلغة السالك (٢ / ٤٤١) ، كشاف القناع (٤ / ٥٠٨) ، الكافي (٢ / ٩٦١) ، الإشراف (٢ / ٣٧١).

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٦٦٦) كتاب الطلاق : باب في الطلاق على الهزل (٢١٩٤) ، والترمذي (٣ / ٤٩٠) كتاب الطلاق : باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق (١١٨٤) ، وابن ماجه (١ / ٦٥٧) كتاب الطلاق : باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبا (٢٠٣٩) ، وسعيد بن منصور في السنن : باب الطلاق لا رجوع فيه (١٦٠٣) ، والطحاوي في شرح المعاني (٣ / ٩٨) ، والدار قطني (٣ / ٢٥٦ ، ٢٥٧) : باب المهر (٥٧ ، ٤٧) ، (٤ / ١٨ ، ١٩) ، كتاب الطلاق (٥٠ ، ٥١) ، والحاكم (٢ / ١٩٨) ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد. وعبد الرحمن بن حبيب هذا هو ابن أردك ، من ثقات المدنيين. وتعقبه الذهبي بقوله في عبد الرحمن هذا : «فيه لين». والبغوي في شرح السنة (٥ / ١٦١) (٢٣٤٩). كلهم من طريق عبد الرحمن بن أردك عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة. وعبد الرحمن بن أردك سبق كلام الحاكم والذهبي فيه ، وقال الحافظ في التقريب (١ / ٤٧٦) : لين الحديث.

(٢) أخرجه البخاري (١٣ / ٣٧٧) كتاب الأيمان : باب لا تحلفوا بآبائكم (٦٦٤٦) ، ومسلم (٣ / ١٢٦٧) كتاب الأيمان : باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى (٣ ـ ١٦٤٦) من حديث عبد الله بن عمر بن ـ

٥٧٩

بغيره ؛ ثبت أن وجوب ذلك بحق النذر ؛ فلذلك يجب الوفاء به ، والله أعلم.

ثم الأصل في ذلك أن الحلف (١) بغير الله يكون على قسمين :

قسم : ألا يجب فيه شيء.

وقسم : أنه لو وجب لوجب المسمى ، نحو : الطلاق ، والعتاق فيما يجب ، فلما كان في الحلف بالقرب في الذمة وهو حلف بغير الله ـ تعالى ـ يجب به شيء يجب أن يكون الواجب في ذلك ما أوجب ، والله أعلم.

ثم اختلف في معنى اللغو :

فقال قوم : هو الإثم (٢) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) [الواقعة : ٢٥] ، وقوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : ٦٢].

ثم اختلف من قال بهذا على قولين :

أحدهما : أنه لا يؤاخذ بالإثم في أيمانكم التي لم تعتقدوها ، لكنها جرت على اللسان ، وبمثل ذلك روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : هو قول الرجل : «لا والله ما كان كذا» (٣) ؛ وبه قال أبو بكر الكيساني في تفسيره ، وأيد ذلك قوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة : ٢٢٥] ؛ دل أن الأول بما يجري على اللسان دون ما يقصده قلبه ، والله أعلم.

والثاني : ألا يؤاخذ بترك المحافظة فيما كان في المحافظة مأثم ؛ دليله : صلة ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ...) الآية ؛ فكأنهم تحرجوا (٤) عن ترك المحافظة فيما سبقت منهم الأيمان قبل النهي بقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) [النحل : ٩١] ؛ فنزل قوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ) في بعض أيمانكم إذا كان حفظها مأثما ، وذلك نحو ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من حلف على يمين فرأى

__________________

 ـ الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه ؛ فقال : «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ؛ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».

(١) في أ : المحلف.

(٢) قال الحافظ ابن حجر (٩ / ١٥٧) : وفسرت عائشة لغو اليمين بما يجري على لسان المكلف من غير قصد. وقيل : هو الحلف على غلبة الظن. وقيل : في الغضب. وقيل : في المعصية.

(٣) أخرجه مالك في الموطأ (٢ / ٤٤٧) ، رقم (٩) ، والبخاري (٩ / ١٥٧) كتاب التفسير : باب قوله : لا (يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) [المائدة : ٨٩] (٤٦١٣) ، و (٣ / ٣٩٨) كتاب الأيمان والنذور : باب (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) (٦٦٣) عن عائشة رضي الله عنها ـ : أنزلت هذه الآية : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) في قول الرجل : لا والله ، وبلى والله.

(٤) في أ : يخرجون.

٥٨٠