تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

على غراب آخر (١) ، على ما ذكر في القصّة أن غرابا قتل آخر ، ثم جعل يبحث التراب عليه ؛ لأنه ذكر السوأة ، وليس للغراب سوأة ـ والسوأة : العورة ـ وذلك ليريه كيف يوارى سوأة أخيه لم يذكر السوأة في الغراب ، إنما ذكرها في أخيه ؛ من أجل أن يريه أن كيف يوارى سوأته ، والله أعلم.

وقوله : (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي)

أي : أعجزت في الحيلة أن أكون مثل هذا الغراب ، فأوارى سوأة أخى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ...) الآية.

[أي : من استحل قتل نفس](٢) يحتمل وجوها :

يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) أي : من استحل قتل نفس حرّم الله قتلها بغير حق ، فكأنما استحل قتل الناس جميعا ؛ لأنه يكفر باستحلاله قتل نفس محرم قتلها ، فكان كاستحلال قتل الناس جميعا ؛ لأن من كفر بآية من كتاب الله يصير كافرا بالكل ؛ فعلى ذلك الأول ، إذا استحل قتل نفس محرمة يصير كأنه استحل قتل الأنفس كلها (٣).

ويحتمل : أن يكون هذا في أول قتيل قتل لم يكن قبل ذلك أحد ، فلما قتل هذا قتيلا جعل الناس يقتلون بعد ذلك بعضهم بعضا ، وكان ذلك (٤) منه سنة استن الناس به ؛ فهو كما روي في الخبر أن : «من سنّ سنّة سيّئة فله وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من وزرهم شيئا» (٥) ؛ فيشترك هذا القاتل في وزر كل قتيل قتل إلى يوم

__________________

(١) قاله الأصمّ ، كما في تفسير الرازي (١١ / ١٦٥).

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : اللباب (٧ / ٣٠٢).

(٤) في أ : [واحدا ، فلما قتل هذا قتيلا جعل الناس يقتلون بعد ذلك بعضهم بعضا ، وكان] وهي تكرار.

(٥) أخرجه مسلم (٣ / ٤٠٧ ـ ٧٠٥) كتاب الزكاة : باب الحدث على الصدق ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار ، حديث (٦٩ ـ ١٠١٧) ، والترمذي (٥ / ٤٣) كتاب العلم : باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتّبع أو إلى ضلالة ، حديث (٢٦٧٤) ، والنسائي (٥ / ٧٥) كتاب الزكاة : باب التحريض على الصدقة ، حديث (٢٥٥٤) ، وابن ماجه (١ / ٧٤) المقدمة : باب من سن سنة حسنة أو سيئة ، حديث (٢٠٣) ، وأحمد (٤ / ٣٥٧ ، ٣٥٨ ، ٣٥٩) ، وابن أبي شيبة (٣ / ١٠٩ ـ ١١٠) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (١ / ٩٣) ، وابن حبان (٣٣٠٨) ، والطبراني في «الكبير» رقم (٢٣٧٢ ، ٢٣٧٣ ، ٢٣٧٤ ، ٢٣٧٥) ، والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ٤١٦) كلهم من طريق المنذر ابن جرير عن أبيه به.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

٥٠١

القيامة بغير حق.

وتحتمل الآية وجها آخر ، وهو ما قيل : إنه (١) يجب عليه من القتل مثل ما أنه لو قتل الناس جميعا ، ومن أحياها أعطاه من الأجر مثل ما لو أنه أحيا الناس جميعا ، إذا أحياها فلم يقتلها وعفا عنها (٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : من أجل ابن (٣) آدم حين قتل أخاه كتبنا على بني إسرائيل : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) بلا نفس وجب عليها القصاص (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) يقول : الشرك في الأرض ، (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) يقول : يعذب عليها ؛ كما أنه لو قتل الناس جميعا لهم ، وهو مثل الأول.

وعن عبد الله بن عمرو قرأ : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ...) الآية قال : «لم يكن يؤخذ في بني إسرائيل أرش ، إنما كان قصاصا بقصاص» يقول : من قتل نفسا ، أو أفسد في الأرض جزاؤه كأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فعلى نحو ذلك.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) : أي : من استنقذ أحدا من مهلكة فكأنما استنقذ الناس جميعا في الآخرة.

وقيل : ومن أحياها بالعفو (٤) ـ أجر في إحيائها كما يؤجر من أحيا الناس جميعا (٥) ؛ إذ على الناس معونة ذلك ، فإذا عفا عنها فكأنما عفا عن الناس جميعا.

قال الحسن : ومن أحياها في الأجر ، أما والله من يستطيع أن يحييها إذا جاء أجلها؟! ولكنه أقيد فعفا.

ووجه آخر : أنه يلزم الناس جميعا دفع ذلك عن نفسه ومعونته له ، فإذا قتلها أو سعى عليها بالفساد فكأنما سعى بذلك على الناس كافة ؛ فعلى ذلك من أحياها فكأنما سعى في إحياء الناس جميعا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)

__________________

(١) في ب : أن.

(٢) ينظر : تفسير الطبري (٤ / ٥٤٣)

(٣) في الأصول : ابني.

(٤) قاله ابن زيد ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٤٤) ، رقم (١١٧٩٢) ، وقاله الحسن ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٤٤) ، رقم (١١٧٩٣) وما بعده.

(٥) أخرجه الطبري (٤ / ٥٤٥) ، رقم (١١٨٠٦) ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٩١).

٥٠٢

في الآية تصبير (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تكذيب الكفرة (٢) إيّاه ، وأنه ليس بأول مكذّب في الحق ، بل كانت الرسل من قبل يكذّبون فيما يأتون من الآيات والحجج والبيان.

قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ...)(٣) الآية

قال بعضهم : الآية نزلت في أهل الكفر ، وبيان الحكم فيهم ؛ وهو قول الحسن (٤) وأبي بكر الأصم ، وقالا : لأن الله ـ عزوجل ـ ذكر محاربة الله ورسوله ، وذكر السعي في الأرض بالفساد ، وكل كافر قد حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض بالفساد ـ فللإمام أن يقتلهم بأي أنواع القتل شاء ، ما دام الحرب فيما بينهم قائما ، فإذا أثخنوا في الأرض ـ بترك ذلك ـ يمنّ الله عليهم إن شاء.

وأما المسلم إذا قطع الطريق : فإنه لا يقال : إنه حارب الله ورسوله ؛ فدل أنها نزلت في أهل الكفر ؛ للكفر ، لا لقطع الطريق.

وقال آخرون : نزلت في المشركين إذا قطعوا الطريق فأما المسلمون إذا قطعوا الطريق ،

__________________

(١) في أ : قلة تصبر.

(٢) في أ : الكفرة الفجرة.

(٣) قال القرطبي (٦ / ٩٩) : اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة ؛ فقال مالك : المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو برية ، وكابرهم عن أنفسهم ، وأموالهم دون نائرة ولا دخل ولا عداوة ؛ قال ابن المنذر : اختلف عن مالك في هذه المسألة ، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة ؛ وقالت طائفة : حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة ؛ وهذا قول الشافعي وأبي ثور ؛ قال ابن المنذر : كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة ، والكتاب على العموم ، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة. وقالت طائفة : لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر ؛ هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان. والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله ، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سمّا فقتله فيقتل حدّا لا قودا.

وقال أيضا (٦ / ١٠٢) : وأجمع أهل العلم على أن السلطان وليّ من حارب ، فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة ؛ فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء ولا يجوز عفو وليّ الدم ، والقائم بذلك الإمام ، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى.

(٤) ينظر : اللباب (٧ / ٣١١).

٥٠٣

فإنما هم سراق تقطع أيديهم فقط.

وقال غيرهم : نزلت الآية بالحكم في المشركين إذا قطعوا الطريق وأخافوه ، لكن يتحرى ذلك الحكم في المسلمين ، إذا قطعوا الطريق على الناس وأخافوهم.

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «وادع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي ، فجاء أناس يريدون الإسلام ، فقطع الطريق عليهم ؛ فنزل جبريل ـ عليه‌السلام ـ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحدّ فيهم : أن من قتل وأخذ المال ـ صلب ، ومن قتل ولم يأخذ المال ـ قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل ـ قطعت يده ورجله من خلاف ، ومن جاء مسلما ـ هدم الإسلام ما كان في الشرك» (١) ؛ فدل حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ على أن الآية نزلت في الموادعين غير المحاربين.

روي عن أنس قال : «إن أناسا من عكل أو عرينة أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكوا إليه الجهد ، فبعث معهم بلقاح وراعيا ، وقال لهم : «اشربوا ألبانها ، وتداووا بأبوالها» ، فلما أن صحّوا قتلوا راعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستاقوا الإبل ، وارتدوا عن الإسلام ؛ فبعث في آثارهم ، فأتى (٢) بهم بعد ما ترجل [بهم](٣) النهار ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسمل (٤) أعينهم ، وقطع ألسنتهم ، وتركوا بالمكان حتى ماتوا ؛ فنزلت الآية» (٥).

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ ما يخالف هذا ؛ روي : «أن (٦) حارثة بن بدر حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، وتاب من قبل أن يقدر عليه ، فكتب علي بن أبي طالب إلى عامله بالبصرة : أن حارثة قد تاب قبل أن يقدر عليه ؛ فلا تتعرض له إلا بالخير» (٧) ألا ترى أن حارثة قد أطلق فيه أنه حارب [الله و](٨) رسوله وكان مؤمنا؟! فهذا

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢) عن الكلبي.

(٢) في ب : فبعث.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : سمر. وسمل العين : فقأها. المعجم الوسيط (٢ / ٤٥٠) (سمل).

(٥) أخرجه البخاري (٤ / ١٣٧) كتاب الزكاة : باب استعمال إبل الصدقة ، حديث (١٥٠١) ، مسلم (٣ / ١٢٩٦) كتاب القسامة : باب حكم المحاربين والمرشدين ، حديث (٩ / ١٦٧١) ، وأحمد (٣ / ١٠٧ ، ١٦٣ ، ١٧٠ ، ١٧٧ ، ٢٠٥ ، ٢٣٣ ، ٢٨٧) ، وأبو داود (٢ / ٥٣٤) كتاب الحدود : باب ما جاء في المحاربة ، حديث (٤٣٦٤) ، والترمذي (١ / ١١٤) كتاب الطهارة : باب ما جاء في بول ما يؤكل لحمه ، حديث (٧٢) ، والنسائي (١ / ١٥٨) كتاب الطهارة : باب بول ما يؤكل لحمه ، وابن ماجه (٤ / ١٨٥ ـ ١٨٦) كتاب الحدود : باب من حارب وسعى في الأرض فسادا ، حديث (٢٥٧٨) من حديث أنس.

(٦) في ب : عن.

(٧) أخرجه الطبري (٤ / ٥٦٢) ، رقم (١١٨٨٤).

(٨) سقط من ب.

٥٠٤

يدل على أن الحكم الذي أجرى على قطاع الطريق الكفرة يجري ذلك الحكم في المسلمين ، إذا كان منهم ما كان من المشركين من قطع الطريق على الناس وإخافته عليهم.

وقد يتوهم أن الآية نزلت في أهل الحرب ، وقد أبيح لنا قتل من ظفرنا به منهم كيف شئنا ، وإن لم يفسدوا في الأرض ولم يقطعوا الطريق ؛ وهذا يدل أن الآية نزلت بالحكم في أهل الكفر وأهل الإسلام جميعا ، إذا سعوا في الأرض بالفساد ، ومن الدليل على ذلك : أن الله ـ تعالى ـ قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٣٤] ، وأجمعوا أن الكافر إذا قتل مسلما ، وأظهر في الأرض الفساد ، فقدرنا عليه وأسرناه ، ثم أسلم ـ أنه يزول عنه القتل والقطع والطلب ؛ فدل ذلك على أن الآية نزلت بالحكم في المسلمين ؛ لأنه يختلف حكمه إذا تابوا من قبل أن يقدر عليهم ، أو بعد قدرتنا عليهم ، ولم ينزل فيمن يستوى حكمه في الحالين جميعا ، إذا تابوا بعد القدرة ، فالحكم ثابت عليهم ، فأما الذي روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فعله بالعرنيين : فإنهم كانوا أسلموا ، ثم ارتدوا.

واحتج من ذكرنا قوله من المتأخرين بأن الآية نزلت فيهم ـ بحديث أنس من فعله بالعرنيين. وقد روي عن بعض المتقدمين أن الآية نزلت بعد قتل العرنيين من نحو ابن سيرين وغيره (١) ؛ فالواجب على من ادعى أن الآية نزلت في العرنيين أن يبين دعواه.

وكان أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ يذهبون إلى ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ويرون أن يؤخذ المحارب إذا تاب قبل أن يقدر عليه بما أصاب من دم ومال ، على سبيل القصاص ، ولا يصلب ولا تقطع يده ورجله فيما أصاب من مال ؛ فكأنهم ذهبوا إلى أن يزال الحد الذي لله على المحارب بتوبته قبل أن يقدر عليه ، وهو ما كان إلى الإمام إقامته ، ولا أمر للولي فيه.

وأما الحقوق التي هي للعباد : فإن التوبة لا تعمل في إبطالها ، ولكل ذي حق أن يأخذ بحقه لا حق للإمام ؛ لأن الحق صار للولي دون الإمام.

وفي قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) دلالة على أن السارق إذا رد السرقة قبل أن يقدر عليه أن لا قطع عليه ؛ وكذلك روي عن بعض المتقدمين أنهم قالوا : ليس على تائب قطع (٢).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٤٣٧١) عن محمد بن سيرين قال : كان هذا قبل أن تنزل الحدود : يعني : حديث أنس ، وينظر : تفسير القرطبي (٦ / ٩٧ ـ ٩٨).

(٢) ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٧ / ٣١١).

٥٠٥

ودل قوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) على أن السارق في المصر ليلا أو نهارا لا يكون محاربا ، وإنما هو سارق تقطع يده دون رجله ؛ لأنه ذكر السعي في الأرض بالفساد ، والسارق في المصر لا يقال : سعى في الأرض ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) [النساء : ١٠١] لم يرد الضرب في المصر ، ولكن أراد الأسفار ؛ فعلى ذلك الأول.

وأما الكلام في القتل والصلب والقطع : فروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «إذا حارب وقتل وأخذ المال ـ قطعت يده ورجله من خلاف وصلب ، فإن قتل ولم يأخذ المال ـ قتل ، وإن أخذ المال ولم يقتل ـ قطعت يده ورجله من خلاف» (١).

وتأول الآية : (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) الآية : على أن الواجب على المحارب من العقوبة له على قدر جنايته ، ويزاد في عقوبته بقدر زيادته في جرمه.

وتأول غيره الآية : على أنها نزلت في المحارب الذي يصيب المال والنفس ، وإذا أصاب الأمرين كان للإمام أن يقتله كيف شاء : إن شاء قتله بالسيف قتلا ، وإن شاء قطع يده ورجله ثم يتركه حتى يموت ، وإن شاء صلبه حيّا (٢) ، وإن أبطأ عليه الموت طعن بالرماح حتى يموت ؛ وإلى هذا كان يذهب أبو حنيفة ، رحمه‌الله.

وأما أبو يوسف ومحمد ـ رحمهما‌الله ـ قالا : إذا صلب لم تقطع يده ورجله ؛ لأنه لا يجوز أن يجمع عليه الأمرين ، وإنما جعل الله له أحدهما بظاهر قوله : (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) ، وجعلا عقوبته مختلفة على قدر جنايته ، إن قيل : فما معنى التخيير فيه؟ قيل : معناه ـ والله أعلم ـ أن يقتل بالسيف ، أو يقتل بالصلب ، أو يقتل بقطع اليد والرجل (٣).

وأصله : أن حرف التخيير إذا كان في متفق الأسباب يخرج مخرج التخيير ، من نحو : التخيير في كفارة اليمين (٤) ، وكفارة الظهار (٥) ، وكفارة المتأذي (٦) ؛ لأن سبب وجوبه

__________________

(١) أخرجه الشافعي في مسنده (٢ / ١٧٣) ، رقم (٢٨٢) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٨ / ٢٨٣) كتاب السرقة : باب قطاع الطريق ، والطبري (٤ / ٥٥٢) رقم (١١٨٣٣).

(٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٩٣) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن عطاء ومجاهد ، وأخرجه بنحوه الطبري (٤ / ٥٥٤).

(٣) ذكره الرازي في تفسيره (١١ / ١٧٠) ، والقرطبي (٦ / ٩٩).

(٤) وذلك لقوله ـ تعالى ـ : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ...) [المائدة : ٨٩].

(٥) لقول الله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ..... فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) [المجادلة : ٣ ، ٤].

(٦) وهي فدية حلق الرأس وشبهه ؛ لقول الله ـ تعالى ـ : (... فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ...) [البقرة : ١٩٦].

٥٠٦

واحد.

وإذا كان في مختلف الأسباب فيخرج مخرج بيان الحكم لكلّ في نفسه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [الكهف : ٨٦] لا يحتمل التخيير ، ولكنه على بيان الحكم لكلّ في نفسه ؛ لأن سبب وجوبه مختلف ، فتأويله : إما أن تعذب من ظلم ، وتتخذ الحسن فيمن آمن بالله ؛ ألا ترى أنه قال : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) [الكهف : ٨٧ ـ ٨٨].

وقول من جعل الحكم فيمن جمع القتل وقطع الطريق أقرب إلى التأويل ـ والله أعلم ـ ممن لم يجمع (١) ؛ لأنه قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) الآية ، فمن (٢) حارب وأفسد في الأرض فقد أتى بالأمرين جميعا ؛ لأن محاربته أن يقتل ، وإفساده في الأرض بقطع الطريق ، فإذا جمع هو بين الأمرين يجمع بين عقوبتين.

وأصله أن أمر قطاع الطريق محمول على فضل تغليظ ، [من نحو ما يجمع بين قطع اليد والرجل في أخذ المال ، وذلك لا يجمع في أخذ المال في المصر ، ومن نحو الصلب ، وذلك لم يجعل في غيره من القتل في المصر ؛ فدل أنه محمول على فضل تغليظ](٣) ، فجاز أن يجمع بين ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ) : قال بعضهم : «وينفوا من الأرض» على إسقاط الألف ، ويكون في القتل والصلب نفيه إذا قتل وأخذ المال.

وقال بعضهم : نفيه أن يطلب فلا يقدر عليه (٤).

وعن الحسن قال : يطلب حتى يخرج من أرض الإسلام ، وذلك إلى الإمام (٥).

وأصله ما ذكرنا : أنه إذا قدر عليه وقد قتل وأخذ المال يقتل ؛ وفي القتل نفيه ، وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال حبس إن قدر عليه ؛ وفي الحبس نفيه ، وإن لم يقدر عليه يطلب حتى يبرح عن الطريق ، والله أعلم.

وقول أبي عبيد ؛ حيث قال : إنه يصلب بعد القتل ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن

__________________

(١) في ب : يجمع الآية.

(٢) في ب : فيمن.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) قاله الزهري ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٥٨) رقم (١١٨٦٩) ، ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٩٤) وعزاه لعبد بن حميد عن الزهري.

(٥) أخرجه الطبري (٤ / ٥٥٨) رقم (١١٨٦٧) ، كما ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٩٤).

٥٠٧

المثلة (١) ، فيقال له : المثلة يراد بها على ما قال محمد بن الحسن ـ رحمه‌الله ـ ولأن الصلب جعل عقوبته ، والميت لا يعاقب ، ولو جاز أن يصلب بعد القتل لجاز لغيره أن يقول : تقطع يده ورجله بعد القتل ؛ فذلك بعيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)

قد ذكرنا فيما تقدم أن قطاع الطريق إذا تابوا قبل أن يقدر عليهم ، سقط عنهم الحدود التي هي لله تعالى ، لا يؤاخذون بها ، وليس كغيرها من الحدود التي تلزم في غير المحاربة ـ أن التوبة لا تعمل في إسقاطها ـ لوجهين :

أحدهما : أن التوبة من غير المحارب لا تظهر حقيقة ، فإذا لم تظهر ـ لم تعمل في إسقاط ما وجب ، وفي المحارب تظهر ؛ لأنه في يدي نفسه إذا ترك المحاربة والسعي في الأرض بالفساد ، وظهرت منه التوبة فلم يؤاخذ به ، وفي سائر الحدود لا يظهر منه ترك ما كان يرتكب ؛ لذلك افترقا.

والثاني : أنه لو لم يقبل منه ذلك لتمادى في السعى في الأرض بالفساد في حق المسلمين من الضرر أكثر مما لو أخذوهم (٢) بذلك ، فاستحسنوا قبول ذلك منهم ، ودرئ ما وجب عليهم من الحدود التي هي لله تعالى.

وأما الحقوق التي هي للعباد : فذلك إلى الأولياء : إن شاءوا أخذوهم بذلك ، وإن شاءوا تركوا ، والله أعلم.

وأما قوله : «من جاء مسلما هدم الإسلام ما كان في الشرك» (٣) ، معناه : إذا جاء تائبا ؛

__________________

(١) أخرجه أبو داود الطيالسي (ص ١١٢) حديث (٨٣٦) ، والخطيب في التاريخ (٧ / ٣٠٧) من طريق الحسن عن عمران بن حصين قال : «قلما خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة إلا أمرنا فيها بالصدقة ونهانا عن المثلة» وقال : إن من المثلة أن ينذر أن يخرم أنفه ، ومن المثلة أن ينذر أن يحج ماشيا ، فإذا نذر أحدكم أن يحج ماشيا فليهد هديا وليركب. وهذا الإسناد منقطع ، الحسن لم يسمع هذا الحديث من عمران.

وأخرجه ابن أبي شيبة (٩ / ٤٢٣) كتاب الديات : باب المثلة في القتل حديث (٧٩٨٤) ، وأحمد (٤ / ٤٢٨) ، والبخاري في التاريخ الكبير (٨ / ٢٤٢) ، وأبو داود (٣ / ١٢٠) كتاب الجهاد : باب في النهي عن المثلة ، حديث (٢٦٦٧) ، والبيهقي (٩ / ٦٩) كتاب السير : باب قتل المشركين بعد الأسر بضرب الأعناق دون المثلة ، كلهم من رواية قتادة عن الحسن بن الهياج بن عمران عن عمران بن حصين قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة» واللفظ لأبي داود.

وقال أحمد : كان يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة.

(٢) في ب : أخذ منهم.

(٣) وفي معناه حديث عمرو بن العاص مرفوعا : «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله» ، أخرجه مسلم بنحوه (١ / ١١٢) كتاب الإيمان : باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة (١٩٢ ـ ١٢١).

٥٠٨

 لأن الحدود جعلت زواجر ، والإسلام يزيد في الزجر والتغليظ ؛ فلا يجوز أن يكون ما (١) كان سببا للتغليظ سببا لإسقاطه ؛ دل أن المعنى منه : من جاء مسلما تائبا ، والله أعلم. قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)

يحتمل أن تكون الآية صلة ما مضى من الآيات ؛ من ذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، أخبر أنه إنما يتقرب بقربانه المتقي ، وقال : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) الآية ، ثم قال تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) : أي : ابتغوا بتقوى الله عن معاصيه القربة والوسيلة.

و (الْوَسِيلَةَ) : القربة (٢) وكذلك الزلفة ، يقال : توسل إلىّ بكذا ، أي : تقرب ؛ وهو قول القتبي ، وقوله : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الشعراء : ٩٠] : أي : قربت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ...) الآية.

يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : جاهدوا أنفسكم في صرفها عن معاصيه إلى طاعته ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩].

ويحتمل : أن جاهدوا مع أنفسكم وأموالكم أعداء الله في نصرة دينه (٣) ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) كان الذي يمنعهم عن الإسلام والإيمان بالله وبالرسل قضاء شهواتهم ، وطلب العزة (٤) والشرف بالأموال ، فأخبر : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) ؛ في صرف العذاب عن أنفسهم (ما تُقُبِّلَ

__________________

(١) في ب : مما.

(٢) قاله عطاء ومجاهد والحسن ، أخرجه عنهم الطبري (٤ / ٥٦٧) ، رقم (١١٩٠٤ ، ١١٩٠٧ ، ١١٩٠٨) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٩٥) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك (٢ / ٣١٢) كتاب التفسير ، عن حذيفة ، وصححه.

(٣) ينظر : تفسير الطبري (٤ / ٥٦٧).

(٤) في ب : العز.

٥٠٩

مِنْهُمْ) ، ولا ينفعهم ذلك ، يذكر هذا ـ والله أعلم ـ ليصرفوا أنفسهم عن معاصى الله ، والخلاف له بأدنى شيء يطلبون من الأموال والشهوات ، وأخبر أنه لو كان لهم ما في الأرض ومثله معه ليفتدوا (١) بعذاب يوم القيامة ، ما نفعهم ذلك ، وما تقبل منهم.

والحكمة في ذكر هذا ـ والله أعلم ـ ليعلموا أن الآخرة ليست بدار تقبل فيها الرشا كما تقبل في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

دل هذا على أن من العذاب ما لا ألم فيه من نحو الحبس والقيد ، فأخبر أن عذاب الآخرة أليم كله ، ليس كعذاب الدنيا : منه ما يكون ، أليما ومنه ما لا يكون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها ...) الآية يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) : أي : يطلبون ويسألون الخروج منها من غير عمل الخروج نفسه.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) ولكن يريدون ويعادون إلى مكانهم (٢) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) [السجدة : ٢٠] أي : يجتهدون في الخروج منها (أُعِيدُوا فِيها) ؛ فيه دليل أنهم يعملون عمل الخروج ؛ ولكن يردون ويعادون فيها.

قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤٠)

وقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ...) الآية

عام في السراق ، خاص في السرقة (٣) ؛ لأنه يدخل جميع أهل الخطاب في ذلك ، وإن

__________________

(١) في الأصول : لافتدوا.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١١ / ١٧٥).

(٣) هي بفتح السين وكسر الراء ، ويجوز إسكان الراء مع فتح السين وكسرها ، يقال : سرق ـ بفتح الراء ـ يسرق ـ بكسرها ـ سرقا وسرقة ، فهو سارق ، والشيء مسروق ، وصاحبه مسروق منه. والسّرقة اسم مصدر من سرق ، يقال : سرقا في المصادر ، وسرقة في اسمه. فهي لغة : أخذ الشيء من الغير خفية ؛ أي شيء كان.

واصطلاحا :

عرفها الشافعية : أخذ المال خفية ظلما من حرز مثله بشروط. ـ

٥١٠

كان يجوز أن يدرأ الحد عن بعض السراق ، إذا سرقوا من محارمهم ، أو ممن له تأويل الملك في ماله أو شبهة التناول منه ؛ لأنه إذا سرق ممن ليس له ذلك التأويل ولا تلك الشبهة ـ قطع ؛ فدل أنها عامة في السراق ؛ وعلى هذا يخرج قول ابن عباس ؛ حيث سئل عن قوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أخاص هو أم عام؟ فقال : «لا ؛ بل عام» (١) أي : عام في السراق ؛ ألا ترى أنه قال في خبر آخر ؛ حيث سئل عن ذلك فقال : «ما كان من الرجال والنساء قطع» (٢).

وأما قولنا : «خاص (٣) في السرقة» ؛ لأنه لا يحتمل قلب أحد قطع اليد في الشيء التافه الخسيس الذي إذا أخذ [منه](٤) دل أن الخطاب بذلك من الله ـ عزوجل ـ رجع إلى سرقة دون سرقة ، لا إلى كل ما يقع عليه اسم السرقة ؛ وكذلك الخطاب بقطع اليد رجع إلى بعض اليد ، وهو الكف ، وإن كان اسم اليد يقع من الأصابع إلى الإبط ؛ لأن الناس مع اختلافهم ـ اتفقوا على أن اليد لا تقطع من الإبط ولا من المرفق ، لكنهم اختلفوا فيما دون ذلك : فعلى قول بعضهم : تقطع الأصابع دون الكف ، وعندنا : أنه تقطع الأصابع بالكف (٥) ؛ لأنه بها يقبض الشيء ويؤخذ ؛ فمخرج الخطاب بالقطع عام ، والمراد منه : رجع إلى بعض اليد دون بعض.

وكذلك قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٦) مخرج الخطاب بالقطع عام ، ليس فيه

__________________

 ـ وعند الحنفية : أخذ مكلف عاقل بالغ خفية قدر عشرة دراهم.

وعند المالكية : أخذ مكلف حرّا لا يعقل لصغره ، أو مالا محترما لغيره نصابا أخرجه من حرزه بقصد وأخذه خفية لا شبهة له فيه.

وعند الحنابلة : أخذ مال محترم لغيره ، وإخراجه من حرز مثله. الصحاح (٤ / ١٤٩٦) ، المغرب (١ / ٣٩٣) ، المصباح (١ / ٤١٩) ، تهذيب الأسماء للنووي (٤ / ١٤٨) ، درر الحكام (٢ / ٧٧) ، ابن عابدين (٤ / ٨٢) ، مغني المحتاج (٤ / ١٨٥) ، المغني لابن قدامة (٩ / ١٠٤) ، كشاف القناع (٦ / ١٢٩) ، الخرشي على المختصر (٨ / ٩١).

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٤ / ٥٧٠) ، رقم (١١٩١٩) ، ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٩٦) ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم ، عن نجدة الحنفي قال : سألت ابن عباس.

(٢) أخرجه عبد بن حميد عن نجدة بن نفيع ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٩٦).

(٣) في ب : إنها خاص.

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب : دون الكف.

(٦) قال القرطبي (٦ / ١٠٦) : اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع. وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا جمع الثياب في البيت قطع. وقال أيضا في قول آخر مثل قول سائر أهل العلم ؛ فصار اتفاقا صحيحا.

وقال القرطبي أيضا (٦ / ١٠٨) : واختلف في قطع يد من سرق المال من الذي سرقه ؛ فقال ـ

٥١١

بيان من يتولى القطع ، فالمراد منه : رجع إلى الولاة ؛ فهذا كله يدل على أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد ، ولا في مخرج خصوص اللفظ دليل خصوصه ؛ بل يعرف ذلك كله بدليل : يقوم العموم بدليل العموم ، والخصوص بدليل الخصوص ؛ فهذا ينقض قول من يقول : إنه على العموم حتى يقوم دليل الخصوص ، والله أعلم.

فإن قيل لنا : أيش الحكمة في إقامة الحد في السرقة على ما به تكتسب السرقة وهو اليد ، ولم يقم الحد في سائر الحدود فيما به كان اكتسابها ؛ من نحو القصاص والزنا وغيره ، أنه إذا قتل آخر لم تقطع يده وبها كان اكتساب القتل ؛ وكذلك الزنا لم يقم الحد على ما به كان الزنا ، بل أقيم على غير ما به كان ذلك الفعل ، وفي السرقة أقيم على ما به كان ذلك خاصة؟!

قيل ـ والله أعلم ـ لخلتين : إما لقصور في الاستيفاء من الحق ، أو لخوف الزيادة في الاستيفاء على الحق ؛ لأنه إذا قتل : لو قطعت يده بقيت له النفس ، وقد تلفت نفس الآخر ، فكان في ذلك قصور في استيفاء الحق.

وفي الزنا : لو أقيم به على الذي به كان اكتساب الفعل لخيف تلف نفسه به ؛ فكان في ذلك استيفاء الزيادة على الحق.

وأما السرقة : فإنه أمكن استيفاء الحق مما كان به اكتسابها ، على غير قصور يقع في الاستيفاء ، ولا خوف الزيادة في الاستيفاء ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

فإن قيل : ما الحكمة في قطع يد قيمتها ألوف بسرقة عشرة ، وذلك مما لا يماثله في الظاهر ، وقد أخبر ألا يجزي إلا مثلها ، كيف جزي هذا بأضعاف ذلك؟ قيل : لهذا جوابان :

أحدهما : أن جزاء الدنيا محنة يمتحن بها المرء ، ولله أن يمتحن عباده بأنواع المحن ابتداء على غير جعل ذلك جزاء لكسب يكتسب ، فمن له الامتحان بأنواع المحن على غير جعلها جزاء لشيء ـ كان له الامتحان بأن يجعل ما يساوي ألوفا جزاء فلس أو حبة ، وبالله العصمة والنجاة.

والثاني : أن ليس القطع في السرقة جزاء ما أخذ من المال ؛ ولكنه جزاء ما هتك من

__________________

 ـ علماؤنا : يقطع وقال الشافعي : لا يقطع ؛ لأنه سرق من غير مالك ، ومن غير حرز. وقال علماؤنا : حرمة المالك عليه باقية لم تنقطع عنه ، ويد السارق كلا يد ، كالغاصب لو سرق منه المال المغصوب قطع ، فإن قيل : اجعلوا حرزه كلا حرز ؛ قلنا : الحرز قائم والملك قائم ولم يبطل الملك فيه فيقولوا لنا أبطلوا الحرز.

٥١٢

الحرمة ؛ ألا ترى أنه قال : (جَزاءً بِما كَسَبا) ، ولم يقل : جزاء بما أخذا من الأموال؟! فيجوز أن يبلغ جزاء تلك الحرمة قطع اليد ، وإن قصر علم البشر عن ذلك ؛ لأن مقادير العقوبات إنما يعرف من يعرف مقادير الإجرام ، وليس أحد من الخلائق يحتمل علمه مبلغ مقادير الإجرام ، فإذا لم يحتمل علمهم مبلغ مقاديرها لم يحتمل معرفة مقادير عقوباتها ، فإذا كان كذلك فحق القول فيه الاتباع والتسليم ـ بعد العلم في الاتباع ـ أن الله لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ، وبالله التوفيق.

ثم الكلام في قطع اليمين ما روي في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «فاقطعوا أيمانهما» (١).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ : قال : «إذا سرق الرجل قطعت يده اليمنى» (٢) ، وعلى ذلك اتفاق الأمة.

ثم المسألة في مقدار السرقة ، وليس في الآية ذكر مقدارها ، واختلف أهل العلم في ذلك :

فقال بعضهم : تقطع في ربع دينار فصاعدا.

وقال أصحابنا : لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم فصاعدا أو دينار (٣).

وقد روي من الأخبار ما احتج به كل فريق منهم :

روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقطع في ربع دينار فصاعدا. وعنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تقطع يد السّارق فى ربع دينار فصاعدا» (٤).

__________________

(١) أخرجه سعيد بن منصور (٤ / ١٤٦٤) ، رقم (٧٣٧) ، والطبري (٤ / ٥٦٩) ، رقم (١١٩١٢) وما بعده ، والبيهقي (٨ / ٢٧٠) ، وابن المنذر وأبو الشيخ ، كما في الدر المنثور (٢ / ٤٩٦).

(٢) أخرجه محمد بن الحسن في كتاب الآثار ، كما في نصب الراية (٣ / ٣٧٤) ، ومن طريقه : الدار قطني في السنن (٣ / ١٨٠).

(٣) ينظر : الأم للشافعي (٣ / ١٣٠) ، المهذب (٢ / ٢٧٨) ، روضة الطالبين (١٠ / ١١٠) ، الهداية مع البناية (٥ / ٥٢٩) ، الاختيار (٤ / ١٠٣) ، المغني لابن قدامة (١٢ / ٤١٦ ، ٤١٨) ، بداية المجتهد لابن رشد (٢ / ٤٤٧).

(٤) أخرجه البخاري (١٢ / ٩٦) كتاب الحدود : باب السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، حديث (٦٧٨٩) ، ومسلم (٣ / ١٣١٣) كتاب الحدود : باب حد السرقة ونصابها ، حديث (٤ ، ٣ ، ٢ / ١٦٨٤) ، وأبو داود (٤ / ٥٤٦) كتاب الحدود : باب ما يقطع فيه السارق ، حديث (٤٣٨٣ ، ٤٣٨٤) ، والنسائي (٨ / ٨٧) كتاب قطع السارق : باب القدر الذي إذا سرقه السارق قطعت يده ، والترمذي (٤ / ٥٠) كتاب الحدود : باب في كم تقطع يد السارق ، حديث (١٤٤٥) ، وابن ماجه (٢ / ٨٦٢) كتاب الحدود : باب حد السارق ، حديث (٢٥٨٥) ، وأحمد (٦ / ٣٦٠ ، ١٦٣ ، ٢٤٩) ، والدارمي (٢ / ١٧٢) كتاب الحدود : باب ما يقطع فيه اليد ، والشافعي (٢ / ٨٣) كتاب الحدود : باب في حد السرقة ، حديث (٢٧٠) ، والحميدي (١ / ١٣٤) رقم (٢٧٩) ، وأبو داود الطيالسي (١ / ٣٠١ ـ

٥١٣

وعروة بن الزبير يقول : كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تقطع اليد إلّا فى المجنّ (١) أو فى ثمنه» وتزعم أن قيمة المجن أربعة دراهم (٢) ؛ فدل قول عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يقطع اليد إلا في ثمن المجن ـ أن قولها : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يقطع اليد إلا في ربع دينار» أن ثمن المجن كان عندها ربع دينار أو لا يكون كذلك ؛ وعلى ذلك ما روي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم» (٣). في الخبر أنه قطع في مجن ، وأما التقويم فإنما هو من عند عبد الله.

وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطع في مجن ، فقيل : يا أبا حمزة ، كم كانت قيمته؟ قال : دون خمسة دراهم (٤) ؛ هذا يدل على أن التقويم كان من

__________________

 ـ منحة) رقم (١٥٣٢) ، وأبو يعلى (٧ / ٣٨١) رقم (٤٤١١) ، وابن حبان (٤٤٤٢) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (٨٢٤) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣ / ١٦٧) كتاب الحدود : باب المقدار الذي يقطع فيه السارق ، والدار قطني (٣ / ١٨٩ ـ ١٩٠) كتاب الحدود والديات ، حديث (٣١٥) ، والبيهقي (٨ / ٢٥٤) كتاب السرقة : باب ما يجب فيه القطع ، والبغوي في «شرح لسنة» (٥ / ٤٨١) من طرق عن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القطع في ربع دينار فصاعدا».

(١) المجن : الترس ؛ لأنه يجن ، أي : يستر. ينظر : النهاية في غريب الحديث (٣ / ١٢٢).

(٢) أخرجه البخاري (١٤ / ٥٠) كتاب الحدود : باب قول الله ـ تعالى ـ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)[(٦٧٩٢) ، ومسلم (٣ / ١٣١٣) كتاب الحدود : باب حد السرقة (٥ ـ ١٦٨٥) عن عائشة قالت : لم تقطع يد سارق في عهد رسول الله في أقل من ثمن المجن : حجفة أو ترس ، وكلاهما ذو ثمن.

(٣) أخرجه مالك (٢ / ٨٣١) كتاب الحدود : باب ما يجب فيه القطع ، حديث (٢١) ، والبخاري (١٢ / ٩٧) كتاب الحدود : باب قول الله ـ تعالى ـ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، حديث (٦٧٩٥) ، ومسلم (٣ / ١٣١٣) كتاب الحدود : باب حد السرقة ، حديث (٦ / ١٦٨٦) ، وأبو داود (٤ / ٥٤٧) كتاب الحدود : باب ما يقطع فيه السارق ، حديث (٤٣٨٥) ، والنسائي (٨ / ٧٦) كتاب قطع السارق : باب القدر الذي إذا سرقه السارق قطعت يده ، والترمذي (٤ / ٤٠ ـ ٤١) كتاب الحدود : باب ما جاء في كم تقطع يد السارق ، حديث (١٤٤٦) ، وابن ماجه (٢ / ٨٦٢) كتاب الحدود : باب حد السارق ، حديث (٢٥٨٤) ، وأحمد (٢ / ، ٥٤٦ ، ٦٤ ، ٨٠ ، ٨٢ ، ١٤٣ ، ١٤٥) ، والدارمي (٢ / ١٧٣) كتاب الحدود : باب : ما يقطع فيه اليد ، والشافعي (٢ / ٨٣) كتاب الحدود : باب في حد السرقة ، حديث (٢٧٢) ، وأبو داود الطيالسي (١ / ٣٠٣ ـ منحة) رقم (١٥٣٣) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (٨٢٥) ، وأبو يعلى (١٠ / ٢٠١) رقم (٥٨٣٣) ، وابن حبان (٤٤٤٤ ، ٤٤٤٦ ـ الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣ / ١٦٢) ، والدارقطني (٣ / ١٩٠) الحدود والدّيات ، حديث (٣١٨) ، والبيهقي (٨ / ٢٥٦) كتاب السرقة : باب اختلاف الناقلة في ثمن المجن وما يصح منه وما لا يصح ، والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٤٨١) كلهم من طريق نافع عن ابن عمر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم».

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(٤) أخرجه الدار قطني (٣ / ١٩٠) كتاب الحدود : حديث (٣١٩) عن أنس.

٥١٤

أنس ، فكان ذلك كتقويم ابن عمر وعائشة ، رضي الله عنهم.

وليس في التقويم حجة في واحد من المقومين ؛ لمخالفة (١) كل واحد منهم صاحبه ، وإنما قوموه من قبل أنفسهم.

فأما إن كان في مجنّين مختلفين : فهو على التناسخ ، وأما إن كان في مجن واحد في وقتين مختلفين : فإن كان في وقتين مختلفين (٢) ، لم يكن لمخالفنا فيه حجة ؛ لما يحتمل الزيادة والنقصان على اختلاف الأوقات ، وإن كان في مجنين مختلفين فهو على التناسخ فلم يظهر ؛ فلا يقدم على القطع بالشك.

ثم الأخبار التي تمنع القطع بدون العشرة :

ما روي عن عمرو بن شعيب (٣) قال : «دخلت على سعيد بن المسيب ، فقلت له : إن أصحابك : عروة ، ومحمد بن مسلم ، وفلان ـ رجل آخر ـ يقولون : ثمن المجن خمسة دراهم أو ثلاثة؟ فقال : أما هذا فقد مضت السنة فيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرة دراهم (٤).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : ثمن المجن في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرة دراهم.

وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه كان لا يقطع اليد إلا في ثمن المجن ، وهو يومئذ يساوي عشرة دراهم» (٥).

فلما اختلف المقومون في قيمة المجن رجعنا إلى ما روي عن سعيد بن المسيب ؛

__________________

(١) في ب : بمخالفة.

(٢) في ب : مخالفين.

(٣) عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي أبو إبراهيم ، قال البخاري : رأيت أحمد بن حنبل وعلى بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وعامة أصحابنا ـ يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. توفي سنة ثماني عشرة ومائة. ينظر : تهذيب الكمال (٢٢ / ٦٤) ، تاريخ الدوري (٢ / ٤٤٥) ، تاريخ البخاري : ترجمة رقم (٢٥٧٨).

(٤) أخرجه عبد الرزاق (١٨٩٥١).

(٥) أخرجه أبو داود (٤ / ٥٤٨) كتاب الحدود : باب : ما يقطع فيه السارق حديث (٤٣٨٧) ، والنسائي (٨ / ٨٣) كتاب قطع السارق : باب : القدار الذي إذا سرق قطعت يده ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٣ / ١٦٣) كتاب الحدود : باب : المقدار الذي يقطع فيه السارق ، والدار قطني (٣ / ١٩٢) كتاب الحدود والديات حديث (٣٢٣) ، والحاكم (٤ / ٣٧٨) كتاب الحدود باب : قطع يد السارق ، والبيهقي (٨ / ٢٥٧) كتاب السرقة باب : ثمن المجن وما يصح منه.

كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرة دراهم.

قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

٥١٥

حيث قال : «مضت السنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعشرة دراهم» (١) وإن كان مرسلا ؛ إذ لا معارض له ، ويؤيد هذا ما روي عن نجباء الصحابة من نحو : عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنهم.

وروي أن عمر أتى بسارق فأمر بقطعه ؛ قال عثمان ـ رضي الله عنه ـ : «سرقته لا تساوي عشرة دراهم» ؛ فأمر بها فقومت ثمانية دراهم ، فلم يقطعه (٢).

وعن ابن مسعود قال : «لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم» (٣).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : «لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم» (٤).

وروي عن عائشة قالت : «لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشيء التافه» (٥) ، فأخذ أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ بهذه الأخبار ، ولم يروا قطع اليد بدون العشرة ؛ لأنهم مع اختلافهم اتفقوا على أن اليد تقطع في سرقة عشرة دراهم ، واختلفوا في وجوب القطع فيما دون العشرة وهو حد قد روي ؛ للإشكال ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ ...) [الآية](٦) :

يحتمل قوله : (نَكالاً مِنَ اللهِ)(٧) ، أي عظة وزجرا من الله لغيره ؛ لأن من عاين آخر قطعت يده في سرقة ـ اتعظ به ، وزجره ذلك على الإقدام عليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ...) الآية

يحتمل : (تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ) أي : تاب عن الشرك ، وأصلح ما كان يفسده

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ١٨٠) ، والنسائي (٨ / ٨٤) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(٢) أخرجه عبد الرزاق (١٨٩٥٣).

(٣) أخرجه عبد الرزاق (١٨٩٥٠).

(٤) أخرجه عبد الرزاق (١٨٩٥٢).

(٥) أخرجه عبد الرزاق (١٨٩٥٩) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٢٥٦).

(٦) سقط من ب.

(٧) قال القرطبي (٦ / ١١٤) : يقال : بدأ الله بالسارق في هذه الآية قبل السارقة ، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني ما الحكمة في ذلك؟ فالجواب أن يقال : لما كان حب المال على الرجال أغلب ، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب بدأ بهما في الموضعين ؛ هذا أحد الوجوه في المرأة على ما يأتي بيانه في سورة «النور» من البداية بها على الزاني إن شاء الله. ثم جعل الله حد السرقة قطع اليد لتناول المال ، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به لثلاثة معان :

أحدهما : أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية ، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه.

الثاني : أن الحد زجر للمحدود وغيره ، وقطع اليد في السرقة ظاهر : وقطع الذكر في الزنى باطن.

الثالث : أن قطع الذكر فيه إبطال للنسل ، وليس في قطع اليد إبطاله.

٥١٦

ويرتكبه في حال شركه.

(فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وعد له المغفرة والرحمة ؛ إذا تاب عن الشرك ، وأصلح ما كان يفسده ويرتكبه في حال الشرك ، حتى لم يؤاخذ بشيء مما كان يرتكبه في حال الشرك ويتعاطاه إذا أسلم ؛ ألا ترى أنه قال ـ تعالى ـ : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] ، والمسلم في حال الإسلام إذا ارتكب حدودا وتعاطاها ، ثم تاب ـ أخذ بها ؛ لوجهين :

أحدهما : أن الكافر لو أخذ بعد ما أسلم بما كان ارتكب في حال الكفر وتعاطاه ؛ فذلك يمنعه عن الإسلام ويزجره ؛ فإذا كان كذلك فكان في إقامة ذلك والأخذ بها من الفساد أكثر من الصلاح.

وأما المسلم إذا لم يؤخذ بما ارتكب وتعاطى بعد التوبة ـ يدخل في ذلك من الفساد ما يفحش ؛ وذلك أنه كلما أريد أن يقام عليه الحد تاب فسقط ذلك عنه ، ثم عاد ثانيا ، ثم ثالثا ... إلى (١) ما لا يتناهى ، فعمل في الأرض بكل الفساد من غير أن لحقه ضرر ؛ لذلك أخذ به بعد التوبة ، والكافر لا ، والله أعلم.

والثاني : أن الكافر ما يرتكب ويتعاطى في حال الكفر ـ إنما يرتكبه تدينا يدين به ؛ فإذا رجع عن ذلك الدين ودان بدين آخر ما يكون ذلك حراما في دينه الذي تمسك به ـ ترك ما كان يرتكب في دينه الأول تدينا ؛ فيظهر ذلك منه ؛ فلم يقم عليه ؛ لما يظهر منه ترك ما تعاطى قبل ذلك.

وأما المسلم : فليس يتعاطى ما يتعاطى تدينا يدين به ؛ ولكنه يتعاطاه شهوة ، وذلك مما لا يظهر منه التوبة حقيقة ؛ لذلك اختلفا ، والله أعلم.

وفيه دليل جواز تأخر البيان (٢) ؛ لأنه قال تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً) ، ولا يحتمل أن يبين له جميع شرائط السرقة التي يجب فيها القطع وقت قرع الخطاب السمع ؛ فدل أنه إنما يبين له على قدر الحاجة بعد السؤال والبحث عنها ، والله أعلم.

وكأن جميع ما ذكر من العقوبات إنما نزل في أهل الكفر ؛ لأنهم هم الذين كانوا

__________________

(١) في ب : وإلى.

(٢) ينظر : البحر المحيط للزركشى (٣ / ٤٩٣) ، البرهان لإمام الحرمين (١ / ١٦٦) ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدى (٣ / ٢٨) ، نهاية السول (٢ / ٥٤٠) ، زوائد الأصول للأسنوي (ص ٣٠٤) ، منهاج العقول (٢ / ٢٢٠) ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري (ص ٨٦) ، التحصيل من المحصول للأرموى (١ / ٤٢٩) ، المنخول للغزالى (ص ٦٨) ، المستصفي له (١ / ٣٦٨).

٥١٧

يتعاطون ذلك دون المسلمين ، وترك عامة العبادات في المسلمين ؛ لأنهم هم الذين يرغبون فيها : من ذلك قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) الآية ، وما ذكر في ابنى آدم.

وقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ...) الآية : ذكر عن ابن عباس أنه قال : «نزلت في طعمة بن أبيرق (١) ؛ سرق درع جاره ؛ فنزلت الآية» ، وعلى ذلك قال عامة أهل التأويل ، ثم صار ذلك الحكم في المسلمين إذا ارتكبوا تلك الأجرام ، وفيه دليل جواز القياس ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ)

ذكر هذا ـ والله أعلم ـ على أثر قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، وعلى أثر قوله : (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) الآية ـ : أن له ملك السموات والأرض ، وله أن يعذب من يشاء بعد التوبة وقبل التوبة ، ويغفر لمن يشاء ، ولا يعذب بعد التوبة ؛ وذلك أن المحارب إذا تاب قبل أن يقدر عليه لم يقم عليه الحد الذي وجب في حال (٢) المحاربة ، والسارق إذا تاب قبل أن يقدر عليه أخذ به. أخبر أن له أن يعذب من يشاء (٣) [و] يغفر لمن يشاء (٤).

وفيه نقض على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : الصغيرة مغفورة ليس له أن يعذب عليها ، والكبيرة يخلد صاحبها في النار ليس له أن يعفو عنها (٥). فلو كان على ما قالوا لذهب معنى التخيير بقوله ـ تعالى ـ : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) إذا ما عفا : عفا ما عليه أن يعفو ، وكذلك ما عذب : عذب ما عليه أن يعذب ؛ فيذهب فائدة التخيير ، وقد أخبر أنه (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ

__________________

(١) طعمة بن أبيرق بن عمر الأنصاري ، ذكره أبو إسحاق المستملى في الصحابة ، وقال : شهد المشاهد إلا بدرا ، وساق له حديثا وقال : وقد تكلم في إيمان طعمة. ينظر : الإصابة رقم (٤٢٦٤) ، أسد الغابة ت (٢٦٠٨) ، والبداية والنهاية (٧ / ١٥٦).

(٢) في ب : مال.

(٣) في ب : شاء.

(٤) في ب : شاء.

(٥) في ب : عنه.

٥١٨

يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(٤٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ...) الآية يحتمل وجوها :

أحدها : ألا يحزنك كفر من كفر منهم. ليس على النهي عن ذلك ؛ ولكن ألا يحمل على نفسه بكفرهم ما يمنعه عن القيام بأمره ، كقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨ ، وكقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، ونحو ذلك من الآيات مما يشتد به الحزن بكفرهم ؛ لشدة رغبته في إسلامهم.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ، أي : لا يحزنك تمرد هؤلاء وتكذيبهم إياك ؛ فإن الله ناصرك ومظفرك ويظفر لك عليهم.

ويحتمل : لا يحزنك صنيع (١) هؤلاء الكفرة وسوء عملهم ؛ فإنك لا تؤاخذ بصنيعهم ؛ كقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] ، [وكقوله ـ تعالى ـ :](٢)(لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة : ١٠٥].

وفي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) دلالة تفضيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غيره من الأنبياء والرسل ؛ لأنه ـ عزوجل ـ في جميع ما خاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (٣) : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) ، و (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ولم يخاطب باسمه ، وسائر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إنما خاطبهم بأسمائهم : (يا مُوسى) [الأعراف : ١٤٤] ، و (يا إِبْراهِيمُ) [هود : ٧٦] ، و (يا نُوحُ) [هود : ٤٨] ، وجميع من خاطب منهم أو ذكر إنما ذكر بأسمائهم.

__________________

(١) في ب : صنع.

(٢) في ب : وقوله.

(٣) في الأصول : أن قال.

٥١٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)

قال : قالوا : (آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) ، ولم يقل : آمنوا بأفواههم ؛ ليعلم أن القول به ليس هو من شرط الإيمان ؛ إنما الإيمان هو تصديق القلب ، لكن يعبر به اللسان عن قلبه ؛ ألا ترى أنه قال : (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) ، والإيمان : هو التصديق في اللغة ؛ لأن ضده التكذيب ؛ فيجب أن يكون ضد التكذيب : التصديق. والتصديق يكون بالقلب ؛ حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) ، لكن اللسان يعبر (١) عن ضميره ، فهو ترجمان القلب فيما بين الخلق ؛ فهذا يدل أيضا على أن الإيمان ليس هو المعرفة ؛ لأن الإيمان لو كان معرفة لكان يجب أن يكون ضده جهلا ؛ فلما كان ضدّ الإيمان تكذيبا وجب أن يكون ضد التكذيب : التصديق ، والتصديق والإيمان في اللغة سواء ؛ ولأن المعرفة قد تقع في القلب على غير اكتساب فعل وإنما (٢) والتصديق لا يكون إلا باكتساب ترك مضادته وهو التكذيب ؛ لذلك قلنا : إن الإيمان ليس هو المعرفة ، ولكنه تصديق.

ثم اختلف في هؤلاء : قال بعضهم : هم المنافقون الذين (٣) كانوا يظهرون الإيمان باللسان ، وقلوبهم كافرة.

وقال آخرون : هم اليهود والمنافقون (الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه (٤).

(وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ)

هذا يدل أن قوله ـ تعالى ـ : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) في المنافقين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ)

يحتمل : سماعون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبره ، (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) خبره بالكذب ، ومعناه ـ والله أعلم ـ : أنهم كانوا يستمعون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبره ، وما يقول لهم ، ثم يأتون الذين لم يأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبرونهم خلاف خبره وغير ما سمعوا منه.

وقيل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : إن في التوراة كذا من الأحكام والشرائع ؛ فإذا سمع هؤلاء منه ذلك أتوا أولئك الذين لم يأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون : إنه كاذب ، وليس

__________________

(١) في الأصول : يعبره.

(٢) في الأصول : ربما.

(٣) في ب : وقال الذين.

(٤) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٤٩٨) ، وقاله أيضا مجاهد ، أخرجه عنه الطبري (٤ / ٥٧٤) رقم (١١٩٣١).

٥٢٠