تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

لله واعتصموا به ، أولئك مع المؤمنين ، وسوف يؤتى الله المؤمنين أجرا عظيما».

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) قال : لم يراءوا ، وكانت سريرتهم كعلانيتهم أو أفضل (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ)

تأويله ـ والله أعلم ـ أن ليس لله ـ عزوجل ـ حاجة في تعذيبه إياكم إن صدقتم وآمنتم ، ولكن الحكمة توجب تعذيب من كفر به ؛ وإلا ليس له حاجة في تعذيبكم ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون هذا في قوم أفرطوا (٢) في التكذيب ومعاندة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فظنوا أنهم إن آمنوا به وصدقوه ـ لم يغفر لهم ما كان منهم من الإفراط (٣) في التكذيب ، والتمرد وفي المعاندة ؛ فأخبر ـ عزوجل ـ أنه لا يعذبهم إن آمنوا به ـ بما كان منهم من [الكذب والعناد](٤) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] والله أعلم.

ثم [الشكر](٥) فيما بين الخلق (٦) ـ يكون على الجزاء والمكافأة ؛ كقوله : «من لم يشكر الناس لم يشكر الله».

وأما فيما بينهم بين ربهم : فهو على غير الجزاء والمكافأة ؛ إذ ليس في وسعهم القيام بأداء شكر أصغر نعمة أنعمها عليهم عمرهم ؛ فدل أنه ليس يخرج الأمر على ما به أمر المكافأة ؛ ولكنه يخرج على وجوه :

[الأول] : على معرفة النعم أنها منه.

والثاني : على معرفة التقصير والاعتراف بالعجز ـ عن أداء شكرها.

والثالث : ألا يستعملها إلا في طاعة ربه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً)

يقبل الإيمان بعد الجحود والتكذيب ؛ إذا تاب.

وقيل : (شاكِراً) أي : يقبل القليل من العمل إذا كان خالصا ، ليس كملوك الأرض لا يقبلون اليسير من الأشياء.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط (٣ / ٣٩٦) بنحوه.

(٢) في ب : فرطوا.

(٣) في ب : التفريط.

(٤) في ب : التكذيب والاعتقاد.

(٥) سقط من ب.

(٦) زاد في ب : على.

٤٠١

وقيل : (شاكِراً) : يقبل اليسير من العمل ، ويعطي الجزيل من الثواب ، وذلك هو الوصف في الغاية من الكرم ، والله أعلم.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «ما يعبأ الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا لأعمالكم الحسنة عليما بها» (١) وهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) (١٤٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ).

اختلف في تأويله وتلاوته :

قال بعضهم : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) من الدعاء إلا من ظلم ؛ فإنه لا بأس أن يدعوا إذا كان مظلوما.

وقال آخرون : (الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) هو الشتم ؛ أخبر أنه لا يحب ذلك لأحد من الناس ، ثم استثنى إلا من ظلم واعتدي عليه ؛ فإن رد عليه مثل ذلك ، فلا حرج عليه. وكذلك قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) أن يشتم الرجل المسلم في وجهه ، إلا أن يشتمه فيرد كما قال ، وذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ، وإن يعفو فهو أفضل (٢).

وقرأ بعضهم (٣) : «إلا من ظلم» بالنصب ، فهو يحتمل : إلا من ظلم ؛ فإن له الجهر

__________________

(١) أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري (٣ / ٥٠٥) في أبواب البر والصلة باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك رقم (١٩٥٥) والإمام أحمد في المسند (٣ / ٣٢ ، ٧٣) وأبو يعلى برقم (١١٢٢) وعبد بن حميد (٨٤) والطبراني في الأوسط (٣٦٠٦) وقال الترمذي حسن صحيح.

(٢) ذكره ابن عادل في اللباب (٧ / ٩٩) ، ورواه بنحوه ابن جرير (٩ / ٣٤٤) ، رقم (١٠٧٤٩) ، عن ابن عباس ، ولفظه : «لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد ، إلا أن يكون مظلوما ؛ فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ، وإن صبر فهو خير له».

(٣) والجمهور على أن «إلا من ظلم» : مبنيّا للمفعول. قال القرطبي : ويجوز إسكان اللام ، وقرأ جماعة كثيرة ، منهم : ابن عباس وابن عمر وابن جبير والضحاك وزيد بن أسلم والحسن : «ظلم» مبنيّا للفاعل ، وهو استثناء منقطع ؛ فهو في محل نصب على أصل الاستثناء المنقطع ، واختلفت عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء ، وحاصل ذلك يرجع إلى أحد تقديرات ثلاثة :

إما أن يكون راجعا إلى الجملة الأولى ؛ كأنه قيل : لا يحب الله الجهر بالسوء ، لكن الظالم يحبه ؛ فهو يفعله.

وإما أن يكون راجعا إلى فاعل الجهر ، أي : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء لأحد ، لكن الظالم يجهر به. وإما أن يكون راجعا إلى متعلق الجهر ، وهو : «من يجاهر ويواجه بالسوء» ، أي : لا يحب الله أن يجهر بالسوء لأحد ، لكن الظالم يجهر له به ، أي : يذكر ما فيه من المساوئ في وجهه ؛ لعله أن يرتدع ، وكون هذا المستثنى في هذه القراءة منصوب المحل ؛ على الانقطاع ـ هو الصحيح ، ـ

٤٠٢

بالسوء من القول ، وإن لم يكن له ذلك ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠] ؛ فإنهم ـ وإن لم يكن لهم حجة عليكم ـ فإنهم يحتجون عليكم ؛ فعلى ذلك الظالم ، وإن لم يكن له الجهر بالسوء من القول فإنه يفعل ذلك ، والله أعلم.

ومن قرأ : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) : بالرفع ـ فتأويله ما ذكرنا ـ والله أعلم ـ : أنه لا يبيح لأحد الجهر بالسوء من القول إلا المظلوم ؛ فإنه يباح له أن يدعو على ظالمه ، وينتصر منه. والثاني : ما قيل : من سب آخر ، فإنه لا يباح له ولا يؤذن أن يرد عليه مثله وينتصر منه.

وقيل : نزلت الآية في أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ شتمه رجل بمكة ، فسكت عنه ما شاء الله ، ثم انتصر ؛ فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركه (١).

وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المستبّان ما قالا ؛ فهو على البادئ حتّى يعتدي المظلوم» (٢). وقال : «ألا لا تستبّوا (٣) ، فإن كنتم فاعلين لا محالة ، فعلم الرّجل من صاحبه ـ فليقل : إنّك لجبّار ، وإنّك لبخيل».

وأصل هذا الاستثناء أن الأول ـ وإن لم يكن من نوع ما استثنى ـ فهو جزاؤه ، وجزاء (٤) الشيء يسمى باسمه ؛ كما سمى الله ـ عزوجل ـ [جزاء](٥) السيئة : سيئة ؛ بقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، وسمي جزاء الاعتداء : اعتداء ، وإن لم يكن الثاني اعتداء ولا سيئة ؛ فعلى ذلك استثنى (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ، وإن لم يكن من نوعه ؛ لأنه جزاء الظلم والاعتداء ، والله أعلم.

وقيل : إن الآية نزلت في الضيف ينزل بالرجل فلا يضيفه ، ولا يحسن إليه ؛ فجعل له أن يأخذه بلسانه ، وإلى هذا يذهب أكثر المتأولين (٦) ، لكنه بعيد.

__________________

 ـ وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكون في محل رفع على البدلية ، ولكن اختلف مدركهما.

ينظر : المحرر الوجيز (٢ / ١٢٩) ، والبحر المحيط (٣ / ٣٩٨) ، والدر المصون (٢ / ٤٥١).

(١) ذكره الرازي في تفسيره (١١ / ٧٢) ، وابن عادل في اللباب (٧ / ١٠٠).

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٠٠) : كتاب البر والصلة والآداب : باب النهي عن السباب ، رقم (٦٨ ـ ٢٥٨٧) ، وأبو داود (٢ / ٦٩٠) كتاب الأدب باب المستبان ، رقم (٤٨٩٤) ، والترمذي (٣ / ٥٢٣) كتاب البر والصلة : باب ما جاء في الشتم ، رقم (١٩٨١) ، وأحمد (٢ / ٢٣٥) ، وابن حبان رقم (٥٧٢٨) من حديث أبي هريرة.

(٣) في ب : تسبوا.

(٤) في ب : جزء.

(٥) سقط من ب.

(٦) أخرجه ابن جرير في تفسيره (٩ / ٣٤٦) (١٠٧٥٨ ـ ١٠٧٦١) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤٢٠) ، وعزاه لابن جرير وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد.

٤٠٣

وفي قوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) دليل على أنه ليس في إباحة الشيء في حال ـ يوجب حظره في حال أخرى ؛ لأنه نهي عن الجهر بالسوء من القول ، ثم لم يدل ذلك على أنه لا ينهي عن ذلك في غير حال الجهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً).

بجهر السوء ، (عَلِيماً) به.

ثم قال : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ).

يحتمل ـ والله أعلم ـ أن العفو والتجاوز خير عند الله من الانتصار ؛ فيحتمل (١) هذا وجهين :

يحتمل : أن يكون على الترغيب : رغبهم ـ عزوجل ـ بالعفو عن السوء والمظلمة ، فكما أنه يعفو عن خلقه ، ويتجاوز عنهم مع قدرته على الانتقام ـ فاعفوا أنتم عن ظالمكم أيضا ، وإن [أنتم](٢) قدرتم على الانتصار والانتقام منهم ، فيكون لكم بذلك عند الله الثواب.

ويحتمل : أن يأمرهم بالعفو عن مظالمهم ؛ ليعفو ـ عزوجل ـ عن مظالمهم التي فيما بينهم وبين ربهم ؛ وعلى ذلك يخرج قوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) ـ والله أعلم ـ فإن الله ـ عزوجل ـ أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو صاحبكم المسىء إليكم.

وقال بعضهم : الله أجدر وأحرى أن يعفو عنك إذا عفوت عن أخيك في الدنيا ، وهو على ذلك أقدر.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٥٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) يحتمل وجهين :

يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ ...) [أي : يريدون](٣) أن يفرقوا بين الله ورسله ؛ فيكون قوله : (يَكْفُرُونَ بِاللهِ) : في الدهرية ؛ لأنهم

__________________

(١) في ب : يحتمل.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

٤٠٤

يكفرون بالله ، ولا يؤمنون به ، ويقولون بقدم العالم ، فذلك فيهم ، وقوله : (وَرُسُلِهِ) يكون في الذين يؤمنون بالله ويكفرون بالرسل كلهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) :

في الذين كفروا ببعض الرسل وآمنوا ببعض الرسل ، ويقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

ثم أخبر ـ عزوجل ـ عنهم جميعا ـ مع اختلاف مذاهبهم ـ أنهم كفار ، وحقق الكفر فيهم بقوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا)

ويحتمل أن يكون فيمن آمن ببعض الرسل وكفر ببعض [الرسل](١) ؛ فيكون الكفر ببعض الرسل كفرا بالله ، وبجميع رسله ، وبجميع كتبه ؛ لأن كل واحد من الرسل يدعو الخلق كلهم إلى الإيمان بالله ، والإيمان بجميع الرسل والكتب ، وإذا كفر بواحد منهم ـ كفر بالله وبالرسل جميعا ، والله أعلم.

[وقوله ـ تعالى ـ : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً)

أي : ويتخذون غير ذلك سبيلا ؛ على طرح إرادة «أن» ، أي : يتخذون بين ذلك ، أي : بين إيمان ببعض الرسل ، وكفر ببعض الرسل ـ دينا ؛ فذلك لا ينفعهم إذا كفروا ببعض الرسل](٢).

وقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : أولئك هو الكافرون الذين حق عليهم الكفر بالله.

والثاني : يكفرون ببعض الرسل ؛ أنهم ـ وإن كفروا ببعض الرسل ـ فقد حق عليهم الكفر بالله تعالى ؛ لأن الكفر بواحد من الرسل كفر بالله وبالرسل جميعا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً). [قوله : (مُهِيناً)](٣) : يهانون فيه.

ثم نعت المؤمنين فقال ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ).

يعني : من الرسل ، وقالوا : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ما بين المعقوفين جاء في الأصول بعد قوله : «يهانون فيه» الآتى بعد قليل.

(٣) سقط من ب.

٤٠٥

[البقرة : ١٣٦] إلى آخر ما ذكر.

وفي الآية دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم لا يسمون صاحب الكبيرة مؤمنا ، وهو قد آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد من رسله ؛ فدخل في قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) وهم يقولون : لا يؤتيهم أجورهم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

أخبر ـ عزوجل ـ أنه لم يزل غفورا رحيما ، وهم يقولون : لم يكن غفورا رحيما ولكن صار غفورا رحيما ، وبالله العصمة.

قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(١٥٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ).

قيل في أحد التأويلين : كان يريد كل أحد منهم أن يأتي إلى كل رجل منهم بكتاب (١) : أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً. كَلَّا) [المدثر : ٥٢ ، ٥٣] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣].

وقيل : سألوا أن يأتيهم بكتاب جملة مثل التوراة ؛ مثل قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة (٢) ؛ لأنهم يقولون : إن هذا القرآن من اختراع محمد واختلاقه ؛ لأنه لو كان من عند الله نزل ، لنزل جملة كما نزلت التوراة جملة غير متفرقة ؛ فأخبر أنهم : (سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) ، وقد سألوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل سؤال أولئك موسى ، وهو قوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] يعزي ـ عزوجل ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويصبره على أذاهم ، يقول ـ والله أعلم ـ : إنهم سألوا آيات على رسالته ، فأتى بها ، فلم يؤمنوا به ، يخبر

__________________

(١) في ب : بكتابه.

(٢) أخرجه ابن جرير الطبري (٩ / ٣٥٦) رقم (١٠٧٦٨) عن السدي ، وذكره في الدر المنثور (٢ / ٤٢٢) ، وعزاه لابن جرير عن السدي.

٤٠٦

أن سؤالهم سؤال تعنت ، لا سؤال استرشاد ؛ لأن سؤالهم لو كان سؤال استرشاد ـ لكان إذا أتوا بها قبلوها ؛ ولذلك أخذهم العذاب بقوله ـ تعالى ـ : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) ؛ لأنهم كانوا يسألون سؤال تعنت ، لا سؤال رشد.

وفي الآية دلالة أن المسئول لا يلزمه الدليل على شهوة السائل وإرادته ؛ ولكن يلزمه أن يأتي بما هو دليل في نفسه.

وفيه دلالة له ـ أيضا ـ أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب ؛ لأنه لما قال : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ...) ـ لم يخطر ببال أحد أنه أراد المجوس بقوله : (أَهْلُ الْكِتابِ) ، والله أعلم. فبطل قول من قال : بأنهم من أهل الكتاب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)

الصاعقة : هي العذاب الذي فيه الهلاك ، وقد ذكرناه فيما تقدم ، وإنما أخذهم العذاب بكفرهم بموسى بعد ما أتاهم موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآيات الرسالة ، لا بسؤالهم الرؤية ؛ لأنه لو كان ما أخذهم [من] العذاب إنما أخذ بسؤال الرؤية ، لكان موسى بذلك أولى ؛ حيث قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ؛ فدل (١) أن العذاب إنما أخذهم بتعنتهم وبكفرهم بعد ظهور الآيات لهم أنه رسول الله ، وذلك قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) يخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شدة تعنتهم في تكذيب الرسل ، وكثرة تمردهم وسفههم ؛ ليصبر على أذى قومه ، ولا يظن أنه أول مكذّب من الرسل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً)

قيل : السلطان المبين يحتمل الآيات التي أراهم ، ما يعقل كل أحد ـ إن لم يعاند ولا كابر ـ أنها سماوية ؛ إذ هي كانت خارجة عن الأمر المعتاد بين الخلق ، من نحو : اليد البيضاء ، والعصا ، وفرق البحر ، وغير ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ)

حين لم يقبلوا التوراة ؛ فعند ذلك قبلوا ، ثم أخذ عليهم الميثاق بذلك ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ).

[عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ)](٢) يقول : لا

__________________

(١) في ب : دلت.

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٤٠٧

تعملوا في السبت عملا من الدنيا ، وتفرغوا فيه للعبادة (١).

وفي حرف حفصة ـ رضي الله عنها ـ : «وقلنا لهم لا تعدّوا في السبت» :

وقال أبو معاذ : ويقرأ : «لا تعدّوا في السبت» ؛ على معنى لا تتعدوا ، [تلقى إحدى](٢) التاءين ، وإن شئت : تعتدوا ، لم تدغم التاء في الدال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً).

هو ما ذكر ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : من أرسل الله إليه رسولا فأقر به ـ فقد أوجب على نفسه ميثاقا غليظا.

وقال مقاتل : الميثاق الغليظ : هو إقرارهم بما عهد الله إليهم في التوراة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ).

قال الكسائي : «ما» ـ هاهنا ـ صلة : فبنقضهم ميثاقهم.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «وكفرهم بآيات الله من بعد ما تبينت».

وقال مقاتل : فبنقضهم إقرارهم بما (٣) في التوراة ، وبكفرهم بآيات الله ، يعني : بالإنجيل والقرآن ، وهم اليهود.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ)

يحتمل على حقيقة القتل ، ويحتمل على القصد والهمّ في ذلك ، وقد هموا بقتل (٤) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مرة.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : قال كانوا يقتلون الأنبياء ، وأما الرسل ـ عليهم‌السلام ـ فكانوا معصومين ، لم يقتل رسول قط ؛ ألا ترى أنه قال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] ، وقال ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ).

قيل فيه بوجهين :

أحدهما : أنهم قالوا : قلوبنا أوعية للعلم ، لا تسمع شيئا إلا حفظته ؛ فالقرآن في هذا الوجه غلف.

والثاني : قالوا : قلوبنا في أكنّة مما تقول ، لا تعقل ما تقول ؛ فالقراءة في هذا الوجه

__________________

(١) ينظر : تفسير الطبري (٩ / ٣٦١) ، الدر المنثور (٢ / ٤٢٢).

(٢) في ب : يلقى أحد.

(٣) في أ : ما.

(٤) في ب : قتل.

٤٠٨

غلف فيه.

ثم قال ـ عزوجل ـ : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ).

يحتمل أن يكون هذا جوابا وردّا على قولهم : إن قلوبنا أوعية للعلم ، لا تسمع شيئا إلا وعته ؛ أخبر ـ عزوجل ـ أنه طبع على قلوبهم بكفرهم ؛ فلا يفقهون شيئا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)(١٥٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : قذفوها بالزنا (١) ، وهو قولهم : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) [مريم : ٢٧].

وقيل في قوله ـ تعالى ـ : (وَبِكُفْرِهِمْ) أي : كفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن ، وقولهم على مريم ما قالوا : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) [مريم : ٢٧]

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ).

قيل : سمي مسيحا ؛ لأن جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسحه بالبركة ؛ فهو كالممسوح الفعيل (٢) ، بمعنى : المفعول (٣) ، وذلك جائز في اللغة.

وقيل : المسيح ، بمعنى : ماسح ؛ لأنه كان يمسح المريض والأبرص والأكمه فيبرأ ؛ فسمى لذلك مسيحا ، وذلك جائز الفعيل بمعنى فاعل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ ...) الآية.

لبعض الناس تعلق بهذه الآية بوجهين :

أحدهما : في احتمال الغلط والخطأ في المشاهدات والمعاينات.

والثاني : في احتمال المتواتر من الأخبار الغلط والكذب ؛ وذلك أنه قيل في القصة : إن اليهود طلبت عيسى ـ عليه‌السلام ـ ليقتلوه ، فحاصروه في بيت ومعه نفر غير أصحابه من الحواريين ، فأدركهم المساء ؛ فباتوا يحرسونه (٤) ؛ فأوحي الله ـ تعالى ـ إلى عيسى ـ عليه

__________________

(١) أخرجه ابن جرير في التفسير (٩ / ٣٦٧) رقم (١٠٧٧٦) ، وزاد نسبته السيوطي في الدر (٢ / ٤٢٢) لابن أبي حاتم.

(٢) في أ : العقل.

(٣) في أ : المعقول.

(٤) في ب : يحرسون.

٤٠٩

السلام ـ : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] ؛ فأخبر أصحابه ، وقال : أيكم يحب أن يلقى عليه شبهي فيقتل ، ويجعله الله يوم القيامة معي وفي درجتي؟ فقال رجل منهم : أنا يا رسول الله ؛ فألقى الله ـ تعالى ـ عليه شبهه ورفع عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أصبح القوم أخذوا الذي ألقى الله عليه شبهه ؛ فقتلوه ، وصلبوه (١).

وقيل : إنه ألقى شبهه على رجل من اليهود.

وقيل (٢) : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هموا بقتله التجأ إلى بيت ، فدخل فيه ، فإذا [هم قد](٣) جاءوا في طلبه ، فدخل رجل منهم البيت ليقتله ، فأبطأ عليهم ؛ فظنوا أنه [قد قتله](٤) ، فلما خرج وقد ألقى شبهه عليه ؛ فقتلوه ، وقالوا لما قتلوا ذلك الرجل ، وعندهم أنه عيسى ؛ لما كان به شبهه ، ثم لم يكن ذلك عيسى فلا يمنع أيضا أن ما يشاهد ويعاين أنه ـ في الحقيقة ـ على غير ذلك ، كما شاهد أولئك القوم وعاينوا ، وعندهم أنه عيسى ، ثم لم يكن ، والله أعلم (٥).

ثم الخبر ـ أيضا ـ قد تواتر فيهم بقتل عيسى ، فكان كذبا ما يمنع ـ أيضا ـ أن الأخبار المتواترة يجوز أن تخرج كذبا وغلطا.

قيل : أما الخبر بقتله إنما انتشر عن ستة أو سبعة ؛ على ما ذكر في القصة ، والخبر الذي كان (٦) انتشاره بذلك القدر من العدد ، هو من أخبار الآحاد عندنا.

وأما قوله ـ تعالى ـ : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

يجوز أن يكون ذلك التشبيه تشبيه خبر أنه قتل من إلقاء الشبه على غيره ، وقتله حقيقة ؛ وذلك أنه ذكر في بعض القصة : أنهم لما طلبوه (٧) في ذلك البيت فلم يجدوه ، ولم يكن غاب أحد منهم ـ قالوا : قتلناه ؛ لأنهم قالوا : إنه دخل البيت ، فدخلوه (٨) على أثره ، فلم يجدوه ـ كان ذلك إنباء عن (٩) عظيم آيات رسالته ؛ فلم يحبوا أن يقولوا ذلك ، فقالوا :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير بنحوه في تفسيره (٩ / ٣٧٠) رقم (١٠٧٨١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤٢٣) ، وعزاه لابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن مردويه والنسائي.

(٢) في ب : وقيل فيه.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : يقاتله.

(٥) ينظر : تفسير الرازي (١١ / ٨٠) ، اللباب (٧ / ١١٤).

(٦) في أ : يحتمل.

(٧) في ب : طلبوا.

(٨) في ب : فدخلوا هم.

(٩) في ب : من.

٤١٠

قتلناه ، كذبا ؛ فذلك تشبيه لهم ، والله أعلم.

فإن احتمل هذا ـ لم يكن ما قالوا من تخطئة العين لهم درك ، ولو كان ما قال أهل التأويل من إلقاء شبهه عليه ؛ فذلك من آيات رسالته ، أراد الله أن تكون آياته قائمة بعد غيبته عنهم ، وفي حال إقامته بينهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) [قيل : لفي شك](١) من قتل عيسى ـ عليه‌السلام ـ قتل أو لم يقتل؟

وقيل : (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) في عيسى ، أي : على الشك يقولون [ذلك.

قال الله ـ تعالى ـ](٢) : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ).

أي : ليس لهم بذلك إلا اتباع الظن : إلا قولا منهم بظنهم في غير يقين.

(وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً).

أي : ما قتلوا ظنهم يقينا ؛ (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ).

وقيل : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) أي : يقينا ما قتلوه.

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً).

قيل : عزيزا حين حال بينهم وبين عيسى أن يقتلوه ويصلوا إليه.

(حَكِيماً).

حكم أن يرفعه الله حيّا. وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) في أن رسله يكونون معصومين (٣) ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] ، وقوله ـ عزوجل أيضا ـ : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٢] ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).

اختلف فيه :

قال بعضهم : قوله ـ تعالى ـ : (قَبْلَ مَوْتِهِ) أي : قبل موت عيسى ، إذا نزل من السماء ـ آمنوا به أجمعين ، وبه يقول الحسن.

وقال الكلبي : إن الله ـ تعالى ـ إذا أنزل عيسى ـ عليه‌السلام ـ عند مخرج الدجال ، فقتل الدجال ـ يؤمن به بقية أهل الكتاب ؛ فلا يبقى يهودي ولا نصراني إلا أسلم.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : إنه ابن الله.

(٣) ينظر : تفسير الطبري (٩ / ٣٧٨) رقم (١٠٧٩٣) ، الدر المنثور (٢ / ٤٢٦).

٤١١

وقال بعضهم : (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي : قبل موت الكتابي ؛ لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ، عليه‌السلام. [وكذلك روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ـ عليه‌السلام ـ](١) قيل : وإن ضرب بالسيف؟ قال : وإن ضرب بالسيف.

وقال : هي في حرف أبي : «إلا ليؤمنن به قبل موتهم».

لكن التأويل إن كان هو الثاني ؛ فهو في رؤسائهم الذين كانت لهم الرئاسة ، فلم يؤمنوا ؛ خوفا على ذهاب تلك الرئاسة والمنافع التي كانت لهم ، فلما حضرهم الموت أيقنوا بذهاب ذلك عنهم ؛ فعند ذلك يؤمنون ، وهو ـ والله أعلم ـ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ...) [الآية](٢) [النساء : ١٨] ، لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [الأنعام : ١٥٨] ؛ لأنه إيمان دفع العذاب والاضطرار ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ...) [غافر : ٨٤] الآية ؛ فكان إيمانهم إيمان دفع العذاب عن أنفسهم ، لا إيمان حقيقة ؛ لأنه لو كان إيمان حقيقة لقبل ، ولكن إيمان دفع العذاب ؛ كقول فرعون حين (٣) أدركه الغرق : (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) [يونس : ٩٠] ، فلم يقبل منه ذلك ؛ لأنه إيمان دفع العذاب ، وإيمان الاضطرار (٤) ، لا إيمان حقيقة ؛ فعلى ذلك الأول ، وبالله التوفيق.

وقيل في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به قبل موته».

وفي حرف حفصة ـ رضي الله عنها ـ : «وإن كل أهل الكتاب لما ليؤمنن به قبل موته».

وقيل : (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَ) [النساء : ١٥٩] قيل : بالله (٥).

وقيل : بعيسى (٦).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : حتى إذا.

(٤) في ب : اضطرار.

(٥) ينظر : اللباب (٧ / ١١٨).

(٦) أخرجه الطبري في تفسيره (٩ / ٣٨٢) رقم (١٠٨٠٩) عن ابن عباس ، ورقم (١٠٨١٠ ـ ١٠٨١٣) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤٢٨).

٤١٢

وقيل : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ذلك أن عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل يدعو الناس إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)

قيل : إنه يكون عليهم شهيدا بأنه قد بلغ رسالة ربه إليهم ، وأقر على نفسه بالعبودية (٢).

وقيل : الشهيد : الحافظ.

وقيل : «ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا».

وقيل : يكون محمد عليهم شهيدا ، وهذا كله محتمل (٣) ، والله أعلم ما أراد.

قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً)(١٦٢)

وقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)

لو لا آية أخرى سوى هذه ؛ [وإلا](٤) صرفنا قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) على المنع ، دون حقيقة التحريم ؛ لأنهم أهل كفر ؛ فلا يبالون ما يتناولون من المحرم والمحلل ، ولا يمتنعون عن التناول من ذلك ؛ فإذا كان ما ذكرنا ـ فيجىء أن يعود (٥) تأويل الآية إلى المنع ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص : ١٢] فليس هو على التحريم ؛ ولكن على المنع ؛ أي : منعناه ؛ فلم يأخذ من لبن المراضع دون لبن أمه ؛ فعلى ذلك يجب أن يكون الأول.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٣٨٦) رقم (١٠٨٢٩) عن عكرمة ، وقال الطبري : وأولى الأقوال بالصحة والصواب ـ قول من قال : تأويل ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ؛ وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال ؛ لأن الله ـ جل ثناؤه ـ حكم لكل مؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه ، وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة ؛ فلو كان كل كتابي يؤمن بعيسى قبل موته ـ لوجب ألا يرث الكتابيّ إذا مات على ملته إلا أولاده الصغار ، أو البالغون منهم من أهل الإسلام إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم ، وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغ مسلم ـ كان ميراثه مصروفا حيث يصرف مال المسلم يموت ولا وارث له ، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره ...».

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٩ / ٣٩٠) رقم (١٠٨٣٢) ، عن قتادة ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٢٧ ، ٤٢٨) لعبد الرزاق وابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة.

(٣) ينظر : اللباب لابن عادل (٧ / ١٢٠).

(٤) في ب : لا.

(٥) في ب : يصرف.

٤١٣

ثم المنع لهم يكون من وجهين :

أحدهما : منع من جهة منع الإنزال ؛ لقلة الأمطار والقحط ؛ كسني يوسف ـ عليه‌السلام ـ وسني مكة ، على ما كان لهم من القحط.

والثاني : منع من جهة الخلق : ألا يعطوا شيئا ، لا بيعا ولا شراء ولا معروفا.

ولكن في آية أخرى بيان أن قوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ـ أنه على التحريم ، ليس على المنع ، وهو قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) [الأنعام : ١٤٦] : أخبر ـ عزوجل ـ أن ذلك جزاء بغيهم ؛ فدل ما ذكرنا في الآية أن ذلك على حقيقة التحريم ؛ لما يحتمل أن يكونوا لا يستحلون ما ذكر في الآية ، ولكن كانوا يتناولون الربا على غير الاستحلال ؛ فحرم ذلك عليهم.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) دلالة لأصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ في قولهم : إن من قد أقرّ ، فقال : هذا الشيء لفلان اشتريته منه ـ أنه له ، ولا يؤخذ منه ؛ وإلا في ظاهر قوله : هذا الشيء لفلان اشتريته منه ـ أنه إذا اشتراه منه لا يكون لفلان ؛ فيكون ذلك منه إقرارا له ، لكنه على الإضمار ؛ كأنه قال : هذا الشيء كان لفلان اشتريته منه.

وكذلك قوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي : كانت أحلت لهم ، وكذلك في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وحرف ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «حرمنا عليهم طيبات كانت أحلت لهم».

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً)

أي : بصدهم الناس عن سبيل الله كثيرا ، يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : أنهم صدوا من يستجهلون ويستسفهون عن سبيل الله : كانوا يدلون على الباطل وعلى غير سبيل الله ، فذلك الصد محتمل.

ويحتمل : أنهم كانوا يصدون عن سبيل الله بالقتال والحرب.

وقوله : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ)(١).

__________________

(١) قال القرطبي (٦ / ١٠) : قال ابن العربي : لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون ، وقد بين الله في هذه الآية أنهم قد نهوا عن الربا ، وأكل الأموال بالباطل ؛ فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت ، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في التوراة ، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا ، فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا؟ فظنت طائفة أنّ معاملتهم لا تجوز ؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد ، والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم ، واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم ؛ فقد قام الدليل القاطع على ذلك ـ

٤١٤

دل أن الربا لم يزل محرما على الأمم كلها كما حرم على هذه الأمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ)

يحتمل هذا وجهين :

[يحتمل](١) أكل أموالهم بالباطل : هو الرشوة (٢) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) [المائدة : ٦٢] قيل : هو الرشوة.

وقيل : ما كانوا ينالون من أموال الأتباع والسفلة ؛ بتحريفهم التوراة لهم ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ...).

الآية ظاهرة.

__________________

 ـ قرآنا وسنة ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] وهذا نص ؛ وقد عامل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود ، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله ، والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأمة على جواز التجارة مع أهل الحرب ؛ وقد سافر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم تاجرا ، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم ، والتجارة معهم.

(١) سقط من ب.

(٢) قال الفيومي : الرشوة ـ بالكسر ـ : ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره ؛ ليحكم له ، أو يحمله ما يريد.

وقال ابن الأثير : الرشوة : الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة ، وأصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء.

وقال أبو العباس : الرشوة مأخوذة من «رشا الفرخ» : إذا مدّ رأسه إلى أمه لتزقّه.

 ـ ورشاه : حاباه ، وصانعه ، وظاهره.

 ـ وارتشى : أخذ رشوة ، ويقال : ارتشى منه رشوة : أي أخذها.

 ـ وترشاه : لاينه : كما يصانع الحاكم بالرشوة.

 ـ واسترشى : طلب رشوة.

 ـ والراشي : من يعطي الذي يعينه على الباطل.

 ـ والمرتشي : الآخذ.

 ـ والرائش : الذي يسعى بينهما : يستزيد لهذا ، ويستنقص لهذا.

وقد تسمى الرشوة : البرطيل ، وجمعه : براطيل.

قال المرتضى الزبيدي : واختلفوا في البرطيل بمعنى الرشوة : هل هو عربي أو لا؟

وفي المثل : البراطيل تنصر الأباطيل.

والرشوة في الاصطلاح : ما يعطى لإبطال حق ، أو لإحقاق باطل. وهو أخص من التعريف اللغوي ؛ حيث قيد بما أعطى لإحقاق الباطل ، أو إبطال الحق.

ينظر : لسان العرب ، والمصباح المنير ، وتاج العروس (رشو) ، النهاية في غريب الحديث (٢ / ٢٢٦) ، التعريفات للجرجاني (١٤٨) ، الراهوني على الزرقاني (٧ / ٢٩٤) ، حاشية البيجوري (٢ / ٣٤٣).

(٣) ينظر : تفسير ابن جرير الطبري (٩ / ٣٩٢) ، البحر المحيط لأبي حيان (٣ / ٤١١).

٤١٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)

استثنى الراسخين [في العلم](١) منهم. والرسخ : هو ثبات الشيء في القلب ؛ يقال : رسخ العلم في القلب ، ورسخ الإيمان في القلب.

وقوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ)

روى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : هذا خطأ من الكاتب ؛ هو : «المقيمون الصلاة ، والمؤتون الزكاة» (٢).

وكذلك في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة» (٣).

وقال الكسائي : وجه قراءتنا (٤) : (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٣٥) ، وعزاه لأبي عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شبية وابن جرير وابن أبي داود وابن المنذر عن عروة عن عائشة.

(٣) ينظر : البحر المحيط (٣ / ٤١١).

(٤) قرأ الجمهور بالياء ، وقرأ جماعة كثيرة : «والمقيمون» : بالواو ، منهم : ابن جبير وأبو عمرو بن العلاء في رواية يونس وهارون عنه ، ومالك بن دينار ، وعصمة عن الأعمش ، وعمرو بن عبيد ، والجحدرى ، وعيسى بن عمر وخلائق. فأما قراءة الياء ، فقد اضطربت فيها أقوال النحاة ، وفيها ستة أقوال :

أظهرها ـ وعزاه : مكي لسيبويه ، وأبو البقاء : للبصريين ـ : أنه منصوب على القطع ؛ يعنى : المفيد للمدح ؛ كما في قطع النعوت ، وهذا القطع مفيد لبيان فضل الصلاة ؛ فكثر الكلام في الوصف بأن جعل في جملة أخرى ، وكذلك القطع في قوله «والمؤتون الزكاة» ، على ما سيأتي ؛ هو لبيان فضلها أيضا ، لكن على هذا الوجه يجب أن يكون الخبر قوله : «يؤمنون» ، ولا يجوز قوله : «أولئك سنؤتيهم» ؛ لأن القطع إنما يكون بعد تمام الكلام ، قال مكي : «ومن جعل نصب «المقيمين» على المدح ـ جعل خبر «الراسخين» : «يؤمنون» ؛ فإن جعل الخبر «أولئك سنؤتيهم» ـ لم يجز نصب «المقيمين» على المدح ؛ لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام». وقال أبو حيان : «ومن جعل الخبر : «أولئك سنؤتيهم» ـ فقوله ضعيف» ، قال شهاب الدين : وهذا غير لازم ؛ لأن هذا القائل لا يجعل نصب «المقيمين» حينئذ ـ منصوبا على القطع ، لكنه ضعيف بالنسبة إلى أنه ارتكب وجها ضعيفا في تخريج «المقيمين» ، كما سيأتي. وحكي ابن عطية عن قوم منع نصبه على القطع ؛ من أجل حرف العطف ، والقطع لا يكون في العطف ؛ إنما ذلك في النعوت ، ولما استدل الناس بقول الخرنق : [من الكامل]

لا يبعدن قومى الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معترك

والطّيّبون معاقد الأزر

على جواز القطع ، فرق هذا القائل بأن البيت لا عطف فيه ؛ لأنها قطعت «النازلين» فنصبته ، و «الطيبون» فرفعته ـ عن قولها «قومي» ، وهذا الفرق لا أثر له ؛ لأنه في غير هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف ؛ أنشد سيبويه : [من المتقارب] ـ

٤١٦

الصَّلاةَ) يقول : يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ويؤمنون بإقامة الصلاة ؛ كما قال ـ عزوجل ـ في سورة البقرة (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] معناه : ولكن البر الإيمان بالله.

وقال بعضهم : قوله ـ تعالى ـ : (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) يعنى : الرسل.

__________________

 ـ ويأوي إلى نسوة عطل

وشعثا مراضيع مثل السعالى

فنصب «شعثا» وهو معطوف.

الثاني : أن يكون معطوفا على الضمير في : «منهم» ، أي : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصلاة.

الثالث : أن يكون معطوفا على الكاف في : «إليك» ، أي : يؤمنون بما أنزل إليك ، وإلى المقيمين الصلاة ، وهم الأنبياء.

الرابع : أن يكون معطوفا على «ما» في : «بما أنزل» ، أي : يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمقيمين ، ويعزى هذا للكسائي ، واختلفت عبارة هؤلاء في «المقيمين» ، فقيل : هم الملائكة ، قال مكي : ويؤمنون بالملائكة الذين صفتهم إقامة الصلاة ؛ كقوله : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)[الأنبياء : ٢٠] ، وقيل : هم الأنبياء ، وقيل : هم المسلمون ، ويكون على حذف مضاف ، أي : وبدين المقيمين.

الخامس : أن يكون معطوفا على الكاف في : «قبلك» أي : ومن قبل المقيمين ، ويعنى بهم الأنبياء أيضا.

السادس : أن يكون معطوفا على نفس الظرف ، ويكون على حذف مضاف ، أي : ومن قبل المقيمين ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، فهذا نهاية القول في تخريج هذه القراءة.

وقد زعم قوم أنها لحن ، ونقلوا عن عائشة وأبان بن عثمان ـ أنها خطأ ؛ من جهة غلط كاتب المصحف.

قالوا : وحكي عن عائشة وأبان بن عثمان ـ أنه من غلط الكاتب ، وهذا يعني أن يكتب : «والمقيمون الصلاة» ، وكذلك في سورة «المائدة» : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ)[المائدة : ٦٩] وقوله : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ)[طه : ٦٣] ، قالوا : هذا خطأ من الكاتب.

وقال عثمان : «إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها» ؛ فقيل له : ألا تغيره ، فقال : دعوه ؛ فإنه لا يحلّ حراما ، ولا يحرّم حلالا.

وقالوا : وأيضا فهي في مصحف ابن مسعود بالواو فقط : نقله الفراء ، وفي مصحف أبي كذلك ، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي ، وهذا لا يصح عن عائشة ولا عن أبان ، وما أحسن قول الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ : «ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ، ومن لم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبى عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ، كانوا أبعد همة في الغيرة عن الإسلام وذبّ المطاعن عنه ـ من أن يقولوا ثلمة في كتاب الله ؛ ليسدها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحق بهم».

ينظر : المحرر الوجيز (٢ / ١٣٥) ، والبحر المحيط (٣ / ٤١١) ، والدر المصون (٢ / ٤٦١) ، المشكل (١ / ٢١٢) ، الكتاب (١ / ٢٤٨ ، ٢٤٩) ، الإملاء (١ / ٢٠٢).

٤١٧

وفي حرف حفصة ـ رضي الله عنها ـ : «لكن الراسخون في العلم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر سوف نؤتيهم أجرا عظيما» ، وكذلك في حرف أبي : (الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) بالنصب.

قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(١٦٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)

قيل فيه بوجوه :

قيل : قوله : (كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الكاف صلة زائدة ، ومعناه : إنا أوحينا إليك ما أوحينا إلى نوح ومن ذكر من بعده ، أي : لا يختلف ما أنزل إليك وما أنزل إلى غيرك من الرسل ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٩٦] ، (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) [الآية](١) [الأعلى : ١٨].

وقيل : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من الحجج والآيات «كما أوحينا إلى نوح» ومن ذكر من الحجج والآيات على صدق ما ادعوا ، أي : قد أعطاك [الله](٢) من الحجج والآيات ما يدل على رسالتك ونبوتك ؛ كما أعطى أولئك من الحجج والآيات على صدق ما ادعوا من الرسالة والنبوة ، ثم لم يؤمنوا.

وقيل : إن اليهود قالوا : إن محمدا لو كان رسولا ـ لكان يؤتى كتابا جملة ، كما أوتي موسى كتابا جملة من غير وحي ؛ فقال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) وحيا من غير أن أوتي كلّ منهم كتابا جملة كما أوتى موسى (٣) ، ثم كان أولئك رسلا ؛ فعلى ذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول وإن لم يؤت كتابا كما أوتى موسى ، ولله أن يفعل ذلك : يؤتي من شاء كتابا جملة مرة ، ومن شاء يوحي إليه بالتفاريق ، والله أعلم

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : تفسير الطبري (٩ / ٤٠٠).

٤١٨

بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ...) ومن ذكر.

يحتمل ذكر إبراهيم ومن ذكر من أولاده بعد قوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ) ـ على التخصيص لإبراهيم ومن ذكر ؛ لأنه ذكر النبيين [من](١) بعد نوح ؛ فدخلوا فيه ، ثم خصهم بالذكر ؛ تفضيلا وتخصيصا لهم (٢).

ويحتمل أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) : الرسل الذين كانوا بعد نوح قبل إبراهيم ، ثم ابتدأ الكلام فقال : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ ...) ومن ذكر.

وفي حرف حفصة ـ رضي الله عنها ـ : «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ، وكما أوحينا إلى الرسل من بعدهم ، وكما أوحينا إلى إبراهيم» ؛ فهذا يدل على ما ذكرنا (٣) من ابتداء الذكر لهم ، والله أعلم.

والآية ترد على القرامطة مذهبهم ؛ لأنهم يقولون : الرسل ستة ، سابعهم قائم الزمان ؛ لأنه ذكر في الآية من الرسل أكثر من عشرة ؛ فظهر كذبهم بذلك ، ومخايلهم التي سول لهم الشيطان وزين في قلوبهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)

ذكر في بعض القصة : أن اليهود قالوا : ما بال موسى لم يذكر فيمن ذكر من الأنبياء ؛ فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) هؤلاء بمكة في «الأنعام» وفي غيرها ؛ لأنه قيل : إن هذه السورة مدنية.

ثم في قوله : (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) دلائل من وجوه :

أحدها : أن معرفة الرسل بأجمعهم واحدا بعد واحد ـ ليس من شرط الإيمان بعد أن يؤمن بهم جميعا ؛ لأنه أخبر ـ عزوجل ـ أن من الرسل من لم يقصصهم عليه ، ولو كان معرفتهم من شرط الإيمان لقصهم عليه جميعا ، لا يحتمل ترك ذلك ؛ دل أنه ليس ذلك من شرط الإيمان ، والله أعلم.

والثاني : أن الإيمان ليس هو المعرفة ، ولكنه التصديق ؛ لأنه لم يؤخذ عليه عدم معرفة الرسل ، وأخذ بتصديقهم والإيمان بهم جملة.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : البحر المحيط لأبي حيان (٣ / ٤١٣).

(٣) في ب : ذكر.

٤١٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً).

اختلف فيه : قال بعضهم : خلق الله كلاما وصوتا ، وألقى ذلك في مسامعه.

وقال آخرون : كتب له كتابا فكلمه بذلك (١) ؛ فذلك معنى قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) لا أن كلمه بكلامه ، ولا ندري كيف كان؟ سوى أنا نعلم أنه أحدث صوتا لم يكن ، فأسمع موسى ذلك كيف شاء ، وما شاء ، وممن (٢) شاء ؛ لأن كلامه الذي هو موصوف به في الأزل لا يوصف بالحروف ، ولا بالهجاء ، ولا بالصوت ، ولا بشيء مما يوصف به كلام الخلق بحال. وما يقال : هذا كلام الله ـ إنما يقال على الموافقة والمجاز ؛ كقوله : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] ، ولا سبيل له أن يسمع كلام الله الذي هو موصوف به بالأزل ؛ ولكنه على الموافقة والمجاز يقال ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) يخرج هذا ـ والله أعلم ـ مخرج التخصيص له ؛ إذ ما من رسول إلا وقد كان له خصوصية ، [والكلام خصوصية] لموسى ـ عليه‌السلام ـ إذ كلمه من غير أن كان ثمة سفير ورسول ، وكان لسائر الرسل وحيا يوحي إليهم ؛ أي : دليل برسول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) دل المصدر على تحقيق الكلام ؛ إذ المصادر مما يؤكد حقائق ما له المصادر في موضوع اللغة ، وأيد ذلك الأمر المشهور من تسمية موسى : كليم الله ، وما جرى على ألسن الخلق من القول بأن الله كلم موسى ؛ فثبت أنه كان له فيما كلمه خصوصية لم يشركه فيها غيره من الرسل ، وعلى حق الوحي وإنزال الكتب له شركاء في ذلك من الرسل ؛ فثبت أن لما وصف به موسى خصوصية باين بها غيره ؛ على ما ذكره من خصوصية كثير من الرسل بأسماء أو نعوت أوجبت لهم الفضيلة بها ، وإن كان حمل ما يحتمل تلك الخصوصية ـ قد يتوجه إلى ما قد يشترك في ذلك جملة الرسل ؛ فعلى ذلك أمر تكليم موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).

أخبر أنه بعث الرسل بالبشارة في العاقبة لمن أطاعه ، والإنذار لمن عصاه ؛ فهذا ليعلم أن كل أمر لا عاقبة له فهو عبث ، ليس من الحكمة ، وأن الذي دعا الرسل الخلق إليه إنما دعوا لأمر له عاقبة ؛ إذ في عقل كل أحد أن كل أمر لا عاقبة له ليس بحكمة ؛ فهذا ـ والله

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط (٣ / ٤١٤).

(٢) في ب : مم.

٤٢٠