تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) هم الذين يتوبون عند معاينتهم الموت ؛ أخبر أنه لا يقبل توبتهم ؛ لأنهم يتوبون توبة دفع واضطرار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) لا تقبل توبتهم ، لأنهم يتوبون في الآخرة ؛ دفع العذاب عن أنفسهم ؛ كقوله تعالى : (ما أَشْرَكْنا) [الأنعام : ١٤٨] و (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)(١٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً).

قال بعضهم : كان يجوز لهم أن يرثوا النساء طوعا ؛ لأنه إنما نهي أن يرثوهن كرها ، فكان فيه دليل جواز وراثتهن طوعا.

وأما عندنا : فإنه ليس فيه دليل جواز وراثتهن طوعا ، وإن كان النهي إنما كان في حال الكره ؛ لأن الأصل عندنا : أن ليس في حظر الحكم في حال دليل إباحته في حال أخرى ، ولا في إباحته في حال دليل حظره في حالة أخرى ، ولا في حله في حال دليل حرمته في حال أخرى ، ولا في حرمته في حال دليل حله في حال أخرى ، دليل ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] ليس على أن لهم أن يقتلوا إذا لم يخشوا الإملاق ، وقوله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) [الأحزاب : ٥٠] ليس فيه أنه لا يحل له ؛ إذا لم يؤت أجورهن ، وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) [النساء : ٣].

والقصة في الآية ما قيل : إن الرجل إذا مات وترك امرأة ، كان أولياؤه أحق بامرأته من ولى نفسها : إن شاءوا تزوجوها وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يتزوجوها ؛ فنزلت الآية في ذلك.

[وقيل ـ أيضا ـ : كانوا](١) في أول الإسلام إذا مات الرجل أقبل أقرب الناس منه فيلقي على امرأته ثوبا فيحدث (٢) نكاحها طوعا وكرها ؛ فنزلت الآية في ذلك (٣).

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : وقيل كانوا أيضا.

(٢) في ب : خيرت.

(٣) أخرجه بنحوه ابن جرير (٨ / ١٠٧ ـ ١٠٩) (٨٨٧٧) عن السدي ، و (٨٨٧٨) عن الضحاك ، (٨٨٨٢) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٤) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

٨١

والآية عندنا خرجت مخرج بيان التحريم على ما كانوا يفعلون ؛ دليل ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) نهي الأبناء أن ينكحوا ما نكح آباؤهم من النساء ؛ فدل أن النهي كان في الحالين جميعا : في حال الكره والرضا ، والله أعلم.

وفي قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ...) الآية ، تحتمل حرمة وراثتهن أبدا ، وأن ذكره «كرها» لأوجه :

أحدها : أن ليس في ذكر الحرمة في وجه أو ذكر الحكم في حال دلالة تخصيص الحال ؛ كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] ، وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) [النساء : ٣] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) [الأحزاب : ٥٠] أنهن يحللن وإن لم يؤتين أجورهن ، وإذا لم يصر ذلك شرطا صار كأنه قال الله ـ عزوجل ـ : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) ، والله أعلم.

والثاني : أن تكون الوراثة أبدا تكون كرها ويجب الميراث سواء من فيه وله أولاد إذا كان وجه الوراثة ، فذكره ذلك وغير ذلك سواء.

والثالث : أنهم كانوا يتوارثون النكاح ، وهو أمر لا يحتمل الانقسام ، ولا عند الاشتراك بالاستمتاع (١) ، فكان ذلك على تراض منهم لواحد.

أو [أن](٢) يكون فيما كانت الوراثة ترجع إلى واحد ؛ فيكون ذلك له بحق النكاح لا الميراث ، فإذا حرم النكاح في حق من يرث من الذكور ـ وهم الآباء والأبناء ـ فبطل الميراث لو كان يجوز أن يورث.

ثم دلت هذه الآية في قطع وراثة منافع الأبضاع ، وملك الأبضاع أدوم من ملك الإجارات ؛ فيجب أن يكون قطع الإجارات أولى.

ودليل آخر على بطلان الوراثة : أن المرأة قد ترث الميراث ؛ فتكون وراثة بعض نفسها ، فبطل من حيث يراد إثباته.

وقوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) اختلف فيه :

قال بعضهم : هو معطوف على [ما تقدم](٣) ، وهو ما ذكرنا من الوراثة ، [نهى أن](٤)

__________________

(١) في ب : الاستمتاع.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : الأول.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في ب : نهي هو أن

٨٢

يعضلوهن ؛ ليذهبوا ما آتوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ؛ قيل : لم يكن يومئذ عقوبة ؛ إذا أتت المرأة بفاحشة سوى أخذ المهور منها ، وكانوا يمسكونها على الوراثة ، فإذا أتت بفاحشة [أخذ](١) ما آتاها ، ثم يسرحها.

فإن قيل : إنما نهاها عن الوراثة ؛ لأن الولي إذا ورثها ورثت هي نفسها ؛ فيبطل بذلك ، فالنهي لذلك.

قيل : لو كان لذلك فالمرأة إذا كانت ممن لا ترث عن الزوج مملوكة يجىء أن يحل ذلك ؛ إذ لا وراثة ثمّ ، فإذا لم يجز دل أنها خرجت على بيان التحريم ، والله أعلم.

وقيل : في قوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) على الابتداء ، ليست على الأول ، نهي الزوج أن يأخذ منها ما آتاها من المهر إلا أن يأتين بفاحشة مبينة (٢).

ثم اختلف في قوله ـ تعالى ـ : الفاحشة.

[قال بعضهم : هو الزنا (٣) ، وهو ما ذكرنا.

وقال آخرون : الفاحشة](٤) ـ هاهنا ـ هو النشوز (٥) ، أي : إذا نشزت فلا بأس أن يأخذ منها ما آتاها.

وقيل : هو ما ذكره ـ عزوجل ـ في آية أخرى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) [البقرة : ٢٢٩] لا تأخذوا منه شيئا : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] نهى الأزواج أن يأخذوا منهن شيئا إلا عند ما يخافا ألا يقيما حدود الله ، فحينئذ أباح أخذ ما افتدت به ، فعلى ذلك قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، وهو ما ذكرنا من النشوز وخوف ترك إقامة حدود الله ؛ فعند ذلك أباح له أخذ ما آتاها ، والله أعلم.

وقوله : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) اختلف فيه :

قيل : هو كقوله ـ تعالى ـ : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٣١]

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه ابن جرير بمعناه (٨ / ١١٥) (٨٨٩٤) عن عطاء الخراساني ، و (٨٨٩٥) (٨٨٩٦) عن أبي قلابة. وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٦) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ١١٦) (٨٨٩٧) عن السدي ، (٨٨٩٨) عن الحسن البصري ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٦).

(٤) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٥) رواه ابن جرير (٨ / ١١٦ ـ ١١٧ (٨٨٩٩) عن ابن عباس ، و (٨٩٠١) و (٨٩٠٤) عن الضحاك بن مزاحم ، (٨٩٠٢) عن عطاء بن أبي رباح وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٥).

٨٣

وكقوله ـ تعالى ـ : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ) [البقرة : ٢٢٩].

وقيل : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(١) : في كلامها ، وبرّها ، والإنفاق عليها ، والإحسان إليها والاجتناب عما لا يليق بها من الشتم والإيذاء ، وغير ذلك (٢).

(وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يحتمل : بالفضل ، ويحتمل : كما لو فعل بك مثل ذلك لم تنكره ، بل تعرفه وتقبله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) قيل فيه بوجهين :

قيل : كرهتم صحبتهن من قبحهن ودميمتهن (٣) ، أو سوء خلقهن ، فصبرتم على ذلك (وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)

قيل : يهب لكم منهن أولادا تقر بهم أعينكم ، أو يعطى لكم في الآخرة ثوابا جزيلا بصحبتكم إياهن (٤).

وقيل [في](٥) قوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) أي : كرهتم فراقهن (٦) ، ويجعل الله

__________________

(١) قال القرطبي (٥ / ٦٥) : استدل علماؤنا بقوله ـ تعالى ـ : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ١٩] على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها ، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيهما خادم واحد ، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف. وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزمه إلا خادم واحد ، وذلك يكفيها خدمة نفسها ، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها ؛ وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد ؛ لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس واحد.

قال علماؤنا : وهذا غلط ؛ لأن مثل بنات الملوك اللائي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد ؛ لأنها تحتاج من غسل ثيابها وإصلاح مضجعها وغير ذلك ما لا يقوم به الواحد وهذا بيّن.

قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٧٠ ـ ٧١) : قال السيوطي في الإكليل : في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقسم واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب.

واستدل بعمومها من أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها.

وقال : قوله تعالى : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) يعني : كرهتم الصحبة منهن ، (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ....) [النساء : ١٩] الآية ، أي : ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا يكون فيه خير كثير. وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان عليهن على خلاف الطبع.

وفي «الإكليل» : قال الكيا الهراسي : في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس. وفيها دليل على أن الطلاق مكروه.

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٦) وعزاه لابن المنذر عن عكرمة مولى ابن عباس.

(٣) في ب : وذميمتهن.

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ١٢٢ ـ ١٢٣) (٨٩١٠) عن السدي ، و (٨٩١١) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٥) سقط من ب.

(٦) ينظر : البحر المحيط لأبي حيان (٣ / ٢١٣ ـ ٢١٤).

٨٤

في الفراق خيرا كثيرا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) [النساء : ١٣٠].

قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)(٢٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً)(١) والقنطار : قيل : مائة رطل.

وقيل في حرف ابن مسعود : «قنطارا من الذهب».

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : إن كرهت امرأتك أو أعجبتك (٢) غيرها ؛ فطلقت هذه وتزوجت تلك ، فأعط هذه مهرها وإن كان قنطارا.

والقنطار : اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار.

وقيل : القنطار ألف ومائتا دينار ، فهذا على التمثيل ، ليس على التقدير ، ووجه النهي والوعيد في ذلك ـ والله أعلم ـ ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ النّساء عندكم عوان ، اتّخذتموهنّ بأمانة الله ـ تعالى ـ واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله تعالى» (٣) فوعد ـ عزوجل ـ الأزواج في غير آى من القرآن عن أخذ مهور النساء وغيرها من الأموال ؛ لضعفهن في أنفسهن ، والرجال هم القوامون عليهن (٤) ؛ لئلا يبسط الأزواج في أموالهن ؛ إشفاقا عليهن ، أو لما إذا أخذ منها مهرها تبقى تلك المنفعة بلا بدل ، وذلك زنا ؛ وعلى هذا يجىء ألا يجوز له أن يخلطها ؛ لأنه إذا أخذ منها مهرها بقيت له المنفعة بلا بدل ، لكنه أجيز له ذلك ؛ لأنه تقلب في الملك ، وكل من تقلب في ملكه ببدل يأخذه جاز له ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً)

__________________

(١) قال القرطبي : اختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق ، وكان منها نشوز وسوء عشرة ـ : فقال مالك : للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعي تسببه هو. وقال جماعة من العلماء : لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك.

(٢) في ب : أعجبك.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ١١٩) (٨٩٠٦) بلفظه عن جابر بن عبد الله ، وبألفاظ متقاربة وأخرجه بطوله مسلم في صحيحه (٢ / ٨٨٦ ـ ٨٩٢) في الحج : باب حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٢١٨) ، وأحمد (٣ / ٣٢٠) ، وأبو داود (٢ / ١٨٢ ـ ١٨٦) في كتاب الحج : باب صفة حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٩٠٥).

(٤) في ب : على النساء.

٨٥

قيل : ظلما بغير حق (١).

وقيل : إذا أراد طلاقها لا يضارها بكذب لتفتدي منه مهرها (٢).

(وَإِثْماً مُبِيناً) : ويحتمل أن يكون البهتان والإثم واحدا (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ)(٤)

قيل : الإفضاء : هو الجماع (٥). والأشبه أن يكون الإفضاء : الاجتماع ؛ لأنه أضاف إليهما جميعا ، فهو بالاجتماع أشبه وإليه أقرب ؛ فيجب المهر بالاجتماع والخلوة بها ، والجماع (٦) فعل الزوج ، يضاف إليه خاصة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)

قيل : عقدة النكاح (٧).

وقيل : هو ما ذكرنا في قوله ـ تعالى ـ : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩].

وقيل : الميثاق الغليظ ما ذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اتّقوا الله فى النّساء ؛ فإنّكم إنّما اتّخذتموهنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ، وإنّهنّ عندكم عوان لا يملكن من أمرهنّ شيئا» (٨).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيّها النّاس ، إنّ لكم على نسائكم حقّا ، وإنّ لهنّ عليكم حقّا ، وإنّ من حقّكم عليهنّ ألّا يوطئنّ فرشكم ، ولا يأذنّ فى بيوتكم لأحد تكرهونه ، ولا يأتين

__________________

(١) ينظر : تفسير ابن جرير (٨ / ١٢٤).

(٢) ينظر : البحر المحيط (٣ / ٢١٥ ، ٢١٦).

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٤) قال القرطبي (٥ / ٦٧) : وقال ابن زيد وغيره : هي منسوخة بقوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) [البقرة : ٢٢٩] والصحيح أن هذه الآيات محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبني بعضها على بعض. قال الطبري : هي محكمة ، ولا معنى لقول بكر : إن أرادت هي العطاء ؛ فقد جوز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها.

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ١٢٦) (٨٩١٥ ، ٨٩١٦) عن ابن عباس ، و (٨٩١٧) (٨٩١٨) عن مجاهد ، و (٨٩١٩) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولعبد بن حميد عن مجاهد.

(٦) في ب : والاجتماع.

(٧) رواه ابن جرير (٨ / ١٢٨) (٨٩٢٣) عن قتادة ، و (٨٩٢٧ ، ٨٩٢٨) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٨) وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٨) أخرجه ابن جرير ٨ / ١٢٩ ، (٨٩٣٤) عن عكرمة ، (٨٩٣٥) عن الربيع ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٨) وعزاه لابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد.

٨٦

بفاحشة مبيّنة ، فإن هنّ فعلن ذلك فقد أحلّ الله لكم أن تضربوهنّ ضربا غير مبرّح ـ يعني : غير شائن ـ وإنّ من حقّهنّ عليكم الكسوة والنّفقة بالمعروف» (١).

وقيل : إن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما ذا يحل لنا من نسائنا؟ وما يحرم علينا منهن؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرثك ، فأته أنّى شئت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبّحه (٢) ، ولا تهجرها إلّا فى بيتها ، وأطعمها إذا أكلت ، واكسها إذا اكتسيت» (٣).

وقيل : الميثاق الغليظ : ما أقروا به من قول الله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٣١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) حرم ـ الله تعالى ـ على الأبناء نكاح نساء الآباء ، وذلك أنهم كانوا يعملون في الجاهلية ما قيل في القصة : أن أبا قيس توفي فعمد ابنه ـ يقال له : محصن (٤) ـ فتزوج امرأة أبيه ، فنهي الله ـ تعالى ـ عن ذلك ، فقال ـ عزوجل ـ : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ)(٥).

وقيل : إن رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج سالّا سيفه ؛ فقيل له : ما شأنك؟ فقال : إن رجلا تزوج بامرأة أبيه (٦) ، فهذا إذا تزوجها مستحلّا لها ، فهو يكفر لذلك : كأن قصد قتله ؛ وكذلك حرم الله ـ سبحانه وتعالى ـ على الآباء نكاح نساء الأبناء بقوله ـ تعالى ـ : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً)(٧) : أي : إنكم إذا انتهيتم عن ذلك في الائتناف يغفر لكم ما قد سلف ، وإن كان فاحشة

__________________

(١) تقدم قريبا.

(٢) في ب : تقبح.

(٣) أخرجه أحمد (٥ / ٣ ، ٥) ، والطبراني في الكبير (١٩ / ٤١٥) عن معاوية بن حيدة.

(٤) محصن بن أبي قيس بن الأسلت الأنصاري ، ذكره الطبري ، وابن سعد في الطبقات ، وروى عنه محمد بن كعب القرظي.

تنظر ترجمته في : الإصابة ترجمة (٧٧٦٥).

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ١٣٧) (٨٩٤٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٣٩).

(٦) أخرجه الترمذي (٣ / ٣٥) كتاب الأحكام «باب فيمن تزوج امرأة أبيه» ، رقم (١٣٦٢) ، وقال : حسن غريب. وأحمد ٤ / ٢٩٠ ، ٢٩٢ ، ٢٩٥ ، ٢٩٧ ، وابن أبي شيبة (١٠ / ١٠٤) ، وأبو داود (٢٠ / ٥٦٢) في الحدود : باب في الرجل يزنى بحريمه (٤٤٥٧) ، وابن ماجة في سننه (٤ / ٢٠٤) في الحدود : باب من تزوج امرأة أبيه من بعده (٢٦٠٧) ، والبيهقي في سننه (٧ / ١٦٢).

(٧) قال القرطبي (٥ / ٦٩) : المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء ، إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة ؛ فإنه جائز ، لكن زواجهن. وأن تطئوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى ، قاله ابن زيد ، وعليه فيكون الاستثناء متصلا ، ويكون أصلا في أن الزنى لا يحرم على ما يأتي بيانه.

٨٧

وقيل : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قبل : التحريم.

(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي : صار فاحشة في الإسلام :

(وَمَقْتاً) قيل : بغضا.

(وَساءَ سَبِيلاً) أي : بئس المسلك تزوج النساء الآباء.

ويحتمل أن تكون الآية في الطلاق ؛ إذ كان الرجل يطلق امرأته ثمّ يندم على طلاقها ، فيتزوجها ابنه ، فيمقت ذلك الأب ويبغض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَساءَ سَبِيلاً) : أي : بئس السبيل نكاح امرأة أبيه ، حيث مقت أبيه وبئس مقت أبيه المسلك.

قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٢٣)

وقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ)(١) إلى آخره ، يحتمل وجهين :

يحتمل : أي : حرم عليكم الاستمتاع بأمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ... وما ذكر ، والجماع بهن.

ويحتمل : حرمة النكاح ، أي : حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ، فإن كان هذا أراد ، فلا يحرم النكاح لنفس النكاح ، ولكن يحرم النكاح ؛ لما به يوصل إلى الاستمتاع بالنساء ، وإليه يقصد ؛ فدل أنه يحرم الجمع بين الأختين في الاستمتاع في ملك اليمين ، ولا يحرم الجمع بينهما في العقد.

ثم ذكر الحرمة في الأمهات والبنات والأخوات ، ولم يذكر في الجدات فهن محرمات وإن علون ، ولم يذكر في بنات البنات ، فهن محرمات وإن سفلن.

__________________

(١) قال القرطبي (٥ / ٧٠) : فالسبع المحرمات من النسب : الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت. والسبع المحرمات بالصهر والرضاع : الأمهات من الرضاعة ، والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء ، والربائب ، وحلائل الأبناء ، والجمع بين الأختين ، والسابعة (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) [النساء : ٢٢] قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه ، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن ؛ فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم ؛ وبهذا قول جميع أئمة الفتوى بالأمصار.

٨٨

فعندنا : أن ذكر الحرمة في الأمهات والبنات ذكر في الجدات وإن علون ، وفي بنات البنات وإن سفلن ؛ لأنه ذكر الحرمة في العمات والخالات ، والعمات من ولد الجدّ ، والخالات من ولد الجدات ، فإنما ذكرت في الأولاد الحرمة ، ثبت حرمة الجدات والأجداد ، وكذلك ذكر الحرمة في الأخوات وبنات الأخوات ، فالحرمة في بنات الأخ والأخوات لحرمة في الأخوات والإخوة ، فعلى ذلك ذكر في الأمهات ذكر الحرمة في البنات وبنات البنات ، لما ذكرنا.

أو [أن](١) يقال : إن بنات البنات بنات وإن سفلن ، فدخلن في ذكر الحرمة نصّا ، وكذلك أم الأم [أمّ] وإن علت ، فدخلت في الخطاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ)

ذكر الأمهات من الرضاعة والأخوات ، ولم يذكر البنات ، قال بشر : إنما لم يذكر البنات من الرضاعة ؛ لأنه لا يمكن من الرضاعة البنات ؛ لذلك لم يذكر ، وذلك اختلاف بيننا وبينه في لبن الفحل ، فعندنا لبن الفحل محرم ، وعند بشر لا يحرم لبن الفحل ، ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الحرمة في النسب بيننا وبيّن بيان إحاطة وحقيقة ، وذكر الحرمة في الرضاع ، وبين بيان كفاية لا بيان إحاطة ؛ فإما أن [تركه](٢) للاجتهاد والاستنباط من المذكور ، وقد أجمعوا جميعا أن بنات الإخوة والأخوات من الرضاع كالذكر في أولادها ؛ فعلى ذلك يجب أن يكون ذكر الحرمة في الأمهات من الرضاعة ذكرا في بناتها ، أو ترك بيان ذلك للسنة : روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب» (٣) ، وما روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : جاء عمّي من الرضاعة ، فاستأذن علىّ ، فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألته [عن ذلك](٤)؟ فقال : «إنّه عمّك ، فأذنى له» فقلت : يا رسول الله ، إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل؟! فقال [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٥) : «إنّه عمّك ، فليلج عليك» فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : وذلك بعد أن ضرب علينا الحجاب (٦).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : ترك ذلك.

(٣) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٢٣) في النكاح : باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع (٥٢٣٩) ، ومسلم (٢ / ١٠٧١) في الرضاع : باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة (١٤٤٦).

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب : عليه‌السلام.

(٦) أخرجه البخاري (٥ / ٥٨٠) في الشهادات : باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم (٢٦٤٦) ، ومسلم (٢ / ١٠٦٨) في الرضاع : باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ، (١٤٤٤). والبيهقي في سننه الكبرى (٧ / ٤٥١).

٨٩

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ سئل عن رجل له امرأتان ، أو جارية وامرأة ، فأرضعت هذه جارية وهذه غلاما ، هل يصلح للغلام أن يتزوج الجارية؟ فقال : لا ؛ اللقاح واحد.

وعن عمرة ، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أنها أخبرتها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عندها ، وأنها سمعت رجلا يستأذن في بيت حفصة ـ رضي الله عنها ـ قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : فقلت : يا رسول الله ، هذا رجل يستأذن في بيتك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أراه فلانا» ـ لعم حفصة من الرضاعة ـ فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : يا رسول الله ، لو كان فلان حيّا ـ لعمها من الرضاعة ـ دخل علىّ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ؛ إنّ الرّضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة» (١).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : لا تنكح من أرضعته امرأة أبيك ، ولا امرأة أخيك ، ولا امرأة ابنك.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أن أفلح أخا أبي القعيس (٢) جاء فاستأذن عليها ـ وهو عمها من الرضاعة ـ بعد أن نزل الحجاب ، قالت : فأبيت أن آذن له ، فلما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته بالذي صنعت ، فأمرني بأن آذن له علىّ (٣).

وحجة أخرى من النظر : بأن الله ـ تعالى ـ حرم الابنة (٤) على أبيها ، وعلى جدها ، والابنة (٥) حدثت عن ماء الأب بعينه ، ولم تحدث عن ماء الجدّ ، ولكن الجدّ سبب ماء الأب الذي حدثت عنه الابنة (٦) ، قال : فاللبن ـ وإن كان حدوثه من الأمّ ـ فإن سبب كونه هو الأب ؛ فيجب أن تحرم المرأة التي أرضعتها امرأته عليه ؛ إذا كان سببا لذلك اللبن ، كما يحرم المرضع إذا كان سببا على التي أرضعته.

ثم بقيت مسألتان :

إحداهما : في التقدير ، والأخرى في الحدّ.

__________________

(١) تقدم قريبا.

(٢) أفلح بن أبي القعيس ، وقيل أفلح أبو القعيس ، وقيل أخو أبي القعيس ، وصوّبه ابن الأثير في أسد الغابة.

تنظر ترجمته في : أسد الغابة (١ / ٢٦٢) ، الوافي بالوفيات (٩ / ٢٩٩) ، الإصابة : ترجمة رقم (٢٢٧).

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) في ب : البنت.

(٥) في ب : البنت.

(٦) في ب : البنت.

٩٠

أمّا في التقدير : فعموم قوله ـ تعالى ـ : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) لم يخص قدرا دون قدر.

وروي عن على وعبد الله قالا : قليل الرضاع وكثيره سواء.

وعن ابن عباس كذلك.

وعن عبد الله بن عمر قال : الرضعة الواحدة تحرم (١).

فإن قيل : روى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : كان فيما نزل عشر رضعات ، ثم صرن إلى خمس ، فتوفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فيما يقرأ (٢).

فإن قيل : لسنا نجد في القرآن آية الناسخ ولا آية المنسوخ ، ولا يجوز أن يقال من القرآن شيء ؛ فلا نترك ما نجده ثابتا [في القرآن](٣) ، محفوظا برواية لعلها قد غلطت فيها.

وروي عنها أنها قالت : يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم (٤).

وروي عنها [ـ أيضا ـ](٥) أنها قالت : لا تحرم المصّة والمصّتان ، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان (٦) : فذكر ذلك لابن عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : حكم الله أولى وخير ، أو كلام نحو هذا من حكمها.

وعن عمرو بن دينار (٧) قال : سألت ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فذكر شيئا من الرضاع ، فقال : لا نعلم إلا أن الله ـ تعالى ـ حرم الأختين من الرضاعة ، قال : فقلت : إن أمير المؤمنين ابن الزبير يقول : لا تحرم المصة والمصتان قال : فقضاء الله خير من

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٠) وعزاه لابن أبي شيبة عن على وابن مسعود.

(٢) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٧ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠) (١٣٩٢٨) ، والبيهقي في سننه (٧ / ٤٦١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٤١).

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٧ / ٤٦٣) (١٣٨٩٥) ، والبيهقي في سننه (٧ / ٤٦١) عن عبد الله بن مسعود.

(٥) سقط من ب.

(٦) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٧ / ٤٦٨) (١٣٩٢٢) ، والبيهقي في الكبرى (٧ / ٤٥٨). وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٤١).

والإملاجة : المصة والرضعة. ينظر : اللسان (٦ / ٤٢٥٤) (ملج).

(٧) عمرو بن دينار الجمحي ، أبو محمد المكي ، أحد الأعلام ، روى عن العبادلة وكريب ومجاهد ، وغيرهم ، وروى عنه قتادة وأيوب وشعبة وغيرهم ، كان ثقة ثقة ثقة. مات سنة ١١٥ ه‍.

تنظر ترجمته في : الخلاصة للخزرجي (٢ / ٢٨٤) ، تقريب التهذيب : ترجمة (٥٠٥٩).

٩١

قضائك وقضاء أمير المؤمنين (١). مع ما يحتمل قوله : لا تحرم المصة والمصتان ، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان ؛ لما لم يتحقق بالمصة والمصتين أن اللبن قد صار في جوف الصبي ووصل إليه ؛ فلذلك لم يحرم به.

وأما المسألة في الحد : أن الرضاع في الكبر لا يحرم عندنا ، [و](٢) ما روي في خبر عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها ، فرأى عندها رجلا ، فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «من هذا؟» قالت : إنه عمي من الرضاعة ، فقال : «انظري ما الرّضاعة؟ إنّما الرّضاعة من المجاعة» (٣). وما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الرّضاع ما أنبت اللّحم ، وأنشز العظم» (٤) ، وما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الرّضاع ما فتّق الأمعاء» (٥) وفتق الأمعاء ، إنما يكون في الصغر ؛ لأن أمعاء الصبي تكون ضيقة لا تحتمل الطعام لضيقها ، وأما فتقها باللبن على ما وصفه ـ عزوجل ـ لبنا خالصا سائغا للشاربين ، فإذا كان غذاؤه إنما يكون باللبن ـ للمعنى الذي وصفنا ـ كانت كفاية مجاعته به ، وكان هذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما الرّضاعة من المجاعة» (٦) وكذلك ما روي : «الرّضاع ما أنبت اللّحم وأنشز العظم» (٧) وفي الكبر لا ينبت اللحم ، ولا ينشز العظم.

وروى زاذان (٨) عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه البيهقي في سننه (٧ / ٤٥٨) ، وعبد الرزاق في مصنفه (٧ / ٤٦٨) (١٣٩١٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٤١).

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه البخاري (١٠ / ١٨٢) كتاب النكاح : باب من قال : لا رضاع بعد حولين برقم (٥١٠٢) ، ومسلم (٢ / ١٠٧٨ ـ ١٠٧٩) في كتاب الرضاع. باب : إنما الرضاعة من المجاعة (١٤٥٥) ، وأحمد في المسند (٦ / ٩٤ ، ١٧٤ ، ٢١٤).

وابن ماجه في سننه (٣ / ٣٧٤) كتاب النكاح : باب «لا رضاع بعد فصال» برقم (١٩٤٥).

(٤) أخرجه أبو داود (٢ / ٢٢٢) كتاب النكاح : باب في رضاعة الكبير رقم (٢٠٦٠) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٧ / ٤٦١) من حديث ابن مسعود.

(٥) أخرجه الترمذي (٣ / ٤٥٨) كتاب الرضاع : باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين ، رقم (١١٥٢) ، وابن حبان في صحيحه (٤٢٢٤) ، من حديث أم سلمة.

ورواه البيهقي (٧ / ٤٥٦) عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا. ووقفه عبد الرزاق في المصنف (٧ / ٤٦٦) رقم (١٣٩١٠) على أبي هريرة.

(٦) تقدم تخريجه.

(٧) تقدم تخريجه.

(٨) زاذان ، أبو عبد الله ، ويقال : أبو عمر الكندي الكوفي الضرير البزاز ، روى عن على والبراء وسلمان وغيرهم ، وروى عنه ذكوان السمان ، وشريك البرجمى ، وعطاء بن السائب وغيرهم ، قال يحيى بن معين : ثقة. مات سنة ٨٢ ه‍.

تنظر ترجمته في : تهذيب الكمال للمزي (٣ / ٥) رقم (١٩٣٠) ، تقريب التهذيب : ترجمة (١٩٨٨) ، والخلاصة (٣ / ٢٨٣).

٩٢

يقول : «الجرعة تحرّم كما يحرّم حولان كاملان» (١) فإن ثبت هذا فهو الأصل في ذلك ، والمعتمد عليه ، فإن عورض بما في خبر سالم (٢) ، حيث قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرضعي سالما خمس رضعات تحرمى عليه» (٣) قيل : هذا يحتمل وجهين :

يحتمل : أن يكون ذلك لسالم خاصة دون غيره من الناس ، فإذا كان كذلك لا يقاس عليه غيره.

ويحتمل : أن يكون منسوخا بما روينا من الأخبار المرفوعة والموقوفة بإيجاب الحرمة بالقليل منه والكثير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ...) الآية.

اجتمع أهل العلم في «الربيبة» على أنها لا تحرم على الرجل الذي كان تزوج أمها وطلقها قبل الدخول بها أو ماتت ، وإنما تحرم عليه إذا دخل بها.

واختلف في أم المرأة إذا لم يدخل بالابنة (٤) حتى بانت منه :

قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ : هي حرام عليه ، كان دخل بالأم أو لم يدخل بها.

وقال آخرون : شرط الدخول في آخر القصة راجع إلى الربيبة والأم جميعا ، فما لم يدخل بواحدة منهما حل له أن يتزوج بالأخرى إذا فارقها ، وهو القياس الظاهر في الكتاب في أمر الشرط والثنيا أن يكون الشرط فيهما جميعا ؛ لأنه قال ـ تعالى ـ : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) ذكر أمهات النساء وربائب النساء ، ثم شرط الدخول بهن ، فيجب (٥) أن يكون الشرط لا حقا بهما جميعا.

__________________

(١) وروى ابن أبي شيبة عن على أنه قال : لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين.

ينظر : الدر المنثور (٢ / ٢٤١).

(٢) هو سالم مولى أبي حذيفة ، ابن عتبة بن ربيعة أحد السابقين الأولين ، ومولاته امرأة من الأنصار ، يقال لها ليلى ، وكانت امرأة أبي حذيفة. وقصته في الرضاعة مشهورة.

تنظر ترجمته في : الإصابة : ترجمة (٣٠٥٩) ، أسد الغابة : ترجمة (١٨٩٢) ، الاستيعاب : ترجمة (٨٨٦).

(٣) أخرجه مسلم في صحيحه (٢ / ١٠٧٦) في الرضاع : باب رضاعة الكبير (١٤٥٣) ، وأحمد في المسند (٦ / ٣٨) ، وابن ماجه في سننه (٣ / ٣٧٢) في النكاح : باب رضاع الكبير (١٩٤٣) ، والنسائي في المجتبي (٦ / ١٠٤ ـ ١٠٦) كتاب النكاح : باب إرضاع الكبير ، ولفظ الحديث عن عائشة ؛ قالت : جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله! إنى أرى في وجه أبي حذيفة الكراهية من دخول سالم علىّ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرضعيه» ، قالت : كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «قد علمت أنه رجل كبير». ففعلت. فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : ما رأيت في وجه حذيفة شيئا أكرهه بعد. وكان شهد بدرا.

(٤) في ب : بالبنت.

(٥) في ب : فيجىء.

٩٣

وكذلك روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : هي بمنزلة الربيبة (١).

وعن جابر قال : ينكح أمها (٢) إن شاء (٣).

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه أفتى في امرأة تزوجها رجل فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت ، قال : لا بأس أن يتزوج أمّها ، فلما أتى المدينة رجع (٤) ، فأتاهم فنهاهم عن ذلك ، فقيل : إنها ولدت أولادا ، فقال : ولو ولدت (٥).

إلى هذا يذهبون أولئك ، وهو الظاهر من الآية.

واحتج بعض أصحابنا في ذلك أن الثنيا الملحق في آخر الكلام ربما يلحق الكل ، على ما تقدم من الكلام ، وربما يقع على ما يليه ، فلما كان غير ملحق على الكل من المذكور ، وقع على ما يليه.

فإن قيل : يلحق على ما تقدم من الذكر ما يحتمل ليس على ما يحتمل ؛ ألا ترى أن الله ـ تعالى ـ قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ...) إلى قوله : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) [المائدة : ٣] لم يلحق الكل ، ولا وقع على ما يليه خاصة ، ولكنه لحق على ما احتمل عليه ، فعلى ذلك في هذا لم يلحق الكل ؛ لأنه لا يحتمل ، ووقع على الأمّ والرّبيبة ؛ لأنه يحتمل.

واحتج أصحابنا (٦) ـ رحمهم‌الله أيضا ـ أن الحرمة قد تثبت بقوله ـ عزوجل ـ : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ...) [النساء : ٢٣] إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) فلا تستحل بالشك ، وفي الربيبة لم تثبت إلا بالشرط ؛ فلا تحرم بالشك.

وقيل ـ أيضا ـ : إن الدخول لو كان شرطا في الأم والربيبة جميعا لاكتفي بذكر نساء

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ١٤٤ ـ ١٤٥) (٨٩٥١ ، ٨٩٥٢).

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٦٤٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن جرير بمعناه (٨ / ١٤٥) (٨٩٥٣ ، ٨٩٥٤) عن زيد بن ثابت ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٦٤٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن زيد بن ثابت.

(٣) زاد في ب : الله تعالى.

(٤) في ب : رجعها.

(٥) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٦ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤) (١٠٨١١ ، ١٠٨١٢) كتاب النكاح : باب أمهات نسائكم ، والبيهقي في سننه (٧ / ١٥٩).

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٤٢) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود.

(٦) في ب : لأصحابنا.

٩٤

الأمهات والربائب ، فنقول : أمهات نسائكم من ربائبكم اللاتى دخلتم بهن ، ولم يحتج إلى أن يذكر (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) على ما اكتفى بذكر الحرمة في الأنساب والرضاع في الأصول عن الشعوب ، فلما لم يكتف بذلك ، دل أن الربائب مخصوصات بالشرط دون الأمهات ، ومما يبين ذلك أن الربيبة لو لم تذكر لم يجز أن يبقى من الكلام : وأمهات نسائكم اللاتى دخلتم بهن ولو لم يذكر الأمهات ، فبقي من الكلام : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) ـ كان كلاما [تامّا](١) ؛ فدل ذلك على أن قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ نِسائِكُمُ) إنما هو في الربائب دون الأمهات.

وأصله : ما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده [أنه](٢) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّما رجل تزوّج امرأة فطلّقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده ، فلا بأس بأن يتزوّج ابنتها. وأيّما رجل تزوّج امرأة فطلّقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده فلا يحلّ له أن يتزوّج أمّها» (٣).

وعن ابن عباس وعمران بن حصين (٤) في «أمهات نسائكم» ، قالا : هي مبهمة (٥).

وقال أكثر أهل العلم : إذا تزوج الرجل امرأة ودخل بها ، لم يجز له أن يتزوج ابنتها ، وإن لم تكن ربيبة وفي بيته وحجره ، وهي في ذلك بمنزلتها لو كانت في حجره يربيها.

وأجمعوا جميعا : أن الجمع بين المرأة وأمّها وابنتها في الجماع في ملك اليمين حرام.

وكذلك روى عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل عن ذلك؟ فقال : ما أحب ذلك.

فإن قال قائل : إن الخطاب ـ كما ذكرت ـ يدل على أن الشرط في الدخول بالأمهات إنما هو بسبب الربائب ، فما تنكر أن يكون حكم الأمّهات حكم الربائب كما كان حكم

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ١٤٦) (٨٩٥٦) ، والبيهقي في الكبرى (٧ / ١٦٠). وذكره السيوطي (٢ / ٢٤٢) وزاد نسبته لعبد الرزاق في مصنفه وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن عبد نهم الخزاعي ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدة أحاديث ، وكان إسلامه يوم خبير ، وغزا عدة غزوات ، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح. مات سنة ٥٢ أو ٥٣ ه‍.

تنظر ترجمته في : الإصابة : ترجمة (٦٠٢٤) ، أسد الغابة ترجمة (٤٠٤٨) ، الاستيعاب ترجمة (١٩٩٢).

(٥) أخرجه البيهقي في الكبرى (٧ / ١٦٠) ، وعبد الرزاق في مصنفه (٦ / ٢٧٤) (١٠٨١٣) كتاب النكاح : «باب أمهات نسائكم» ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٤٢) وزاد ونسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي شيبة.

٩٥

حلائل الأبناء حكم نساء الآباء؟ قيل : لا يجوز أن يقاس المنصوصات بعضها على بعض ، وإنما يقاس ما لا نصّ فيه على المنصوص ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

ثم يجب أن ننظر أي حكمة أوجبت تحريم الجمع بين المحارم بين محارم الرجال ومحارم النساء؟

وروي عن أنس قال : إن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يكرهون الجمع بين القرائب في النكاح ، وقالوا : لأنه يورث الضغائن ، أو كلام نحو هذا ؛ فقيل له : يا أبا حمزة ، من منهم؟ فقال : أبو بكر وعمر وعثمان ، رضي الله عنهم.

وروي مرفوعا أنه قال : لا ينكح كذا على كذا ، ولا كذا على كذا ، فإنهن يتقاطعن.

ونراه قال : «لا تنكح المرأة على عمّتها ، ولا على خالتها» (١).

وروي في بعضها أنه يوجب القطيعة.

وروي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه كره الجمع بين ابنتي عمّ ، وقال : لا أحرم ، ولكن أكره ؛ لأنه يوجب القطيعة. فلم يحرم ؛ لأن صلة القرابة فيما بينهما ليست بمفترضة ، والصلة بين المحارم مفترضة ، فإذا كانت مفترضة فالجمع بينهما يحمل على القطيعة ؛ فحرم ، وعلى ذلك في نساء الآباء وحلائل الأبناء إذا فارق واحد من هؤلاء امرأته فلعله يندم على ذلك ؛ فيريد العود إليها ، فإذا تزوجها أبوه أو ابنه ، أورث ذلك فيما بينهما الضغائن والقطيعة ؛ لذلك حرم ، والله أعلم.

وكذلك هذا المعنى في الابنة (٢) ، إذا طلقها ثم تزوج بأمّها ، حملها ذلك على الضغينة فيما بينهما.

وأمّا إذا تزوج الأم ، ثم فارقها قبل أن يدخل بها ، حل له أن يتزوج بابنتها ؛ لأن الأم تؤثر ابنتها على نفسها في المتعارف ؛ فلا يحمل ذلك على القطيعة ، والابنة (٣) لا تؤثر أمها على نفسها ، بل تؤثر نفسها على أمّها ، كذلك كان ما ذكر.

وأمّا إذا دخل بالأم لم يحل له أن ينكح بالابنة (٤) ؛ لأنه يذكر استمتاع هذه في استمتاع

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ١٠٢٨) في النكاح باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح (١٤٠٨) ، وأحمد (٢ / ٢٢٩ ، ٣٩٤ ، ٤٢٣) والنسائي (٦ / ٩٧) في كتاب النكاح : باب الجمع بين المرأة وعمتها ، ورواه البخاري في صحيحه (١٠ / ٢٠٠). في كتاب النكاح : باب لا تنكح المرأة على عمتها (٥١٠٨ ، ٥١٠٩ ، ٥١١٠) بلفظ «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها».

(٢) في ب : البنت.

(٣) في ب : البنت.

(٤) في ب : البنت.

٩٦

هذه ؛ فيكون جامعا بينهما في الاستمتاع ؛ لذلك حرم.

ثم اختلف في الجماع والدخول بها إذا كان من غير رشد ؛ قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ يحرم كما يحرم الحلال ، ويمنع نكاح الربيبة كما يمنع الحلال.

وقال قوم : لا يحرم ، ولا يمنع نكاح الربيبة ، واستدلوا في ذلك بقول الله ـ تعالى ـ : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) لأن الله ـ تعالى ـ حرم ربائب النساء إذا دخل بالأمهات ، والمزني بها ليست بزوجة للزاني ؛ فلا تحرم ابنتها ، لكنه لا حجة لهم في ذلك ؛ وذلك أن الله ـ تعالى ـ ذكر الدخول بهن ، ولم يذكر النكاح ، ولا خص الدخول في النكاح ، بل ذكر الدخول ، وهو على كل دخول ، رشدا كان أو سفاحا ، والسفاح أحق في الحرمة من الحلال ؛ إذ حكمه أغلظ وأشد ؛ فعلى ذلك في إيجاب الحرمة من الحلال يجىء أن يكون أشد وأغلظ ، ولو كان ذكر الدخول ـ هاهنا ـ في النكاح لم يكن فيه ما يمنع وجوب الحرمة إذا كان في غير النكاح ؛ ألا ترى إلى قول الله ـ تعالى ـ : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) والربيبة التي لا تكون في حجر الرجل مثلها في الحرمة ، ولم يجعل قوله ـ تعالى ـ : (فِي حُجُورِكُمْ) خصوصا فيها دون ما أشبهها ، وكذلك يجوز ألا يجعل قوله : (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) خصوصا الدخول بالزوجات دون ما أشبههن ـ وهن الموطوءات ـ مع ما ذكرنا أن ليس في الآية ذكر نسائنا ؛ لذلك لم يكن فيه دليل الحظر في غيره.

وبعد : فإنا قد ذكرنا فيما تقدم أن ليس في حظر شيء في حال حظره في غير تلك الحال ، والحرمة من ذلك الاستمتاع أنه إذا استمتع بإحداهما لم يكن له الاستمتاع بالأخرى ، ولا يحل أن يتزوج بالأخرى ؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها» (١) ومعلوم أنه لا ينظر إلى فرجهما في وقت واحد ، وإنما ينظر في وقتين ، فهو ـ والله أعلم ـ إذا نظر إلى فرج إحداهما ثم نظر إلى فرج أخرى يذكر نظره في فرجها في وقت نظره في فرج هذه ، فهو كالقاضي وطره فيهما ، كذلك في الزنا كهو في النكاح ، والله أعلم.

على أنهم أجمعوا : أن من وطئ أمة له لم يكن له أن يتزوج ابنتها ؛ فدل أن الدخول بها في النكاح وفي غير النكاح سواء ، وأنه محرم ، وما أجمعوا عليه ـ أيضا ـ أنه إذا وطئ امرأة في النكاح الفاسد لشبهة حرمت ابنتها عليه ، وهو وطء حرام ؛ فدل هذا على أن

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٤٦) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن الضريس من قول وهب بن منبه.

٩٧

التحريم إنما يكون بالاستمتاع بها لا غير.

وروي ـ أيضا ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من نظر إلى فرج امرأة لم تحلّ له أمّها ولا ابنتها» (١).

وعن عمران بن حصين في رجل زنى بأم امرأته قال : حرمت عليه امرأته.

وعن عبد الله قال : لا ينظر الله في رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها.

إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا ، رحمهم‌الله.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ ...) الآية. الأصل : أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بين المحرمات في الأنساب بيان الإبلاغ ، وفي غير الأنساب بيان الكفاية ؛ إذ بين في الأنساب الحرمة في الطرفين : في اللواتي علون وسفلن : نحو الأمهات والبنات ، ثم في اللواتي يتصلن بالآباء والأمهات : نحو العمات والخالات ، ثم في اللواتي يشركن الطرفين بالاسم : كالأخوات.

وذكر في الرضاع من الأنفس أحد الطرفين ، وفي الشعوب ما يشركن الطرفين ؛ على الاكتفاء بذكر طرف من الأنفس عن الطرف الآخر ، وبذكر المشتركات من الشعوب ؛ اكتفاء عن ذكر المنفردات ؛ فعلى ذلك أمر الأنفس في خطاب الحرمات ، فلما ذكر في ذلك الأمهات (٢) والبنات جميعا على ما ذكر في الواحد فيما كان المذكور في نوعه بحق الكفاية من البيان ، لا بحق الإبلاغ ؛ دل أن ذلك لما أريد به التفريق في الأمرين وأيد ذلك خبر عبد الله بن عمر (٣) ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقاويل جماعة الصحابة مع ما كان في ذلك إمكان شبهة محضة ؛ إذ لو اقتصر على إبداء الآية الحرمة بالعقد لا يزال ذلك بالشك ، على أن وجه الاعتبار الاستواء في الحرمة قبل الدخول ؛ لتكون حرمة الابنة (٤) على الأم في زوجها حرمة الأم عليها على ما عليهما أمر الابن من الأب في زوجته ، لكن فرق من حيث إساءة الرجل في الاختيار إذا اختار الأم على الابنة (٥) إن علم ، أو الغفلة إن لم يكن علم ، وحق مثله الزجر عنه ، والتوبة عن مثله ، فجعل له مفارقتها لابنتها ، وقد يعلم بذلك قبل الدخول ، على أن الدخول (٦) مذكر له ما كان بها في حال الاستمتاع بها ،

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٤٣) وعزاه لابن أبي شيبة ، عن أبي هانئ ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) في ب : للأمهات.

(٣) في ب : عمرو.

(٤) في ب : البنت.

(٥) في ب : البنت.

(٦) في الأصول : المدخول.

٩٨

وقد حرم ذلك الجمع حرمة أبدية ما ينبغى أن يجعل بما يذكر ، وسبيل الحظر بالقلب ، والله أعلم.

وليس أمر الابن والأب هذا ؛ إذ إليهما في الابتداء الاختيار والإيثار ، وكل يؤثر الذي له على الذي هو لغيره ، وفي النساء إنما يجب بعد الخطاب ، وليس منهن عرض ، لذلك لم يعتبر حالهن على أن الأمهات في العرف يؤثرن لذّات بناتهن على لذّاتهن ؛ فلا يلحقهن في الفراق لأجل البنات غضاضة ، ويلحق للبنات ، فلذلك فرق.

وأمّا بعد الدخول فهو موجب الحرمة ، لا من حيث الإيثار ؛ إذ من جهة حرام أو حلال يوجب ذلك ؛ فلذلك اختلف الأمر أن قال بشر : دل تخصيص ذكر الأصلاب في حلائل الأبناء على رفع حرمة الرضاع ، أو على ألا يكون الابن إلا من الصلب ، ونحن نقول : لا دلالة فيه على ما ذكرنا ، لو استدل به على الكون كان أقرب ؛ إذا خص ذكر الأصلاب ولو لم يكن الابن إلا من الصلب لكان القول بحلائل أبنائكم كافيا عن ذكر الأصلاب ، مع ما فيه وجوب الإلحاق بقوله : «يحرم من الرّضاعة ...» (١) ، ومعلوم أن الحرمة من الولادة تلحقه وإن لم يكن منه حقيقة الولادة بما كان سببا له ، فكذلك يصير مرضعا لما كانت هي مرضعة ، وإن لم يكن منه حقيقة الإرضاع ؛ لما كان هو سبب لما به ورود اللبن ، وأيد ذلك أمر حلائل أبناء الأبناء ، بل حلائل أبناء البنات ، وإن لم يكونوا للصلب ؛ للاتصال به بالنسب على البعد عما ذكرنا أحق ، والله أعلم ، مع ما يجوز أن يقال : صار الرضاع ولادا في الحكم بالخبر ؛ فيصير للصلب بالحكم نحو قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال : ٧٥].

ثم قد يعتبر فيهم الولاء في الحجاب ؛ لما جاء : إنّ الولاء لحمة كلحمة النّسب» (٢) ، ويصير ذو نسب ورحم في الحكم ما ذكر من الخبر ، فمثله الأول ، مع ما قد قيل : إن فائدة ذكر الصلب ألا تتحقق حرمة حلائل أبناء التبنى بالأصلاب ؛ ولذلك قال ـ والله أعلم ـ (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) [الأحزاب : ٣٧] وقوله ـ تعالى ـ : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) ؛ إذ يحتمل الجمع في العقد ، والجمع في الملك ، والجمع في الاستمتاع ويحتمل الجمع في جنس الاستمتاع.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك (٤ / ٣٤١) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٦ / ٢٤٠) ، (١٠ / ٢٩٢ ، ٢٩٣) من حديث الحسن ، مرفوعا.

٩٩

ويحتمل ألا يرجع المراد إلى معنى من ذلك ، ولكن يرجع إلى الكل ، ثم كان الاستمتاع بهما مرة (١) واحدة غير ممكن ، فإن كانت فيه حرمة فهو لمعنى هنالك يوجد في حال الجمع ، لا أن الخطاب يأخذه ؛ إذ هو غير ممكن وجوده ، ولا يتهيأ احتماله ؛ ليقصد بالخطاب نحوه ، ولكن من خاطب يجوز أن يخاطب [بما] يجعل فيه تحريمه وإن لم ينص عليه في الخطاب ، ثم الملك المطلق أو العقد المطلق قد يوجدان غير محرمين نحو عقده به ملك ملك يمين ؛ فثبت أن المقصود لو كان ملكا أو عقدا فهو مقيد ؛ نحو ملك النكاح ، أو عقد ملك النكاح ، وقد أجمع على دخول هذا في حق الخطاب ؛ إذ قد أجمع على أن من جمع بين الأختين في النكاح أنه لا يصح ، وأجمعوا أنه لو تزوج بعقدين : أن نكاح الثانية فاسد من غير أن كان جمع في العقد ، بل في الملك لو ثبت العقد في الثانية ، وإذا ثبتت الحرمة بهذا (٢) العقد والملك لم يكن لعقد ملك اليمين ولا تملكه [ثبت أنها لمعنى في ذلك ، لا لنفس ملك أو عقد.

وبعد : فإنهما في إيجاب الحل واحدة ، ثبت أن ذلك ليس للحل نفسه ، ولا للملك](٣) ، ولا للعقد ؛ إذ كل ذلك على الانفراد لا يعمل هذا العمل ؛ فيجب أن يكون المعنى من ذلك الاستمتاع ، والجمع في الفعل به غير ممكن ؛ فثبت أنه لمعنى قد وصف الجمع بالاستمتاع وذلك على وجوه :

أحدها : عقد الاستمتاع ، وهو عقد النكاح ؛ إذ عقد ملك اليمين قد يوجد ولا يوجب حق الاستمتاع ، وملك النكاح ؛ إذ هو لا يخلو من أن يوجب ذلك الحق ، ثم كان نفس الاستمتاع بحقه أحق من الأسباب الموجبة له ، والعدة مما يوجب الاستمتاع نفسه ؛ فهي أحق أن تكون شرطا للمنع ، بل هي أولى ؛ إذ قد يمنع الاستمتاع بملك اليمين ، ولا يمنع لحل ولا لملك ولا لسبب ، فإذا وجب المنع في النكاح لما هو سبب له فهو لأن يجب بحقيقته أحق ، وإن شئت قلت : إن لم يتفرد الخلق لنوع من السبب دون أن يشاركه غيره من الأسباب لزم أن يكون حقيقة السبب مجهولا ، لا يطلق ما قد يثبت (٤) الحرمة إلا بيقين ، والله أعلم.

وأيضا أن عقدة النكاح قد حرم عليه وعليها ، لكن الذي حرم عليه في محارمها عليها في الكل.

__________________

(١) في ب : بمرة.

(٢) في ب : لهذا.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٤) في ب : ثبت.

١٠٠