تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

عليه ما لم يكن في غيرها ، وإن كان من حيث قدرة الله ـ تعالى ـ واحد ؛ فتكون تلك الخشية جبلية طبيعية ، لا اختيارية ، أو سخط بحكم الرب ، وهو كالذي جاء من قوله ـ تعالى ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢١٦].

وقوله ـ على ذلك ـ : (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ ...)

الآية ، يحتمل وجهين :

أحدهما : الخبر عما في طباعهم ، كما قال ـ عزوجل ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢١٦] ، وقال [النبي](١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حفّت الجنّة بالمكاره» (٢) وإنما ذلك على الطبع فذلك الطبع كالسائل عن ذلك ، وربما يضيفون القول والسؤال على اعتبار الأحوال إلى ما لا يطيق له ، فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

ويحتمل : أن يكون قولا منهم عن وجه الحكمة لهم بالأمر فيما علم أنهم يبلغون بالقتل والجبن إلى حال لا يقومون للعدو ، ولا يملكون أنفسهم في ذلك الوقت ؛ فأخبر الله ـ عزوجل ـ أن الذي حملهم على ذلك رغبتهم في التمتع بالدنيا (٣) ، ولو صوروا متاع الآخرة في قلوبهم لذهب عنهم ذلك ، ويثبتون للعدو ، ولا يبالون للعدو بما يحل بهم ، ولا يخشون لذلك ، وكأنه وعد لهم أن متاع الآخرة لكم على هذا الفعل لو صبرتم خير لكم ، وما وعد لكم عليه خير من متاع الدنيا.

وأيضا : أن يقال : إن هذا وإن عظم هوله على الطبع ، فإنه إذا كان لله بحق العبادة لهو أيسر وأهون من الموت على صاحبه إذا حضر ؛ إذ يريهم الله متاع الآخرة أو بعض ما فيه الكرامة ؛ فيصير ذلك متاع الآخرة لهم وقت الموت فهو خير من تمتعهم في الدنيا ثم الموت ، ولا ذلك منه ، كما قيل في تأويل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» (٤) إن المؤمن يرى ما له من الكرامة ؛ فيحب الموت أن يعجل به ؛ ليصل إلى ذلك ، والكافر يرى سخطه فيكرهه ، وعلى هذا تأويل القول في الدنيا أنها : «سجن المؤمن وجنّة الكافر» (٥) أن تكون كذلك في ذلك الوقت ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه البخاري (١١ / ٣٢٧) كتاب الرقاق : باب حجبت النار بالشهوات (٦٤٨٧) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٤) كتاب الجنة وصفه نعيمها (٢٨٢٢).

(٣) في ب : في الدنيا.

(٤) أخرجه البخاري (١١ / ٣٦٤ ، ٣٦٥) كتاب الرقاق : باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (٦٥٠٧) ، ومسلم (٤ / ٢٠٦٥ ، ٢٠٦٦) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار : باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، رقم (١٥ ـ ٢٦٨٤).

(٥) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٢) كتاب الزهد (١ / ٢٩٥٦) ، والترمذي (٤ / ٢٨٦) كتاب الزهد : باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن (٢٣٢٤).

٢٦١

وتأويل آخر : أن تكون الآية في المنافقين : أنه يظهر عليهم النفاق وقت المحنة بالجهاد دون غيره من العبادات ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ...) الآية [محمد : ٢٠] ، بين ما نزل بالمنافقين ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ...) الآيات [الأحزاب : ١٨] ـ والله أعلم ـ فيمن نزلت الآية ، لكنها معلوم أن فيها ترغيبا فيما عند الله ، وتزهيدا في الدنيا ، ودعاء إلى الرضا بحكم الله ـ تعالى ـ فيما خف وثقل ، والله المستعان.

وعلى التأويل الآخر : جميع ما ذكر ظاهر في المنافقين ، مذكور ذلك في الآيات التي ذكرتها ، وفيهم قال الله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ ...) الآية [الأحزاب : ١٦] ، وغير ذلك مما دل على إنكارهم ، وفضل خوفهم في ذلك ، والله أعلم.

فإن قال قائل : كيف قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) وقد هلك به أكثر البشر؟

قيل : قد يخرج على وجوه ـ والله أعلم ـ :

أحدها : أنه يضعف كيده على من تعوّذ بالله ـ تعالى ـ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ...) الآية [الأعراف : ٢٠٠] ، وإنما يقوى على من جنح له ، ومال إلى ما دعاه إليه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ ...) الآية إلى قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١ ـ ٢٠٢].

والثاني : أن يكون ضعيفا على المقبل على ربه ، والذاكر له في أحواله ، والمفوض أمره إلى ربه ، فأما من تولاه وأقبل على إشارته فهو الذي جعل له السلطان على نفسه بما آثره في شهواته ، ومال به هواه ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية [النحل : ٩٩] ، وقد سماه الله ـ تعالى ـ : (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) [الناس : ٤] ، بما يخنس بذكر الله ـ تعالى ـ ويوسوس عند الغفلة عن الله ، فكان سلطانه به ، والله الموفق.

والثالث : أنه لا يملك الجبر والقهر ولا اكتساب الضرر في الأبدان والأموال ، فهو ضعيف ، والله أعلم.

والرابع ـ والله أعلم ـ : أن يكون كان ضعيفا ، أي : صار ضعيفا عند نصر الله ومعونته ، والله أعلم.

ويحتمل : كان ضعيفا لو ظهر ، حتى يعلم أنه شيطان ، لكن قوى بما لا يعلم المغرور أنه كيده وتغريره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ)

٢٦٢

قيل : في حرف حفصة : «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، قالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ، فلما كتب عليهم القتال إذا هم يخشون الناس كخشية الله» كأن في الآية إضمارا ، يبين ذلك حرف حفصة ، وإلا لم يكن في ظاهر الآية خبر حتى يكون قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ ...) الآية ـ جوابا له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ...) فإن كانت الآية في المنافقين ، فهو على الإنكار قالوا ذلك ، وإن كانت في المؤمنين فهو يخرج على طلب الحكمة في فرض القتال عليهم ، طلبوا أي حكمة في فرض القتال علينا؟ وقد تطلب الحكمة في الأشياء ، ولا عيب يدخل في ذلك ، وأصله : أن كل آمر ـ في الظاهر ـ من هو فوقه فذلك سؤال له في الحقيقة لا أمر ؛ فيخرج سؤاله مخرج الخضوع والتضرع له ، ومن أمر من دونه فهو في الحقيقة ليس بسؤال ، فهو يخرج على الأمر والنهي ، وهو الأمر الظاهر في الناس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ)

معناه ـ والله أعلم ـ : إنا لم نخلقكم للدنيا وللمتاع فيها ، إنما خلقناكم للآخرة وللمقام فيها ، فلو خلقتكم للدنيا ثم كتبت عليكم القتال ـ لكان ذلك عبثا خارجا عن الحكمة ، ولكن خلقناكم للآخرة وللمقام فيها.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) وقوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ...) إلى آخره ، أن لم يقولوا ذلك قولا ، ولكن كان ذلك خطرا في قلوبهم ، فأخبرهم نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أضمروا (١) ؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله ـ تعالى ـ ليدلهم على نبوته ورسالته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) فنموت حتف أنفنا ولا نقتل ، قتلا ؛ فيسرّ بذلك الأعداء ؛ كقوله : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس : ٨٥] وفي القتل فتنة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) يحتمل وجهين :

أحدهما : ما ذكرنا : أنهم لم يخلقوا لمتاع الدنيا ، ولكن إنما خلقوا لمتاع الآخرة.

والثاني : أن متاع الدنيا قليل من متاع الآخرة ، كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة : ٣٨] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء : ٢٠٥ ـ

__________________

(١) في ب : أخبروا.

٢٦٣

٢٠٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) لأن متاع الآخرة دائم غير منقطع ، ومتاع الدنيا زائل منقطع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) قد ذكرناه.

قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٧٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)

قيل : لما استشهد من استشهد يوم أحد ، قال المنافقون : لو كان إخواننا عندنا ما ماتوا وما قتلوا (١) ؛ قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).

ويحتمل : أن يكون جوابا لما سبق من القول قولهم : (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) يقول : من كتب عليه الموت ينزل به لا محالة ، قاتل أو لم يقاتل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ...) [آل عمران : ١٥٤] الآية.

ويحتمل : أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) : إذا كان الموت نازلا بكم لا محالة فالقتل أنفع لكم ؛ إذ تستوجبون بالقتل الثواب الجزيل ، ولا يكون ذلك لكم إذا متم حتف أنفكم (٢) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).

قال الفراء : المشيّد والمشيد واحد ، غير أن المشيّد ـ بالتشديد ـ فيما يكثر الفعل ، والمشيد فيما لا يكثر الفعل.

وقيل : المشيّد : هو المجصّص (٣) ، والشيد : هو الجصّ (٤).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٣١) (٨١٠٧) عن السدي ، (٨١٠٨ ، ٨١٠٩) عن مجاهد ، (٨١١٠) عن ابن إسحاق ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٥٨) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ، ولابن أبي حاتم عن السدي ، ولابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن إسحاق.

(٢) في ب : أنفسكم.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٩) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة.

(٤) ذكره ابن جرير في تفسيره (٨ / ٥٥٤).

٢٦٤

وقال بعضهم : (بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [أي](١) : حصينة.

وقيل : قصور محصنة طوال (٢).

وقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) معلوم أنهم لم يريدوا بالحسنة والسيئة حسنة في الدين وسيئة في دينهم ، ولكن إنما أرادوا بالحسنة والسيئة في الدنيا من المنافع والبلايا والشدائد ؛ وذلك أنهم [ما كانوا يحزنون](٣) لما يصيبهم من السيئة في الدين ، ولا كانوا يفرحون بالحسنة والخير في الدين ، ولكن فرحهم بما كانوا يصيبون في (٤) الدنيا من الخصب والسعة ، وحزنهم بما يصيبهم من الضيق والشدة ، وكانوا يتطيرون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهكذا كان دأب الكفرة من قبل ، كانوا يتطيرون بالأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ كقوله ـ عزوجل ـ إخبارا عن قوم موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) [النمل : ٤٧] ، وقال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف : ١٣١] ؛ فعلى ذلك قولهم : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) ؛ تطيرا منهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ)

أي : بتقديره كان وقضائه ، فضلا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] وجزاء ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] أي : ما أصابهم إنما أصابهم بسوء صنيعهم برسل الله صلى الله عليهم وسلم وتكذيبهم إياهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي : لا يفقهون ما لهم وما عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(٥) وروي

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٥٢) (٩٩٥٧) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٢٩) وزاد نسبته لعبد ابن حميد وابن المنذر.

(٣) في ب : كانوا لا يحزنون.

(٤) في ب : من.

(٥) قال القرطبي (٥ / ١٨٥) : مسألة : وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها ؛ كما تجاذبها القدرية واحتجوا بها ، ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون : إن الحسنة هاهنا الطاعة ، ـ

٢٦٥

في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : «وأنا قدرتها عليك» (١)

يحتمل : أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) يرجع إلى ما ذكرت من السعة والعافية ونحوها (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) من البلاء (٢) ، والشدة (من نفسك) أي : من جناية نفسك ؛ جزاء.

وفي الأول قال : (فَمِنَ اللهِ) في ذلك بعينه بحق الجزاء ، وفي الثاني : (فَمِنْ نَفْسِكَ) بحق الجناية على الآية التي ذكرت (٣) من قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠].

ويحتمل : أن تكون الآية الأولى في أمر الدنيا ، والأخرى في أمر الدين ؛ إذ اختلفت الإضافة في هذه واتفقت في الأولى ؛ إذ الأولى على ما عليه أمر المحنة من قوله ـ تعالى ـ : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] ، وقوله ـ تعالى ـ : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ، جعل الله ـ تعالى ـ بمختلف أحوال للعباد لا منفع لهم في ذلك ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ ...) الآية [الأنعام : ١٧] ، وقوله ـ تعالى ـ : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ...) الآية [الرعد : ٢٦].

والثانية (٤) : في حق الأفعال ، فيضاف إلى الله ما صلح منها ؛ شكرا وحمدا بما أنعم الله عليه ، وذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) [النساء : ٨٣] ، وقوله :

__________________

 ـ والسيئة المعصية ؛ قالوا : وقد نسب المعصية في قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩] إلى الإنسان دون الله تعالى ؛ فهذا وجه تعلقهم بها ، ووجه تعلق الآخرين منها قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] قالوا : فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه ، وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا ؛ لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية ، وليست كذلك لما بيناه والله أعلم.

والقدرية إن قالوا : «ما أصابك من حسنة» أي من طاعة «فمن الله» فليس هذا اعتقادهم ؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء ، وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول : ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا ، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره ، نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة ، في كتابه المسمى : بحر الغلاصم في إفحام المخاصم.

(١) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٣١) وعزاه لابن المنذر عن مجاهد عن ابن عباس ، ولابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن مجاهد ، قال : هي في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود.

(٢) في ب : البلايا.

(٣) في أ : إلى ما ذكرت.

(٤) في ب : والثاني.

٢٦٦

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] ، وقوله : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ ...) الآية [الحجرات : ١٧] ، وقوله ـ تعالى ـ : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] ، وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ...) الآية [الحجرات : ٧] ، وغير ذلك ؛ فيضاف إليه بما منه في ذلك من الفضل والنعمة ؛ شكرا ، والثاني في زله وضلاله لا تجوز الإضافة إليه لما شبه الاعتذار ، ولا عذر لأحد في ذلك ، ويقبح في الإضافة ، وذلك نحو القول بأنه : رب (١) السموات والأرض ، ولا يقال : هو رب الخنازير والأقذار ، ونحو ذلك ؛ لما يقبح في السمع ، وإن كان من حيث الخلق والتقدير واحدا ، فمثله أمر الأفعال ، والله الموفق.

ونفي الإضافة عنه لا يدل على نفي أن يكون خلقه ؛ لما بينا من الأشياء ؛ الإضافة إليه كالتخصيص ، فلا يقال (٢) : يا خالق القردة (٣) والخنازير ، ويا إله الأقذار والخبائث ، ويا رب الشرور والمصائب ، وإن كان كل ذلك داخلا في أسماء الجملة ، ومحقق (٤) منه تقديرها وخلقها ، وكذلك الفواحش والكبائر ، والله أعلم.

والثاني : الخيرات والأعمال الزاكية قد تضاف إليه ، لا من وجه التخليق عند الجميع ، بل عندنا : من جهة الإفضال بالتوفيق والإنشاء ، وعند المعتزلة : من جهة الأمر والترغيب ؛ فعلى ذلك نفي الإضافة فيما لم يضف إليه لهذا ، وأيدت هذا قراءة عبد الله [بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ :](٥) «وأنا قدرتها عليك».

فإن قال قائل : ذلك لا يقع على الأفعال ؛ لقوله : (ما أَصابَكَ) ، ولو كان عليها كان يقول : ما أصبت ، ثم كان له جوابان :

أحدهما : أن الإجابة اسم مشترك ، ما يصيبه هو يصيب ذلك ، فسواء لو أضيف إليه أو أضيف هو إليه ، والله أعلم.

والثاني : أن ذلك يخرج [مخرج] الجزاء أيضا إذا كان على ما يقوله (٦) ؛ فيكون على ما يصيبه من جزاء حسنة أو سيئة ، وإذ لم يجعل لله في حسنه فضلا لم يحتمل الإضافة إليه مع ما قد بينا من إضافات أعمال الخير إليه ، ودفع الشر لما ليس في فعله من الله إفضال عليه به

__________________

(١) في ب : رفع.

(٢) في الأصول : فيقال.

(٣) في ب : القرود.

(٤) في أ : ومحق.

(٥) سقط من ب.

(٦) في أ : يقول.

٢٦٧

إنعام ، وكان في فعل الخير ذلك ، لا بالأمر والنهي ؛ إذ هما يستويان في كل واحد ، والله أعلم.

ثم أوضح ذلك خبر عبد الله ، فطعنه قوم لمخالفة المصحف المعروف ، قلنا : ليس بذي خلاف ، إنما هو بيان المطلق ، وقد يقبل خبر الآحاد في مثله ، والله أعلم.

وقيل : خبر عبد الله من خبر الآحاد ، ولعله ليس قبل مصحفه [كلمة] تروى عنه العامة لا تحتمل التبديل ، وأما خبره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ لا يجوز اختراع القراءة مرفوع ، وخبر الفرد فيه يقبل ، فيما لا خلاف فيه ، وإن كان فيه تأويل الظاهر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً).

قيل في حرف حفصة : «وأرسلناك إلى الناس رسولا» ،

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)

قيل : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [أي](١) : بأنك رسول الله.

وقيل : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ما يضمرون في قلوبهم.

وقيل : فلا شاهد أفضل من الله بأنك رسوله.

وفي قوله ـ أيضا ـ : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) وجوه :

أحدها : إن جحدوا تبليغك في الدنيا ، أو يقولوا : لم تعلم رسالتك.

والثاني : أن يكون بالآيات التي جعلها الله ـ تعالى ـ لرسالتك تحقق ، وشهادة الله لك بالرسالة [شهيدا] لك (٢) ، أو مبينا ، أو حجة.

والثالث : أن يكون جعل علم الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ وتبليغهم الخبر إليهم شهادته وكفي به شهيدا على ما أضاف بيعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه ، ونصر أوليائه إليه ، قال الله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧].

ويحتمل : شهيدا مبينا ، أو حكما مبينا ، فمعناه : فيبين لهم بالمعاينة ما كان بينه بالدلالة والآيات ، وحكما فاصلا بين المحق والمبطل ؛ فيخرج الوجهان جميعا مخرج الإعراض عن المحاجة بما ظهر من العناد والمكابرة ، وتفويض الأمر إلى الله وإخبار عن الفراغ مما كان عليه فيهم من حق البلاغ ، ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في أ : إليك.

٢٦٨

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(٨٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ)

لأن الله ـ تعالى ـ أمر بطاعة الرسول ، فإذا أطاع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أطاع الله ـ تعالى ـ لأنه اتبع أمره ؛ ألا ترى أنه قال ـ عزوجل ـ : و (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [النساء : ٥٩] وحتى جعل طاعة الرسول من شرط الإيمان بقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآية [النساء : ٦٥].

والثاني : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يأمر بطاعة الله ، فإن (١) أطاع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وائتمر بأمره فقد أطاع الله ـ عزوجل ـ لأنه هو الآمر بطاعة الله ، وبالله التوفيق.

وقيل : لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر بأمر الله ـ تعالى ـ لذلك كانت طاعته طاعة الله ، وذكر في بعض الأخبار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال [في المدينة](٢) : «من أحبّني فقد أحبّ الله ـ تعالى ـ ومن أطاعني فقد أطاع الله» (٣) فعيره المنافقون في ذلك فأنزل الله ـ تعالى ـ تصديقا لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أطاع الله فقد ذكر وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن ، ومن عصاه فقد نسى الله ـ تعالى ـ وإن كثر صيامه وصلاته وتلاوته القرآن» (٤) ، فطاعة الله ـ تعالى ـ إنما تكون في اتباع أمره ، وانتهاء مناهيه ، وكذلك حبه إنما يكون في اتباع أمره (٥) ونواهيه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل

__________________

(١) في ب : فإذا.

(٢) في ب : بالمدينة.

(٣) أخرجه مسلم في صحيحه (٣ / ١٤٦٧ ـ ١٤٦٨) كتاب الإمارة : باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (١٨٣٤) بلفظ «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن يعصني فقد عصى الله ... الحديث» ؛ وأحمد في مسنده (٢ / ٢٥٢ ، ٢٧٠ ، ٣٨٦) ، وابن ماجه في سننه (١ / ٤٣) في المقدمة ، رقم (٣) وذكره الهيثمي في المجمع (٩ / ١٣٤) بلفظ «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي : من أحبه فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحبه الله ، ومن أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله عزوجل» ؛ وقال رواه الطبراني في رواية حرب بن الحسن الطحان عن يحيى بن يعلى ، وكلاهما ضعيف.

(٤) أخرجه الطبراني في الكبير (٢٢ / ١٥٤) رقم ٤١٣ ، عن واقد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكره الهيثمي في المجمع (٢ / ٢٥٨) وعزاه للطبراني في الكبير عن واقد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : فيه الهيثم بن جماز ؛ وهو متروك.

وله شاهد من حديث خالد بن أبي عمران مرسلا ، أخرجه عنه سعيد بن منصور في سننه ٢ / ٦٣٠ (٢٣٠) ، وذكره الهندي في الكنز (١٨٢٦) وعزاه للطبراني في الكبير عن واقد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٩٢٤) وعزاه للطبراني في الكبير ـ أيضا ـ عن الحسن بن سفيان ، وابن عساكر عن واقد ، وسعيد ـ

٢٦٩

عمران : ٣١].

وقوله (١) ـ أيضا ـ (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ظاهر مكشوف ، حقيقته أنه يطيعه لطاعة الله ؛ إذ الأمر يطيعه على أنه يدعوه إلى طاعته ، وطاعته إجابته له بما يطيع الله به ، وحكمته أنه لم يجعل مسلك الطاعة عبادة وإن كانت هي لله عبادة ، ولا تجوز عبادة الرسول ؛ فصير الله ـ تعالى ـ طاعته عبادة لله ـ تعالى ـ فاعلم : أن الطاعة قد تكون غير مستحقة لاسم العبادة ؛ إذ قد يسمى لا من ذلك الوجه ، ولذلك جاز القول بمطاع في الخلق ، ولا يجوز بمعبود ، والله أعلم.

وأيضا : فيه شهادة له بالعصمة في كل ما دعا إليه وأمر به ، وإلزام للخلق بالشهادة (٢) له بالصدق في ذلك والقيام به ، أكد بقوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ...) [النور : ٦٣] ، وبقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآيتين جميعا [النساء : ٦٥] ، وذلك الإباء على لزوم طاعته أخوف مخالفة العذاب الأليم ، وأزال عن الواجد في نفسه من قضائه الحرج الإيمان ، ثم ليست طاعته في فعله خاصة ، أو قول ما يقوله ، ولكنّها بوجهين :

أحدهما : اعتقاد كل فعل وقول على ما عليه عنده من خصوص ، أو عموم ، أو إلزام ، أو آداب ، أو إباحة ، أو ترغيب.

والثاني : في الوفاء بالذي منه المراد فيه من أن يفعل كفعله أو يتقي ذلك ، أو يستعمله في حق الإباحة ، أو ما أراد من محله فيه ، يعرف موقع كل من ذلك بالأدلة ، ولا قوة إلا بالله.

وقول من يقول : لا يلزم طاعته في فعله أو يلزم ، كلام بهذا الإطلاق لا معنى له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)

في أعمالهم وأفعالهم ، فإنما عليهم ما عملوا وعليكم ما عملتم ، ما تسأل أنت عن أعمالهم ، ولا يسألون عما فعلتم ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) يطلع على سرائرهم ، إنما عليك أن تعاملهم على الظاهر ، والله أعلم.

__________________

 ـ ابن منصور والبيهقي في الشعب عن ابن أبي عمران مرسلا.

(٥) في ب : أموره.

(١) في ب : وفي قوله.

(٢) في ب : الشهادة.

٢٧٠

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ)

قيل : إن المنافقين قد أظهروا التصديق لله ـ تعالى ـ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا دخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا رسول الله ، أمرك طاعة ، فمرنا بما شئت نفعله ، فإذا أمرهم بأمر ونهاهم عنه خالفوا أمره ، وغيروا ما أمرهم [به] ونهاهم [عنه] ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى ...)(١) إلى قوله ـ تعالى ـ : (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)

قوله : (بَيَّتَ)

قيل : غير ما أمرهم به (٢).

وقيل : (بَيَّتَ) ألف.

وقيل : (بَيَّتَ) أي : قدروا بالليل القول وألفوا ، وكل كلام وقول مقدر بالليل مؤلف فيه ، يقال : بيّت ، ومعناه ـ والله أعلم ـ : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [...](٣) فهذا ـ والله أعلم ـ معنى قوله : (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) وإلا ظاهر هذا ليس على ما قاله أهل التفسير ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ)

أي : الله ـ تعالى ـ يأمر بإثبات ما يبيتون من القول الكذب والمغير من القول ؛ ليلزمهم الحجة ؛ لأنهم كانوا يسرون ذلك ويضمرونه لا يظهرون إظهارا ليجزيهم جزاء ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)

[يحتمل : أعرض عنهم](٤) ولا تكافئهم [على هذا](٥).

ويحتمل : أعرض عنهم ، ولا تتكلف إظهار سرهم ، ولا تطلع عليه ، إنما ذلك إليّ ؛ لأطلعكم على ما يسرون ؛ ليعلموا أنك إنما عرفت ذلك بالله ففيه دلالة إثبات الرسالة ،

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٨ / ٥٦٤ ـ ٥٦٥) (٩٩٨٣) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٣٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٦٤ ـ ٥٦٥) (٩٩٨١ ، ٩٩٨٤ ، ٩٩٨٥) عن ابن عباس ، و (٩٩٨٠) عن قتادة ، و (٩٩٨٢) عن السدي ، و (٩٩٨٦) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٣٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس ، والسدي ، والضحاك ، وعطاء. ولعبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس ، وقتادة.

(٣) كذا بالأصل ، ولعل هناك كلاما سقط ، ولم أهتد إليه.

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب : على ذلك ، أي : بعد هذا.

٢٧١

فتوكل على الله ، وثق به ، ولا تخافهم ، فإن الله ـ تعالى ـ يدفع عنك شرهم وكيدهم.

ويحتمل : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في جزائه ؛ فإن الله هو يتولى جزاء تكذيبهم إياك ، والله أعلم.

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فيما ذكرنا.

أي : كفي به مانعا ، فلا أحد أمنع منه.

وقيل : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ٧٩] مما (١) يبيتون وحافظا.

وقال بعضهم : لا يكون التبييت إلا بالليل ، يؤلفون الشيء ويقدرونه بالليل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(٢)

لو كان الحكم لظاهر المخرج على ما يقوله قوم ـ لكان القرآن خرج مختلفا متناقضا ؛ لأنه قال ـ عزوجل ـ في الآية : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) الآية [التوبة : ٤٤] ، ويقول في آية أخرى : (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٤٥] لو كان على ظاهر المخرج فهو مختلف ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] ، وقال الله ـ عزوجل ـ في آية أخرى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) في إحداهما حظر وفي الأخرى إباحة ، فلو كان على ظاهر المخرج والعموم ـ لكان مختلفا متناقضا ، ويجد أهل الإلحاد أوضح طعن فيه وأيسر سبيل إلى القول بأنه غير منزل من عند الرحمن ؛ إذ به وصفه أنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

وقال ـ عزوجل ـ : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ...) الآية [فصلت : ٤٢] ، وقال ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] ثم وجد أكثر ما فيه الحكم متفرقا إلى غير المخرج ، ومحصلا على غير مجرى اللفظ من (٣) العموم والخصوص ؛ فدل به أن الحكم لا كذلك ، ولكن المعنى المودع فيه والمدرج ، لا يوصل إلى ذلك إلا بالتدبر والتفكر فيه ، وإلى هذا ندب الله عباده ؛ ليتدبروا فيه ؛ ليفهموا

__________________

(١) في ب : بما مما.

(٢) قال القاسمي (٥ / ٣٢٢) : قال الحافظ ابن حجر : من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله ، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أصحابه ، الذين شاهدوا التنزيل ، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك ، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها ، فإنه الذي يحمد ، وينتفع به ، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم. انتهى.

(٣) في ب : و.

٢٧٢

مضمونه ، وليعلموا (١) به.

ثم يحتمل بعد هذا وجهان :

أحدهما : قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) أي : لو كان هذا القرآن من عند غير الله ، لكان لا يوافق بما يخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن يخبرهم مخالفا لذلك ؛ لأن الكهنة ، الذين كانوا يدعون الخبر عن غيب ، لا يخرج خبرهم موافقا ، بل كان بعضه مخالف لبعض مناقض له ، فلما خرج هذا ما يخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سرائرهم موافقا له ، دل أنه خبر عن الله تعالى.

والثاني : أنهم كانوا يقولون : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٤٣] ونحوه ، فأخبر الله ـ تعالى ـ أنه لو كان من عند غير الله لكان لا يوافق لما عندهم من الكتب ، بل كان مختلفا متناقضا ، فلما خرج هذا القرآن مستويا ، موافقا لسائر الكتب ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) [البقرة : ٩١] (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) [آل عمران : ٥٠] دل أنه من عند الله نزل.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن هذا القرآن نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوقات متفرقة متباعدة على نوازل مختلفة ، فلو كان من عند غير الله نزل ـ لخرج مختلفا ، مناقضا (٢) بعضه بعضا ؛ لأن حكيما من البشر لو تكلم بكلمات في أوقات متباعدة ـ لخرج كلامه متناقضا مختلفا ، إلا أن يستعين بكلام ربّ العالمين ، ويعرضه عليه ؛ فعند ذلك لا تناقض ، فلما خرج هذا ـ مع تباعد الأوقات ـ غير مختلف ولا متناقض ، دل أنه من عند الله ـ تعالى ـ نزل ، وبالله التوفيق.

وفيه الاحتجاج على الملحدة ؛ حيث قال ـ عزوجل ـ : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ...) إلى قوله : (اخْتِلافاً كَثِيراً) فلو وجدوا لأظهروا ذلك ، وقوله ـ تعالى ـ : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ولو قدروا على ذلك لأتوا به ؛ دل ترك إتيانهم ذلك : أنهم لم يقدروا على إتيان مثله ، ولو وجدوه مختلفا لأظهروه ، ولو كان من كلام البشر ـ على ما قالوا ـ لأتوا به ؛ لأنهم (٣) من البشر ؛ فظهر أنه منزل من عند الله ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وقوله : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) [ص : ٢٩] دلالة بينة (٤) على وجهين :

__________________

(١) في ب : وليعلموا.

(٢) في ب : متناقضا.

(٣) في أ : لأنه.

(٤) في ب : تنبيه.

٢٧٣

أحدهما : أن المقصود منه يدرك بالتأمل والتدبر ؛ إذ به جرى الأمر والترغيب قبل وقت العمل ، بل ألزم القيام بما يعقل بالتدبر.

ثم فيه وجهان :

أحدهما : أن الأمر ليس على مخرج الكلام عند أهل اللسان ، ولا على حق الأيسر (١) في اللغة ؛ إذ حق مثله أن يرغب في معرفة الموقع عند أهل اللسان من المخرج ، ويوجه إليه لا يدبّر فيه ، والله أعلم.

ومعلوم ـ أيضا ـ أن التدبر فيه حظ الحكماء وأهل البصر ، لا حظ العوام ، وما يعرف من حيث اللسان فهو حظ الفريقين ، ثبت أن على العوام اتباع الخواص فيما فهموا هم والاقتداء بهم ، والله أعلم.

والثاني : أنه جعل وجه معرفة الاختلاف والاتفاق بالتدبر فيه لا يقرع الكلام السمع ، وإذا ثبت ذلك لم يلزم العمل بشيء من الظاهر حتى يعرف الموقع أنه على ذلك بالتدبر ؛ لئلا يلحق المتمسك به النقيض بالتدبر ، والله أعلم.

والوجه الثاني (٢) : بما (٣) تضمنت الاختلاف أن ارتفاع الاختلاف جعله حجة على أنه عن الله ؛ إذ علم الله ـ مما جبل عليه الخلق ـ أنه لا أحد يملك بحق الاختراع لا عن علم السماع ينتهي إليه عن الله بخبر الصادقين ، يملك تأليف الكلام ونظم مثله غير (٤) متناقض ، ولا مختلف ينفي بنفي الاختلاف ما قرن به من الكهنة ؛ إذ كذلك كلام الكهنة يخرج مختلفا ، وما قرن من تعليم البشر وأساطير الأولين ، والسحر ، ونحو ذلك ؛ إذ كل ذلك يخرج على الاختلاف ، وفي ذلك بيان حظر جعل المخرج بحق اللسان من الاسم حجة ودليلا ؛ لما يوجد من ذلك الوجه اختلافا كثيرا ، ولو كان من ذلك الوجه الاحتجاج ـ لوجد الاختلاف ، ومن رام أن يجعل القرآن ـ لو لا بيان الخبر ـ موقعه على جهة قد يقع فيه الاختلاف دونه ـ فهو وصف القرآن مع اجتماع الخبر بنفي الاختلاف ، وأما ما هو في نفسه مختلف ، فمثله لكل كاهن وبشر أريد تثبيت التناقض فيه أمكن لمن يذب عنه إن كان عنه مترجم [معبر](٥) يجب ضم تأويله إليه ، فيبطل أن يكون على أحد ، ووجود اختلاف في

__________________

(١) في أ : الآية.

(٢) في الأصول : والوجه الثالث.

(٣) في ب : مما.

(٤) في أ : عن.

(٥) سقط من ب.

٢٧٤

مكان ، ويكون احتجاج العدين عبثا ، جل عن ذلك.

ثم ما ذكر يحتمل الأحكام والحدود ، والأوامر (١) والنواهي ، وذلك يوجب أن التناسخ والخصوص والعموم لا (٢) يكون مختلفا.

ويحتمل : الإخبار ، والوعد والوعيد ، ونحو ذلك ، وأعني بالإخبار : عن الغيب ، وعما كان أخبر ـ عزوجل ـ عن شرك المنافقين ، وعما إليه مرجع الأمور ، وعما كان عنهم ، ونحو ذلك مما خرج كذلك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) (٨٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ)

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «وإذا جاءهم نبأ من خوف أو أمن أذاعوه» وكذلك في حرف حفصة (٣).

قال الكسائي : هما لغتان ، أذعت به وأذعته : إذا أفشيته.

وقيل : سمعوا به وأفشوه.

وقيل : أفشوه وأشاعوه (٤).

ثم اختلف فيمن نزلت : قال الحسن : نزلت في المؤمنين ؛ وذلك أنهم إذا سمعوا خبرا من أخبار السرايا والعساكر ـ مما يسرّون ويفرحون ـ أفشوه في الناس ؛ فرحا منهم ، وإذا

__________________

(١) في ب : الأمور.

(٢) في ب : ولا.

(٣) قوله : (أَذاعُوا بِهِ) : جواب إذا ، وعين أذاع ياء ؛ لقولهم : ذاع الشيء يذيع ويقال : أذاع الشيء ، أيضا بمعنى المجرد ، ويكون متعديا بنفسه وبالباء ، وعليه الآية الكريمة ، وقيل : ضمن «أذاع» معنى «تحدث» ؛ فعدّاه تعديته ، أي : تحدثوا به مذيعين له ، والإذاعة : الإشاعة ، قال أبو الأسود :

أذاعوا به في الناس حتى كأنه

بعلياء نار أوقدت بثقوب

والضمير في «به» يجوز أن يعود على الأمر ، وأن يعود على الأمن أو الخوف ؛ لأن العطف ب «أو» والضمير في «ردوه» للأمر ، ينظر : اللباب لابن عادل (٦ / ٥٢١ ، ٥٢٢).

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٦٩ ـ ٥٧٠) (٩٩٩٠) عن قتادة ، و (٩٩٩٢ ، ٩٩٩٣) عن ابن عباس ، (٩٩٩٥) عن أبي معاذ ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٣٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس والسدي ، ولابن المنذر عن ابن عباس.

٢٧٥

سمعوا ما يحزنهم ويهمهم أظهروه (١) في الناس ؛ حزنا وغمّا (٢) ، ثم استثنى إلا قليلا منهم لا يذيعون ولا يفشون بالخبر ، فلو سكتوا وردّوا الخبر إلى [رسول الله](٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يخبر النبي ما كان من الأمر ، أو ردّوه إلى أولي الأمر حتى يكونوا هم الذين يخبرون به ـ كان أولى ، وهو على التقديم والتأخير.

وقال أبو بكر الكسائي : نزلت الآية في المنافقين ؛ وذلك أن المنافقين إذا سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر عن نصر المسلمين [أذاعوا](٤) إلى الأعداء بذلك ليستعدوا (٥) على ذلك ، وإذا سمعوا أن الأعداء قد اجتمعوا وأعدوا للحرب أخبروا بذلك ضعفة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليمتنعوا عن الخروج إليهم ؛ فقال الله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) حتى كان هو مخبرهم عن ذلك ، أو ردّوا إلى أولي الأمر منهم ؛ ليخبروا بذلك ، والله أعلم.

ثم اختلف في (أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) :

قيل : هم أمراء السرايا (٦).

وقيل : هم العلماء الفقهاء (٧)

(الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

الذين يطلبون علمه بقوله.

وقيل : (أُولِي الْأَمْرِ) ـ هاهنا ـ مثل أبي بكر ، وعمر ، وعثمان (٨) ، رضي الله عنهم (٩).

__________________

(١) في ب : أظهره.

(٢) أخرجه ابن جرير بمعناه (٨ / ٥٧٠) (٩٩٩٣) ، عن ابن جريج وذكره السيوطي في الدر ٢ / ٣٣٣ وزاد نسبته لابن المنذر.

(٣) في ب : الرسول.

(٤) غير موجود بالأصل وأثبته ؛ لاستقامة المعنى.

(٥) في الأصل : لا أعدوا ، ولعل المثبت هو الصواب.

(٦) ذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٣١٨) ونسبه للسدى ومقاتل وابن زيد ، وذكره الرازي في تفسيره (١٠ / ١٥٩).

(٧) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٧٢) (٩٩٩٧) عن قتادة ، وبمعناه عن أبي العالية (٩٩٩٩) ، وابن جريج (٩٩٩٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٣٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة ، ولابن المنذر عن ابن جريج.

(٨) في ب : وعلى.

(٩) قال القاسمي (٥ / ٣٢٥) : وعلى هذا الوجه يحتمل قول السيوطي في الإكليل : قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ) [النساء : ٨٣] الآية ، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد ، وقول المهايمي : فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف ، لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر ، ـ

٢٧٦

(لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(١) أي : يستخرجونه من كتاب الله تعالى.

وقيل : (أُولِي الْأَمْرِ) ولاة الأمر الذين يستنبطونه (٢) ، والذين أذاعوا به : قوم إما منافقون وإما مؤمنون ، على ما ذكرنا ، إنما هو : أذاعوا به إلا قليلا منهم (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ...) الآية على قول بعض.

وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً)

اختلف فيه : قيل : فضل الله : [رسولنا](٣) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورحمته : القرآن ؛ تأويله : لو لا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن لا تبعوا الشيطان إلا قليلا منهم لم يتبعوه ، ولكن آمنوا بالعقل.

وقيل : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) في الأمر والنهي عن الإذاعة والإفشاء ، وإلا لأذاعوه واتبعوا الشيطان في إذاعتهم به (إِلَّا قَلِيلاً) منهم فإنهم لا يذيعون به.

وعن الضحّاك قال : هم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا حدّثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان إلا طائفة منهم لم يحدثوا بها أنفسهم (٤).

وقال آخرون : هم المنافقون ، كانوا إذا بلغهم أن الله ـ تعالى ـ أظهر (٥) المسلمين على المشركين وفتح عليهم ـ صغروه وحقروه ، وإذا بلغهم أن المسلمين نكبوا نكبة ـ شنعوه (٦) وعظموه (٧).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (إِلَّا قَلِيلاً) يقول : لعلموا الأمر الذي يريدون ، والخبر كله ، (إِلَّا قَلِيلاً) يقول : لم يخف عليهم إلا قليلا من ذلك الأمر ؛ (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ ...) الآية.

وعن الحسن قال : هم الذين استثنى الله ـ عزوجل ـ حين قال إبليس ـ لعنه الله ـ

__________________

 ـ ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق.

وقال بعض الإمامية : ثمرة الآية أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين ، وأن إذاعته قبيحة ، وأنه لا يخبر بما لم يعرف صحته ، وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين ، وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا ، وتدل على صحة القياس والاجتهاد ، لأنه استنباط. انتهى.

(١) ذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٣١٨) ونسبه لعكرمة ، والبغوي في تفسيره (١ / ٤٥٦).

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٨ / ٥٧٢) (٩٩٩٦) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٣٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن السدي.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٧٦) (١٠٠١٣) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٣٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن الضحاك.

(٥) في أ : ظفر.

(٦) في ب : شيعوه.

(٧) ذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٣١٨).

٢٧٧

(لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢] وحيث قال : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩ ـ ٤٠]

وقال غيرهم ما ذكرنا على التقديم والتأخير : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا منهم ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ)

قوله : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) يحتمل وجهين :

أي : ليس عليك حسابهم ولا جزاء تخلفهم ، إنما حساب ذلك عليهم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، وكقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤].

والثاني : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ)

أي : تكلف أنت بالقتال والجهاد ، وإن تخلف هؤلاء عن الخروج معك ؛ يؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : هذا حين استنفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ بوعد أبي سفيان بدرا الصغرى ، فخذله الناس ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأخرجنّ إلى بدر وإن لم يتّبعنى أحد منكم» ، فاتبعه أقل الصحابة (١) ـ رضي الله عنهم ـ وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل (٢).

وفيه دليل وعد النصر له والفتح ، والنكبة على الأعداء ؛ لأنه تكلف الخروج وحده ؛ فلو لم يكن وعد النصر له ـ لم يؤمر بالخروج ؛ ألا ترى أنه قال الله ـ عزوجل ـ : (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، و «عسى» من الله ـ تعالى ـ واجب.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (عَسَى اللهُ) وعد نصره وإن خرج وحده ؛ إذ ال «عسى» هو من الله واجب.

وقوله ـ عزوجل ـ : و (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) يحتمل وجوها :

يحتمل : حرض المؤمنين بالثواب لهم وكريم المآب على ذلك.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : و (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) ؛ لما في القتال معهم إظهار دين الله ـ الإسلام ـ وفي ترك المجاهدة والقتال معهم نصر العدو عليهم ، وإظهار دينهم ، أمر ـ عزوجل ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليرغبهم في مجاهدة أعدائهم.

__________________

(١) في ب : أصحابه.

(٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٨٠) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. وينظر : اللباب لابن عادل (٦ / ٥٢٩).

٢٧٨

والثالث : وحرض المؤمنين على المجاهدة والقتال معهم ؛ وعدا بالنصر لهم ، والفتح ، والغنيمة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وال «عسى» من الله واجب ؛ وعد الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكف عنهم بأس الذين كفروا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً).

قيل : وقوله : (أَشَدُّ بَأْساً) ؛ لما يدفع بأس المشركين عنكم ، ولا يقدرون هم دفع بأس الله عن أنفسهم ؛ فبأس الله أشد.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) ، قيل : التنكيل : هو العذاب الذي يكون للآخر (١) فيه زجر ومنع.

وقيل : حين قال له : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) ؛ ولو لم يتبعك أحد من الناس ـ لكف الله عنك بأس المشركين.

وقيل : البأس : هو عذاب الدنيا ، والتنكيل والنكال : هو عذاب الآخرة ؛ كأنه يخوفهم ببأسه ؛ لتخلفهم عن العدو ومخافة بأسهم وعذابهم ؛ فأخبر [الله ـ عزوجل ـ](٢) أن بأس الله وعذابه أشد من بأس الأعداء ، والله أعلم.

قوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (٨٥)

قوله تعالى : وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها)(٣)

لم يذكر ما تلك الشفاعة التي يشفع ؛ فيحتمل الشفاعة الحسنة : هي الدعاء له بالمغفرة والرحمة ، وهو لذلك مستوجب ؛ فيكون له بذلك نصيب. والشفاعة السيئة : هي الدعاء عليه باللعن والمقت ، وهو لذلك غير مستوجب ؛ فيكون له بذلك نصيب.

وقيل : هو كقول العرب : «الدالّ على الخير كفاعله» ، من دل آخر على الخير ؛ فله في ذلك نصيب ، وكذلك من دل آخر على الشر.

ويحتمل : الشفاعة الحسنة : في مظلمة ، يسعى في دفع مظلمة عن أخيه المسلم ، وهي

__________________

(١) في ب : لآخر.

(٢) سقط من ب.

(٣) قال القاسمي (٥ / ٣٣١) : قال السيوطي في الإكليل : في الآية مدح الشفاعة ، وذم السعاية : وهي الشفاعة السيئة ، وذكر الناس عند السلطان بالسوء ، وهي معدودة من الكبائر.

٢٧٩

شفاعة حسنة ؛ فله في ذلك نصيب.

ويحتمل : الشفاعة السيئة : هي أن يسعى في فساد أمر (١) يلحقه من ذلك نقمة ومظلمة ؛ فله في ذلك إثم.

وقيل : الشفاعة الحسنة : هي التي ينتفع بها وعمل بها ، هي بينك وبينه ، هما فيها شريكان (٢) ، والشفاعة [السيئة] هي التي تضر به ، هما فيها شريكان.

ويحتمل : أن تكون الشفاعة الحسنة : كل صانع معروف ، وكل آمر به ، والشفاعة السيئة : كل صانع منكر ، وآمر به ؛ فهما شريكان في ذلك : الآمر والفاعل جميعا.

ويحتمل ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلّ معروف صدقة ، والدّالّ على الخير كفاعله ، والله يحبّ إغاثة اللهفان» (٣).

وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صدقة أفضل من صدقة اللّسان» ؛ قيل : وما صدقة اللسان يا رسول الله؟ قال : «الشّفاعة تجريها إلى أخيك ، وترفع عنه ثقل الكريهة وتحقن بها الدم» (٤).

والكفل والنصيب واحد (٥).

وقيل : الكفل : الجزاء ، وهو واحد.

وقيل : الكفل : الإثم (٦) ، ولكن ليس إثمه خاصة ؛ ألا ترى أنه قال : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) الحديد : ٢٨]

__________________

(١) في ب : أمره.

(٢) رواه ابن جرير (٨ / ٥٨٢) رقم (١٠٠١٩) ، عن ابن زيد.

(٣) رواه البخاري (١٠ / ٤٦٢) : كتاب الأدب : باب كل معروف صدقة ، (٦٠٢١) ، ومسلم (٢ / ٦٩٧) : كتاب الزكاة باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف ، رقم (٥٢ ـ ١٠٠٥) ، بلفظ : «كل معروف صدقة» عن جابر والدال على الخير كفاعله.

رواه الطبراني في الكبير (١٧ / ٢٢٧) رقم (٦٢٩ ، ٦٣٢) عن ابن مسعود.

(٤) أخرجه الطبراني في الكبير (٧ / ١٩٤) فيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف. وذكره التقي الهندي في كنز العمال ٦ / ٤٢٢) وعزاه للطبراني والبيهقي عن سمرة.

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٨٢ ـ ٥٨٣) (١٠٠٢٣) عن زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٣٦).

قال القاسمي (٥ / ٣٣٤) : الخامسة : نكتة اختيار النصيب في «الحسنة» والكفل في «السيئة» ما أشرنا إليه وذلك أن النصيب يشمل الزيادة لأن جزاء الحسنات يضاعف ، وأما الكفل فأصله المركب الصعب ، ثم استعير للمثل المساوي ، فلذا اختير ، إشارة إلى لطفه بعباده ، إذ لم يضاعف السيئات كالحسنات ، ويقال : إنه وإن كان معناه المثل لكنه غلب في الشر ، وبدر في غيره كقوله ـ تعالى ـ : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨] فلذا خص به السيئة تطرية وهربا من التكرار.

(٦) أخرجه ابن جرير (٨ / ٥٨٢) (١٠٠٢٠) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٣٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٢٨٠