تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

المتعاقدين (١) بعد الفراغ من العقد لم يعرف ـ فيما هو عند الخلق ـ تجارة ، ولكن التفرق بانقضاء ما له الاجتماع والفراغ منه بما ليس من معاقدة العقلاء الوقوف في مكان بلا حاجة ؛ فليس التفرق مما يحتمل أن يظنه حكيم أو سفيه من التجارة ، وقد أذن في الأكل ، والأكل عبارة عن الأخذ وأكل أنواع المنافع بالباطل ؛ فثبت أن قد ملك بالفراغ عن التجارة بغير الرضا ، وأيّد ذلك قوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢] والتبايع الذي عليه الإشهاد هو التعاقد ، لا التفرق ، ومن البعيد أن يكلفوا الإشهاد على التبايع (٢) قبل وجوب الواجب من الحق الذي عليه الإشهاد ؛ فثبت بذلك وجوب ما جعل البائع بوجوبه دون التفرق ؛ وإذن ثبت الذي ذكرنا من أحكام القرآن مع الكفاية بالأمر الذي لا يجوز شذوذ حق لا يسلم عنه بشر عن علم جميع البشر ، وكل أهل التبايع (٣) به يتعارفون الحق بينهم بالفراغ من العقود ، ولا يجوز شذوذ العلم بحقّ ذلك محله ؛ فيكون اتفاق الخلق على الجهل بالاعتقاد في أمر يعرفه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أئمة الهدى ، لا ينتهون عن ذلك ، والله أعلم.

فإذا لزم ذا الولاء (٤) المروي من الخيار : أن كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا ، حمل الخبر على ما فيه بعض العلم بحق القرآن ، وما عليه أمر الخلق على اتساع لغير ذلك الوجه ، بل لعله بغيره أولى ، ثم يخرج على وجوه :

على إضمار : حقّ على المتبايعين أن يكونا كذلك في حق الجعل ، لا في حق العبادة عن واجب ؛ دليله رواية عبد الله بن عمر (٥) ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا» (٦).

أو لا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه ؛ خشية أن يستقيله ؛ ثبت أن المعنى بالخيار في حق الجعل لو طلب ـ كالفسخ في الاستقالة ، والله أعلم.

والثاني : أن يريد به : ما داما في التبايع ؛ دليل ذلك احتمال اللفظ [في] قوله ـ سبحانه ـ : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢] والإشهاد على التبايع ، والتبايع هو فعل اثنين ، وقد ثبت منهما مع الفراغ ـ الإشهاد على التبايع ، وهذا أحق بوجوه :

__________________

(١) في أ : يفرق المتعاقدان.

(٢) في ب : التتابع.

(٣) في ب : التتابع.

(٤) في ب : لو لا.

(٥) في ب : عمرو.

(٦) تقدم.

١٤١

أحدها : حق اللغة أنه اسم التفاعل ، وهو اسم لفعلهما ؛ فيستحقان ذلك في وقت كونهما فيه : كالتضارب ، والتقاتل ، ونحو ذلك ، وبعد الفراغ التسمية تكون بحق الحكاية دون تحقيق الفعل.

والثاني : بما روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا من بيعهما ، وبيعهما معروف» (١) ، والله أعلم.

والثالث : متفق القول من أهل العقل على رؤية وجوب البيع دون التفرق عن المكان ، والله أعلم.

والرابع : أن يجعل ذلك الحد لإصلاح البياعات أنهما ما لم يتفرقا يملكان الاصطلاح ، وإذا تفرقا لا ، وهو أولى ؛ إذ قد جعل التفرق التام شرطا للفساد ومنع الإصلاح ، وقد كان في بعض العقود مما يصلح بالقبض ؛ فهو على الوجود قبل التفرق ، ثم لا يصلح إذا وجد التفرق ؛ فمثله مما كان الصلاح بالقول في الإصلاح ؛ وعلى ذلك إذا قال أحد للآخر : اختر ـ انقطع خياره لو كان تفرقا من القول ، وليس فيه زيادة على ما في قوله : بعت منك ، في حق الإصلاح ؛ فثبت أن التفرق لقطع الإصلاح ، لا للإصلاح ـ والله أعلم ـ

قوله : إن للناس عرفا في التبايع من وجهين :

أحدهما : في التعاقد.

والثاني : في التقابض ؛ فيكون المعنى من الخبر فيما البيع عن تقابض ، وهو بيع المداومة إذا ترك كل واحد منهما الآخر يفارقه على ما سلم وقبض كان ذلك بينهما ، وجاز ذلك ـ أيضا ـ بحق الآية في الإباحة عن تراض ، واسم التجارة قد يقع على تبادل ليس فيه قول البيع ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] وقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) [التوبة : ١١١] وذلك مع قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] وفي ذلك أن البيع الموقوف إذا أجيز يباح الأكل ؛ لما كان وقت الأكل قد وجدت التجارة عن تراض ، وفي ذلك دليل وجوب خيار الرؤية ؛ إذ قد جعل الرضا سببا ، وهو بما يجهل غير محق ، وإنما يعلم بالرؤية.

وفيه أنه بالقبض يمضى حق العقد ؛ إذ التجارة للأكل ، ولا يوصل إليه إلا بالقبض ، فإذا فات ، فات ما له التجارة ؛ فيبطل ، والله أعلم.

وفي قوله ـ أيضا ـ : «تبايعا» وإن كان اسما لفعل اثنين ، فلما يتصل صحة كلام كل

__________________

(١) تقدم.

١٤٢

واحد منهما إذا كان الآخر حاضرا ؛ فكأنهما اشتركا في صحته ؛ فصارا به متبايعين ، نحو قوله : [حتى يتفرقا] ، والتفرق اسم لفعل اثنين ، لكن أحدهما إذا فارق مكان البيع والآخر لم يفارقه ـ فقد وجد حق التفرق من أن ليس أحدهما بجنب الآخر ؛ فكأنهما اشتركا في التفرق وإن لم يوجد الفعل من أحدهما ، والله أعلم.

وقوله ـ جل وعزّ ـ : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)

يحتمل وجهين :

أي : لا يقتل بعضكم بعضا ؛ فإنه إذا قتل آخر يقتل به ؛ فكأنه هو الذي قتل نفسه ؛ إذ لو لا قتله إياه وإلا لم يقتل به.

والثاني : أنه أضاف القتل إلى أنفسهم ؛ لأنهم كلهم كنفس واحدة ؛ إذ كلهم من جنس واحد ، ومن جوهر واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)(١)

أي : من رحمته : أن جعل لكم فيما بينكم القصاص ، وأخذ النفس بالنفس ، والمال بالمال ، وفي ذلك حياة أنفسكم ، وإبقاء أموالكم.

ومن رحمته ـ أيضا ـ : أن جعلكم من جوهر واحد ؛ إذ كل ذي جوهر يألف بجوهره ، ويسكن إليه ، والله أعلم.

ومن رحمته : أرسل إليكم الرسل ، وأنزل عليكم الكتب ، وأوضح لكم السبل.

ومن رحمته : أن أمهل لكم ، وستر عليكم ، ودعاكم إلى المتاب.

ومن رحمته : دفع عنكم الآفات ، وأوسع لكم الرزق ، وبالمؤمنين خاصة برحمته اهتدوا ، وسلموا عن كل داء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) [النساء : ٣٠] عدوانا لمجاوزته حدود الله ، وظلما على صاحبه. والعدوان هو التعدي (٢) والمجاوزة عن حدود الله ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩].

ويحتمل قوله : (وَظُلْماً) على نفسه ؛ كقوله (٣) ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ

__________________

(١) قال القاسمي (٥ / ١١٥) : قال السيوطي في «الإكليل» : في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعي وإباحة التجارة والربح فيها. وأن شرطها التراضي ومن هاهنا أخذ الشافعي ـ رحمه‌الله ـ اعتبار الإيجاب والقبول لفظا لأن التراضي أمر قلبي فلا بد من دليل عليه ، وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا.

(٢) في أ : هو اسم التعدي.

(٣) في ب : وكقوله.

١٤٣

ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١] وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٢٩] ، وقوله ـ تعالى ـ : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦].

وهذا الوعيد ـ والله أعلم ـ لما يفعل ذلك مستخفّا بحدود الله واستحلالا (١) منه لذلك ؛ وإلا لو كان ذلك على غير وجه الاستخفاف بها والاستحلال لها ـ لم يستوجب هذا الوعيد ؛ ألا ترى أنه قال ـ تعالى ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ثم قال ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) إنما جاء هذا في قتلى العمد ، ثم أبقى الأخوة فيما بينهما ، وأخبر أن ذلك تخفيف منه ورحمة ، وفيما كان الفعل منه فعل الاستخفاف والاستحلال لا يجوز أن يكون فيه منه رحمة ، ويخلد في النار ؛ وعلى ذلك يخرج قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [النساء : ٩٣] إذا قتله مستحلا له مستخفّا بتحريم الله إياه ؛ فاستوجب هذا الوعيد ، وأما (٢) من فعل على غير الاستحلال والاستخفاف بحدوده فالحكم فيه ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ تعالى ، أيضا ـ : (عُدْواناً وَظُلْماً) يحتمل : الاستحلال ؛ دليله قوله ـ عزوجل ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) ثم قال ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] ، وقال : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) فأبقى الأخوة التي كانت بقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ؛ فثبت أن الإيمان بعد باق فأبقى له الرحمة والأخوة ، وهاهنا زال ؛ لذلك افترقت الآيتان.

والثاني : أنه وعد اختلافهم ، ولم يذكر الخلود ، وجائز تعذيبه في الحكمة والتنازع في الخلود لا غير.

والأصل في هذا ونحوه : أنه لم يتنازع أن يكون فعله الذي فيه الوعيد إن كان ثمّ خلود ، فهو الذي يزيل عنه اسم الإيمان ، ويبطل عنه حق فعله ، وإنما التنازع في إبقاء اسم الإيمان في لزوم الوعيد ؛ فهي فيمن لم يبق له الاسم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ)

اختلف فيه :

قال بعضهم : كبائر الشرك ؛ لأن كبائر الشرك أنواع ، منها : الإشراك بالله ، ومنها جحود الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، ومنها : الجحود ببعض الرسل ، عليهم‌السلام ، ومنها : جحود العبادات ، واستحلال المحرمات ، وتحريم المحللات ، وغير ذلك ، وكل ذلك

__________________

(١) في أ : إضلالا.

(٢) في ب : فأما.

١٤٤

شرك بالله.

فقيل أراد بالكبائر الشرك ، فإذا اجتنب كبائر الشرك صارت ما دونها موعودا لها المغفرة بالمشيئة بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وعد المغفرة لما دون الشرك ، وقرنها بمشيئته ؛ فهو في مشيئة الله ـ تعالى ـ : إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه ، وبالله التوفيق.

وقيل : أراد بالكبائر [كبائر](١) الإسلام.

ثم يحتمل وجهين بعد هذا :

يحتمل : أن تكون الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر (٢).

ويحتمل : أن تكون الصغائر مغفورة بالحسنات ؛ ألا ترى أنه قال في آخره : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)(٣) ، والتكفير إنما يكون [بالحسنات](٤) ؛ ألا ترى أنه قال : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] أخبر أن من السيئات ما يذهبها الحسنات.

ويحتمل : أن يكون التكفير لها جميعا وإن لم تجتنب ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) إلى قوله ـ عزوجل ـ : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) [البقرة : ٢٧١] وقال ـ عزوجل ـ : (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [التحريم : ٨] ؛ ألا ترى أنه روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شفاعتى نائلة لأهل الكبائر من أمّتى» (٥).

وروي عن على [بن أبي طالب](٦) ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع امرأة تدعو : اللهمّ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٥٤) (٩٢٢٩) عن السدي.

(٣) قال القاسمي (٥ / ١١٩) نقلا عن ابن القيم في كتابه (الجواب الطافي) : وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات :

إحداها أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها ، وضعف الإخلاص فيها ، والقيام بحقوقها بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية.

الثانية : أن تقاوم الصغائر ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر.

الثالثة : أن تقوى على تكفير الصغائر ، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر.

فتأمل هذا فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.

(٤) في أ : لما سلف.

(٥) أخرجه أحمد (٣ / ٢١٣) ، وأبو داود (٢ / ٦٤٩) كتاب السنة : باب في الشفاعة (٤٧٣٩) ، والترمذي (٤ / ٢٣١) أبواب صفة القيامة والرقائق والورع : باب (١١) ، رقم (٢٤٣٥) ، والطيالسي (٢٠٢٦) ، والحاكم (١ / ٦٩) وصححه وأقره الذهبي وأبو يعلى في المسند (٦ / ٤٠) (٣٢٨٤).

(٦) سقط من ب.

١٤٥

اجعلني من أهل شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «مه! فقولى : اللهمّ اجعلني من الفائزين ؛ فإنّ شفاعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل الكبائر» ثم قرأ : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ...)(١) الآية.

ثم اختلف في كيفية الكبائر وماهيتها :

فقال بعضهم : ما أوجب الحد (٢) فهو كبيرة : من نحو الزنا ، والسرقة ، والقذف (٣) ، وغير ذلك (٤).

وقال آخرون : الإشراك بالله ، وقتل النفس (٥) التي حرم الله بغير حقها ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وقول البهتان ، والفرار من الزحف (٦).

وروي عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ [أنه سئل عن ذلك؟ فقال : «من أول السور إلى هنا من المحرمات ، فهو من الكبائر (٧).

__________________

(١) قال القاسمي (٥ / ١٢٠) : وعندي أن الصواب هو الوقوف في تعدادها على ما صحت به الأحاديث فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبين لكتاب الله عزوجل ، أمين على تأويله ، والمرجع في بيان كتاب الله ـ تعالى ـ إلى السنة الصحيحة ، كما أن المرجع في تعريف الكبيرة إلى العدّ دون ضبطها بحد كما تكلفه جماعة من الفقهاء ، وطالت المناقشة بينهم في تلك الحدود ، وإن منها ما ليس جامعا ومنها ما ليس مانعا فكله مما لا حاجة إليه بعد ورود صحاح الأخبار في بيان ذلك.

وقد ساق الحافظ ابن كثير هاهنا جملة وافرة منها وجود النقل عن الصحابة والسلف والتابعين.

فانظره فإنه نفيس.

(٢) في أ : العقوبة.

(٣) القذف : لغة ـ : الرّمي بالحجارة ، ثم استعير للقذف باللّسان ؛ لجامع بينهما ، وهو الأذى.

ينظر : تحرير التنبيه : ٣٥١.

واصطلاحا :

عرفه الحنفية بأنه : الرّمي بالزنا.

وعرفه الشافعية بأنه : الرّمي بالزنا في معرض التعبير لا الشهادة ، ويكون للرجل والمرأة.

وعرفه المالكية بأنه : رمي مكلّف ـ ولو كافرا ـ حرا مسلما : بنفي نسب عن أبيه أو جده ، أو بزنا ، إن كلّف وعفّ عنه ، ذا آلة أو إطاقة للوطء ـ بما يدل عرفا ، ولو تعريضا.

عرفه الحنابلة بأنه : الرّمي بالزنا.

انظر : نهاية المحتاج : (٧ / ٤٣٥) ، شرح فتح القدير : (٥ / ٣١٦) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير : (٢ / ٣٩٤) ، الشرح الصغير : (٤ / ١٢٧) ، مغني ابن قدامة : (٧ / ٢١٧).

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٤٧) (٩٢١٨) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦١).

(٥) في ب : الأنفس.

(٦) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٣٧) (٩١٨٢ ـ ٩١٨٤) عن ابن سيرين عن عبيدة السلمانى ، وذكره السيوطي الدر (٢ / ٢٦٦).

(٧) أخرجه بمعناه ابن جرير (٨ / ٧٣٣ ـ ٧٣٤ ـ ٩١٧٨) ، عن ابن مسعود ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس ، ولعبد بن حميد عن إبراهيم النخعي.

١٤٦

وروي أنه قيل لابن عباس : إن عبد الله بن عمر ، يقول : الكبائر تسع (١). فقال](٢) ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : هنّ إلى التسعين أقرب ، ولكن لا كبيرة مع توبة ، ولا صغيرة مع إصرار (٣).

وروي عن الحسن قال : قال [رسول الله](٤) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تقولون في الزّنا والسّرقة وشرب الخمر؟» قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «هنّ فواحش ، وفيهنّ عقوبة» (٥) ثم قال [رسول الله](٦) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : «الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين» قال : وكان متكئا فجلس ، ثم قال : «ألا وقول الزّور ، ألا وقول الزّور» (٧) قاله ثلاثا.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)

ذكر تكفير السيئات إذا (٨) اجتنب الكبائر ، ولم يذكر الحكم إذا لم يجتنبها ؛ فليس فيه أنه إذا لم يجتنب لا يكفر ، فهو في مشيئة الله : [إن شاء كفر ، وإن شاء عذب](٩) ؛ على ما ذكرنا : أن وجوب الحكم لا يوجب إيجاب ذلك الحكم في حال أخرى ، حظرا كان أو إحلالا ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٤٠) (٩١٨٨) عن ابن عمر ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦٢) وعزاه لابن راهويه وعبد بن حميد وابن المنذر والقاضي إسماعيل في «أحكام القرآن» ، وعلى بن الجعد في «الجعديات» عن طيسلة عن ابن عمر.

(٢) بدل ما بين المعقوفين سقط من أ.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦) (٩٢٠٦ ـ ٩٢٠٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦١) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس بلفظ (هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع).

(٤) في ب : النبي.

(٥) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٢٠٩ ـ ٢١٠) كتاب الحدود : باب العقوبات في المعاصي قبل نزول الحدود ، عن الحسن عن عمران بن حصين ، وقال : إنما يعرف من حديث النعمان بن مرة مرسلا. وله شاهد من حديث النعمان بن مرة أخرجه. البيهقي في السنن (٨ / ٢٠٩ ـ ٢١٠) ، وعبد الرزاق في مصنفه (٢ / ٣٧١).

وذكره الهندي في كنز العمال (٧ / ٥٠٩) (٢٠٠٠٥) وعزاه لعبد الرزاق في مصنفه والشافعي في مسنده ، والبيهقي في الكبرى عن النعمان بن مرة مرسلا.

(٦) سقط من ب.

(٧) أخرجه البخاري (١٠ / ٤١٩) كتاب الأدب : باب عقوق الوالدين من الكبائر (٥٩٧٦) ، ومسلم (١ / ٩١) كتاب الإيمان : باب بيان الكبائر وأكبرها (١٤٣ ـ ٨٧).

(٨) في ب : إن.

(٩) في ب : إن شاء كفره ، وإن شاء عذبه.

١٤٧

ويقرأ في بعض القراءات (١) : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) فإن ثبت هذا فهو يدل على التأويل الذي ذكرنا آنفا : أنه أراد بالكبائر كبائر الشرك ، [والله أعلم](٢).

قوله ـ عزوجل ـ : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)

قيل الجنة.

قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)(٣٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية.

قيل : لا يتمنى الرجل مال أخيه ، ولا امرأته ، ولا داره ، ولا شيئا من الذي له ؛ ولكن ليقل : اللهمّ ارزقنى ، تذكر النوع (٣) الذي رغبت ؛ فالله واجد ذلك ، وهو الواسع العليم (٤).

وقيل : هو كذلك في التوراة.

وقيل : إن أم سلمة قالت : يا رسول الله ، يغزو الرجال ولا نغزو ، ويذكر الرجال ولا نذكر ؛ فنزلت الآية : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ) إلى قوله ـ عزوجل ـ : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)(٥).

ويحتمل : أن يكون هذا التمني في الديانة [وفي الدنيا](٦) :

أما في الديانة : هو أن يتمنى أحد أن يكون قدره مثل قدر آخر عند الناس من العلم ، والزهد ، وغير ذلك ؛ فنهي أن يتمنى ذلك ؛ إذ لم يبلغ هو ذلك المبلغ إلا باحتمال المكاره

__________________

(١) في ب : القراءة.

(٢) سقط من أ.

(٣) في ب : قوله تذكر نوع.

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٦١) (٩٢٣٨) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦٧) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس.

(٥) أخرجه الترمذي (٥ / ١١٨) كتاب التفسير : باب ومن سورة (النساء) (٣٠٢٢) وقال : هذا حديث مرسل ، ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مرسلا أن أم سلمة قالت : كذا وكذا ، وأحمد في المسند (٦ / ٣٢٢) ، والطبراني في الكبير (٢٣ / ٦٠٩) والحاكم في المستدرك (٢ / ٣٠٥) وصححه. وابن جرير (٨ / ٢٦١ ـ ٢٦٣ ، ٩٢٣٦ ، ٩٢٣٧ ، ٩٢٣٨ ، ٩٢٤١ ، ٩٢٤٤). وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٦) في ب : ومن الديانة.

١٤٨

والمشقة والجهد.

وفي الدنيوية : هو أن يتمنى مال : أخيه ، وزوجته ، وخدمه.

ويحتمل : أن يكون معنى التمني : ما ذكر في خبر أم سلمة ؛ لأن في ذلك الكفران بنعم الله ؛ لأن النساء ـ وإن لم يجعل عليهن القتال وغيره من الخيرات ـ رفع (١) عنهن بعض المؤنات ؛ ففي التمني الكفران بتلك النعم التي أنعم الله ـ تعالى ـ عليهن.

وفي قوله ـ أيضا ـ : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ) ، أي : الذي فضل الله بعضكم على بعض ؛ فهو ـ والله أعلم ـ لما فيه السخط بحكمه ، يريد الصرف إليه ، أو لما فيه أنه إنما قصر فضله على ما رأى وألا يسع فضله له وللذى فضله ، ولما النظر [إلى ما](٢) أكرم به غيره بحق التمني ـ يلهى عن نعم الله ـ تعالى ـ عليه ، أو لما (٣) يخرج ذلك مخرج العداوة ، وحق نعم الله على كل أحد ـ أن يعرف التعظيم له ، وكذلك قيل : فضلت على غيرك ؛ لترحمه وتتفضل عليه (٤) ؛ للتعظيم ، والتمني أوخش من الحسد ؛ لأن الحسد هو إرادة الصرف عنه ، وفي التمني ذلك وإرادة الفضل له به عليه.

(وَسْئَلُوا اللهَ) ـ سبحانه وتعالى ـ (مِنْ فَضْلِهِ) ، وكان فضله في الحقيقة هو ما له ألا يبذل ، وذلك يخرج على فضل في الدين ، أو فضل في الخلق والمروءة ، فأما فيما يرجع إلى نعم الدنيا مما لا يستعمله في أحد ذينك الوجهين ـ فهو في الظاهر نعمة (٥) ، وفي الحقيقة بلية ومحنة ؛ قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ) [التوبة : ٥٥] الآية ، وقال الله ـ عزوجل ـ : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ...) [المؤمنون : ٥٥].

وجائز أن تكون الآية في النهي ، مع ما مكنوا من النعم ووفقوا (٦) للخيرات :

فإن كان لما وفقوا للخيرات (٧) ـ فحق ذلك أن يشكر لله ؛ بما أكرم به من حسنات ، ويرغب في التوفيق لمثله.

وإن كان في أمر النعم ـ فحقه أن يعينه بالدعاء ؛ لتكون النعمة له [نعمة](٨) لا بلية

__________________

(١) في ب : ورفع.

(٢) في ب : لما.

(٣) في ب : بما.

(٤) في ب : به عليه.

(٥) في ب : فضله ونعمه.

(٦) في ب : لو وفقوا.

(٧) في ب : من الخيرات.

(٨) سقط من ب.

١٤٩

ونقمة ، وترغب فيما يقربك إلى الله في عاقبة.

وقد ذكرنا (١) أن أمّ سلمة تمنت بعض ما يقوم به الرجال من العبادات : نحو الجهاد وأشكاله ؛ فنزل النهي عن ذلك ، والترغيب في فضله في نوع ما تحتمل هي من الخيرات ، دون الذي يفضل عليهن بالرفع عنهن ، والله أعلم.

وفي قوله ـ أيضا ـ : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ ...) الآية ـ يحتمل أن يكون على ما خاطب [رسول الله](٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) [طه : ١٣١] الآية ؛ فأخبر أن الذي أعطى ـ لم يعط للكرامة ؛ ولكن ليفتنهم به ، والعقل يأبى الرغبة فيما يفتن به دون ما يكرم به ، ثم بيّن الذي هو أولى بالمشتهي من التمني ، فقال : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) فرغب فيما له ، وأمر (٣) بالسؤال من فضله ؛ إذ لا يكون كسبه له إلا بفضله : كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) ، ثمّ قال الله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [النور : ٢١] فبين أن كسبه عليه إلا بفضل الله ، وبين أن الأولى به الإقبال على ما له عاقبته ، والتضرع إلى الله ـ تعالى ـ بالإكرام دون الذي عليه في ذلك ؛ خوف المقت ، [والله أعلم](٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ)

مثله ؛ فإن فضله واسع ، ولا يتمنى مال أخيه وداره.

أو اسألوا الله ـ تعالى ـ العبادة ، ولا تتمن ألا يكون لأخيك ذلك ، ويكون لك ، ثم أخبر أن ما يكون للرجال إنما يكون بالاكتساب ، وما يكون للنساء يكون بالاكتساب ، يكون لكلّ ما اكتسب من الأجر وغيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ)

احتمل هذا ـ والله أعلم ـ أن يكون معطوفا ، مردودا إلى قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ) الآية ، ذكر ـ هاهنا ـ ما يرث الرجال والنساء من الوالدين والأقربين ، ولم يذكر ما يرث الوالدان من الأولاد والأقربون بعضهم من بعض : من نحو العم ، وابن العم ، وغيرهم من القرابات ؛ فذكر ـ هاهنا ـ ليعلم أن للمولى من الميراث مما ترك الوالدان والأقربون ما لأولئك من الوالدين والأقربين إذا لم يكن أولئك أن جعل لهؤلاء ما جعل لأولئك ، ولم يذكر ـ أيضا ـ ما للوالدين من

__________________

(١) في ب : ذكر.

(٢) في ب : رسوله.

(٣) في أ : وأما.

(٤) سقط من ب.

١٥٠

الأولاد في قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ ...) الآية ، ولكن ذكر في آية الوصية في قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ١٨٠] ذكر الوصية للوالدين والأقربين ؛ ولم يذكر للأولاد ـ والله أعلم ـ أن الرجل قد يؤثر ولده على نفسه ، وعلى غيرهم من الأقرباء ، ولا كذلك الولد للوالد ؛ فذكر الوصية للوالدين والأقربين لهذا المعنى ؛ ليصل إليهم المعروف ، وأمّا الأولاد فإنهم لا يؤثرون عليهم (١) غيرهم ؛ لذلك لم يذكرهم ، والله أعلم.

وقيل في قوله : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا) أي : بينا ، فيكون فيها بيان ما في الأولى من المواريث.

ثم قيل في الموالى : إنهم هم العصبة (٢) ، وقيل : هم أولياء الأب ، أو الأخ ، أو ابن الأخ ، وغيرهم من العصبة (٣).

وقيل : هي الورثة ، وهو قول ابن عباس (٤) ، وكله واحد.

وروي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ [أنه](٥) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أولى بالمؤمنين ، من مات وترك مالا فماله لموالى العصبة ، ومن ترك مالا أو ضياعا فأنا وليّه ؛ فلا دعاء له» (٦).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألحقوا المال بالفرائض ،

__________________

(١) في أ : يرثون على.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٧٠ ـ ٢٧١) (٩٢٦٠) عن مجاهد ، و (٩٢٦٢) عن قتادة ، و (٩٢٦٥) عن ابن زيد.

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦٨) وعزاه لابن جرير عن ابن زيد ولابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن مردويه عن ابن عباس.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٧١) (٩٢٦٣) عن قتادة.

(٤) أخرجه البخاري (٩ / ١٢٠) في التفسير : باب (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ...) الآية (٤٥٨٠) وابن جرير (٨ / ٢٧٠) (٩٢٥٨ ، ٩٢٥٩).

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والحاكم والبيهقي عن ابن عباس.

(٥) سقط من ب.

(٦) أخرجه البخاري (٤ / ٥٥٧) في الكفالة : باب الدين (٢٢٩٨) ، وفي الاستقراض (٥ / ٧٥) باب الصلاة على من ترك دينا (٢٣٩٨ ، ٢٣٩٩) وفي التفسير (٨ / ٣٧٦) باب سورة الأحزاب (٤٧٨١) ، وفي النفقات (٩ / ٤٢٥) باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ترك كلا أو ضياعا فإلىّ (٥٣٧١) وفي الفرائض (١٢ / ١١) باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ترك مالا فلأهله (٦٧٣١) ، وباب ابن عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج (٦٧٤٦) ، وباب ميراث الأسير (٦٧٦٣). ومسلم (٣ / ١٢٣٧) في الفرائض : باب من ترك مالا فلورثته ، رقم (١٤ / ١٦١٩).

١٥١

فما أبقت السّهام فلأولى رجل ذكر» (١).

وعن عمر [بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ](٢) قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [يقول :](٣) «ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان» (٤).

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه كتب : إذا كانت العصبة بعضهم أقرب بأم ـ فهم أحق بالمال.

وأجمع أهل العلم على أن أهل السهام إذا استوفوا سهامهم وبقى من المال شيء ـ أنه لعصبة الميت ، وهم الرجال من قرابته من قبل أبيه ومواليه ، وأنه لا يكون أحد من النساء عصبة إلا الأخوات (٥) من الأب والأم ، أو من الأب مع البنات ، والمرأة المعتقة ؛ فإن هاتين عصبة ، وأجمعوا أن كل من اتصلت قرابته من قبل النساء بالميت فليس بعصبة ، وأن المرأة إذا أعتقت عبدا أو أمة فإنها عصبة المعتق بعد موت أمه ، إلا ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فإنه يجعل لذوي الأرحام دون الموالي.

وأجمعوا أنه إذا اجتمع عصبتان فأقربهما أولى ، وأقرب العصبة الابن ، ثم ابن الابن وإن سفل ، ثم الأب ، ثم الجدّ وإن علا ، والأخ من الأب والأم ، ثم الأخ من الأب ، ثم ابن الأخ من الأب والأم ، ثم ابن الأخ من الأب ، ثم العم من الأب والأم ، ثم العم من الأب ، ثم ابن العم من الأب والأم ، ثم ابن العم من الأب ، ثم مولى النعمة ، ثم ابن مولى النعمة وإن سفل ، فهؤلاء كلهم عصبة الميت ، وأقربهم أولاهم بما فضل من المال عن أصحاب السهام المذكور سهامهم ، هو ـ والله أعلم ـ موافق لما ذكرنا من دليل الآية والسنة ، وما تواتر من الروايات عن الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

وفي قوله : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ)(٦) ، يحتمل : ولكل من

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٢ / ١١) كتاب الفرائض : باب ميراث الولد من أبيه وأمه (٦٧٣٢) ، باب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن (٦٧٣٥) ، وباب ميراث الجد مع الأب والإخوة (٦٧٣٧) ، وباب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج (٦٧٤٦). ومسلم (٣ / ١٢٣٣) كتاب الفرائض : باب ألحقوا الفرائض بأهلها ... ، رقم (٢ / ١٦١٥).

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه أحمد (١ / ٢٧) ، وأبو داود في كتاب : الفرائض : باب في الولاء (٢٩١٧) ، وابن ماجه (٤ / ٢٩١ ـ ٢٩٢) في كتاب الفرائض : باب ميراث الولاء (٢٧٣٢) والنسائي في الكبرى (٤ / ٧٥) كتاب الفرائض : باب ذكر اسم هذا الرجل الذي أدخل الزهري بينه وبين قبيصة بن ذؤيب (٦٣٤٦ / ١).

(٥) في ب : أخوات.

(٦) قال القرطبي (٥ / ١٠٩) : قوله تعالى : (مَوالِيَ) اعلم أن المولى لفظ مشترك يطلق على وجوه ؛ فيسمى المعتق مولى ، والمعتق مولى ، ويقال : المولى الأسفل والأعلى أيضا ، ويسمى الناصر ـ

١٥٢

الموالي جعلنا ؛ على إضمار «نصيب» أو «حق» فيما ترك الولدان والأقربون ؛ فيكون تأويله قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ) [النساء : ٧] فيكونون هم مواليه بحق الميراث على تأويل أنهم أولى بما تركوا ، وعلى مثله قوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) [الإسراء : ٣٣] ووليه من يلحقه في ملكه ؛ يفسره قوله ـ تعالى ـ : (يُوصِيكُمُ اللهُ) [النساء : ١١] وجميع آيات المواريث ، إلا أنه لم يذكر للوالدين في هذه الجملة ولا للزوجين ، ولا يدخلون في اسم القرابة ، ولا في اسم الأولاد وقد جاء بالإيجاب لهم الكتاب وأجمعت عليه الأمة على غير دعوى النسخ فيه من أحد ؛ ليعلم أن التخصيص بالذكر فالحق لا يقطع حق غير ، لكنه يكون الأمر موقوفا على وجود دليله ، والله أعلم.

على أن في الإيجاب للأقربين وللموالى كفاية عن ذكر من ذكر ؛ إذ بهم تكون كل القرابة ، وبالتناكح يكون النسل ، وهو المجعول لذلك ، وكذلك لا يسقط حق هؤلاء بحال ولا يحجبون عن الكل بأحد ، وقد جرى ذكر حقهم فيما نسخته هذه الآية من الوصية ، والله أعلم.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [من] يرجع الموالى إلى الذين ورثوه من تركة الأبوين والأقربين يجيز أن قد تجري المواريث فيما قد ورث نحو ما تجري فيما لم يكن ورث مرة ؛ فرجع ذا إلى غير أولاد الأول وأقرباء الأول ، أو أن يكون المقصود فيما ترك الوالدان والأقربون بما ذكر في أيهم نصيبا مفروضا أن يكون هذا فيما ترك الوالدان والأقربون مع أصحاب الفرائض ؛ فتكون هذه الآية في بيان حق العصبات ؛ إذ لم يذكر لهم دون أن يكون معهم أصحاب الفرائض يرثون بحق السهام ، لا بحق الفضول ؛ فتكون عمل الآيات في المواريث ثلاث :

أحدها (١) : في أصحاب الفرائض ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧].

والثاني : حق في العصبات ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ...) الآية.

والثالث : في حق ذوي الأرحام ، وهو قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ...)

__________________

 ـ المولى ؛ ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] ويسمى ابن العم مولى ، والجار مولى. فأما قوله ـ تعالى ـ : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) [النساء : ٣٣] يريد : عصبة ؛ لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر».

(١) في ب : إحداها.

١٥٣

الآية [الأنفال : ٧٥] ، ثم ألحق بهؤلاء في حجاب الأبعدين ـ أهل العقد بقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) وإنما ذكر ذلك فيما يترك الميت ، ولا وجه للعون والرفد منه أو النصر ، مع ما ذكر نصيبهم في التركة ، كما ذكر لأصحاب الفرائض ، وعلى ذلك المرفوع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن أسلم على يدي آخر أنه أحق الناس محياه ومماته ، وكذلك روي [عن](١) عمر وعلي وعبد الله مع ما كانت المواريث بهذا من قبل ، فنسخ بقوله ـ تعالى ـ : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال : ٧٥] فإذا ارتفع ذلك ذهب التناسخ فوجب لهم ؛ إذ بيت المال يرث بولاية الإيمان جملة ، ولهذا تلك الولاية وولاية أخرى ؛ فهو أحق ، والله أعلم. ويخلف هؤلاء من له رحم كما خلف ولاء العتاقة بما تقدم من النعمة بالإعتاق ـ حق العصبة من ذي النسب بقوله ـ عليه‌السلام ـ : «الولاء لحمة كلحمة النسب».

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ).

قيل : هو من الأيمان كان حلف في الجاهلية يقول الرجل لآخر : ترثنى وأرثك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، وتنصرني وأنصرك. ويتحالفان على ذلك (٢).

وقد قرئ بالألف «عاقدت» فهو من المحالفة.

ثم روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حلف في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهليّة لم يزده الإسلام (٣) إلّا شدّة» (٤)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٧٦) (٩٢٧٢) عن عكرمة ، وبنحوه عن قتادة برقم (٩٢٦٩ ـ ٩٢٧١) ، وعن الضحاك برقم (٩٢٧٣) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد وعبد الرزاق.

(٣) في ب : الإيمان.

(٤) رواه البخاري (١٢ / ١٢٧) كتاب الأدب : باب الإخاء والحلف (١٠٨٣) ، ومسلم (٤ / ١٩٦١) كتاب فضائل الصحابة : باب مؤاخاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه رضي الله عنهم (٢٠٦ / ٢٥٣٠) ، قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ١٢٦) : قال ابن الأثير : الحلف في الأصل : المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق ، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا حلف في الإسلام. وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه ، فذلك الذي قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ، يريد من المعاقدة على الخير ، ونصرة الحق ، وبذلك يجتمع الحديثان ، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام ، والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام. انتهى.

قال الحافظ ابن كثير : كان هذا ، أي التوارث بالحلف ، في ابتداء الإسلام. ثم نسخ بعد ذلك ، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ، ولا ينشئوا بعد هذه الآية معاقدة.

١٥٤

وقيل : هو من ضرب اليمين في اليمين ، وهو المبايعة ؛ كان الرجل يعاقد الرجل ويبايعه في الجاهلية ، فيموت ؛ فيرثه.

وقيل : إن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ عاقد رجلا ، فمات ؛ فورثه ؛ ولذلك خص المماليك بالذكر بهذا من قوله ـ تعالى ـ : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) لأنهم يشترون للخدمة ، والمرء إذا خدم نفسه إنما يخدمها بيمينه ، فإذا كان تأويل الآية ما ذكروا ، فهو منسوخ بقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] وبما روينا من الخبر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حلف فى الإسلام ، وما كان من حلف فى الجاهليّة لم يزده الإسلام إلا شدة» (١) ويحتمل أن تكون الآية فيمن أسلم على يدي آخر ووالاه ؛ على ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أسلم من أهل الكفر على يدي رجل من المسلمين فهو أولى النّاس به محياه ومماته».

وروي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا سأل عن رجل أسلم على يد رجل ويواليه ؛ قال : هو مولاه ؛ فإن أبي فلبيت المال.

وروي عن مسروق قال : أتيت عبد الله فقلت : إن رجلا كان عاملا علينا فخرج إلى الجبل ، فمات ، وترك ثلاثمائة درهم؟ فقال عبد الله : هل ترك وارثا أو لأحد منكم عليه عقد ولاء؟ قلت : لا ؛ فجعل ماله لبيت المال. وكذا (٢) يقول أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ : من مات وترك وارثا فما له لوارثه ، وإن لم يكن له وارث فللذى أسلم على يديه ووالاه ؛ لما روينا من الخبر : «هو أولى النّاس به محياه ومماته» (٣) ، وقوله : «محياه» في العقل ، و «مماته» في الميراث ، وما روينا عن الصحابة ، رضوان الله عليهم أجمعين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) قيل : هي الوصية إلى

__________________

(١) تقدم.

(٢) في ب : وكذلك.

(٣) أخرجه أحمد في المسند (٤ / ١٠٣) ، والترمذي في الفرائض (٣ / ٦١٣) باب ميراث الذي يسلم على يدي الرجل ، (٢١١٢) ، وقال : هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن وهب.

وأبو بكر بن أبي شيبة (١١ / ٤٠٨) (١١٦٢٢) ومن طرقه ابن ماجه (٤ / ٣٠٤ ، ٣٠٥) في الفرائض باب : الرجل يسلم على يدي الرجل (٢٧٥٢).

وسعيد بن منصور في سننه (١ / ٩٩) (٢٠٣) ، والدارقطني في سننه (٤ / ١٨١) (٣١).

والدارمي في الفرائض (٢ / ٣٧٧) باب في الرجل يوالى الرجل ، والطبراني في الكبير (٢ / ٥٦) (١٢٧٢ ، ١٢٧٣).

وصححه الحاكم في المستدرك (٢ / ٢١٩) جميعا عن تميم الدارى مرفوعا.

وقال الخطابي في معالم السنن (٤ / ١٠٤) : وضعف أحمد بن حنبل حديث تميم الداري هذا وقال : عبد العزيز راويه : ليس أهل الحفظ والإتقان.

١٥٥

تمام الثلث (١) ؛ لأن الميراث قد نسخ بالآية التي في الأحزاب (٢) بقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) ثم قال : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) [الأحزاب ٦] فهي الوصية إلى تمام الثلث ؛ فإذا كانت الآية في الذي أسلم على يديه ووالاه وعاقده فهو ليس بمنسوخ.

وقيل : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من النصر والمعونة والمشورة ، ولا ميراث (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)

بما ذكر من الشرط والوفاء به ، وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً)(٣٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)

قال أهل التأويل : الآية نزلت في الأزواج ؛ دليله قوله ـ تعالى ـ : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) والأزواج هم المأخوذون بنفقة أزواجهم ، وفيه دليل وجوب نفقة المرأة على زوجها ، وعلى ذلك إجماع أهل العلم.

وقال بعض أهل العلم في قوله ـ تعالى ـ : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) ـ دليل ألا يجوز النكاح إلا بالولي ، حيث أخبر أنهم القوامون عليهن دونهن.

قيل له : إن كانت الآية في الأزواج وفي الأولياء على ما ذكرت ففيه دليل جواز النكاح بغير ولى لا بطلانه (٤) ، وذلك قوله ـ تعالى ـ : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٨٠) (٩٢٨٨) عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب.

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦٩) وزاد نسبته للنحاس عن ابن المسيب.

(٢) في الأصول : الأنفال.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٧٨ ـ ٢٨٠) عن ابن عباس برقم (٩٢٧٧) ، وعن مجاهد برقم (٩٢٧٨ ، ٩٢٧٩ ، ٩٢٨٠ ، ٩٢٨٣ ، ٩٢٨٤) ، وعن ابن جريج برقم (٩٢٨١) ، وعن عطاء برقم (٩٢٨٢).

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٦٨) وزاد نسبته لأبي داود والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والحاكم والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس.

وللفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنحاس ، عن مجاهد.

(٤) «لا نكاح إلا بولي» : هذا مذهب عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بعدهم ، وهو قول عمر ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وعائشة وغيرهم ، وبه قال ـ

١٥٦

بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أخبر أنه فضل بعضهم على بعض ، وذلك التفضيل تفضيل خلقة (١) ، وهو أن جعل الرجال من أهل المكاسب والتجارات ، والقيام بأنواع الحرف ، والتقلب في البلدان والمدائن ، والنساء ليس كذلك ؛ بل جعلهن ضعفاء عاجزات عن القيام بالمكاسب والحرف والتقلب في حاجاتهن ؛ فالرجال هم القوامون عليهنّ. والون أمورهن ، وقاضون حوائجهن ، قائمون (٢) على ذلك ، ففرض على الرجال القيام بمصالحهن كما ذكرنا مع ما فرض ذلك على الرجال ، يجوز إذا ولين بأنفسهن وقمن بحوائجهن من البياعات ، والأشرية ، وغير ذلك ؛ فعلى ذلك النكاح ، وإن كان الرجال هم القوّام عليهن ، فإنهن إذا ولين ذلك بأنفسهن وقمن ـ جاز ذلك كما جاز غيره ، وكذا (٣) ما أمر الأولياء بالتزويج في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ...) الآية [النور : ٣٢] ، ونهاهم عن العضل عن النكاح بقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ ...) الآية [البقرة : ٢٣٢] ؛ لأن ذلك حق عليهم أن يفعلوا حتى يلين ذلك بأنفسهن ؛ إذ لا بد من حضور مشهد الرجال ومجلسهم ليشهدوا على ذلك ، فذلك على الأولياء القيام به.

وكهذا (٤) ما جعل نفقتهن إذا لم يكن لهن مال على محارمهن ؛ لأنهن لا يقمن بالمكاسب وأنواع الحرف والتجارات ، والرجال يقومون ، فجعل مئونتهن عليهم ؛ لضعفهن وعجزهن عن القيام بالمكاسب خلقة ؛ ولهذا ما لم يجعل للذكور من المحارم بعضهم

__________________

 ـ سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وشريح ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ، وإليه ذهب ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق.

قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها ، أو ذى الرأي من أهلها ، أو السلطان.

وروي عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال : كانت عائشة تخطب إليها المرأة من أهلها ؛ فتشهد ، فإذا بقيت عقدة النكاح ، قالت لبعض أهلها : زوّج ؛ فإن المرأة لا تلى عقد النكاح.

وقد أجاز بعضهم للمرأة تزويج نفسها ، وهو قول أصحاب الرأي ، وقال أبو ثور : إن زوجت نفسها بإذن الولي ـ صح النكاح ، وإن تزوجت بغير إذنه ـ لا يصح ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها» ، ومعناه عند العامة : أن يلي الولي العقد عليها ، أو يأذن لها في توكيل من يلي العقد عليها من الرجال ، فإن وكلت دون إذن الولي ؛ فباطل.

وقال مالك : إن كانت المرأة دنيئة ـ فلها أن تزوج نفسها ، أو تأمر من يزوجها ، وإن كانت شريفة ـ فلا. ولفظ الحديث عام في سلب الولاية عنهن من غير تخصيص ينظر شرح السنة (٥ / ٣٤ ـ ٣٥).

(١) في أ : خلقته.

(٢) في ب : قائلين.

(٣) في ب : ولهذا.

(٤) في ب : ولهذا.

١٥٧

على بعض النفقة ؛ لما يقومون بالمكاسب ؛ فإذا صار زمنا (١) وعجز (٢) عن المكاسب جعل نفقته على محارمه ؛ لأنه صار في الخلقة كالمرأة ، والله أعلم.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في قوله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) قال : أمراء عليهن أن تطيعه فيما أمر الله به من طاعته ، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهلها ، حافظة لماله ، وفضله عليها بنفقته وسعته.

وقيل : نزلت الآية في رجل لطم امرأته لطمة في وجهها ؛ فنشزت عن فراش زوجها ، واستعدت (٣) إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، لطمني زوجي فلان لطمة ، وهذا أثر يده في وجهي ؛ فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتصّي منه» (٤) ، وكان القصاص بينهم يومئذ بين الرجال والنساء في اللطمة والشجة والضربة ، ثم أبصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل ـ عليه‌السلام ـ ينزل ؛ فقال لها : «كفّي حتّى انظر ما جاء به جبريل فى أمرك» ، فأتاه بهذه الآية : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي : المسلّطون على آداب النساء في الحق.

وقيل : تفضيلهم عليهن بالعقل والميراث ، وفي الفيء ، والله أعلم.

ثم قال [رسول الله](٥) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والّذي أراد الله خير ممّا أردنا» (٦).

و [قيل في قوله ـ تعالى ـ : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ)(٧) : بما ساقوا من المهر

__________________

(١) الزمن : وصف من الزمانة ، والزمانة : مرض يدوم. المعجم الوسيط (١ / ٤٠٢) (زمن).

(٢) في ب : ويعجز.

(٣) في ب : واستبدت.

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٩١ ـ ٢٩٢) مرسلا عن :

الحسن البصري برقم (٩٣٠٤ ، ٩٣٠٧) ، وعن قتادة السدوسي برقم (٩٣٠٥ ، ٩٣٠٦) ، وعن ابن جريج (٩٣٠٨) ، وعن السدي (٩٣٠٩).

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٧٠ ـ ٢٧١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وعبد بن حميد والفريابي وابن المنذر وابن مردويه ، عن الحسن مرسلا ، وعزاه لابن جرير عن ابن جريج والسدي مرسلا أيضا. ولابن مردويه عن علي بن أبي طالب.

(٥) في ب : النبي.

(٦) تقدم.

(٧) قال القرطبي (٥ / ١١٤) : قال ابن المنذر : اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا جميعا بالغين إلا الناشز منهن الممتنعة ، وقال أبو عمر : من نشزت عنه امرأته بعد دخوله سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملا ، وخالف ابن القاسم جماعة الفقهاء في نفقة الناشز فأوجبها ، وإذا عادت الناشز إلى زوجها وجب في المستقبل نفقتها ، ولا تسقط نفقة المرأة عن زوجها لشيء غير النشوز ؛ لا من مرض ، ولا حيض ، ولا نفاس ، ولا صوم ، ولا حج ، ولا مغيب زوجها ، ولا حبسه عنها في حق أو جور غير ما ذكرنا ، والله أعلم.

١٥٨

والنفقة.

استدل الشافعي ـ رحمه‌الله ـ بقوله ـ تعالى ـ :](١)(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ...) الآية ، على أن النكاح لا يجوز إلا بالولي ، فصرف تأويل الآية إليهم ، وفيها : (وَبِما أَنْفَقُوا) فيلزم الأولياء النفقة ، وهو لا يقول به.

وبعد : فإن الآية لو كانت في الأولياء فهو في كل أمر لهن إليهم حاجة ؛ فيخرج ذلك مخرج الحق لهن في أن يتولوا لهن (٢) العقود كلها ، ويقوموا في كفايتهن وكفالتهن ، لا أنهن لو قمن بأنفسهن يبطل فعلهن ؛ فمثله أمر النكاح.

وأهل التأويل يحملون الآية على الأزواج ، ومن تدبر الآية علم أنها فيما قال أهل التأويل دون الذي ذهب إليه الشافعي ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ).

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (قانِتاتٌ) يعني : مطيعات ، والقانت : هو المطيع (٣).

ويحتمل : مطيعات لله تعالى (٤) :

ويحتمل : مطيعات للأزواج (٥).

ويحتمل : (قانِتاتٌ) أي : قائمات بأداء ما فرض الله عليهن من حقوقه وحقوق أزواجهن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ).

قيل : حافظات لما استودعهن الله من حقه ، وحافظات للغيب لغيب أزواجهن (٦).

وقيل : حافظات لأنفسهن ـ لغيبة أزواجهن ـ في فروجهن (٧).

ويحتمل : (حافِظاتٌ (٨) لِلْغَيْبِ) أي : لله في أموره ونواهيه ، والقيام بحقوقه ، وقانتات

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) في الأصول : هن.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٩٤) (٩٣١٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٧١) ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٩٤) (٩٣١٩) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٧١) ، وزاد نسبته لابن المنذر وعبد بن حميد.

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٩٤) (٩٣٢٢) عن سفيان ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٧١).

(٦) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٩٥) (٩٣٢٣) عن قتادة السدوسي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٧١) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٧) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٩٥) (٩٣٢٤) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٧١).

(٨) في ب : قاطعات.

١٥٩

وحافظات هو تفسير صالحات (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِما حَفِظَ اللهُ)

اختلف في تلاوته وتأويله ؛ في حرف بعضهم بالنصب (بِما حَفِظَ اللهُ) وتأويله : بحفظ الله ، لكنه نصب لسقوط حرف الخفض ، ومن رفعه جعل تأويله : بما استحفظهن الله تعالى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ).

قال بعض أهل الأدب : سمي العلم خوفا ؛ لأنه اضطر في العلم.

وقال آخر ـ وهو الفراء (٢) ـ : الخائف : الظان ؛ لأنه يرجو ويخاف.

وأما الأصل في أنه سمي العلم خوفا ؛ لغلبة شدة الخوف ؛ فيعمل عمل العلم بالشيء على غير حقيقته ؛ لأنه يعرف بالاجتهاد ، وبأكثر الرأي والظن ، وهكذا كل ما كان سبيل معرفته الاجتهاد ـ فإن غالب الظن وأكبر الرأي يعمل عمل اليقين في الحكم وإن لم يكن هنالك حقيقة ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) [الممتحنة : ١٠] وألزمنا العمل بظاهر علمنا وإن لم نصل إلى حقيقة إيمانهن ؛ فعلى ذلك إذا علم منها النشوز علم أكثر الظن وأغلبه يعمل عمل الذي ذكر في الآية من العظة وغيرها ؛ لأن قوله ـ تعالى ـ : (تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) ليس على وجود النشوز منها للحال حقيقة ؛ ولكن على غالب الظن ؛ لأنها إذا كانت ناشزة كيف يعظها؟ وكيف يهجرها ويضربها؟ فدل أنه على غالب العلم ؛ أولا ترى أنه من أكره على أن ينطق بكلام (٣) الكفر بقتل أو ضرب يخاف منه التلف ـ كان في حل وسعة أن ينطق به بعد أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان ، وذلك إنما يعلم علم غالب الظن ، وأكبر الرأي لا يعلم علم حقيقة ، ثم أبيح له أن يعمل عمل حقيقة العلم ؛ فكذلك الأول ـ والله أعلم ـ نهى الله ـ عزوجل ـ المرأة عن عصيان زوجها ، وأمرها بطاعته في نفسها ، كما أمره أن يحسن عشرتها ، وهذا هو ـ والله أعلم ـ هو الحق الذي ذكره الله ـ تعالى ـ في سورة البقرة مجملا بقوله ـ تعالى ـ : (وَلَهُنَ

__________________

(١) ينظر تفسير ابن جرير (٨ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧).

(٢) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور ، النحوي الكوفي أبو زكريا الشهير بالفراء.

روى عن قيس بن الربيع والكسائي. وروى عنه مسلمة بن عاصم والسمرى وغيرهما.

قال ثعلب : لو لا الفراء لما كانت العربية.

وتوفي سنة ٢٠٧ ه‍ ، وله ٦٣ سنة.

تنظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء (١٠ / ١١٨) رقم (١٢) ، تاريخ بغداد (١٤ / ١٤٦) ، تذكرة الحفاظ (١ / ٣٧٢).

(٣) في أ : بكلمة.

١٦٠