تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

أعلم.

ثم نقول : وظاهر هذا يشهد لأبي يوسف ـ رحمه‌الله ـ ومحمد ـ رحمه‌الله ـ : أنه متى أوجب جزءا منه عتق كله ؛ إذ لا يحتمل التجزئة ؛ دليله أمر الكفارات ، والله أعلم.

ومذهب أبي حنيفة : أنه يحتمل أن يكون هذا لما لا يحتمل العتق التجزئة ، ويحتمل : أن يكون ؛ لما لا تحتمل حقوق العتق التجزئة ، وإن كان العتق في نفسه محتملا ؛ فيجب عرض ذلك على ما فيه بيانه ؛ فوجد الأمر بالتحرير حيث كان ، كان بذكر الرقبة ، ولو كان لا يحتمل من حيث التحرير التجزئة ، لكان ذكر التحرير كافيا عن ذكر الرقبة ، فإذا (١) ذكر في كل ما أمر بان أنه ذكر ؛ ليتمم بالإعتاق ، لا أنه يتم بلا ذكر ؛ فعلى ذلك أمر الطلاق لم يذكر فيها معنى رقبتها ؛ لما لا يحتمل ـ والله أعلم ـ بعض ذلك ، ثم كانت الحقوق ترجع إلى الانتفاع ، أو قول ، أو مضرة ، أو نحو ذلك ، لا يحتمل نفوذ من المعتق من دون غيره ، ثبت أن ذلك إن كان كذلك ، فهو (٢) لما لا يحتمل حقوقه أكمل ؛ إذ في ترك الإكمال فوت نفع ما أوجب ، والله أعلم.

ثم قد يجوز إعتاق الجزء من حيث كان الملك والحرية بأخذ العين ، والمنافع تصل إلى المباشرة ، والمباشرة لا تحتمل التميز ، وفي القول فيه ، والملك فيه جملة يحتمل لذلك اختلفا ، وعلى ذلك أمر الطلاق لا ملك ، ثم في النفس ، إنما حقيقة المباشرة والانتفاع ، وذلك لا يحتمل الجزء المطلق منها أوجب دون غيره ؛ فلذلك أكمل ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٩٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ...)(٣) الآية.

__________________

(١) في ب : فإذ.

(٢) في أ : فهذا.

(٣) قال القرطبي (٦ / ١٨٧) : أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم ، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات ، وسائر النجاسات ، وما لا يحل أكله ؛ ولذلك ـ والله أعلم ـ كره مالك بيع زبل الدواب ، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة ؛ والقياس ما قاله مالك ، وهو مذهب الشافعي.

٦٠١

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (وَالْمَيْسِرُ) : القمار (١).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة الّتي تزجر زجرا ؛ فإنّها من الميسر» (٢).

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مثله (٣).

وعن أبي موسى [الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٤) : «من لعب بالنّرد فقد عصى الله ورسوله» (٥).

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : «الميسر قمار» (٦).

وعن على ـ رضي الله عنه ـ قال : «لأن آخذ جمرتين من نار فأقلبهما في يدي أحبّ إليّ من أن أقلب كعبتي نرد» (٧).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أيضا قال : «الشطرنج (٨) هو ميسر الأعاجم» (٩).

وعن مجاهد (١٠) وسعيد بن جبير والشعبي وهؤلاء السلف قالوا : الميسر : القمار كله ،

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٦٤) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس.

(٢) أخرجه البيهقي في الشعب (٥ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩) ، رقم (٦٥٠٤) وابن مردويه كما في الدر المنثور (٢ / ٥٦٣) ، عن سمرة بن جندب مرفوعا ، به.

وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري مرفوعا ، كما في الدر المنثور.

وأخرجه أحمد (١ / ٤٤٦) ، والبيهقي في الشعب (٦٥٠١) ، وابن أبي الدنيا وابن مردويه ، كما في الدر المنثور ، من حديث ابن مسعود مرفوعا ، بنحوه.

(٣) أخرجه بنحوه عبد الرزاق في مصنفه (١٠ / ٤٦٧) ، (١٩٧٢٧).

(٤) في ب : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) أخرجه أبو داود (٢ / ٧٠٢) كتاب الأدب : باب في النهي عن اللعب بالنرد (٤٩٣٨) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٣٧) كتاب الأدب : باب اللعب بالنرد (٣٧٦٢) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ٥٠) كتاب الإيمان : باب من لعب بالنرد فقد عصى ، ومالك (٢ / ٩٥٨) كتاب الرؤيا : باب ما جاء في النرد ، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (٣ / ٦٢٩) ، باب الترهيب من اللعب بالنرد ، رقم (٤٤٩٥) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٥ / ٢٣٧) ، باب : تحريم الملاعب والملاهي ، رقم (٦٤٩٨).

(٦) أخرجه البيهقي في سننه (١٠ / ٢١٣) كتاب الشهادات : باب ما يدل على رد شهادة من قامر بالحمام أو الشطرنج أو بغيرهما.

(٧) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٥ / ٢٨٧) (٢٦١٥٦) ، وبنحوه البيهقي (١٠ / ٢١٢) كتاب الشهادات : باب الاختلاف في اللعب بالشطرنج.

(٨) الشطرنج : لعبة تلعب على رقعة ذات أربعة وستين مربعا ، وتمثل دولتين متحاربتين باثنتين وثلاثين قطعة تمثل الملكين والوزيرين والخيالة والقلاع والفيلة والجنود. ينظر : المعجم الوسيط (٤٨٢).

(٩) أخرجه البيهقي في سننه (١٠ / ٢١٢) كتاب الشهادات : باب الاختلاف في اللعب بالشطرنج ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٦٤) ، وعزاه لعبد بن حميد عن على.

(١٠) أخرجه بنحوه البيهقي (١٠ / ٢١٣) كتاب الشهادات : باب ما يدل على رد شهادة من قامر بالحمام أو بالشطرنج أو بغيرهما ، وعبد الرزاق في مصنفه (١٠ / ٤٦٧) (١٩٧٢٨).

٦٠٢

حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا جلب ، ولا جنب ، ولا شغار ، ولا وراط فى الإسلام» (١) وقيل : الوراط : القمار. وقيل : الجلب : هو أن يجلب وراء الفرس حتى يدنو أو يحرك وراءه الشيء يستحث به السبق. والجنب : هو الذي يجنب مع الفرس الذي به يسابق فرس آخر حتى إذا داناه تحول راكبه إلى الفرس المجنوب ، فأخذ السبق.

وأجمع أهل العلم على أن القمار حرام ، وأن الرهان على المخاطرة مثل القمار ، وما روي عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنه خاطر أهل مكة في غلبة الروم فارس ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زدهم فى الخطر وأبعدهم فى الأجل» (٢) ـ فكان ذلك والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة في الوقت الذي لم ينفذ حكمه ، فأما في دار الإسلام : فلا خلاف في أن ذلك لا يجوز ، إلا ما رخص فيه من الرهان في السبق في الدواب والإبل ، إذا كان الآخذ واحدا : إن سبق أخذ ، وإن سبق لم يدفع شيئا ، وكذلك إن كان السبق بين الرجلين أيهما سبق أخذ ، [ودخل](٣) بينهما فرس : إن سبق أخذ ، وإن سبق يغرم صاحبه شيئا ـ فهو جائز ، ويسمى الداخل بينهما : المحلل.

فأما الرخصة فيه فما (٤) روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا سبق إلّا فى خفّ أو حافر أو نصال» (٥) هذا الذي وصفنا كله من الميسر.

__________________

(١) لم أجده بهذا اللفظ وإنما أخرج أحمد (٤ / ٤٤٣) ، والترمذي (٣ / ٤٣١) كتاب النكاح : باب النهي عن نكاح الشغار (١١٢٣) ، والنسائي (٦ / ١١١) كتاب النكاح : باب في الشغار ، وابن حبان (٣٢٦٧) ، والبيهقي (١٠ / ٢١) من حديث عمران بن الحصين مرفوعا : «لا جلب ولا جنب ولا شغار ، ومن انتهب نهبة فليس منا».

والوارط قد وقع تفسيره في النهاية لابن الأثير على هذا النحو :

الوراط : أن تجعل الغنم في وهدة من الأرض لتخفى على المصدّق فأخذ من الورطة ، وهي الهوة العميقة في الأرض ، ثم استعير للناس إذا وقعوا في بليّة يعسر المخرج منها.

وقيل : الوراط : أن يغيّب إبله أو غنمه في إبل غيره وغنمه.

وقيل : هو أن يقول أحدهم للمصدّق : عند فلان صدقة ، وليست عنده. فهو الوراط والإيراط.

يقال : ورط وأورط.

ينظر : النهاية في غريب الحديث (ورط).

(٢) أخرجه أحمد (١ / ٢٧٦ ، ٣٠٤) ، والترمذي (٥ / ٢٥٣) كتاب التفسير : باب من سورة الروم ، حديث (٣١٩٣) ، والحاكم (٢ / ٤١٠) ، والبيهقي في الدلائل (٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣١) ، والطبراني في الكبير (١٢٣٧٧) عن ابن عباس ، وقال الترمذي : حديث حسن.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : ما.

(٥) أخرجه أبو داود (٣ / ٢٩) كتاب الجهاد : باب في السبق ، حديث (٢٥٧٤) ، والترمذي (٤ / ١٧٨) كتاب الجهاد : باب ما جاء في الرهان والسبق ، حديث (١٧٠٠) ، والنسائي (٦ / ٢٢٦) كتاب ـ

٦٠٣

والأنصاب : هي الأحجار والأوثان التي كانوا ينصبونها ، ويعبدونها ، ويذبحون لها (١).

وأما الأزلام : فالقداح التي كانوا يستقسمون بها في أمورهم ، ويستعملونها ، ففيه دليل بطلان الحكم بالقرعة ؛ لأن الاستقسام بالقداح هو أن كانوا يجعلون الثمن (٢) على الذي خرج سهمه أخيرا ، ويتصدقون بما اشتروا على الفقراء ، ففيه إيجاب الثمن على الغير ، فيجعلون الأمر إلى من ليس له تمييز ، فعوتبوا على ذلك ، فعلى ذلك الحكم بالقرعة تسليم إلى من ليس له تمييز بين المحق وغير المحق ، فيلحق هذا ما لحق أولئك.

ثم أخبر أن ذلك كله (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) ، وليس هو في الحقيقة عمل الشيطان ؛ لأن الشيطان لا يفعل هذا حقيقة ، لكن نسب ذلك إليه ؛ لما يدعوهم إلى ذلك ، ويزين لهم ، وكذلك قول (٣) موسى ـ عليه‌السلام ـ : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : ١٥] إنه كذا ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) [البقرة : ٣٦] وهو ـ لعنه الله ـ لم يتول إخراجهما ، ولكن كان سبب الإخراج والإزلال ، وهو الدعاء إلى ذلك ، والمراءاة لهم ، فنسب ذلك إليه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) هم في الظاهر لم يجتمعوا على العداوة والبغضاء ، بل يكون اجتماعهم على الألفة

__________________

 ـ الخيل : باب السبق ، حديث (٣٥٨٥) ، وأحمد (٢ / ٤٧٤) ، والشافعي (٢ / ١٢٨) كتاب الجهاد ، حديث (٤٢٢) ، وابن حبان (١٦٣٨ ـ موارد) ، والطبراني في «الصغير» (١ / ٢٥) ، والبيهقي (١٠ / ١٦) كتاب السبق والرمى : باب لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ، والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٥٣٥) من طريق ابن أبي ذئب عن نافع عن أبي هريرة ، به. وقال الترمذي : حديث حسن ، وأقره البغوي ، وصححه ابن حبان. وأخرجه الشافعي (٢ / ١٢٩) كتاب الجهاد ، حديث (٤٢٣) ، والبيهقي (١٠ / ١٦) كتاب السبق والرمي : باب لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ، من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن عباد بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، به ، بلفظ : «لا سبق إلا في حافر أو خف».

وأخرجه النسائي (٦ / ٢٢٧) كتاب الخيل : باب السبق ، وابن ماجه (٢ / ٩٦٠) كتاب الجهاد : باب السبق والرهان ، حديث (٢٨٧٨) ، وأحمد (٢ / ٢٥٦ ، ٣٨٥ ، ٤٢٥) ، والبيهقي (١٠ / ١٦) كتاب السبق والرمى : باب لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ، من طريق محمد بن عمرو عن أبي الحكم مولى الليثيين عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد (٢ / ٣٥٨) من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.

(١) في الأصول : بها.

(٢) في أ : الثمرة.

(٣) في أ : قال.

٦٠٤

والمودة ، على ذلك تجمّعهم في الابتداء ، لكن لما شربوا وأخذهم الشراب وقع بينهم العداوة والبغضاء ؛ فكان قصده إلى جمعهم في الابتداء على المحبة والمودة ما ظهر منه في العاقبة من إيقاع العداوة بينهم ، وتفريق جمعهم ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [لقمان : ٢١] ولو دعاهم إلى عذاب السعير لكانوا لا يجيبونه (١) ، لكن دعاهم إلى العمل الذي يوجب لهم عذاب السعير ، فعلى ذلك هو يدعوهم إلى الاجتماع في الخمر والميسر إلى ما وجب ويوقع بينهم العداوة والبغضاء ، ففيه أن الأعمال ينظر فيها العواقب ؛ كما روي : «الأعمال بالخواتيم» (٢).

وفي الآية دليل تحريم الخمر ؛ لأنه قال : (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) والرجس حرام ؛ كقوله تعالى : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً) [الأنعام : ١٤٥] وما يدعو إليه الشيطان ـ أيضا ـ حرام ، وكذلك قوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٩] والحلال المباح لا إثم فيه ، ولا يسمّى رجسا ، وكذلك روي عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قام (٣) ، فخطب الناس ، فقال : «يا أيّها النّاس ، إنّ الله يعرّض على الخمر تعريضا ، لا أدري لعلّه سينزل فيها» ثم قال : «يا أهل المدينة ، إنّ الله قد أنزل تحريم الخمر ، فمن كتب هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشربها ، ولا يبعها» قال : فسكبوها في طريق المدينة (٤).

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال (٥) : لما نزل تحريم الخمر قال : «اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء» ؛ فنزلت الآية التي في البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٩] فقرئت عليه ؛ فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : «اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء» ؛ فنزلت الآية التي في النساء : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] فكان منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام إلى الصلاة قال : «لا يقرب الصلاة سكران» فدعي عمر ـ رضي الله عنه ـ فقرئت عليه ؛ فقال : «اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء». فنزلت الآية التي في المائدة : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) فدعي عمر ـ

__________________

(١) في ب : يجيبون.

(٢) أخرجه البخاري (١٣ / ٣٣٨) كتاب القدر : باب (٦٦٠٧) من حديث سهل بن سعد مرفوعا : «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار ، وإنما الأعمال بالخواتيم» ، والحديث فيه قصة.

(٣) في أ : قال.

(٤) أخرجه مسلم (٣ / ١٢٠٥) كتاب المساقاة : باب تحريم بيع الخمر ، حديث (٦٧ / ١٥٧٨) من حديث أبي سعيد الخدري.

(٥) في ب : قال عمر.

٦٠٥

رضي الله عنه ـ فقرئت عليه ، فلما بلغ : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال : انتهينا ، انتهينا (١).

وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : كنت ساقي القوم ، ونبيذنا تمر وزبيب وبسر خلطناه جميعا ، فبينا (٢) نحن كذلك ـ والقوم يشربون ـ إذ دخل علينا رجل من المسلمين ، فقال : ما تصنعون؟ والله لقد أنزل تحريم الخمر ، فأهرقنا الباطية (٣) ، وكفأناها ، ثم خرجنا ، فوجدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما على المنبر يقرأ هذه الآية ويكررها : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ...) إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(٤) فالخليطان حرام.

فأجمع أهل العلم على أن الخمر حرام قليلها وكثيرها ، وأن عصير العنب إذا غلا واشتد فصار مسكرا ـ خمر.

واختلفوا فيما سوى ذلك من الأشربة : فكان أبو حنيفة وأبو يوسف ـ رحمهما‌الله ـ يقولان : ما كان من الأشربة نيئا متخذا من النخلة والعنب فهو حرام : كنبيذ البسر والتمر والزبيب ، إذا أسكر كثيره فهو حرام عندهما ؛ وعلى ذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنه](٥) قال : «الخمر من هاتين الشّجرتين : من النّخلة والعنب» (٦) ومعنى التخصيص لهما : لأن شرابهم كان منهما ، ولا يتخذ منهما إلا المسكر خاصة. وأما ما اتخذ من غير

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٥٣) ، وأبو داود (٢ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠) كتاب الأشربة : باب في تحريم الخمر ، حديث (٣٦٧٠) ، والترمذي (٥ / ١٤٠ ـ ١٤١) كتاب التفسير : باب سورة المائدة ، حديث (٣٠٤٩) ، والنسائي (٨ / ٨٦) ، والحاكم (٤ / ١٤٣) ، والبيهقي (٨ / ٢٨٥).

(٢) في ب : فبينما.

(٣) الباطية : إناء عظيم من الزجاج وغيره يتخذ للشراب. المعجم الوسيط (بطيء) (١ / ٦٢).

(٤) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٧٠) كتاب الأشربة : باب تحريم الخمر ، حديث (٣ / ١٩٨٠) إلى (٩ / ١٩٨٠) من حديث أنس بنحو هذا.

(٥) سقط من ب.

(٦) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٧٣) كتاب الأشربة : باب بيان أن جميع ما ينتبذ ما يتخذ من النخل والعنب يسمى خمرا ، حديث (١٣ ، ١٤ / ١٩٨٥) ، وأبو داود الطيالسي ص (٣٣٥) حديث (٢٥٦٩) ، وأحمد (٢ / ٢٧٩ ، ٤٠٨ ، ٤٠٩) ، والدارمي (٢ / ١١٣) كتاب الأشربة : باب مم يكون الخمر ، وأبو داود (٤ / ٨٤ ـ ٨٥) كتاب الأشربة : باب الخمر مم هي ، حديث (٣٦٧٨) ، والترمذي (٤ / ٢٩٧ ـ ٢٩٨) كتاب الأشربة : باب ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر ، حديث (١٨٧٥) ، والنسائي (٨ / ٢٩٤) كتاب الأشربة : باب تأويل قول الله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ....)[النحل : ٦٧] ، وابن ماجه (٢ / ١١٢١) كتاب الأشربة : باب ما يكون منه الخمر ، حديث (٣٣٧٨) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤ / ٢١١) كتاب الأشربة : باب الخمر المحرمة ما هي؟ ، والبيهقي (٨ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠) كتاب الأشربة : باب ما جاء في تفسير الخمر الذي نزل تحريمها ، وعبد الرزاق (٩ / ٢٣٤) رقم (١٧٠٥٣) ، وأبو يعلى (١٠ / ٣٩٨) رقم (٦٠٠٢) ، والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ١٦) من حديث أبي هريرة.

وقال الترمذي : حسن صحيح.

٦٠٦

النخلة والعنب فلا يحرم وإن كان نيئا إلا السكر منه ؛ لأن غيرهما من الأشربة قد يتخذ لا للسكر ، وإن كان في مكان لا يتخذ إلا للسكر فهو مكروه قليله وكثيره ، كالمتخذ من النخلة والعنب.

وكانا يقولان : ما كان من الأنبذة مطبوخا فهو حلال وإن قل طبخه ، إلا العصير فإنه لا يحل بالطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه.

وكانا يفرقان بين العصير وغيره : بأن العصير ليس فيه شيء من غيره ، وإن ترك بحاله غلا فأسكر ، فإذا طبخ حتى يذهب ثلثه أو نصفه فهو يغلي ويسكر ، فلم يخرجه الطبخ من حده الأول ؛ إذ كان يسكر قبل أن يطبخ ، وهو الآن يسكر بنفسه ؛ إذ لم يجعل فيه شيء غيره ، وسائر ما يتخذ منه الأنبذة إن بقيت لم يشتد ولم يسكر حتى يلقى عليه الماء ويخلط بها غيره ، فحينئذ يسكر ، فهي مثل العصير إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، فإن بقي دهرا لم يسكر حتى يلقي عليه الماء فحينئذ يسكر ، فإذا صار العصير في حال إن بقي مدة لم يغل بنفسه حتى يلقي عليه غيره كان بمنزلة الزبيب والتمر إذا ألقى عليهما الماء فطبخا ؛ وعلى ذلك ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ في الطلاء أنه لا يحل حتى يذهب ثلثاه ؛ فيذهب عنه سلطانه ، يقول : إذا كان يغلي بنفسه من غير أن يصب عليه الماء ففيه سلطانه ، فإذا صار لا يغلي بنفسه ، وهو أن يطبخ حتى يذهب ثلثاه فقد ذهب عنه سلطانه.

وروي عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن أبا عبيدة (١) ومعاذ ابن جبل وأبا طلحة (٢) ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يشربون من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه (٣).

__________________

(١) عامر بن عبد الله بن الجراح القرشي الفهري ، مشهور بكنيته «أبي عبيدة» ، وبالنسبة إلى جده «الجراح» ، من الصحابة المقلين في الفتيا ، وأحد السابقين إلى الإسلام والعشرة المبشرين ، هاجر الهجرتين ، وشهد بدرا وما بعدها ، آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينه وبين سعد بن معاذ. قال أحمد من حديث أنس : إن أهل اليمن لما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام ، فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح ، فقال : «هذا أمين هذه الأمة».

وقد دعا أبو بكر يوم توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سقيفة بني ساعدة إلى البيعة لعمر أو لأبي عبيدة ، ولاه عمر الشام ، وفتح الله عليه اليرموك والجابية ، توفي في طاعون عمواس بالشام. له في الصحيحين أربعة عشر حديثا. ينظر : الإصابة في تمييز الصحابة (٢ / ٢٥٢) ، وتهذيب التهذيب (٥ / ٧٣) ، وإعلام الموقعين (١ / ١٢) ، والأعلام للزركلي (٤ / ١).

(٢) هو أبو طلحة ، زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار ، الأنصاري النجاري ، وهو مشهور بكنيته. شهد العقبة مع السبعين ، ثم شهد بدرا وما بعدها من المشاهد ، وهو زوج أم أنس بن مالك ، وكان من الرماة المذكورين ، وكان يسرد الصوم كثيرا. مات سنة إحدى وثلاثين ، وقيل : سنة اثنتين وثلاثين ، وقيل : سنة أربعة وثلاثين ، وهو ابن سبعين سنة ، وقيل غير ذلك. ينظر : تهذيب الكمال (١٠ / ٧٥ ـ ٧٧) ، الإصابة (١ / ٥٦٦) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٤١٤).

(٣) علقه البخاري (١١ / ١٨٩) كتاب الأشربة : باب الباذق. وقال الحافظ في الفتح : وصله أبو مسلم ـ

٦٠٧

وقد وصفنا فرق أبي حنيفة وأبي يوسف ـ رحمهما‌الله ـ بين المطبوخ وبين المثلث والمنصف من العصير.

فأما فرقهم بين المطبوخ ما يتخذ من النخلة والعنب والنّيء منه فهو : أن الخمر التي لا خلاف في تحريمها في العصير التي تصير خمرا ، فكل ما كان نيئا من الشجرتين اللتين سماهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو حرام إذا أسكر ، فإذا كان مطبوخا فقد عمل فيه ما خرج به من حد الخمر.

فإن قيل : يجب أن يقاس ذلك على النيئ ؛ لأنه يسكر ، وفيه صفات الخمر.

قيل : الخمر حرمت لعينها لما لا تتخذ إلا للسكر ، ولا يقاس عليها غيرها ، وإنما يقاس على ما حرم وحل لعلة دون ما حرم بعينه ، وأما غيره من الأنبذة فإنما يحرم منه السكر ؛ ألا ترى أنه في الخبر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن قال له أبو موسى : إن شرابنا يقال له : البتع ، فما نشرب منه وما ندع؟ قال : «اشربوا ولا تسكروا» (١).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : حرمت الخمر بعينها ، قليلها وكثيرها ، والسكر من كل شراب (٢).

__________________

 ـ الكجي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة.

(١) أخرجه أحمد (٤ / ٤٠٧ ، ٤١٠) ، والبخاري (٨ / ٦٢) كتاب المغازي : باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع ، حديث (٤٣٤٣) ، ومسلم (٣ / ١٥٨٦) كتاب الأشربة : باب بيان أن كل مسكر خمر ، وأن كل خمر حرام ، حديث (٧٠ / ١٧٣٣) ، وأبو داود (٤ / ٨٩) كتاب الأشربة : باب النهي عن المسكر ، حديث (٣٦٨٤) ، والنسائي (٨ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠) كتاب الأشربة : باب تفسير البتع والمزر ، والبيهقي (٨ / ٢٩١) كتاب الأشربة : باب ما جاء في تفسير الخمر الذي نزل تحريمها ، والطحاوي (٤ / ٢٢٠) كتاب الأشربة : باب ما يحرم من النبيذ ، وابن الجارود (٨٥٦) بألفاظ ليس في شيء منها «اشربا ولا تسكرا» بل في بعضها «ولا تشربا مسكرا».

(٢) أخرجه النسائي (٨ / ٣٢١) كتاب الأشربة : باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أراد شرب السكر من طريق ابن شبرمة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن ابن عباس موقوفا بلفظ : «حرمت الخمر قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب» حديث (٥٦٨٤).

قال النسائي : ابن شبرمة لم يسمعه من عبد الله بن شداد.

وأخرجه (٨ / ٣٢١) كتاب الأشربة : باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أراد شرب السكر من طريق ابن شبرمة.

قال : حدثنى الثقة عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس به.

قال : خالفه أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي ، فرواه عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس بزيادة : «حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها».

أخرجه النسائي (٨ / ٣٢١).

ثم أخرجه من طريق عباس بن ذريح عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال : ـ

٦٠٨

وعن على ـ رضي الله عنه ـ قال : فما أسكر من النبيذ ثمان ، وفي الخمر قليلها وكثيرها ثمانون (١). فدل قول على ـ رضي الله عنه ـ فيما أسكر من النبيذ ثمان ، معناه : في السكر ثمانون ، وذلك يدل أن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ مسكر حرام» (٢) أن السكر منه حرام.

__________________

 ـ «حرمت الخمر قليلها وكثيرها وما أسكر من كل شراب».

قال النسائي : وهذا أولى بالصواب من حديث ابن شبرمة ، وهشيم بن بشير ـ الراوي عنه ـ كان يدلس ، وليس في حديثه ذكره السماع من ابن شبرمة ، ورواية أبي عون أشبه بما رواه الثقات عن ابن عباس.

وقد أخرجه النسائي (٨ / ٣٢١) ، والدارقطني (٤ / ٢٥٦) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٧ / ٢٢٤) من طريق شعبة عن مسعر عن أبي عون به عن ابن عباس موقوفا.

وفي الباب عن على مرفوعا.

أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (٤ / ١٢٣ ـ ١٢٤) من طريق محمد بن الفرات الكوفي عن أبي إسحاق السبعى عن الحارث عن على قال : «طاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الصفا والمرة أسبوعا ثم استند إلى حائط من حيطان مكة فقال : «هل من شربة؟» فأتى بقعب من نبيذ فذاقه فقطب ، قال : فرده ، قال : فقام إليه رجل من آل حاطب فقال : يا رسول الله هذا شراب أهل مكة ، قال : فرده ، قال : فصب عليه الماء حتى رغا ثم شرب ، ثم قال : حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب». قال العقيلى : لا يتابع عليه.

ونقل عن يحيى قوله : ليس بشيء ، وعن البخاري قوله : منكر الحديث.

وقول العقيلي : «لا يتابع عليه» فيه نظر ؛ فقد تابعه عبد الرحمن بشر الغطفاني.

أخرجه هو في «ضعفائه» (٣ / ٤٢٤) من طريقه عن أبي إسحاق عن الحارث عن على قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأشربة عام حجة الوداع فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرم الله الخمر بعينها والسكر من كل شراب».

قال العقيلي : عبد الرحمن بن بشر مجهول في النسب ، والرواية حديثه غير محفوظ.

ليس له من حديث أبي إسحاق أصل ، وهذا يعرف عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن ابن عباس قوله.

(١) في ب : ثمان. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (٥ / ٥٠٢) ، رقم (٢٨٤٠٠) بلفظ : «حد النبيذ ثمانون».

(٢) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٨٨) كتاب الأشربة : باب بيان أن كل مسكر خمر ، حديث (٧٥ / ٢٠٠٣) ، وأبو داود (٤ / ٨٥) كتاب الأشربة : باب النهي عن المسكر ، حديث (٣٦٧٩) ، والنسائي (٨ / ٢٩٦ ـ (٢٩٧) كتاب الأشربة : باب تحريم كل شراب أسكر ، والترمذي (٤ / ٢٩٠) كتاب الأشربة : باب ما جاء في شارب الخمر ، حديث (١٨٦١) ، وأبو عوانة (٥ / ٢٧٠ ـ ٢٧١) ، وأحمد (٢ / ٢٩ ، ١٣٤ ، ١٣٧) ، وعبد الرزاق (٩ / ٢٢١) رقم (١٧٠٠٤) ، وابن الجارود (٨٥٧) ، وابن حبان (٥٣٤٢ ـ الإحسان) ، وأبو يعلى (١٠ / ١٨٩) رقم (٥٨١٦) ، والطبراني في «الصغير» (١ / ٥٤) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤ / ٢١٦) ، والدارقطني (٤ / ٢٤٨) كتاب الأشربة ، من طرق عن نافع عن ابن عمر به.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح

٦٠٩

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه أتى بسكران ، قال : يا أمير المؤمنين ، إنما نشرب من نبيذك الذي في الإداوة ؛ فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : لست أضربك على النبيذ ، إنما أضربك على السكر (١).

فهذه الأخبار التي ذكرنا دلت على [تحريم الخمر بعينها ، والسكر من كل شراب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) يدل على](٢) تحريمها ؛ لأنه إذا سكر ، صده عن ذكر الله وعن الصلاة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في تحريم الخمر ، والميسر ، والأزلام ، والأنصاب ، وغيرها (٣) ، (وَاحْذَرُوا) معصيتهما وخلافهما (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن طاعتهما فيما حرم عليكم وحذركم عنه : (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) في تحريم ذلك ، والله أعلم.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) أي : شربوا من الخمر قبل تحريمها (إِذا مَا اتَّقَوْا) شربها بعد التحريم (وَآمَنُوا) : أي : [و](٤) صدقوا بالتحريم ، (ثُمَّ اتَّقَوْا) شربها ، (وَآمَنُوا) في حادث الوقت ، (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا).

وذكر في بعض القصة : أنه لما نزل تحريم الخمر ، قالوا : كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟. فنزل : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ...) الآية.

لكن هذا لا يحتمل أن يكون كما ذكر ؛ لأنهم شربوا الخمر في وقت كان شربها مباحا ، ولم يشربوا بعد تحريمها ، لكن هذا إن كان فإنما (٥) قالوا في أنفسهم ؛ فنزل : أن ليس عليكم جناح فيما شربتم قبل تحريمها بعد أن اتقيتم شربها بعد نزول حرمتها ، والله أعلم.

وقال بعض الناس : إن في الآية تكرارا في قوله ـ تعالى ـ : (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

(١) أخرجه بمعناه عبد الرزاق في مصنفه (٩ / ٢٢٤) كتاب الأشربة : باب الحد في نبيذ الأسقية ، ولا يشرب بعد ثلاث (١٧٠١٥).

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٣) في ب : وغيره.

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب : قائما.

٦١٠

الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا ، ليس على التكرار ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)(٩٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) وليس فيه بيان أنه ابتلى بالأمر فيه أو بالنهي ، لكن بيانه في آية أخرى : أن الابتلاء إنما كان بالنهي عن الاصطياد بقوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] دل هذا على أن المحرم كان منهيّا عن الاصطياد [بقوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ)](١) ، وأن الابتلاء الذي ذكر في الآية كان بالنهي عن الاصطياد ، والله أعلم.

ثم اختلف في الآية :

قال بعضهم : النهي بشيء من الصيد لأهل الحرم (٢) ؛ ألا ترى أنه روى في الخبر قال : «لا ينفّر صيدها ، ولا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها» (٣) فكان الابتلاء بالنهي عن الصيد لأهل الحرم ؛ لما أخبر أنه لا ينفر صيدها (٤) ، وأما المحرم فإنما نهي عن الاصطياد

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : الحرام.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ٤٦ ـ ٤٧) كتاب جزاء الصيد : باب لا يحل القتال بمكة ، حديث (١٨٣٤) ، ومسلم (٢ / ٩٨٦ ، ٩٨٧) كتاب الحج : باب تحريم مكة وصيدها ، وحلالها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد ، على الدوام ، حديث (٤٤٥ / ١٣٥٣) ، وأبو داود (٢ / ٦) كتاب الجهاد : باب في الهجرة هل انقطعت حديث (٢٤٨٠) والنسائي (٧ / ١٤٦) كتاب الجهاد : باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة ، والترمذي (٤ / ١٢٦) كتاب السير : باب ما جاء في الهجرة حديث (١٥٩٠) ، من طريق منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح فتح مكة : «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والله فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلي خلاها» فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال : «إلا الإذخر» ، وهذا لفظ البخاري.

(٤) وقوله : «ولا ينفر صيدها» ، معناه : لا يتعرض له بالاصطياد ، ولا يهاج فينفر ، وحكي عن سفيان بن عيينة قال : معناه : أن يكون الصيد رابضا في ظل شجرة : فلا ينفره الرجل ؛ ليقعد ، ويستظل مكانه.

ينظر : المغني في الإنباء (١ / ٢٧٧) ، معالم السنن للخطابي (٢ / ٢٢٠).

٦١١

بقوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] وبقوله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٩٥].

وقال آخرون : الابتلاء بالنهي عن الاصطياد للمحرمين ، وفي قوله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) نهي عن قتله ، وهنالك نهي عن أخذه بقوله : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ).

وقوله ـ تعالى ـ : (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) : أي : في بعض الصيد دون بعض ؛ لأن المحرم لم ينه عن أخذ صيد البحر وإنما نهي عن أخذ صيد البر بقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) [المائدة : ٩٦] [وقال ـ تعالى ـ](١) : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فذلك معنى قوله : (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) ، والله أعلم.

ويحتمل على التقديم والتأخير ، كأنه قال : ليبلونكم الله بشيء تناله أيديكم ورماحكم من الصيد ، والله أعلم.

ثم اختلف في قوله : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) :

قال بعضهم : ما تناله الأيدي هو البيض ؛ وعلى هذا يخرج قولنا : إن المحرم منهي عن أخذ البيض ، فإن أخذ بيضا فإن عليه الجزاء ، والذي يدل على ذلك ما روي أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فى بيض النّعام صيام يوم أو إطعام مسكين» (٢).

وعن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بثمنه (٣).

__________________

(١) في ب : وقال آخرون.

(٢) أخرجه الدارقطني (٢ / ٢٤٩) ، والبيهقي (٥ / ٢٠٧) من طريق الوليد بن مسلم ثنا ابن جريج قال : أحسن ما سمعت في بيض النعامة ، حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين».

(٣) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٤ / ٤٢٣) كتاب المناسك : باب بيض النعام ، حديث (٨٣٠٢) ، وليس فيه ذكر ابن عباس ، والدارقطني (٢ / ٢٤٧) كتاب الحج : باب المواقيت ، حديث (٥٣) ، والبيهقي (٥ / ٢٠٨) كتاب الحج : باب بيض النعامة يصيبها المحرم ، كلهم من حديث إبراهيم بن أبي يحيى ، عن حصين بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس به.

وذكره الزيلعي في «نصب الراية» (٣ / ١٣٦) وقال : وضعفه ابن القطان في «كتابه» فقال : فيه حسين بن عبد الله بن عاس ، وهو ضعيف ، والراوي عنه إبراهيم بن أبي حيى الأسلمي ، وهو كذاب ، بل قيل فيه ما هو شر من الكذب. ا ه. وللحديث شاهد.

وأخرجه ابن ماجه (٢ / ١٠٣١) كتاب المناسك : باب جزاء الصيد يصيبه المحرم ، حديث (٣٠٨٦) ، والطبراني كما في نصب الراية (٣ / ١٣٦) ، والدارقطني (٢ / ٢٥٠) كتاب الحج : باب المواقيت ، حديث (٦٤) ، من حديث أبي المهزم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه».

وذكره الزيلعي في «نصب الراية» (٣ / ١٣٦) وقال : أخرجه الدارقطني من رواية على بن غراب ـ

٦١٢

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ عليه ثمنه أو قيمته (١).

وعن ابن مسعود (٢) ـ رضي الله عنه ـ مثله.

وقال بعضهم (٣) : تناله أيديكم : هو صيد الصغار ، وهي الفراخ التي لا تطير فتؤخذ بالأيدي أخذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرِماحُكُمْ) : قال بعضهم : ما رميت وطعنت.

وقيل في قوله : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) : ما يؤخذ بغير سلاح ، (وَرِماحُكُمْ) : ما يؤخذ بالسلاح من نحو : النبل ، والرماح ، وغيرهما من السلاح.

ثم في الآية دلالة أن المحرم قد نهي عن أخذ الصيد ، وكذلك في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] والاصطياد : هو الأخذ لا القتل ، وإنما النهي عن القتل في قوله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ)

ليعلم ما قد علم أنه يكون كائنا ، أو أن يقال : ليعلم ما قد علم غائبا عن الخلق شاهدا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ...) الآية [الأنعام : ٧٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) اختلف فيه :

قال بعضهم : يخافه بالغيب : بغيب الناس ؛ أي : يخافه وإن لم يكن بحضرته أحد.

وقال آخرون : يخاف العذاب بالأخبار وإن لم يشهد ويصدق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ)

أي : من استحل قتل الصيد بعد ما ورد النهي والتحريم (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

والثاني : من اعتدى على الصيد بعد النهي على غير استحلال ، (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) إن شاء عذب ، وإن شاء عفا ، وإذا عذب كان عذابه أليما.

__________________

 ـ عن أبي المهزم والطبراني عن حسين المعلم عنه.

وكره ابن القطان في «كتابه» من جهة الدارقطني ، وقال : أبو المهزم ضعيف ، والراوي عنه على ابن غراب ، وقد عنعن ، وهو كثير التدليس. انتهى في «التنقيح» ، وأبو المهزم اسمه : يزيد بن أبي سفيان ، قال النسائي : متروك الحديث ، وقال الدارقطني : ضعيف ، وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء : «كان يخطئ كثيرا واتهم ، فلما كثر في روايته مخالفة الأثبات ترك». ا ه.

والحديث ذكره الحافظ البوصيري في «الزوائد» (٣ / ٣٩) وقال : هذا إسناد ضعيف.

(١) أخرجه بنحوه ابن جرير (٥ / ٤٥) ، (١٢٥٧٤) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٧٩) وعزاه لعبد بن حميد عن ابن عباس.

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨٠) وعزاه لابن أبي شيبة عن ابن مسعود.

(٣) في ب : بعضه.

٦١٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي : وأنتم محرمون. الآية في ظاهرها عامة على قتل الصيد كله ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رخص في أشياء أذن في قتلها ، فقال : «خمس من الدّوابّ لا جناح على من قتلهنّ وهو محرم في الحرم : الحدأة ، والغراب ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور» (١).

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : قالت : «أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل خمس (٢) فواسق في الحل والحرم : الحدأة (٣) ، والغراب (٤) ، والفأرة ، والعقرب (٥) ، والكلب العقور (٦)» (٧).

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٨٥٨) كتاب الحج : باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم ، حديث (٧٢ ، ٧٦ / ١١٩٩) ، وأبو داود (٢ / ٤٢٤) كتاب المناسك : باب ما يقتل المحرم من الدواب ، حديث (١٨٤٦) ، والنسائي (٥ / ١٩٠) كتاب الحج : باب قتل الغراب ، وأحمد (٢ / ٨) ، وابن الجارود رقم (٤٤٠) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ١٦٥) ، والبيهقي (٥ / ٢٠٩) كتاب الحج : باب ما للمحرم قتله من دواب البر في الحل والحرم ، والحميدي (٢ / ٢٠٧٩) رقم (٦١٩) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٤ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣) ، وأبو يعلى (٩ / ٣١١) رقم (٥٤٢٨) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا.

وأخرجه البخاري (٦ / ٤٠٩) كتاب بدء الخلق : باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم ، حديث (٣٣١٥) ، ومسلم (٢ / ٨٥٩) كتاب الحج : باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم ، حديث (٧٩ / ١١٩٩) ، ومالك (١ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧) كتاب الحج : باب ما يقتل المحرم من الدواب ، حديث (٨٩) ، وأحمد (٢ / ٥٢) ، وابن حبان (٣٩٦٩ ـ الإحسان) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر به.

(٢) في ب : بخمس.

(٣) الحدأة ـ بكسر الحاء ـ : أخس الطير. ينظر : حياة الحيوان (١ / ٢٠٨).

(٤) الغراب : معروف ؛ سمي بذلك لسواده ، وهو أصناف كثيرة. ينظر : حياة الحيوان (٢ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥).

(٥) العقرب : دويبة من الهوام ، ذات سم تلسع ، تكون للذكر والأنثى بلفظ واحد. ينظر : حياة الحيوان (٢ / ١٦١) ، المعجم الوسيط (٢ / ٦١٥).

(٦) العقور : مبالغة عاقر ، يقال كلب عقور. ينظر : المعجم الوسيط (٢ / ٦١٥).

(٧) أخرجه البخاري (٦ / ٤٠٨ ـ ٤٠٩) كتاب بدء الخلق : باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم .. حديث (٣٣١٤) ، ومسلم (٢ / ٨٥٧) كتاب الحج : باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم حديث (٦٨ / ١١٩٨) ، والترمذي (٣ / ٤٨٧ ـ تحفة) كتاب الحج : باب ما جاء ما يقتل المحرم من الدواب حديث (٨٣٩) ، والنسائي (٥ / ١٨٨) كتاب الحج : باب ما يقتل في الحرم من الدواب ، والدارمي (٢ / ٣٦ ـ ٣٧) كتاب الحج : باب ما يقتل المحرم في إحرامه ، والدارقطني (٢ / ٢٣١) رقم (٦٥) ، وعبد الرزاق (٨٣٧٤) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ١٦٦) ، والبيهقي (٥ / ٢٠٩) كتاب الحج : باب ما للمحرم قتله من دواب البر في الحل والحرم ، وأبو يعلى (٧ / ٤٧٨ ـ ٤٧٩) رقم (٤٥٠٣) ، وابن حبان (٣٩٧١ ـ الإحسان) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٨ / ٢٧١ ـ ٢٧٢) من طريق عروة بن الزبير عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس فواسق يقتلن في الحرم : الفأرة والعقرب والحدأة والغراب والكلب العقور».

وقال الترمذي : حسن صحيح.

٦١٤

وفي بعض [النسخ و](١) الأخبار : الذئب (٢) ؛ فيحتمل أن يكون الكلب العقور : الذئب.

وروي عن أبي سعيد الخدري أن [رسول الله](٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عما يقتل المحرم؟ فقال : «الحيّة والعقرب ، والفويسقة.

«[ويرمي الغراب ولا يقتله ،](٤) والكلب العقور والسّبع العادى» (٥).

والكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله : ما قتل الناس وعدا عليهم ، مثل : الأسد ، والنمر ، والذئب ، وما كان من السباع لا يعدو ، مثل : الضبع ، والثعلب ، والهرة ، وما أشبههن من السباع فلا يقتلهن المحرم ، فإن هو قتل شيئا منهن فداه ، وإن قتل شيئا من الطير سوى ما ذكر في الخبر فعليه جزاؤه.

وفي بعض الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقتل المحرم الفأرة ؛ فإنّها توهن

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه عبد الرازق في المصنف (٤ / ٤٤٤) ، رقم (٨٣٨٤) ، والبيهقي (٥ / ٢١٠) ، وأبو داود في المراسيل ص (١٤٦) ، رقم (١٣٧) من طريق عبد الرحمن بن حرملة أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس يقتلهن المحرم : العقرب ، والحية ، والغراب ، والكلب ، والذئب». ووصله الدارقطني (٢ / ٢٣٢) من حديث ابن عمر بإسناد آخر ضعيف ، قاله الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (٢ / ٥٢٤).

(٣) في ب : النبي.

(٤) في الأصول : ويروى : الغراب والفيلة.

(٥) أخرجه أحمد (٣ / ٣) وأبو داود (٢ / ٤٢٥) كتاب المناسك : باب ما يقتل المحرم من الدواب حديث (١٨٤٨) ، والترمذي (٣ / ٤٨٨ ـ تحفة) كتاب الحج : باب ما جاء ما يقتل المحرم من الدواب (٨٤٠) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٣٢) كتاب المناسك : باب ما يقتل المحرم (٣٠٨٩) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ١٦٦ ـ ١٦٧) ، والبيهقي (٥ / ٢١٠) ، وأبو يعلى (٢ / ٣٩٦) رقم (١١٧٠) من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقتل المحرم : الحية والعقرب والسبع العادى والكلب العقور والفأرة والفويسقة».

ولفظ الترمذي : «يقتل المحرم السبع العادى والكلب العقور والفأرة والحدأة والغراب».

وعند أبي داود : «الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور».

وزاد أحمد وابن ماجه وأبو يعلى : «قلت : ما الفويسقة؟ قال : الفأرة ؛ قلت : وما شأن الفأرة؟ قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استيقظ وقد أخذت الفتيلة وصعدت بها إلى السقف ؛ لتحرق عليه».

قلت : ومن أجل هذه الزيادة فقد أورد الحافظان البوصيري والهيثمي هذا الحديث : الأول في «زوائد ابن ماجه» ، والثاني في «مجمع الزوائد».

قال البوصيري في «الزوائد» (٣ / ٤٠) : هذا إسناد ضعيف ؛ يزيد بن أبي زياد ضعيف ، وإن أخرج له مسلم ؛ فإنما أخرج له مقرونا بغيره ، ومع ضعفه اختلط بأخرة وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨ / ١١٥) : رواه أبو يعلى ، وفيه يزيد بن أبي زياد : وهو لين الحديث ، وبقية رجاله رجال الصحيح.

٦١٥

السّقاء» (١).

وقال بعض الناس : ما قتل المحرم من السباع التي لا يؤكل لحمها (٢) ؛ فلا فدية عليه ؛ فكان تاركا لظاهر الآية ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). فإن احتج بحديث ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رخص للمحرم في قتل خمس من الدواب ، وذلك ما لا يؤكل لحمه ـ قيل : أباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل الخمس ؛ لعلة : أنه لا يؤكل لحمها. فإن قال : نعم ـ قيل : ما الدليل على ذلك؟ فإن قال : لأنها لا تؤكل ؛ فكل ما لا يؤكل من الصيد فقتله مباح ؛ فيقال له : قولك : «لا يؤكل» ليس بعلة ؛ لأن ذلك لا يزول ولا يتغير ، والعلة هي التي تحدث في وقت وتزول في وقت ، ولو كان قول القائل : «لا يؤكل» ، علة فيما لا يؤكل ـ كان قوله : «يؤكل» ، علة فيما يؤكل ، وكان الشيء علة لنفسه (٣). وهذا بين الخطأ ، وإذا لم يكن تحريم أكل الخمسة التي أذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتلها للمحرم علة في إطلاق قتلها ، ما كان القياس (٤) عليها على ما لا يحل أكله مخطئا ؛ لأن القياس إنما يكون على العلل ، وما لا علة فيه لا يجوز القياس عليه.

وعندنا : أن هذه الخمسة المسماة تبتدئ المحرم وغيره بالأذى ، وإن لم يبتدئها المحرم ، وما سوى ذلك مما لا يؤكل لحمه ـ لا يكاد يبتدئ بالأذى حتى يبتدئها الإنسان ؛ فحينئذ تعرض له.

وبيان ذلك : أن الحدأة ربما أغارت على اللحم تراه في يدي الرجل ، والغراب يسقط على وبر الدواب فيفسده ، والعقرب تقصد من تلدغه ، وتتبع حسّه ، والكلب العقور لا يكاد يهرب من الناس كما يهرب السباع سواه.

فأما الضبع والخنزير والكلب والذئب وأشباهها فهي تهرب من بني آدم ، ولا تكاد تؤذيهم حتى يبدءوها بالأذى ؛ [لذا] جعلنا العلة فيما رخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمحرم في قتله : ما يعرف من قصدها لأذى المحرم وإن لم يؤذها المحرم ؛ إذ كان ذلك معروفا فيها ، معلوما

__________________

(١) لم أجده بهذا اللفظ ، ولكن أخرج البخاري (٦ / ٥١١ ـ ٥١٢) كتاب بدء الخلق : باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه (٣٣١٦) ، من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا : «خمروا الآنية ، وأوكوا الأسقية ، وأجيفوا الأبواب ، وأكفئوا صبيانكم عند المساء ؛ فإن للجن انتشارا وخطفة ، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد ؛ فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت».

قال الحافظ ابن حجر : الفويسقة : هي الفأرة.

(٢) في الأصول : لحمه.

(٣) في الأصول : لنفسها.

(٤) في ب : القائس.

٦١٦

أنه أكثر (١) شأنها ؛ فلما لم يكن في سائر الطير المحرمة والسباع هذه العلة ، وكان المعروف فيها أنها لا تبتدئ بالأذى ـ لم يجز أن تشبه بالخمسة المسماة في الخبر ، فإذا ابتدأ منها مبتدئ المحرم بالأذى ؛ كان حينئذ مثل الخمسة ؛ فجاز له قتلها بغير فدية.

وبعد : فإن الذي لا يؤكل لحمه يسمى : صيدا ، والصيادون يصيدونه ؛ فكان داخلا تحت عموم الخطاب ، ومخالفنا تارك لأصله في العموم ؛ لأنه خص الآية بغير دليل ، ومن أصله أن الآية على العموم ، [و](٢) لا تخص إلا بدليل ، وأصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ يجعلون الصيد كله محظورا أكل أو لم يؤكل إلا ما عدا منها ، فإن قتله قبل أن يعدو عليه لزمه الفداء ؛ ذهبوا في ذلك :

إلى ما روي في الخبر : [خبر](٣) أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقتل المحرم كذا وكذا والسّبع العادي» (٤) ، فالعادي : ما يعدو على المحرم.

وإلى ما روي عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ (٥) وغيره ، مع ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جعل على المحرم قتل ضبعا ـ جزاءه (٦) ، وكذلك روي عن عمر وابن عباس وابن عمر (٧) ـ رضي الله عنهم ـ وهي مما يؤكل.

__________________

(١) في ب : أكبر.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) تقدم قريبا.

(٥) أخرجه عبد الرزاق (٤ / ٤٠٣) ، رقم (٨٢٢٣) ، وابن أبي شيبة (٣ / ٢٥٥) ، رقم (١٣٩٦٣) من طريق مجاهد أن عليا جعل الضبع صيدا ، وحكم فيها كبشا ، وهذا لفظ عبد الرزاق.

(٦) أخرجه الشافعي في المسند (١ / رقم ٨٥٤) ، ومن طريقه البيهقي في السنن (٥ / ١٨٣) ، وأخرجه عبد الرزاق (٨٢٢٦) عن عكرمة مولى ابن عباس يقول في الضبع : أنزلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صيدا ، وقضى فيها كبشا نجديا.

قال الشافعي : وهذا حديث لا يثبت مثله لو انفرد.

ثم قال البيهقي : وإنما قاله ؛ لانقطاعه. ا ه.

قلت : وينظر حديث جابر الآتى.

(٧) أما أثر عمر : فأخرجه عبد الرزاق (٤ / ٤٠٣) ، رقم (٨٢٢٤) ، والشافعي (٨٥٧٨) ، والبيهقي (٥ / ١٨٤) من طريق أبي الزبير عن جابر عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قضى في الضبع يصيبها المحرم : بكبش ، وفي الظبي : بشاة ، وفي الأرنب : بعناق ، وفي اليربوع بجفرة.

وأبو الزبير مدلس ، لكنه رواه عنه الليث بن سعد عند البيهقي ، وهو لا يروى عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث.

وأما أثر ابن عباس : فأخرجه عبد الرزاق (٤ / ٤٠٣) ، رقم (٨٢٢٥) ، والشافعي (١ / رقم ٨٥٣) ، ومن طريقه البيهقي (٤ / ١٨٤).

٦١٧

وعن جابر قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الضبع ؛ فقال : «هو صيد ، وفيه كبش» (١). وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ كذلك ، وابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)

اختلف في الآية في تأويلها على وجهين :

أحدهما : من جعل الآية على ظاهرها ؛ فلم يوجب في الخطأ كفارة : عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : إذا أصاب المحرم الصيد خطأ ؛ فليس عليه شيء (٢).

وكذلك روي عن عطاء وسالم والقاسم أنهم قالوا : لا شيء عليه ، مثل قول ابن عباس ، رضي الله عنه.

والقول الثاني : ما قاله أكثر أهل التأويل : قالوا : قوله : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) لقتله (٣) ، ناسيا لإحرامه ؛ فذلك الذي يحكم عليه ، وهو [الخطأ](٤) المكفر. وإن قتله

__________________

(١) أخرجه الشافعي (٢ / ١٧٣ ـ ١٧٤) كتاب الصيد والذبائح ، حديث (٦٠٩) ، وأحمد (٣ / ٣١٨ ، ٣٢٢) ، والدارمي (٢ / ٧٤ ـ ٧٥) كتاب المناسك : باب في جزاء الضبع ، والترمذي (٤ / ٢٥٢) كتاب الأطعمة : باب ما جاء في أكل الضبع ، حديث (١٧٩١) ، والنسائي (٧ / ٢٠٠) كتاب الصيد والذبائح : باب الضبع ، وابن ماجه (٢ / ١٠٧٨) كتاب الصيد : باب الضبع ، حديث (٣٢٣٦) ، وابن الجارود ص (٢٩٩) باب ما جاء في الأطعمة ، حديث (٨٩٠) ، والدارمي (٢ / ٧٤) كتاب المناسك : باب في جزاء الضبع ، وعبد الرزاق (٨٦٨١) ، وابن أبي شيبة (٤ / ٧٧) ، والدارقطني (٢ / ٢٤٦) ، وأبو يعلى (٤ / ٩٦) رقم (٢١٢٧) ، وابن خزيمة (٤ / ١٨٢) رقم (٢٦٤٥) ، وابن حبان (٩٧٩ ـ الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ١٦٤) ، وفي المشكل (٤ / ٣٧٠ ـ ٣٧١) ، والحاكم (١ / ٤٥٢) ، والبيهقي (٩ / ٣١٨) كتاب الضحايا : باب ما جاء في الضبع والثعلب ، من طرق عن عبد الله بن عبيد عن بن أبي عمار قال : سألت جابر بن عبد الله : «أتؤكل الضبع؟ قال : نعم ، قلت : أصيد هي؟ قال : نعم ، قلت : سمعت ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم».

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين.

وصححه ابن خزيمة وابن حبان.

وأخرجه الحاكم (١ / ٤٥٣) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ١٦٥) ، والبيهقي (٩ / ٣١٩) كتاب الضحايا : باب ما جاء في الضبع والثعلب ، من طريق حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الضبع صيد ؛ فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء : كبش مسن ويؤكل».

وقال الحاكم : صحيح ولم يخرجاه ، وإبراهيم بن ميمون الصائغ : زاهد عالم ، أدرك الشهادة ، رضي الله عنه. ووافقه الذهبي.

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة (٣ / ٤٣٨) ، رقم (١٥٦٧) كتاب الحج : باب (في المحرم يصيب الصيد فيحكم عليه) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٥٧٨) ، وعزاه إلى ابن المنذر عن الحسن.

(٣) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٥٧٨) ، وعزاه لأبي الشيخ عن محمد بن سيرين ، وبنحوه عن ابن عباس.

(٤) سقط من ب.

٦١٨

متعمدا لقتله ، ذاكرا لإحرامه ـ لم يحكم عليه.

وكذلك روي عن الحسن أنه قال : متعمدا لصيده ، ناسيا لإحرامه (١) ، وقال : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) متعمدا للصيد ، وذاكرا لإحرامه ؛ فكأنهم ذهبوا إلى أن المحرم لا يقصد قصد الصيد وهو ذاكر لإحرامه. أحسنوا الظن به.

وعندنا : أن الإحرام مما لا يجوز أن يخفى على المحرم وينساه ؛ لأن للإحرام أعلاما تذكره تلك الأعلام الحال التي هو فيها ، وعندنا : أن ما لا يجوز أن ينسى ويخفى على المرء لم يعذر صاحبه في نسيانه ، وعندنا : أن على قاتل الصيد الكفارة ، عمدا قتله أو خطأ ، وليس تخلو الآية من أن تكون أوجبت الكفارة على المتعمد للقتل [الناسي لإحرامه ؛ كما قال الحسن ومجاهد (٢) ، أو تكون أوجبت الكفارة على المتعمد للقتل](٣) ذاكرا لإحرامه ؛ فإن كان وجب أن يكفر من قتله عامدا لقتله ، ناسيا لإحرامه ـ فإن الذي يقتله عامدا لقتله ذاكرا لإحرامه أولى بالكفارة ؛ لأن ذنبه أعظم ، وجرمه أكبر.

فإن قيل : إنكم لا توجبون الكفارة على قاتل النفس عمدا ؛ فما منع أن يكون قتل الصيد مثل ذلك وإن كان حرمته أعظم كما؟! قيل : إن قاتل النفس عمدا ـ وإن كنا لم نوجب عليه الكفارة ـ فقد أوجبنا عليه القصاص ، وهو أغلظ (٤) من الكفارة ، وقاتل الصيد عامدا لقتله ذاكرا لإحرامه ، لو أزلنا عنه الكفارة ـ فلا شيء عليه سواها ؛ لذلك اختلفا. ثم نقول : إنا عرفنا الحكم في قتل الصيد عمدا بالكتاب ، والحكم في قتل الصيد في الخطأ إنما يعرف بغيره ، وليس في ذكر الحكم وبيانه في حال دليل نفيه في حال أخرى ؛ دلنا على هذا مسائل قد ذكرناها فيما تقدم في غير موضع كرهنا إعادتها في هذا الموضع.

ثم تخصيص ذكر الكفارة في قتل العمد يحتمل وجوها :

أحدها : أن الكفارة في قتل النفس إنما ذكرت في قتل الخطأ [و] لم تذكر في قتل العمد ؛ ليعلم : أنها إذا أوجبت في العمد فهي في الخطأ أوجب.

والثاني : أن الكفارة إنما وجبت بجنايته على صيد آمن به في الحرم ، وكل ذى أمانة إذا أتلف الأمانة لزمه الغرم ، عمدا كان إتلافه أو خطأ ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

والثالث : أن ذكر التخيير في حال الضرورة [يخرج مخرج التوسيع والتخفيف على

__________________

(١) أخرجه الطبري (٥ / ٤٢) ، رقم (١٢٥٥٧).

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ٤٢) رقم (١٢٥٥١) عن مجاهد.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) في أ : أعظم.

٦١٩

أهلها ، ولا يكون ذلك في غير حال الضرورة](١) ؛ فدل ذكره في غير حال الضرورة على أن ذلك كالمذكور في حال الضرورة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)(٢)

اختلف أهل العلم فيما يجب من المثل :

فقال قوم : في الظبي (٣) شاة ، وفي النعامة (٤) : [بدنة](٥) ، وفي الحمار [الوحشي](٦) : بقرة (٧) ، وأشباه ذلك.

وقال آخرون : المثل : قيمة الصيد ، يقومه عدلان فيوجبان قيمته دراهم ، فيشتري بتلك الدراهم شاة ، أو يجعله طعاما ، فيتصدق به : على كل مسكين نصف صاع ، أو يصوم عن كل نصف صاع يوما.

وقال غيرهم : إن بلغ دما ـ ذبح شاة ، وإن لم يبلغ دما : يتصدق (٨) به.

وأما قولنا : إن المثل هو القيمة ، لا المثل في رأي العين : ذهبنا في ذلك إلى وجوه :

أحدها : أن المحرم إذا (٩) أصاب صيدا في هذا الوقت ـ حكم بجزائه حكمان ؛ فلو كان مثل الظبي شاة في كل الدهور والأوقات ـ كان في جعلنا ما تقدم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسلف من الحكم في ذلك كافيا لا يحتاج إلى حكم غيرهم ؛ فدل إجماعهم على أن حكم الحكمين باق ، على أن المثل غير مؤقت ؛ بل هو مختلف على قدر الأزمنة والمواضع والأوقات ، وإذا جعلنا المثل قيمة كانت الحاجة إلى الحكمين قائمة ، وإذا جعلناه هديا فالحاجة إليهما زائلة ، ولا يجوز أن يعطل أمر الحكمين وقد ذكره الله في

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) قال القاسمي (٦ / ٣٧٣) : قال الحاكم : كما دلت الآية على الرجوع إلى ذوي العدل في المماثلة.

ففي ذلك دلالة على جواز الاجتهاد وتصويب المجتهدين. وجواز تعليق الأحكام بغالب الظن.

وجواز رجوع العامي إلى العالم ، وأن عند التنازع في الأمور يجب الرجوع إلى أهل البصر ... انتهى.

(٣) جنس حيوانات من ذوات الأظلاف والمجوفات القرون ، أشهرها : الظبي العربي ، ويقال له : الغزال الأعفر. ينظر : الوسيط (١ / ٥٧٥).

(٤) النعامة : بفتح النون مخففة ، قال الجوهري : النعامة : من الطير ، تذكر وتؤنث ، والنعام : اسم جنس ، كحمامة وحمام.

ينظر : المطلع (ص ١٧٩).

(٥) سقط من ب.

(٦) في ب : حمار الوحش.

(٧) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٥٨٠) ، وعزاه لابن أبي شيبة عن عطاء.

(٨) في ب : تصدق.

(٩) في ب : لو.

٦٢٠