تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

أعلم ـ معنى قوله : (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [النساء : ١٦٥ ـ ٢] [مبشرين](١) لمن أطاع الله بالجنة ، ومنذرين لمن عصاه بالنار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ).

يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : لئلا يكون للناس على الله ـ تعالى ـ الاحتجاج بأنه لم يرسل الرسل إلينا ، وإن لم يكن لهم في ـ الحقيقة ـ عند الله ـ تعالى ـ ذلك ؛ فيقولوا : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [طه : ١٣٤].

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) حقيقة الحجة ، لكن ذلك إنما يكون في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها السمع لا العقل ، وأما الدين فإن سبيل لزومه بالعقل (٢) ؛ فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة ؛ إذ في خلقه كل أحد من الدلائل ما لو تأمّل وتفكر فيها لدلته على هيبته ، وعلى وحدانيته وربوبيته ؛ لكن بعث الرسل لقطع الاحتجاج لهم عنه ، وإن لم تكن لهم الحجة.

وإن كان على حقيقة الحجة فهو في العبادات والشرائع ؛ فبعث الرسل على قطع الحجة لهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)

أي : لا يعجزه شيء عن إعزاز من أراد أن يعزه ، ولا على إذلال من أراد إذلاله.

(حَكِيماً) : يعرف وضع كل شيء موضعه. وقد ذكرنا تأويله في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ)

قيل فيه بوجهين :

قيل : يشهد الله يوم القيامة ـ والملائكة يشهدون أيضا ـ أن [هذا](٣) القرآن الذي أنزل إليك إنما أنزل من عند الله ، لا كما يقولون : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ، (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٣٤] ، (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] كما قالوا.

وقيل : قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) أي : يبين بالآيات والحجج التي يعجز الخلائق عن إتيان مثلها ، وتلزمهم الإقرار بأنه إنما أنزل (٤) من عند الله ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : العقل.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : نزل.

٤٢١

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) يحتمل وجهين :

أنزله بالآيات والحجج ما يعلم أنها آيات الربوبية والحجج السماوية.

ويحتمل : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي : أنزله على علم منه بمن (١) يقبل ومن لا يقبل ، ليس كما يبعث ملوك الأرض بعضهم إلى بعض رسائل وهدايا لا يعلمون قبولها ولا ردها ، ولا علم لهم بمن يقبلها وبمن يردها ، ولو كان لهم بذلك علم ما أرسلوا الرسل ، ولا بعثوا الهدايا ؛ إذا علموا أنهم لا يقبلون ؛ فأخبر ـ عزوجل ـ أنه على علم منه أنزل بمن يقبل وبمن يرد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)

أي : شاهدا على ما ذكرنا من شهادته يوم القيامة على أحد التأويلين أنه أنزله.

ويحتمل قوله : (شَهِيداً) أي : مبينا ، أي : كفى بالله مبينا بالآيات والحجج.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : لما أنزل الله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) إلى قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ...) الآية (٢) [النساء : ١٦٢ ـ ١٦٥] ـ قالت قريش : من يشهد لك أن ما تقول حق ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) ، وأنزل (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) الآية [الأنعام : ١٩].

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(١٧٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)

أي : كفروا بآيات الله.

(وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً)

أي : قد تاهوا وتحيروا تحيرا طويلا.

ويحتمل : (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) أي : هلكوا هلاكا لا نجاة لهم ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.

__________________

(١) في ب : ممن.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٩ / ٤٠٩) رقم (١٠٨٥٠) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٣٩) ، وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس.

٤٢٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا).

أي : كفروا بآيات الله وحججه ، وظلموا أمر الله وتركوه.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (وَظَلَمُوا) حيث جعلوا أنفسهم لغير الله ، وجعلوا العبادة لمن دونه ، وهو إنما خلقهم ؛ ليجعلوا عبادتهم له ، فقد وضعوا أنفسهم في غير موضعها ؛ لذلك وصفهم بالظلم ؛ لأن الظلم : وضع الشيء [في](١) غير موضعه.

ويحتمل : ظلموا أنفسهم ، وإن كانوا لا يقصدون ظلم أنفسهم ؛ فإن حاصل ذلك يرجع إلى أنفسهم ؛ فكأنهم ظلموا أنفسهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ).

كأنه على الإضمار بألا يهديهم في الآخرة طريقا إلا طريق جهنم.

ويحتمل ما قال أهل التأويل ، قالوا : لا يهديهم طريق الإسلام إلا طريق جهنم : طريق الكفر والشرك هما طريقا جهنم في الدنيا ، والإسلام هو طريق الجنة في الدنيا.

وهذه الآية والآية الأولى في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا ، ويموتون على ذلك ؛ حيث أخبر أنه ـ عزوجل ـ لا يغفر لهم ، ولا يهديهم.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

ظاهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ)

يحتمل قوله : (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) : بالحق الذي لله عليكم.

ويحتمل : (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) بالحق الذي لبعضكم على بعض ، قد جاءكم (٢) الرسول من الله ببيان ذلك كله.

ويحتمل [قوله](٣) : (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) الحق الذي هو ضد الباطل ونقيضه ، وفرق بينهما ، وأزال الشبه (٤) ؛ إن لم تعاندوا ولم تكابروا.

(فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ).

لأن الذي كان يمنعهم عن الإيمان بالله حب الرئاسة ، وخوف زوال المنافع التي كانت لهم ؛ فقال : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) ؛ لأن ذلك لكم في الدنيا ، والآخرة دائم لا يزول ؛ فذلك خير لكم من الذي يكون في وقت ثم يزول عنكم عن سريع.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : جاء.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : المشبهة.

٤٢٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية.

يخبر ـ والله أعلم ـ أن ما يأمر خلقه وينهى ليس يأمر وينهى لحاجة له أو لمنفعة ؛ ولكن يأمر وينهى لحاجة الخلق ومنافعهم ؛ إذ من له ما في السموات وما في الأرض وملكهما ـ لا يقع له حاجة (١) ولا منفعة ، وهو غنى بذاته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)

عليما : عن علم بأحوالكم خلقكم ، لا عن جهل ، وعليما بما به صلاحكم وفسادكم.

(حَكِيماً) : حيث وضع كل شيء موضعه.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وجها آخر ، وهو : [الذي تكفرونه](٢) يقدر أن يخلق خلقا آخر سواكم يطيعونه ؛ إذ له ما في السموات وما في الأرض ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(١٧٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)

والغلو في الدين : هو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم ، وكذلك الاعتداء : هو المجاوزة عن الحد الذي [حد لهم](٣) في الفعل وفي النطق جميعا.

وقال بعضهم : تفسير الغلو ما ذكر : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) ؛ فالقول على الله بما لا يليق [به](٤) غلو.

وقيل : لا تغلوا : أي لا تعمّقوا في دينكم ، ولا تشدّدوا ؛ فيحملكم ذلك على الافتراء على الله ، والقول بما لا يحل ولا يليق.

__________________

(١) في ب : الحاجة.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : إن تكفروا.

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من ب.

٤٢٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ).

أي : الصدق.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) يقول : لا تقولوا لله ـ تعالى ـ ولد ولا صاحبة (١).

وفي حرف حفصة ـ رضي الله عنها ـ : «ولا تقولوا : الله ثالث ثلاثة ؛ إنما هو إله واحد».

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ)

الخطاب بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) في حقيقة المعنى ـ للخلق كلهم ؛ لأن [على كل](٢) الخلائق ألا يغلوا في دينهم ، وهو في الظاهر في أهل الكتاب ، والمقصود منه النصارى دون غيرهم من أهل الكتاب ؛ حتى يعلم أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد ، ولا في مخرج خصوصه دليل خصوصه ؛ ولكن قد يراد بعموم اللفظ : الخصوص ، وبخصوص اللفظ : العموم ؛ فيبطل به قول من يعتقد بعموم اللفظ عموم المراد ، وبخصوص اللفظ خصوصه.

ثم افترقت النصارى على ثلاث فرق في عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد اتفاقهم على أنه ابن مريم : قال بعضهم : هو إله ، ومنهم من يقول : هو ابن الإله (٣) ، ومنهم من يقول : هو ثالث ثلاثة : الرب ، والمسيح ، وأمّه ؛ فأكذبهم الله ـ عزوجل ـ في قولهم ، وأخبر أنه رسول الله ابن مريم ، ولو كان هو إلها لكانت أمه أحق أن تكون إلها ؛ لأن أمه كانت قبل عيسى ـ عليه‌السلام ـ ومن كان قبل ، أحق بذلك ممن يكون من بعد ، ولأن من اتخذ الولد إنما يتخذ من جوهره ، لا يتخذ من غير جوهره ؛ فلو كان ممن يجوز أن يتخذ ولدا ـ لم يتخذ من جوهر البشر ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا ...) [الأنبياء : ١٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)

قال بعضهم : كلمته : أن قال له : كن ؛ فكان. لكن الخلائق كلهم في هذا كعيسى ؛ لأن كل الخلائق إنما كانوا بقوله ـ عزوجل ـ : كن ؛ فكان (٤) ؛ فليس لعيسى ـ عليه‌السلام ـ في

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط (٣ / ٤١٦ ، ٤١٧).

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : إله.

(٤) أخرجه الطبري في تفسيره (٩ / ٤١٩) رقم (١٠٨٥٤) عن قتادة.

٤٢٥

ذلك خصوصية.

وأصله أنه سمى كلمة الله لما ألقاها إلى مريم ، ولا ندري أية كلمة كانت ؛ وإنما خلقه بكلمته (١) التي ألقاها إليها ؛ فسمي بذلك ، كما خلق آدم من تراب ؛ فنسب إليه ، وحواء خلقها من ضلع آدم ؛ فنسبها إليه ، وسائر الخلائق خلقهم من النطفة ؛ فنسبهم إليها ؛ فعلى ذلك عيسى ، لما خلقه بكلمة ألقاها إليها ـ نسب إليه ، لكن في آدم وغيره من الخلائق ذكر فيهم التغيير من حال إلى حال ، ولم يذكر ذلك في عيسى ؛ فيحتمل أن يكون له الخصوصية بذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرُوحٌ مِنْهُ) [كقوله ـ تعالى ـ :](٢)(فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] فسمي لذلك روحا ؛ لما به كان يحيى الموتى ؛ ألا ترى أنه سمى القرآن روحا ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢]

سماه روحا ؛ لما به يحيي القلوب ، كما يحيي الأبدان بالأرواح (٣).

وقيل : (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي : أحياه الله وجعله روحا (٤).

وقيل : (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي : رسولا منه.

وقيل : (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي : أمر منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ ...)

لأن الرسل كلهم لم يدعوكم إلى الذي أنتم عليه أنه ثالث ثلاثة ؛ إنما دعاكم الرسل أنه الله إله واحد لا شريك له ولا ولد.

(انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ).

بما ذكرنا بالآية الأولى.

وقوله : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) بالرفع ، أي : لا تقولوا : هو ثلاثة (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

نزه نفسه عن عظيم ما قالوا فيه بأن له ولدا ، ثم أخبر أن له ما في السموات وما في الأرض ؛ وإنما يتّخذ الولد لإحدى خصال ثلاث : إما لحاجة تمسه ؛ فيدفعها به عن نفسه ، أو لوحشة تصيبه ؛ فيستأنس به ، أو لخوف غلبة العدو ؛ فيستنصر به ويقهره ، أو لما يخاف

__________________

(١) في ب : بكلمة.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : كقولنا.

(٣) في أ : بالروح.

(٤) ينظر : تفسير الطبري (٩ / ٤٢١).

(٥) ينظر : تفسير الطبري (٩ / ٤٢٢).

٤٢٦

الهلاك ؛ فيتخذ الولد ليرث ملكه.

فإذا كان الله ـ سبحانه ـ يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تصيبه وحشة ، أو لملكه زوال ـ يتعالى عن أن يتخذ ولدا وهو عبده.

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً). قيل : حافظا. وقيل : شهيدا.

وقيل : الوكيل : هو القائم في الأمور كلها (١) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).

تكلم الناس في هذه الآية : قال الحسن : فيه دليل تفضيل الملائكة على البشر ؛ لأنه قال ـ عزوجل ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ؛ لأن الثاني يخرج مخرج التأكيد للأول ، وأبدا إنما يذكر ما به يؤكد ؛ إذا كان أفضل منه وأرفع ، لا يكون التأكيد بمثله ولا بما دونه ؛ كما يقال : لا يقدر أن يحمل هذه الخشبة واحد ولا عشرة ، ولا يعمل هذا العمل واحد ولا عدد ؛ فهو على التأكيد يقال ؛ فعلى ذلك الأول : خرج ذكر الملائكة على أثر ذكر المسيح ؛ على التأكيد ، وأبدا إنما يقع التأكيد بما هو أكبر (٢) ، لا بما دونه.

والثاني : قال : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] ، وقال ـ عزوجل ـ : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] ، وقالوا (٣) : فكيف يستوى حال من يعصى مع حال من لا يعصى؟! وحال من لا يفتر عن عبادته طرفة عين مع حال من يرتكب المناهي؟!

والثالث : ما قال الله ـ تعالى ـ حكاية عن إبليس ؛ حيث قال لآدم وحواء ـ عليهما‌السلام ـ (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠].

لو لم يكن للملائكة فضل عندهم ومنزلة ـ ليس ذلك للبشر ـ لم يكن إبليس بالذي يغرهما بذلك الملك والوعد لهما أنهما يصيران ملكين ، ولا كان آدم وحواء بالذين يغتران بذلك ـ دل أن الملك أفضل من البشر.

والرابع : أن الأنبياء ـ صلى الله عليهم وسلم ـ ما استغفروا لأحد ، إلا بدءوا بالاستغفار لأنفسهم ثم لغيرهم من المؤمنين ؛ كقول نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ ...) الآية

__________________

(١) ينظر : تفسير الطبري (٩ / ٤٢٤).

(٢) في ب : أكثر.

(٣) في أ : وقال.

٤٢٧

[نوح : ٢٨] ، وكقول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [إبراهيم : ٤١] ، وما أمر [الله](١) ـ عزوجل ـ نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار ؛ فقال : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) الآية [محمد : ١٩] وقال : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] وما أمر بذلك ، وما فعلوا ذلك ؛ إلا ما يحتمل ذلك فيهم.

والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم ؛ ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر ؛ كقوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [غافر : ٧] وإلى هذا ذهب بعض الناس (٢) : بتفضيلهم الملائكة على البشر.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) قال عامة أهل السنة والجماعة : المسلمون من بني آدم أفضل من الملائكة.

وقال «القدرية» و «المعتزلة» بأجمعهم : الملائكة أفضل من بنى آدم حتى صنفوا في هذه المسألة تصانيف كثيرة ، فرأيت «لجعفر بن حرب» ـ وهو من رؤساء «القدرية» و «المعتزلة» في تفضيل الملائكة على بني آدم ـ كتابا كبيرا يبلغ عشرين جزءا.

وجه قول «القدرية» و «المعتزلة» ـ قول الله ـ تعالى ـ خبرا عن إبليس عليه اللعنة ، أنه قال لآدم ـ صلوات الله عليه ـ ولزوجه : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)[الأعراف : ٢٠] : رغبهما في تناول الشجرة ؛ ليصيرا ملكين ؛ فلولا أن الملك أفضل من الآدمي ـ لما صح ترغيبه فيه ، وقال الله ـ تعالى ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)[النساء : ١٧٢] ، ومثل هذا الكلام يدل على تفضيل المذكور ثانيا ، على المذكور أولا ؛ على هذا عادات الناس. وقال الله ـ تعالى ـ في شأن الملائكة : (سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)[الأنبياء : ٢٦] ، وقال الله ـ تعالى ـ : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)[التحريم : ٦] وصفهم كلهم بكونهم مكرمين ، ولأن الفضل بالعبادة والتقوى ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)[الحجرات : ١٣] ، والملائكة أعبد لله أو أتقى من بنى آدم ؛ فيكونون أفضل من بني آدم.

والدليل «لأهل السنة والجماعة». قوله الله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)[الإسراء : ٧٠] : أخبر أنه كرم بنى آدم ، وفضلهم على كثير ممن خلق ، وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ)[آل عمران : ٣٣] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ* إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) إلى قوله (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ)[ص : ٤٥ ـ ٤٧] أخبر أن من بني آدم قوما اصطفاهم الله ـ تعالى ـ ولم يرد مثل هذا في شأن الملائكة ، ولأن الله ـ تعالى ـ وعد الجنة للمؤمنين من بني آدم ، والملك والدرجات العلى في آى كثيرة ، ووعد لهم الرؤية والنظر إليه ؛ على سبيل الكرامة ، وكذلك في الدنيا أعطاهم الملك والملك وأنواع النعم وألحقهم بالأحرار ، ومثل هذا لم يرد في شأن الملائكة ؛ فإن الملائكة يدخلون الجنة زائرين بني آدم ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] ، وهذا دليل آخر يدل على فضل بني آدم على الملائكة حين أمروا بزيارة بني آدم في الجنة.

فإن قيل : الملائكة لهم الجنة كما لبني آدم ، فإن الله ـ تعالى ـ وعد الجنة لمن آمن وعمل عملا صالحا فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً)[الكهف : ١٠٧] ، والملائكة شاركوا المسلمين من بني آدم في الإيمان والعمل الصالح ؛ فيدخلون معهم في الوعد ، ولأن سبب ـ

٤٢٨

وقال آخرون بتفضيل البشر على الملائكة ، ولا يجب أن يتكلم في تفضيل البشر على الإطلاق على الملائكة ؛ لأنهم يعملون (١) بالفساد وبكل فسق ، إلا أن يتكلم في تفضيل أهل الفضل من البشر والمعروف منهم بذلك ـ على الملائكة ؛ فذلك يحتمل أن يتكلم فيه.

ويذهب من قال بتفضيل من ذكرنا من البشر على الملائكة ـ إلى أنه : ليس في قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ـ [دلالة] على أن الملائكة كلهم أفضل منهم ؛ لأنه إنما ذكر (الْمُقَرَّبُونَ) ، لم يذكر الملائكة مطلقا ؛ فيجوز

__________________

 ـ دخول الجنة الإيمان ، وسبب نيل الدرجات الأعمال الصالحة ، وقد وجد من الملائكة هذا السبب كما وجد من بني آدم ، بل أكمل ؛ فيكون لهم شركة معهم في الجنة :

فنقول : عندنا : دخول الجنة بفضل الله ـ تعالى ـ وعده بسبب الإيمان لا بطريق الاستحقاق ؛ فيدخل من وعد له الجنة بفضله ، والوعد في حق المؤمنين من بني آدم ـ يدل عليه قول الله ـ تعالى ـ : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) إلى قوله (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)[الرعد : ١٩ ، ٢١] وقال أيضا (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ...) إلى قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها)[الرعد : ٢٢ ـ ٢٣] ، وهذا كله من صفات بنى آدم. ثم قال : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ)[الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] ؛ فهذه الآية دلتنا أن الجنة لبني آدم والملائكة يدخلون عليهم زائرين ، أما الآى الأخر التي فيها وعد الجنة لمن آمن وعمل عملا صالحا ، مطلقا ـ فالمراد منها بنو آدم ؛ علمنا ذلك بهذه الآية ، ولأن هناك العمل الصالح مجمل ، وقد بين في هذه الآية العمل الصالح وهذا يتحقق من بني آدم لا من الملائكة.

وأما احتجاجهم بقول الله ـ تعالى ـ : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ)[الأعراف : ٢٠] ـ فنقول : قد قرئ : «ملكين» : بكسر اللام ، ولا حجة لهم في هذه القراءة. وأما القراءة الأخرى فلا حجة لهم أيضا ؛ فإن ظاهر الآية متروك العمل بالإجماع ؛ فإن الآدمى لا يصير ملكا حقيقة ؛ فدلنا أن مراد الله ـ تعالى ـ غير الحقيقة ، وهو غير معلوم ؛ فلا يصح التعلق به ، على أنه يحتمل أنه أراد به أن تكونا في العلو كالملائكة ؛ فهذا هو الظاهر. وأما قوله ـ تعالى ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)[النساء : ١٧٢] ـ : ليس فيه أن الملك أفضل من الآدمى ، لكن فيه بيان أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ مع جلال قدره ، والملائكة المقربون مع جلال قدرهم ـ لا يستنكفون عن عبادة الله ـ تعالى ـ فكيف تستنكفون يا أهل مكة ، مع خسة حالكم عن عبادة الله؟! وليس في تفضيل الملائكة على بني آدم.

وقولهم : إن الملائكة أعبد لله ـ تعالى ـ وأطوع له من بنى آدم.

فنقول : عندنا الفضل ليس بالطاعة والتقوى لا غير ؛ بل يكون بهما ، وقد يكون بالوضع من الله ـ تعالى ـ : كفضيلة الأزمنة والأمكنة ؛ فإنها بالوضع من الله ـ تعالى ـ وعندهم ليس بالوضع ، وهذه المسألة تبنى على مسألة الأصلح ؛ فإنه لا يجب للعبد على الله ـ تعالى ـ شيء عندنا.

وعند «القدرية» و «المعتزلة» : يجب ، وقد ذكرنا هذا ؛ ولهذا نقول : إن فضل شهر رمضان على سائر الشهور بوضع الله ـ تعالى ـ لا بشرع صوم رمضان فيه ، وكذلك فضل الكعبة بوضع الله ـ تعالى ـ فيها ، لا بعبادة الناس فيها ؛ فإن الله ـ تعالى ـ شرف الأمكنة والأزمنة ، ثم أمر بالعبادة فيها. ينظر : أصول الدين للبزدوي (١٩٩ ـ ٢٠٢).

(١) في ب : يعلمون.

٤٢٩

أن يكون لمن ذكر فضل على البشر ، وكلامنا في تفضيل الجوهر على الجوهر ، ولأن البشر ركب فيهم من الشهوات والأماني التي تدعوهم إلى ما فيه الخلاف لله والمعصية له ، وجعل لهم أعداء أمروا بالمجاهدة معهم ، من نحو : أنفسهم ، والشياطين الذين سلطوا عليهم ، ولا كذلك الملائكة ؛ فمن حفظ نفسه ، وصانها ، وأخلصها من بين الأعداء ، وقمع ما ركب فيهم من الشهوات ، والحاجات الداعية إلى الخلاف لله والمعصية له ـ كان أفضل ممن لا يشغله شيء من ذلك ، والله أعلم.

وما ذكر من اغترار آدم وحوّاء بقول إبليس : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) [الأعراف : ٢٠] لا يحتمل أن يكون آدم لما خلقه من جوهر البشر ، وأخبر أنه جعله خليفة في الأرض أنه يتناول ما نهي عنه ؛ ليصير من جوهر الملائكة ، ولكنه ـ والله أعلم ـ رأي أن الملائكة طبعوا على حب العبادة لله ، ولم يركب فيهم من الشهوات والحاجات التي تشغل المرء عن العبادة لله والطاعة له ـ فأحب أن يطبع بطبعهم ؛ ليقوم بعبادة الله كما قاموا هم ، والله أعلم.

والتكلم في مثل هذا فضل ؛ ذلك إلى الله تعالى ، وإليه التخيّر والإفضال.

ثم تأويل قوله عزوجل ـ والله أعلم ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) : وذلك أنهم كانوا يعبدون الملائكة دون الله ، ويعبدون المسيح دونه ؛ فأخبر أن أولئك الذين تعبدونهم أنتم لم يستنكفوا عن عبادتى ؛ فكيف تستنكفون أنتم؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً)

فهو ـ والله أعلم ـ على الإضمار ؛ كأنه قال : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ، ومن لم يستنكف عن عبادته ولم يستكبر ؛ فسيحشرهم إليه جميعا.

ثم بين جزاء من لم يستنكف عن عبادته ومن لم يستكبر ، ومن استنكف واستكبر ، فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ...) الآية ، (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا ...) الآية ؛ وإلا لم يكن في الذين استنكفوا مؤمن ؛ بل كانوا كلهم كفارا ؛ بالاستنكاف والاستكبار عن عبادته.

والاستنكاف والاستكبار واحد في الحقيقة ، وقال الكسائي : وإنما جمع بينهما ؛ لاختلاف اللفظين ، وهذا من حسن كلام العرب : كقول العرب : كيف حالك؟ وبالك؟

والحال والبال واحد ، ومثله في القرآن والشعر كثير.

لكن الاستنكاف ـ والأنفة ـ لا يضاف إلى الله تعالى ، والاستكبار يضاف ، [فهما] من هذا المعنى مختلفان ، وأما في الحقيقة فهما واحد ، والله أعلم.

٤٣٠

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)(١٧٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ)

والبرهان : هو الحجة توضح وتظهر الحق من الباطل.

وقيل : بيان من ربكم ، وهما واحد.

قال بعضهم : هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال آخرون : هو القرآن ؛ فأيهما كان فهو حجة وبيان ، يلزم الحق ـ ويبين ـ من لم يعاند. وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)

يبصر به الحق من الباطل ، وبه يعرف : وهو القرآن ، سماه : نورا ؛ لما به يبصر الحق ، وإن لم يكن هو بنفسه نورا ؛ كالنهار : سماه مبصرا ؛ لما به يبصر ، وإن لم يكن هو كذلك.

وقال قتادة : (نُوراً مُبِيناً) : هو هذا القرآن ، وفيه بيانه ونوره وهداه ، وعصمة لمن اعتصم به.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً)(١٧٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ).

جعل الاعتصام به ما به ينال رحمته وفضله.

والاعتصام : هو أن يلتجأ إليه في كل الأمور ، وبه يوكل ، لا يلتجأ بمن دونه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً)

كأنه ـ والله أعلم ـ على التقديم والتأخير : «فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به ، ويهديهم إليه صراطا مستقيما ؛ فسيدخلهم في رحمة منه» ، يعني : الجنة «وفضل» ؛ كقوله تعالى : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٧٦)

[وقوله ـ عزوجل ـ :] (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

ذكر الاستفتاء ، ولم يذكر : فيم استفتوا؟ لكن في الجواب بيان أن الاستفتاء فيم كان ، وقال : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

والكلالة : ما ذكر : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي ...) إلى آخر ما ذكر.

٤٣١

قال جابر ـ رضي الله عنه ـ : فيّ نزلت الآية (١).

وروى عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : ما سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، ثم طعن في صدرى بأصبعه ، فقال : «[ألا](٢) يكفيك آية الصّيف الّتي في آخر سورة النّساء؟!» (٣) ، وفيه دلالة أن قد يترك بيان ما يدرك بالاجتهاد والنظر ، ولا يبين ؛ ليجتهد ، ويدرك بالنظر ؛ لأن عمر ـ رضي الله عنه ـ سأل غير مرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يبينه ، وأشار إلى الآية التي فيها ذكر ما سأل عنه ؛ لينظر ويجتهد ؛ ليدرك.

وفيه دليل جواز تأخير (٤) البيان ؛ لأن عمر ـ رضي الله عنه ـ سأله غير مرة ، ولم يبينه حتى أمره بالنظر في الآية ، وعمر ـ رضي الله عنه ـ لم يكن عرف قبل ذلك ؛ فدل على جواز تأخير (٥) البيان.

وروي عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : الكلالة : من ليس له ولد ولا والد (٦) ، وكذلك قال عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال : إنى لأستحي من الله أن أراد شيئا قاله أبو بكر (٧). وسئل ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ عن الكلالة؟ فقال : من لا ولد له ولا والد (٨).

وروي عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : مرضت ؛ فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني وأبو

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٣ / ٦٠٢) : كتاب الفرائض : باب ميراث الأخوات ، رقم (٢٠٩٧) ، والنسائي دون موضع الشاهد (١ / ٨٧) كتاب الطهارة : باب الانتفاع بفضل الوضوء ، عن جابر قال : «مرضت فأتانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودنى ، فوجدنى قد أغمى علىّ ، فأتانى ومعه أبو بكر وعمر ـ وهما ماشيان ـ فتوضأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصب على من وضوئه ؛ فأفقت ، فقلت : يا رسول الله ، كيف أقضى في مالى؟ أو كيف أصنع في مالى؟ فلم يجبنى شيئا ـ وكان له تسع أخوات ـ حتى نزلت آية الميراث : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ...) الآية. قال جابر : فيّ نزلت ، قال الترمذي : حسن صحيح.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (٩ / ١٤٧) : وهذه قصة أخرى لجابر غير التي تقدمت في أول سورة النساء فيما يظهر لى. وتقدم ذلك في تفسير الآية (١١).

والقصة الأخرى عند البخاري (٩ / ١١٥) كتاب التفسير : باب (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) رقم (٤٥٧٧) ، ومسلم (٣ / ١٢٣٤) كتاب الفرائض : باب ميراث الكلالة ، رقم (٥ ـ ١٦١٦) ، والترمذي رقم (٢٠٩٦).

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه مسلم (٣ / ١٢٣٦) كتاب الفرائض : باب ميراث الكلالة ، رقم (٩ ـ ١٦١٧) ، وابن جرير الطبري في تفسيره (٩ / ٤٣٧) رقم (١٠٨٧٧) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٦ / ٢٢٤).

(٤) في ب : تأخر.

(٥) في ب : تأخر.

(٦) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٤٣) وعزاه لعبد بن حميد.

(٧) أخرجه ابن جرير الطبري (٩ / ٤٣٧) ، بعد رقم (١٠٨٧٧) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٤٣) ، وزاد نسبته لسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة والدارمي وابن المنذر والبيهقي.

(٨) أخرجه ابن جرير في تفسيره (٨ / ٥٩) رقم (٨٧٦٨) ، وعزاه له السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٤٣).

٤٣٢

بكر الصديق معه ؛ فوجدني قد أغمى علىّ ؛ فصبّ وضوءه علىّ ؛ فأفقت ؛ فقلت : يا رسول الله ، كيف أصنع في مالي؟ وكان لي تسع أخوات ؛ فلم يجبني حتى نزل قوله ـ تعالى ـ : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ...) إلى آخر ما ذكر ، قال جابر ـ رضي الله عنه ـ : فىّ نزلت الآية (١).

قال بعض الناس : إذا مات الرجل ؛ وترك ابنة وأختا ـ فلا شيء للأخت ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) والابنة ولد ؛ [فلا ميراث](٢) للأخت وللأخ مع الابنة ؛ لأنها ولد ؛ فيقال : إن الله ـ عزوجل ـ جعل للابنة النصف ؛ إذا لم يكن معها ابن ؛ بقوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) [النساء : ١١] ؛ فإذا مات وترك ابنة وأختا فللابنة النصف ، وذلك النصف الباقي إذا لم يعط للأخت ـ يرد إلى الابنة ؛ فيكون لها كل الميراث ، وقد جعل الله ـ تعالى ـ ميراثها إذا لم يكن معها ولد ذكر ـ النصف ، أو لا يردّ إلى الابنة ؛ فيجب أن ينظر أيهما (٣) أحق بذلك النصف الباقى ؛ فجاء في بعض الأخبار : أن الأخوات مع البنات عصبة ؛ لذلك كانت الأخت أولى بذلك النصف الباقى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ)

ذكر للاثنتين الثلثين ، ولم يذكر ما للثلاث فصاعدا منهن ، وذكر في الابنة الواحدة النصف في أول السورة بقوله : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ولم يذكر ما للبنتين ؛ ولكن ذكر الثلاث فصاعدا بقوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) [النساء : ١١] فترك بيان الحق في الابنتين ؛ لبيانه في الأختين ، وترك البيان للأخوات ؛ لبيانه في البنات ؛ ففيه دليل القياس : حيث اكتفى ببيان البعض عن الآخر (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)

دل قوله تعالى : (إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً) أن اسم الإخوة بجميع الإناث والذكور جميعا ؛ لأنه ذكر إخوة ، ثم فسر الرجال والنساء ؛ فهو دليل لنا في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ

__________________

(١) تقدم قريبا.

(٢) في ب : فالميراث.

(٣) في ب : أيها.

(٤) قال القرطبي (٦ / ٢١) : والجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الأخوات عصبة البنات ، وإن لم يكن معهن أخ ، غير ابن عباس ؛ فإنه كان لا يجعل الأخوات عصبة البنات ؛ وإليه ذهب داود وطائفة ؛ وحجتهم ظاهر قول الله ـ تعالى ـ : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) [النساء : ١٧٦] ولم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد ؛ قالوا : ومعلوم أن الابنة من الولد ، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها ، وكان ابن الزبير يقول بقول ابن عباس في هذه المسألة حتى أخبره الأسود بن يزيد : أن معاذا قضى في بنت وأخت فجعل المال بينهما نصفين.

٤٣٣

فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) أنهم يحجبون الأم عن الثلث ، ذكورا كانوا أو إناثا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)

قيل : ألا تضلوا.

قال الكسائي : العرب تقول للرجل : أطعمتك أن تجوع ، وأغنيتك أن تفتقر ؛ على معنى ألا تجوع ولا تفتقر ، وفي القرآن كثير مثل هذا (١).

ثم قوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) قيل : ألا تضلوا في قسمة المواريث (٢). وقيل : ألا تخطئوا (٣). وقيل : ألا تخلطوا ، وهو واحد.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وعيد ، وبالله الحول والقوة ، [والله المستعان](٤).

سورة المائدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢)

قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)

أجمع أهل التأويل على أن العقود (٥) ـ هاهنا ـ هي العهود ، ثم العهود على قسمين :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط (٣ / ٤٢٤).

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٩ / ٤٤٥) رقم (١٠٨٩١) بنحوه عن ابن جريج.

(٣) ينظر : تفسير الطبري (٩ / ٤٤٥).

(٤) سقط من ب.

(٥) العقد ـ في اللغة ـ نقيض الحل ، وهو الربط ، والأصل فيه أن يكون في الأمور الحسية ، ثم استعمل في الربط المعنوى بين كلامين ، أو بين متعاهدين ؛ فقيل : عقدت البيع ، وعقدت العهد ، كما استعمل في كل ما ينشئ التزاما.

والمعنى الشرعي لهذه الكلمة هو الإيجاب والقبول المتوافقان الصادران في مجلس واحد ، أو ما يقوم مقامهما من التعاطي ونحوه.

والمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي : ما في كل منهما من الربط ، وهذا هو المعنى الخاص للعقد ؛ ومنه يؤخذ أن العقد عند الفقهاء لا يكون إلا بين طرفين حقيقة أو حكما ، ولا يكون من طرف واحد حقيقة ؛ وإنما يطلقون على الصادر من طرف واحد : التزاما أو تصرفا : كالطلاق والعتاق.

إلا أن من الفقهاء من يعممون ؛ فيطلقون كلمة العقد على كل تصرف شرعي ، سواء أكان صادرا ـ

٤٣٤

عهود فيما بين الخلق ، أمر الله ـ عزوجل ـ بوفائها.

وعهود فيما بينهم وبين ربهم ، وهي المواثيق التي أخذ عليهم ، من نحو : الفرائض التي فرض الله عليهم ، والنذور التي يتولون هم إيجابها ، وغير ذلك ، أمر عزوجل بوفائها.

وأما العهود التي فيما بينهم من نحو : الأيمان (١) وغيرها ، أمر بوفاء ذلك إذا لم يكن فيها معصية الرب ؛ كقوله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ...) الآية [النحل : ٩١] أمر هاهنا بوفاء الأيمان ، ونهى عن تركها ونقضها ، ثم جاء في الخبر أنه قال : «من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الّذى هو خير ، وليكفّر [عن] يمينه» (٢). أمر فيما فيه معصية بفسخها ، وأمر بوفاء ما لم يكن فيه معصية ، ونهي عن

__________________

 ـ من طرف واحد أم من طرفين ، ويقولون : كل ما عقد الشخص العزم عليه فهو عقد.

هذا معنى العقد لغة وشرعا ، أما قانونا : فعلماء القانون يعرفونه بقولهم : هو توافق إرادتين على إنشاء التزام أو نقله.

وهذا المعنى القانوني مخالف للمعنى الخاص له عند الفقهاء ، وإن ساواه في التحقق.

وقد شاع عند الفقهاء استعمال العقد في معناه الخاص ؛ حتى يكاد ينفرد هو بالاصطلاح ؛ ولذا إذا أطلقت كلمة العقد تبادر إلى الذهن معناه الخاص ، أما المعنى العام فلا تنصرف إليه كلمة العقد إلا بتنبيه يدل على التعميم ؛ حتى لا يكاد يوجد فقيه يطلق كلمة العقد ويريد الطلاق أو الإعتاق أو اليمين من غير قرينة تدل على مراده.

ينظر : لسان العرب (عقد) ، (حاشية ابن عابدين) (٤ / ٥٠) ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (٣ / ٢) ، وشرح المهذب (٩ / ١٤٩).

(١) الأيمان ـ لغة ـ : جمع يمين ، وهو القوة ، وفي الصحاح : اليمين : القسم ، والجمع : الأيمن ، والأيمان.

ينظر : الصحاح (٦ / ٢٢٢١) ، والمصباح المنير (٢ / ١٠٥٧) ، والمغرب (٢ / ٣٩٩) ، ولسان العرب (٣ / ٤٦٢) ، والقاموس المحيط (٤ / ٢٨١).

واصطلاحا : عرفه الحنفية بأنه : عقد قوي به عزم الحالف على فعل شيء أو تركه.

وعرفه الشافعية بأنه : تحقيق غير ثابت ، ماضيا كان أو مستقبلا ، نفيا أو إثباتا ، ممكنا أو ممتنعا ، صادقة أو كاذبة ، على العلم بالحال أو الجهل به.

وعرفه المالكية بأنه : تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله أو صفته.

وعرفه الحنابلة بأنه : توكيد حكم ـ أي : محلوف عليه ـ بذكر معظم ، أو هو المحلوف به على وجه مخصوص.

ينظر : تبيين الحقائق (٣ / ١٠٧) ، شرح فتح القدير (٤ / ٢) ، مغني المحتاج (٤ / ٣٢٠) ، المحلى على المنهاج (٤ / ٣٧٠) ، حاشية الدسوقي (٢ / ١١٢) ، شرح منتهى الإرادات (٣ / ٤١٩).

(٢) هو من حديث أبي هريرة ، من رواية أبي حازم عنه ، أخرجه مسلم (٣ / ١٢٧١ ـ ١٢٧٢) كتاب الأيمان : باب ندب من حلف يمينا ، فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ، ويكفر عن يمينه ، حديث (١١ / ١٦٥٠) ، والبيهقي (١٠ / ٣٢) كتاب الأيمان : باب من حلف على يمين فرأي خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه ، بلفظ : «من حلف على يمين فرأي غيرها خيرا منها ، فليأتها وليكفر عن يمينه» ، ومن رواية عبد العزيز بن المطلب عن سهيل بن أبي ـ

٤٣٥

نقضها بقوله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا ...) الآية [النحل : ٩١].

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) : وهي العهود ، وهو ما أحل وما حرم ، وما فرض وما حدّ ، في القرآن كله (١) ، وهو ما ذكرنا.

وقيل : إن العقود التي أمر الله ـ تعالى ـ بوفائها هي العهود التي أخذ الله ـ تعالى ـ على أهل الكتاب : أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويأخذوا بشرائعه ، ويعملوا بما جاء به (٢) ، وهو كقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [آل عمران : ١٨٧] ، وكقوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) [الآية](٣) [المائدة : ١٢].

فالخطاب لهم على هذا التأويل ؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث ، فلما بعث كفروا به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

قال بعضهم : هي الوحوش ، وهو قول الفراء (٤) ؛ ألا ترى أنه قال : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)؟!.

__________________

 ـ صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، أخرجه مسلم (١٣ / ١٢٧٢) كتاب الأيمان : باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها ، حديث (٣ / ١٦٥٠) من حديث عدي بن حاتم أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ، وأبو داود الطيالسي (١ / ٢٤٧) كتاب الأيمان والنذور : باب من حلف على يمين فرأي خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه ، حديث (١٢١٨) ، وأحمد (٤ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧ ، ٢٥٨) ، والدارمي (٢ / ١٨٦) كتاب الأيمان والنذور : باب من حلف على يمين فرأي غيرها خيرا منها ، ومسلم (٣ / ١٢٧٢ ـ ١٢٧٣) كتاب الأيمان : باب ندب من حلف يمينا فرأي غيرها خيرا منها ، أن يأتي الذي هو خير ، ويكفر عن يمينه ، حديث (١٦ ، ١٨ / ١٦٥١) ، والنسائي (٧ / ١٠ ـ ١١) كتاب الأيمان والنذور : باب الكفارة بعد الحنث ، حديث (٣٧٨٦) ، وابن ماجه (١ / ٦٨١) كتاب الكفارات : باب من حلف على يمين فرأي غيرها خيرا منها ، حديث (٢١٠٨) ، والحاكم (٤ / ٣٠٠ ـ ٣٠١) كتاب الأيمان والنذور : باب لا نذر في معصية الرب ، ولا في قطيعة الرحم ، والبيهقي (١٠ / ٣٢) كتاب الأيمان : باب من حلف على يمين فرأي خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه ، بلفظ : «فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه».

(١) أخرجه الطبري (٩ / ٤٥٢) ، رقم (١٠٩٠٧) ، والبيهقي في الشعب (٤ / ٧٨) رقم (٤٣٥٦) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٤٤٧).

(٢) قاله ابن جريج ، أخرجه عنه الطبري (٩ / ٤٥٤) رقم (١٠٩١٣).

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر : معاني القرآن (١ / ٢٩٨) ، وقال الطبري (٩ / ٤٥٧): «وقد قال قوم : بهيمة الأنعام : وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر».

٤٣٦

وقال الحسن : هي الإبل والبقر والغنم (١).

وقال آخرون (٢) : البهيمة : كل مركوب.

لكن عندنا (٣) : كل مأكول من الغنم ، والوحش ، والصيد ، وغيره ، وإن لم يذكر.

دليله ، ما استثنى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ؛ كأنه قال : أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا ما يتلى عليكم من (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ) الآية [المائدة : ٣] (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)

دل قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) على أن الصيد فيه كالمذكور ، وإن لم يذكر ؛ لأنه استثنى الصيد منه ، وأبدا : إنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان فيه ذلك ، وأما إذا لم يكن ؛ فلا معنى للاستثناء ، فإذا استثنى الصيد دل الاستثناء على أن الصيد فيه ، وإن لم يذكر.

ودل قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] على أن النهي كان عن الاصطياد في حال الإحرام لا (٤) عن أكله ؛ لأن للمحرم أن يأكل صيدا صاده حلال.

ودل قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) على أن الصيد قد دخل في قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) على ما ذكرنا فيما تقدم : أن البيان في الجواب يدل على كونه في السؤال ، وإن لم يكن مذكورا في السؤال ؛ فعلى ذلك تدل الثنيا من الصيد على كونه فيه ، والله أعلم.

ويحتمل (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الثمانية الأزواج التي ذكرها في سورة الأنعام : (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ...) إلى آخر ما ذكر [الأنعام : ١٤٣].

والآية تدل على أن الذي أحل من البهائم ـ الأنعام منها ـ ثمانية ؛ دل عليه قوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [النحل : ٥] ثم قال : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨] ؛ ففصل بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير ؛ [فالخيل والبغال والحمير] خلقها للركوب ، والأنعام للأكل.

وقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)

كأنه قال : أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد ، (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) : يحتمل : يتلى على الوعد ، أي : يتلى عليكم من بعد ما ذكر على أثره : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ...) إلى آخره [المائدة : ٣] ، ويحتمل : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وهو ما ذكر.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٩ / ٤٥٥) ، رقم (١٠٩١٥) ، وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٤٤٨).

(٢) في ب : غيره.

(٣) أي : في مذهب الحنفية.

(٤) في أ : ولا.

٤٣٧

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «إلا ما يتلى عليكم فيها» ، في سورة الأنعام : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) إلى آخره [الأنعام : ١٤٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)

هذا ـ والله أعلم ـ أي : إلى الله الحكم ، يحكم بما شاء من التحريم والتحليل ، فيما شاء ، على ما شاء ، ليس إليكم التحكم عليه ، وهذا ينقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : يريد طاعة كل أحد ، ولو أراد ذلك لحكم ؛ لأنه أخبر أنه يحكم ما يريد ، ولا جائز أن يريد ولا يحكم ؛ فدل أنه : لم يرد ؛ لأنه لو أراد لحكم ، وبالله العصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ).

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ، ويهدون الهدايا ، ويعظمون حرمة المشاعر ، وينحرون في حجهم ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) ، يعني : لا تستحلوا قتالا فيه ، (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ...)(١) الآية.

وقال غيره : قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ، يعني : المناسك ، لا تستحلوا ترك شعائر الله (٢) ، والشعائر هن المناسك ؛ ألا ترى أن الله ـ تعالى ـ سمي كل منسك (٣) من الحج شعائر الله؟! كقوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [البقرة : ١٥٨] ، وقال : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [الحج : ٣٦] ، كل هذا من شعائر الله ، وهن معالم الله في الحج.

وقيل : شعائر الله : فرائض الله ؛ كأنه قال : لا تستحلوا ترك ما فرض الله عليكم (٤).

وقال الحسن : (شَعائِرَ اللهِ) : قال : دين الله (٥) ، وهو واحد.

وقيل في قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ...) حتى بلغ (الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) [المائدة : ٩٧] ، فقال : حواجز أبقاها (٦) الله بين الناس في الجاهلية ؛ فكان الرجل لو جر

__________________

(١) أخرجه الطبري (٩ / ٤٦٣) رقم (١٠٩٤١) وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٤٩).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٩ / ٤٦٣) رقم (١٠٩٤٠).

(٣) في ب : نسك.

(٤) أخرج الطبري (٩ / ٤٦٢) ، رقم (١٠٩٣٨) عن عطاء : أنه سئل عن «شعائر الله» ؛ فقال : حرمات الله : اجتناب سخط الله ، واتباع طاعته ، فذلك شعائر الله. وأخرجه ابن المنذر أيضا كما في الدر المنثور (٢ / ٤٥٠) ، وهو أولى التأويلات ، قاله الطبري.

(٥) ينظر : الوسيط في تفسير القرآن المجيد (١ / ٢٤٣).

(٦) في الأصول : أبقاه.

٤٣٨

جريرة وارتكب كبيرة ، ثم لجأ إلى حرم الله ـ تعالى ـ لم يتناول ولم يطلب ، ولو لقي قاتل أبيه في الأشهر الحرم لم يتعرّض له ، وكان الرجل لو لقي الهدى مقلدا ـ وهو يأكل العصب (١) من الجوع ـ لم يعرض له ، ولم يقربه ؛ فإذا أراد البيت يقلّد قلادة من شعر ؛ فحرمته ومنعته من الناس حتى يأتي أهله (٢).

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ، أي : لا تستحلوا ما أشعركم الله حرمته ، وهو من الأعلام ، ويحتمل أن يكون أراد به مشاعر الحرام الذي ذكرنا.

وقال : لا تحلّوا الحرام ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ولا القلائد.

وهذه أمور كانت من قبل فنسخت بقوله ـ تعالى ـ : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ...) الآية [التوبة : ٥]. وعن الشعبي [أنه](٣) قال : لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية ؛ نسخها : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا)(٤) [التوبة : ٢٨] ، وقوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ...) الآية [التوبة : ٥]. وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «إنها آخر ما أنزل ؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه» (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) فهو (٦) هو كقوله ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٧]

وقد ذكرنا أن الله ـ عزوجل ـ أطلق الحرم في الشهر الحرام بعد ما كان محظورا بقوله ـ تعالى ـ : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

وأما قوله : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ)(٧).

__________________

(١) أي : شجرة اللبلاب. ينظر المعجم الوسيط (٢ / ٦٠٣).

(٢) في الأصول : حواجز أبقاه الله بين الناس في الجاهلية ؛ أمانا لهم ، والله أعلم ولعلها جملة تفسيرية.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه الطبري (٩ / ٤٧٥) ، رقم (١٠٩٦٤) ، وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس كما في الدر المنثور (٢ / ٤٤٧).

(٥) أخرجه أحمد (٦ / ١٨٨) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٣٣٣) كتاب التفسير : باب قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] (١١١٣٨) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٣١١) ، والبيهقي (٧ / ١٧٢) من طريق معاوية بن صالح أبي الزاهرية حدير بن كريب ، عن جبير بن نفير قال : دخلت على عائشة ، فقالت لي : «هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت : نعم. قالت : أما إنها آخر سورة نزلت ؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه». وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤٤٦) وزاد نسبته إلى أبي عبيد في فضائله ، والنحاس في ناسخه ، وابن المنذر وابن مردويه.

(٦) في الأصول : وهو.

(٧) قال القرطبي (٦ / ٢٩) : لا يجوز بيع الهدى ولا هبته إذا قلّد أو أشعر ؛ لأنه قد وجب ، وإن مات ـ

٤٣٩

فهو (١) ما ذكرنا من صنيعهم في الجاهلية فيما ذكرنا ، وفيه دليل لقول أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ حيث قالوا : إن الغنم لا تقلد (٢) ، والإبل والبقر تقلد ؛ لأنه ذكر الهدي والقلائد ؛ فدل أن من الهدي ما يقلد ، ومنه ما لا يقلد.

(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ).

أي : قاصدين البيت الحرام.

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً).

قيل : إن المشركين كانوا يقصدون البيت الحرام يلتمسون (٣) فضل الله ورضوانه ؛ بما يصلح لهم دنياهم (٤) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [البقرة : ٢٠٠]. وقد يجوز أن يكونوا لما التمسوا عند أنفسهم رضوان الله ـ أمر الله المؤمنين بالكف عنهم ، وإن كانوا قد غلطوا في توجيه العبادة ؛ فجعلوها لغير الله ؛ كقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) [هود : ١٥].

__________________

 ـ موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه ؛ بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول ؛ فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال : جعلت هذه الشاة أضحية تعينت ؛ وعليه ؛ إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها ؛ فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول أحمد وإسحاق. وقال الشافعي : لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت ، إنما الإبدال في الواجب.

(١) في الأصول : وهو.

(٢) تقليد البهيمة : هو أن يجعل في عنقها ما يدل على أنها هدية إلى البيت ؛ فيترك التعرض لها من كل أحد ؛ تعظيما للبيت وما أهدى إليه. ولا خلاف في أن من السنة تقليد الهدى إن كان من الإبل أو البقر ، أما الغنم فقد اختلف في تقليدها :

فذهب الحنفية والمالكية إلى أنها لا تقلد ، وليس تقليدها سنة ، قال الحنفية : لأنه غير معتاد ، ولأنه لا فائدة في تقليدها ؛ إذ فائدة التقليد عدم ضياع الهدى ، والغنم لا تترك ، بل يكون معها صاحبها. قال القرطبي : وكأنهم لم يبلغهم حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في تقليد الغنم ، ونصه : قالت : «أهدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها» ، أو بلغهم ولكنهم ردوه ؛ لانفراد الأسود به عن عائشة.

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يسن تقليدها أيضا ؛ للحديث السابق ، ولأنها هدى فتقلد ؛ كالإبل. وينص الحنفية على أنه ليست كل أنواع الهدى تقلد ؛ بل يقلد هدي التطوع وهدي التمتع والقرآن ؛ لأنه دم نسك ، وفي التقليد إظهاره وتشهيره ؛ فيليق به.

ينظر : تفسير القرطبي (٦ / ٤٠) ، وفتح القدير (٢ / ٤٠٧) ، (٣ / ٨٤) ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (٢ / ٨٩) ، والمغني (٣ / ٥٤٩) ، والجمل على المنهج (٢ / ٤٦٦).

(٣) في ب : فيلتمسون.

(٤) قاله قتادة ، أخرجه عنه عبد الرزاق في التفسير (١ / ١٨٢) ، وعنه الطبري (٩ / ٤٨٠) ، رقم (١٠٩٧٩) ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٥١).

٤٤٠