تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

ثم يحتمل قوله : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) بصفته ، ونعته ، ونبوته ، ومبعثه ، وزمانه ، فيه فيما معكم ، لا يخالف في شيء من ذلك.

ويحتمل : أنه هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي آمنتم به قبل أن يبعث ، فكيف كفرتم بالله؟! والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ...) الآية.

قيل : لما نزلت هذه الآية قدم عبد الله بن سلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم ، وقال : يا رسول الله ، ما كنت أرى أني أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي (١).

وقيل : طمسها : أن تعمى أبصارها ، وردها على أدبارها (٢).

وقيل : طمس الوجوه : أن تعمى ، وترد عن بصيرتها ، وذلك أنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستيقنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبي الله ، يجدونه في كتبهم ، يقول : حققوا إيمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكتابه من قبل أن نضلكم عن هداكم ؛ فتصيروا ضلّالا ؛ فلا تعلمون ما كنتم تعملون.

ويحتمل أن تكون الآية خرجت على الوعيد ، وهي على التمثيل ، لا على التحقيق.

ويحتمل : على التحقيق ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ)

ويحتمل أن يكون هذا (٣) في الآخرة.

وقوله ـ عزوجل أيضا ـ : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) يحتمل الحقيقة ؛ فيرجع إلى يوم القيامة ، فيذهب عنه جميع محاسن الوجه.

أو نطمس وجوه الحق عنه بمعاندته ، فيبصر الحق بغير صورته والباطل بغير صورته بعد أن كانوا رأوا كل شيء بصورته في كتبهم المنزلة ، والله أعلم.

أو نطمس وجوههم عند أتباعهم الذين لأجلهم غيّروا وحرفوا بما يطلعهم على خيانتهم ، ويظهر لهم تبديلهم ، وقد فعل بحمد الله تعالى.

وقد يحتمل الوعيد : أن يفعل بهم إن لم يؤمنوا حقيقة ذلك ؛ كفعله بأصحاب السبت ، تغير الجوهر ، ثم لعل أولئك قد أسلموا ، أو نزل بهم ولم يذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره (١٠ / ٩٨) ، وابن عادل في اللباب (٦ / ٤١٢) ، وانظر تفسير ابن عباس ص ٧١ ، غرائب النيسابوري (٥ / ٦٤).

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٨ / ٤٤٠) (٩٧١٣) عن ابن عباس ؛ وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٠) وزاد نسبته وابن أبي حاتم.

(٣) في ب : تكون هذه.

٢٠١

أي : كان بأمر الله ـ عزوجل ـ مفعولا ، كما يقال : الجنة رحمة الله ، والمطر (١) رحمة الله ، أي : برحمة الله ، فعلى ذلك معنى قوله ـ سبحانه ـ : (أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي : بأمر الله كان مفعولا.

ويحتمل قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) ، أي : عذاب الله نازلا بهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)(٢).

أجمع الناس أن [الله](٣) يغفر الذنوب كلها : الشرك وما دونه إذا انتهى وتاب بقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) دل أن إطماع المغفرة لما دون الشرك لمن لم ينته عنه.

وقال الخوارج : الكبائر كلها إشراك (٤) بالله ، فمن ارتكبها دخل تحت قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، والمسألة بيننا وبينهم في ذلك ، فيقال لهم : المعنى (٥) الذي صار به مشركا عندكم بارتكابه الكبيرة ذلك (٦) المعنى موجود في ارتكابه الصغائر ؛ فيجىء أن يكون كافرا ، فإذا لم يصر بذلك كافرا لم يصر بارتكابه الكبائر كافرا.

وقالت المعتزلة : صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان ، ولا يدخل في الكفر.

وقال أبو بكر الأصم : ظهر الوعيد في الكبائر ، وشرط المغفرة لما دون الشرك بقوله ـ تعالى ـ : (لِمَنْ يَشاءُ) فهو للصغائر ؛ كقوله : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أخبر أن من السيئات ما يكفر ، ومنها ما لا يكفر ، فهو للصغائر.

وأمّا عندنا : فإن الله ـ عزوجل ـ أطمع المؤمنين المغفرة ما دون الشرك ، ولو كان لا يجوز في العقل المغفرة لكان لا يطمع ؛ لأنه لا يجوز أن يطمع ما لا يجوز في العقل ، فإذا أطمع دل أنه يجوز في العقل المغفرة لما دون الشرك ، ثم له المشيئة : إن شاء عذبهم (٧) ، وإن شاء عفا عنهم.

وأما إطماع المغفرة في الشرك : فإنه لا يجوز في العقل ؛ لأن من اعتقد دينا إنما يعتقده

__________________

(١) في ب : والنظر.

(٢) قال القرطبي (٥ / ١٥٩) : ذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر (الفرقان).

قال زيد بن ثابت : نزلت سورة النساء بعد سورة الفرقان بستة أشهر. فالصحيح أن لا نسخ ؛ لأن النسخ في الأخبار يستحيل.

(٣) سقط من ب.

(٤) في أ : الشرك.

(٥) في أ : المعتبر.

(٦) في ب : وذلك.

(٧) في أ : عذبهم فيها.

٢٠٢

للأبد ، وليس كل من ارتكب ذنبا يرتكبه للأبد ؛ بل إنما يرتكبه لقضاء شهوة (١) تغلبه ، فهو يندم على إثره ؛ لذلك قلنا : يجوز في العقل إطماع المغفرة لما دون الشرك ، ولا يجوز للشرك ، وبالله التوفيق.

ووجه آخر : أن الوعيد الذي ذكرته يحتمل الاستحلال ، والاستخفاف بالأمر والنهي ، فلا ينزل بما أطمع بهذه الآية من المغفرة ؛ فيزال الطمع والرجاء بالوعيد المتوجه وجهين أو يوقف فيهم ؛ فأما القطع في أحد الوجهين بالمحتمل ومنع القطع بالآخر للاحتمال فهو تحكم ، ولا قوة إلا بالله.

ووجه آخر : أن الآية في التفصيل بين المحتمل للغفران والذي لا يحتمل ، فإذا صرفت إلى الصغائر فيبطل تخصيص اسم الشرك ، ويلتبس (٢) على السامع محله ، وليس أمر الوعيد فيما جاء بموضع التفصيل ، بل الذي جاء بحق التفصيل ذكر الغفران بالتكفير (٣) ، والتكفير يكون مقابلة الجزاء من حسنات أو عقوبات ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ...) الآية [النساء : ٣١] ، والله الموفق.

ووجه آخر : قال [الله](٤) ـ عزوجل ـ : (لِمَنْ يَشاءُ) وهذا كناية عن الأنفس المغفورات ، لا عن الآثام التي تغفر ، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس ، وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم ، وفيما جاء عامّا ؛ فبان لا صرف في ذلك ، فهو أولى ، والله الموفق.

وبعد ، فإنه ـ عزوجل ـ قال : (لِمَنْ يَشاءُ) والصغائر عندكم مغفورة بالحكمة لا بالوعد ، والآية في التعريف ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ تعالى ـ أيضا : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فمعلوم : أنه فيما يلزمه حتى يختم به ، لا فيما يتوب عنه ؛ أيد ذلك قوله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ...) الآية ، وغير واحدة من الآيات التي جاءت في الكفرة لما آمنوا ، والله أعلم ؛ فصار كأنه قال : لا يغفر أن يشرك به إذا لم يتب عنه ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن لم يتب منه ، فلو كان شيئا مما دونه لا يحتمل في الحكمة المغفرة لضمه إلى الممتنع عن الاحتمال ، لا أن ألحقه بالمحتمل له فيما كان معلوما أن القصد فيه إلى بيان ما فيه الرجاء والإياس ، وأيد ذلك

__________________

(١) في ب : شهوته.

(٢) في ب : ويلبس.

(٣) في ب : بالتكفر.

(٤) سقط من ب.

٢٠٣

قوله ـ تعالى ـ : (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] فلو كان يلزم الإياس لما دونه ليجب الوصف له بالكفر ؛ إذ الإياس لهم بالكفر وفي تحقيقه تحقيقه ، فأي الوجهين لزم تبعه الآخر في حق الإياس ، لا في وجود فعله ؛ إذ قد يوجد فعل الرجاء في الكفرة ، ثبت أن ذلك في الحكم والتحقيق ، لا في وجود الفعل ، وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً)(٥٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ)

قيل : هم اليهود ، جاءوا بأبنائهم أطفالا ، فقالوا : يا محمّد ، هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال : «لا» ، قالوا : فو الذي يحلف به ما نحن إلا كهيئتهم ، ما من ذنب نعمله (١) بالنهار إلا كفر عنا بالليل ، وما عملنا بالليل إلا كفر عنا بالنهار ، فذلك التزكية منهم (٢).

وقيل : تزكيتهم أنفسهم بقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] لا ذنوب لنا.

ويحتمل : أن تكون تزكيتهم أنفسهم ما قال الله ـ عزوجل ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ٤٧] وكان أكثر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إنما بعثوا من بنى إسرائيل ، وكانوا يزكون أنفسهم بذلك (٣) ، فأخبر ـ عزوجل ـ أنهم كانوا مفضلين على غيرهم ، لكن لما فضل غيرهم عليهم صار أولئك المفضلون دونهم وذلك ، قوله ـ عزوجل ـ : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) يفضل من يشاء ، أو يبرئ من يشاء (٤) من الذنوب.

ثم التزكية تذم ؛ أن يزكي أحد نفسه ؛ لأن التزكية هي التنزيه من العيوب كلها والذنوب ، وذلك مما لا يسلم أحد منها (٥) ، ولا يبرأ ، ولا يستحق مخلوق ، وذلك معنى النهي : (فَلا

__________________

(١) في ب : نعلمه.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٥٢ ـ ٤٥٣) (٩٧٣٥) عن الضحاك ، (٩٧٣٧) عن السدي ، وذكره السيوطي (٢ / ٣٠٥).

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٥٢) (٩٧٣٣) عن قتادة ، و (٩٧٣٤) عن الحسن ، و (٩٧٣٦) عن ابن زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم عن الحسن.

(٤) في ب : شاء.

(٥) في ب : عنها.

٢٠٤

تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النجم : ٣٢] إذ تخرج التزكية مخرج التكبر ، وذلك لجهله بنفسه لما (١) لا يرى غيره شكل نفسه ولا مثله فيتكبر عليه ، ولو (٢) عرف أنه مثله وشكله ما تكبر على أحد قط ، ولا زكي نفسه.

وقول الرجل : أنا مؤمن ، ليس ذلك منه تزكية ، إنما هو إخبار عن شيء أكرم به ، والتزكية هي التي يرى ذلك من نفسه.

وقوله ـ أيضا ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ)(٣) ليس في إظهار الإيمان تزكية ؛ لما لا يخلو من أن تظهر (٤) لمن أبى مشاركتك فيه ، فعليك الإظهار بحق الدعوة إليه ؛ لتدعوه إلى ما تدين به ، أو هو يشاركك فيه ، والتزكية ـ في الحقيقة ـ فيما يوجب تقديمك ، وليس في هذا.

وأيضا : إن القول بالإيمان ليس بمقدر عن معنى العبادة ، أو سبب فيه علو من حيث ذلك ، إنما هو خبر عن أمر هو في اللغة تصديق ، والتصديق بأمر هو كذلك ليس بالذي يعد في الرتب ، بل على كل ذلك ، ولا أحد إلا وقد يؤمن بأشياء ويصدق ، فليس في القول به منقبة ، وكذلك ما من أحد إلا وعليه التكذيب بأمور ، فلا بالتكذيب في الإطلاق لوم ، ولا بالتصديق بالإطلاق مدح ؛ إذ كل في ذلك ، لكن الذم (٥) في تكذيب يكذب به ، فيكون من حيث كذلك ذممت ، ثم تتفاوت على تفاوت درجات الكذب.

ثم التصديق لو كان ثم مدح فهو بصدقه أيضا ، ولا أحد يخرج الصدق كله ؛ فيصير المرء بوصفه نفسه صادقا في شيء تزكية ومدحا ، ولا قوة إلا بالله.

على أن للإيمان حدّا ، وكل عبادة ذات حد ، فلا امتداح ممن قد أداها بالإخبار (٦) عن الأداء ، وبخاصة الفرائض منها ، نحو (٧) من يقول : قد صليت الظهر ، أو أديت زكاة مالي ،

__________________

(١) في أ : بما.

(٢) في ب : وإن.

(٣) قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٢٣٢) : قال الزمخشري : يدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله ، فإن قلت : أما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله! إني لأمين في السماء ، وأمين في الأرض؟ قلت : إنما قال ذلك حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة ، إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه ، وشتان من شهد الله له بالتزكية ، ومن شهد لنفسه ، أو شهد له من لا يعلم. أه.

(٤) في ب : نظيره.

(٥) في أ : لزم.

(٦) في أ : بالاختيار.

(٧) في ب : نحن.

٢٠٥

أو حججت ، أو نحو ذلك ، وفيما يقول : هو بر ، أو تقى ، أو حبيب الله ـ تعالى ـ أو نحو ذلك مما يرجع ذلك إلى ما لا يعرف حده من الخيرات ، فهو بذلك [يرتفع على الأمثال ، ويفتخر عليهم](١) فيما لو كان صادقا كان في ذلك منه إغفال عن حق ذلك ، ولو كان كاذبا كان ذلك جائزا فيه ، ممقوتا بالكذب ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : الفتيل : ما فتلت بين إصبعيك (٢).

والنقير : ما يكون وسط النواة.

وقيل : النقير والقطمير : قشر النواة.

وقيل : الفتيل ـ أيضا ـ : ما يكون وسط النواة.

وقيل : النقير : الذي يكون في ظهر النواة (٣) ، وهو على التمثيل.

وقيل في حرف حفصة : ا لم تر إلى الذين قالوا إنا نزكي أنفسنا بل الله يزكي من يشاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) الآية ظاهرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ)

قيل : أعطوا حظّا من الكتاب ، وهم علماؤهم (٤).

(يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) اختلف فيه :

قيل : الجبت : الشيطان ، والطاغوت : الكاهن (٥).

وقيل : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان (٦).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : الجبت : الشيطان بكلام الحبشة ،

__________________

(١) في ب : يرتفع على الأشكال ويرتفع عليهم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٥٦ ـ ٤٥٨) (٩٧٤٥ ـ ٩٧٤٨) (٩٧٥١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٥) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، وفي ب : أصبعك.

(٣) ذكره بنحوه السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٥) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عباس.

(٤) انظر : تفسير الطبري (٨ / ٤٦١).

(٥) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٦٣ ـ ٤٦٤) (٩٧٧٧ ، ٩٧٧٨) عن قتادة ، و (٩٧٧٩) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٦) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٦٢) (٩٧٦٦) و (٩٧٦٧) عن عمر ، (٩٧٦٨ ، ٩٧٧٠ ، ٩٧٧١) عن مجاهد ، و (٩٧٦٩) عن الشعبي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٧) وزاد نسبته للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ورستة في الإيمان عن عمر بن الخطاب.

٢٠٦

والطاغوت : كهان العرب (١).

وقيل : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الشيطان (٢).

وقيل : الجبت : حيى بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف (٣).

يخبر ـ عزوجل ـ عن سفههم بإيمانهم بهؤلاء وحسدهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ويحذر المؤمنين من (٤) صنيعهم ؛ لأن هؤلاء كانوا علماءهم مؤمنين بالجبت [والطاغوت](٥)

(وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً).

قيل في القصة : إن هؤلاء أتوا مكة ؛ ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أجله ، ففعلوا ، فدخل أبو سفيان البيت في مثل عدتهم ، فكانوا بين أستار الكعبة ، فتحالفوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ : لتكونن كلمتنا واحدة ولا يخذل بعضنا بعضا ، ففعلوا ، ثم قال أبو سفيان : ويحكم يا معشر اليهود ، أينا أقرب إلى الهدى وإلى الحق ، أنحن أم محمد وأصحابه؟ فإنا نعمر هذا المسجد ، ونحجب هذه (٦) الكعبة ، ونسقي الحاج ، ونفادي الأسير ، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ قالت اليهود : لا ، بل أنتم ؛ فذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً).

وفي حرف حفصة : ويقولون للذين أشركوا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا.

ثم قال الله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً).

واللعن يكون على وجوه :

اللعن : هو العذاب (٧).

وقيل : (لَعَنَهُمُ اللهُ)(٨) : عذبهم الله.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٦٣ ـ ٤٦٤) (٩٧٧٧) ، و (٩٧٧٨) عن قتادة ، و (٩٧٧٩) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولعبد بن حميد عن عكرمة.

(٢) أخرجه ابن جرير بمعناه (٨ / ٤٦٤) (٩٧٨٠) عن سعيد بن جبير و (٩٧٨١) عن محمد بن سيرين بلفظ : «الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الساحر» ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٨) وعزاه لابن جرير عن أبي العالية بلفظ : «الطاغوت : الساحر ، والجبت : الكاهن».

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥) (٩٧٨٣ ، ٩٧٨٤) عن الضحاك.

(٤) في ب : عن.

(٥) سقط من ب.

(٦) في ب : قدر.

(٧) انظر : البحر لأبي حيان (٣ / ٢٨٢).

(٨) قال القاسمي (٥ / ٢٣٦) : قال الرازي : إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل ـ

٢٠٧

واللعين : هو الممنوع عن الإحسان والإفضال.

وقيل : هو الطريد (١) ، أي : طردوا من رحمة الله وإفضاله وإحسانه.

قال : الطاغوت : هو اسم اشتق من الطغيان : كالرحموت والرهبوت ، من الرحمة والرهبة ، ونحو ذلك ، سمي به كل من انتهى في الطغيان غايته ، حتى استحل أن يعبد هو دون الله ، فهو طاغوت ، وعلى ذلك [تأويل](٢) قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) أي : بعبادة كل من عبد دون الله.

وقيل : هم مردة أهل الكتاب.

وقيل : هو الشيطان.

وقيل : الصنم ، وذلك كله يرجع إلى ما ذكرت.

وقيل في ذلك : كاهن ، وقد سمي جبتا.

وقيل في الجبت : السحر ، فإن كان الجبت السحر فهو على ما قال : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ...) الآيات [البقرة : ١٠٢] ، وأي شيء مما ذكرت قد كانوا آمنوا بذلك ، فعيرهم الله ـ تعالى ـ وسفّه أحلامهم بالإيمان بمن ذكرت ، ومظاهرتهم على ما لهم من الأتباع على رسول الله رب والعزة (٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد علمهم بموافقته ـ عليه‌السلام ـ رسلهم وتصديقه بكتبهم ؛ وعلمهم بعدول أولئك عن هذه الرتبة ؛ بغيا وحسدا ، وكان في إظهار ذلك عليهم بيان الرسالة ، وإعلام أتباعهم تحريفهم كتب الرسل ، وإبداء ما في قلوبهم من الحسد ؛ لتزول الشبهة عن الأتباع ، وتظهر المعاندة في المتبوعين ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) اختلف فيه :

قيل : لو كان لهم نصيب من الملك فإذن لا يؤتون الناس نقيرا من بخلهم ، وقلة خيرهم (٤).

__________________

 ـ عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجري مجرى المكابرة ، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله؟ ومن كان دينه الإقبال بالكلية على خدمة الخالق والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال؟

(١) انظر : البحر لأبي حيان (٣ / ٢٨٤) ، والمحرر الوجيز (٢ / ٦٧) ، وتفسير الرازي (١٠ / ١٠٤).

(٢) سقط من ب.

(٣) في أ : رسول الله.

(٤) رواه ابن جرير (٨ / ٤٧٢) (٩٧٩٧) عن ابن جريج.

٢٠٨

وقيل : لهم نصيب من الملك من الشرف والأموال والرئاسة فيما بينهم ، لكن [لا يأتون الناس](١) نقيرا ، فكيف يتبعونهم؟!.

وقيل : قوله ـ سبحانه ـ : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ)

أي : ليس لهم نصيب من الملك فكيف يؤتون الناس شيئا؟! إنما الملك لله ـ عزوجل ـ هو الذي يؤتى الملك من يشاء ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ...) الآية [آل عمران : ٢٦] ، إنما يستفاد ذلك بالله ـ عزوجل ـ لا بأحد دونه ، والله ـ تعالى ـ أعلم.

قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)(٥٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)

يقول : بل يحسدون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما آتاه الله من فضله من الكتاب والنبوة ؛ يقول الله ـ عزوجل ـ ردا عليهم : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ [وَالْحِكْمَةَ])(٢) فلم يحسدوه ، فكيف يحسدون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما آتاه الله ـ تعالى ـ من الكتاب والنبوة ، وهو من أولاد إبراهيم ، عليه‌السلام؟! فهذا ـ والله أعلم ـ معناه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)

قيل : أراد الملائكة والجنود (٣).

وقيل : هو ملك (٤) سليمان بن داود ، [وداود](٥) كان من آل إبراهيم ، عليه‌السلام (٦).

__________________

(١) في ب : لا يؤمنون بالناس.

(٢) في أ : والحكم والنبوة.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٨١ ـ ٤٨٢) (٩٨٣٠) عن همام بن الحارث ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣١٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) قال القرطبي (٥ / ١٦٤) : يقال : إن سليمان ـ عليه‌السلام ـ كان أكثر الأنبياء نساء. والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له قوة أربعين نبيّا ، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا ، ويقال : إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة ؛ لأن لكل امرأة قبيلتين ؛ قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم ؛ فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه ، ويقال : إن كل من كان أتقى فشهوته أشدّ ؛ لأن الذي لا يكون تقيّا فإنما يتفرج بالنظر واللمس ، ألا ترى ما روي في الخبر : «العينان تزنيان واليدان تزنيان» فإذا كان في النظر واللمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع ، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا. وقال أبو بكر الوراق : كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب ؛ ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك.

(٥) سقط من ب.

(٦) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٨١) (٩٨٢٩) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠٩) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

٢٠٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ)(١) يعني : محمدا (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني : من كثرة النساء ، لكن ذلك ليس بحسد ، إنما هو طعن طعنوه ، وعيب عابوه ؛ لأن الحسد هو أن [يرى لآخر](٣) شيئا ليس له ؛ فيتمنى أن يكون ذلك له دونه ، وقد كان لهم نساء ، لكنه إن كان ذلك فهو طعن طعنوه ، وعيب عابوه على كثرة النساء ، ويقولون : لو كان نبيّا لشغلته النبوة عن النساء ، ويقولون : يحرم على الناس أكثر من أربع ، ويتزوج تسعا وعشرا ؛ فأنزل الله ـ عزوجل ـ ردّا عليهم : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ ...) الآية [الرعد : ٣٨] ، وكان لداود تسع وتسعون امرأة ، وما قيل ـ أيضا ـ إن لسليمان ـ عليه‌السلام ـ ثلاثمائة سرية وسبعمائة حرائر.

إن ثبت ذلك : فكثرة النساء له لا تمنع ثبوت الرسالة والنبوة ، وإنما تمنع كثرة النساء لأحد شيئين :

إما [لخوف الجور](٤) ، وإما للعجز عن القيام بإيفاء حقهن.

فالأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ يؤمن ناحيتهم الجور ، وكانوا يقومون بإيفاء حقهن مع ما كان قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة لتسع أو لعشر من النساء من آيات النبوة ؛ لأنه كان معروفا بالعبادة لله ليلا ، وبالصيام له نهارا ، وتحمل الجوع وأنواع المشقة تباعا ، ومعلوم في الخلق أن من كان هذا سبيله لم يقدر على وفاء حق امرأة واحدة ؛ فضلا أن يقوم لإيفاء حق العشر وأكثر ؛ فدل أنه بالله قدر على ذلك ، وعلى ذلك قيام داود ـ عليه‌السلام ـ لمائة من النساء ، وقيام سليمان ـ عليه‌السلام ـ لألف منهن ، فذلك من آيات النبوة ؛ لما ذكرنا : أنه ليس في وسع أحد سواهم القيام بذلك.

__________________

(١) قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٢٣٩) : قال الرازي : إن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة ، فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم ، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين ، ثم إنه تعالى أعطاها لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضم إليها أنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا ، فلما كانت هذه النعم سببا لحسد هؤلاء ، بيّن ـ تعالى ـ ما يدفع ذلك فقال : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)[النّساء : ٥٤] ، والمعنى : أنه حصل في أولاد إبراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك ، وأنتم لا تتعجبون من ذلك ، ولا تحسدونهم ، فلم تتعجبون من حال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم تحسدونه؟

(٢) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٧٨) (٩٨٢٣) عن ابن عباس ، و (٩٨٢٤) عن السدي ، و (٩٨٢٥) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣٠١) وزاده في نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) في أ : يكون الآخر.

(٤) في أ : الخوف من الجور.

٢١٠

وكذلك في قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإظهار هذا الدين من غير اتباع كان له ، أو ملك ، أو فضل سعة ـ دليل أنه كان بنصر الله أظهر ، ويعوذه (١) به جميع هذا الخلق على دينه.

وفي قوله ـ أيضا ـ : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (٢) فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ ...) الآية تحتمل وجهين :

أحدهما : المحاجة : أن كيف يحسدون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه من آل إبراهيم وأولاده بما خصهم به من فضله ، ولم يزل ذلك في آل إبراهيم ، ولم يكونوا حسدوهم.

وعلى هذا قوله ـ تعالى ـ : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) أي : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بكتابه الذي أنزل عليه.

والثاني : أن يكون على التصبير على أذاهم الذي كان منهم بالحسد مما كان هذا فيمن تقدمه من آل إبراهيم ، ومن فضله ، ومن الحساد لهم في ذلك ، والمؤذين لهم ، فصبروا ، ولم يكافئوهم ؛ نحو قوله ـ تعالى ـ : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) : أي : بإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أو بما أنزل إليه ، أو آله ، والله أعلم.

الأصل في اختلاف التأويل الآية واحدة فيما يجب في ذلك من الحق أنه على أقسام :

أحدها : أنه يتسع الكل.

ويحتمل : دخول الكل (٣) في المراد.

ويحتمل : إرادة البعض ؛ فإن كان ذلك مما يجب العمل (٤) به يلزم طلب الدليل على الموقع للمراد ، فإن وجد من طريق الإحاطة شهد عليه بالمراد ، وإن لم يوجد عمل به [على حسب الإذن في العمل به بالاجتهاد من غير الشهادة عليه أنه المقصود لا غير ، والله أعلم](٥).

وإن كان ذلك مما لا يجب العمل به وإنما حقه الشهادة ، يشهد [به](٦) على ما [هو](٧) في الحكمة وجوب تلك الشهادة من غير أن يقضي على الآية بقصد ذلك إذا كانت بحيث تتسع له ولغيره ؛ نحو القول بأنه سميع عليم على إثر أمورهم من أدلة الخصوص ، لو

__________________

(١) في ب : ويعوده.

(٢) في أ : على ما ذكر.

(٣) في أ : الكافر.

(٤) في أ : العلم.

(٥) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٦) سقط من ب.

(٧) سقط من ب.

٢١١

كانت تحتمل الخصوص ، وفي الحكمة أنه سامع كل صوت ، وعليم بكل شيء ، فبه يشهد ، ولا يقال في ذلك : إنه أراد ذا من الخاص ، نحو قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٢٧] قال قوم : لا يقع الطلاق حتى يوقع ؛ لأنه ذكر أنه سميع ولو أوقع الطلاق بغير قول ، لم يكن لذكر السميع في هذا الموضع فائدة.

وقال قوم : (سَمِيعٌ) لإيلائه ؛ إذ هو قسم ينطق به ، (عَلِيمٌ) لعزمه ، وقد ذكر (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ؛ فيجب توجيه كل حرف إلى وجه ، ليفيد حقيقة ذلك في هذا الموضع ، ولو كان لا يقع دون القول لكان كل أمره مسموعا ؛ ليلتقي القول بأنه سميع عن القول بأنه عليم.

وفي جملة العقد من [طريق](١) الحكمة أنه سميع بكل صوت ، عليم بكل شيء ، لكن في النوازل يتوجه وجهين لا يجب القطع عليه في الإرادة إلا أن يجىء ما يوجب الإحاطة ، وقد عمل به الخلق على الاختلاف ، والله أعلم.

ووجه آخر من التأويل : أنه يحتمل وجوها لا يسع للكل في حق العمل (٢) أو في حق الشهادة ، لكنها لأحد الحقين ، فإن كان ذلك في حق العمل يجب طلب دليله ، ويكون الدليل على وجهين :

أحدهما : أن يوجب على حق العمل والشهادة جميعا.

والآخر : أن يوجب [على] حق العمل خاصة ، وقد بينا ذلك.

وإن كان في حق الشهادة فيجب الوقف في تحقيق المراد ، والتسليم لله حتى يظهر ، وذلك في حق إضافة الاستواء إلى الله ـ تعالى ـ على العرش ، والقول بالرؤية من حيث يثبت (٣) ما به يرى على الإشارة إليه ، لا بالإحاطة ، ونحو ذلك من الأمور ، والله أعلم.

ووجه آخر : أن يكون احتمال وجوهها إنما يكون بمقدمات ، فيختلف على اختلاف تلك المقدمات ، فلا يجوز تأويل تلك إلا بمعرفة [المقدمة](٤) إذا لم يكن فيها غير معرفة الموقع من المقدمة ؛ نحو قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [الشرح : ٧] لم يكن لأحد تأويل واحد من الوجهين حتى يعلم بالسمع أنه فيم كان مشغولا.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) [الكهف : ١٩] لم يكن لأحد طلب مراد قائله أو تأويل مراده ، ولا يظفر به إلا بالوحي ، ولا قوة إلا بالله.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : العلم.

(٣) في أ : ثبت.

(٤) سقط من ب.

٢١٢

والقول في حقه إلى أن يتبين ما كان في حق الشهادة ، فلازم الوقف فيه حتى يظهر ، وما كان في حق العمل ، فإن كان في نوع ما يحتمل الاحتياط فحقه القيام به حتى يظهر دليل التوسيع ، ودليل التوسيع على الوجهين اللذين ذكرت ، وإن كان فيما لا يحتمل الاحتياط فحقه التوقف حتى يظهر والله أعلم.

ولا يخلو شيء إلا أحد الوجهين به حاجة من دليل يكون له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها)

أي : غير الجلود النضيجة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد : ٥] أي : تجدد ما قد فني ، وكذلك أعيد ما قد كان من الجلود قبل النضج جديدا في رأي العين من حيث صار الأول نضيجا ، لا أن كان هذا غير الأول ، بل هو الأول غير نضيج ؛ إذ ذلك نعت الأول ، وتعذيب ما كان ارتكب المعصية ؛ لأن التعذيب ـ في الحقيقة ـ على غير الذي أثم فيه.

وقال قائلون : الجلود والعظام ونحو ذلك لم تكن عصت ولا أطاعت ، بل استعملت قهرا وجبرا ، لا أنها عملت طوعا ، لكن الذي به عملت والذي استعملها في الجسد به يتلذذ (١) ويتألم ، فهو المعذب والمثاب بما صدر (٢) من الجسد ؛ ألا ترى أن أجساد أهل الجنة تزداد الحسن والجمال ، وجعل لأهلها حدّا لا يزداد ولا ينتقص (٣) ، وأجساد أهل النار مشوهة قبيحة ؛ ليكون لهم في التقبيح عقوبة ، وللأول بالتحسين ثواب ، فكانت فيها أحوال للجزاء لم تكن للأعمال ، فثبت أن المثاب والمعاقب ما ذكرت ، لكنه يتألم ويتلذذ ، فجعلت على ما بها تمام اللذة والألم من الأجساد لا على إعادة أنفس تلك الأجساد ، بل على التجديد ، كما ذكره في القرآن ، وكذلك المقطوع على بعض الأعضاء في حال الكفر إذا أسلم يبعث سليما ، لا كذلك ، ومثله في حال الإسلام لو أريد لم يرفع عنه ألم ذلك ؛ فدل الذي ذكرت على حق تجدد الثاني على ما شاء الله والذي به كان المأثم والبر على ما قد كان ، والله أعلم.

وللمذهب الأول أن الجزاء هو لما يختم عليه ؛ إذ لو كان إسلام لتمنى لنفسه أحسن الأحوال ، وأسلم البنية ليستعملها بالخير ، فأوجب ذلك إبطال جميع السيئات كانت بجوارح ذهبت أو بقيت ، وكذلك من اختار الكفر فقد آثره ، واختار أن يكون على ذلك ،

__________________

(١) في ب : يتالذ.

(٢) في ب : صور.

(٣) في ب : ينقص.

٢١٣

وإن سلمت جوارحه وتمت فلزمه حكم احتياط جميع ما تقدم بكل فائت منه وباق ، وفي الأول استوجب جعل جميع ما تقدم منه بالفائت والباقى حسنات لما ندم عن الكل بكل الجوارح ، فلحق حكم تبديل السيئات بالحسنات في الكل ؛ فيكون على حكم إعادة الأولى بحق التجديد في المعنى (١) ـ والله أعلم ـ نحو قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [آل عمران : ٢٢] وقوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ...) الآية [الفرقان : ٧٠].

وفي الإعادة كقوله ـ تعالى ـ : (مَنْ يُعِيدُنا ....) الآية [الإسراء : ٥١] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ...) الآية [الرعد : ٥] ، وغير ذلك من آيات البعث ، والله أعلم.

وقال قائلون : الواجب من العقوبة للكفر ، وغيره بحكم التبع له ، وكذلك الثواب الواجب منه (٢) للإيمان ، ولغيره بحكم التبع ، بل به قام ، والأول به سقطت عنه مشيئة العفو ، فصار الذي به الجزاء خاصّا ، وغيره بحكم التبع يزداد وينتقص (٣) ؛ فعلى ذلك أمر الجزاء والتجديد والإعادة ، وكل ذلك للذى هو بحق التبع ، والاتباع في الشاهد بتجدد أعين الأفعال ، ولا يدوم ، والاعتقاد في الأمرين يدوم ، فعلى ذلك أمر الجزاء ولذلك ، والله الموفق.

ولهذا الوجه ما يبطل الخلود لما سوى الكفر ؛ إذ في ذلك إبطال الجزاء الدائم من حيث الأفعال ، وإدامة الجزاء المنقطع من حيث الأفعال ، فيكون فيه زيادة في العقوبة على المثل ، والله يقول : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الأنعام : ١٦٠] ، والله الموفق.

ثم اختلف في المبعوث أنه يبعث بجسده أو يبعث الروحاني منه ، سمته بعض الفلاسفة نفسا ، وبعضهم جوهرا روحانيّا ، وبعضهم بسيطا ، فإن كل (٤) جسد فيه روحاني في حياته ومنافعه ؛ وجسده له كالمانع عن جميع ما يحتمل من الأمور ؛ إذ الجوهر الروحاني لطيف ، ينفذ في الأشياء ، ويتخلل إلا بالحابس ، يبين ذلك أمر النائم أن النفس تخرج لقوله ـ تعالى ـ : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢] ، أو هي مما (٥) يسكن الجوارح وينقطع عنها هم الجسدية يرجع إلى حصة جوهره فيراها تطوف في البلاد النائية ،

__________________

(١) في ب : العين.

(٢) في أ : عنه.

(٣) في ب : وينقص.

(٤) في أ : كان.

(٥) في ب : بما.

٢١٤

وفي الأمكنة العلوية ، حتى لا تصفها أرض ولا سماء تأتى بالأخبار عنها كأنها شاهدة ، أما ما كان ذلك عملها بالجوهر حيث يكون من النفاذ إذا لم تحبس ، أو هي بالجوهر تخرج فتعمل ذلك وهي تسمع وتبصر وتعقل في المنام كأنها بالجسد كذلك ؛ فدل أن العمل في حال اليقظة وما له الجزاء لها ، فعلى ذلك أمر الجزاء ، وعلى ذلك جميع الجواهر التي بها الأغذية والحياة ليست بأعين تلك الأشياء ، ولكن بما جعل في سريتها من الروحاني ، وهي القوى التي تظهر في البدن إلى كل أجزاء البدن ، فتقوى وتصح فيه (١) بحياة روحه ، وتزول عنه الآفات ، وكذلك عن السمع والبصر والعقل حل شيء ثم تلقى فعله (٢) ؛ فعلى ذلك أمر المعاد من الجزاء فهو على ذلك ، وكذلك الثواب يكون من كل موعود مما يعرف في الشاهد بجسده ويرجع إلى السرية التي هي روح لذلك فيكون هو الثواب ؛ لما هو بحكم روح في الجسد ؛ ألا ترى أنه لا يبقى في الآخرة بالأكل الأجساد التي تلقى ، وهي الأثقال التي تفضل في الجسد (٣) ، ويخرج عنها جميع ما فيها من الأقوية والروح ، فثبت أن الأمر يرجع إلى ما ذكرت ، وهذا معنى قوله ـ عليه‌السلام ـ : «ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» (٤) لأن [ذلك الجوهر](٥) لا تراه العين ، ولا تسمعه الأذن في الشاهد ، ولا يخطر على القلب ، وتكون لذة ذلك روحانيّا ، لا هذه لذة الحياة بحياتها السمع والبصر ، وكل باطن في الجواهر (٦) ولذة الأجساد إنما يكون باللهاة في الطعم ، وبالعين في اللون ، وهذا النوع ، فيذهب هذا ، ويكون الأول ، وعلى ذلك تذهب العبادات الجسدانية ، وتبقى الروحانية من الحمد ، والثناء ، والتعظيم ، والهيبة ، والمعرفة ، ونحو ذلك يبقى أبدا ، بل يزداد ؛ لما يذهب عنها الحواجب من الجسداني ، وعلى ذلك يبطل تقدير الرؤية ، وإبطاله مما عليه أمر الشاهد لذهاب ما به كونها في الشاهد ، ورجوع الأمر إلى ما يحاط به على سقوط الحواجب ، والله أعلم.

اختلف من ذكرت في أمر البعث :

__________________

(١) في ب : به.

(٢) في أ : نقله.

(٣) في ب : البدن.

(٤) رواه البخاري (٩ / ٤٦٨) : كتاب التفسير : باب قوله ـ تعالى ـ : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) [السجدة : ١٧] رقم (٤٧٧٩) ومسلم (٤ / ٢١٧٤) : كتاب الجنة وصف نعيمها ، رقم (٢٨٢٤) ، والترمذي (٥ / ٢٥٦ ، ٢٥٧) كتاب التفسير : باب ومن سورة السجدة ، رقم (٣١٩٧) ، وابن ماجه (٢ / ١٤٤٧) : كتاب الزهد : باب صفة الجنة رقم (٤٣٢٨) ، من حديث أبي هريرة.

(٥) في أ : تلك الجواهر.

(٦) في ب : الجواهر.

٢١٥

فمنهم من لا يرى على ما في الجسد من الروحانى فناء ، والبعث هو إسقاط الأجساد وخروج ما فيها من الروحاني بصورها.

ومنهم من يقول : تفنى وتعاد على حالها ، ومعلوم أن ذكر الجديد لا يحتمل بلا ذهاب الأصل ، وذكر الإعادة بلا فوته ، وقال : (مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء : ٥١] ، وجعل إنشاء الأولى (١) دلالة للأخرى ، وليس ثمّ أخرى ، بل هي الأولى ، والأولى هي ـ على ما يزعمون ـ غير معروفة عند المنكرين (٢) ؛ فيحتج عليهم بها ، بل يجب أن يعرفوا الأولى أولا ، ثم يساعدوا على نفي البعث ، ويلزموا الإظهار.

والدهرية (٣) ومنكري البعث يقولون في جميع العالم بالظهور بعد الكون ، وبالكون في الأصول بالقوة ، ثم الظهور بالفعل ، فكيف ينكرون البعث ليحتج عليهم بالخلق الأول؟! والله أعلم.

وقال قوم بالبعث بالأجساد على ما كانت ، لكنها كانت في الدنيا منشأة للفناء ، مشتمل عليها آثار الفناء ، ويحيط [بها] أعلام الهلاك ، ومن آفات (٤) كلها وسواتر تحجبن عن أعمال لطائف الجواهر ، وعن إدراك الروحانيين ، وإلا فهي كما وصفهم الله ـ تعالى ـ أنه خلقهم في أحسن تقويم ، وكرمهم بأقوم جوهر ، وأكمل أسر ، وأنقى خلقة ، فإذا وقعت عليهم الآفات ، وأعيدوا للبقاء ؛ فيزول عنهم جميع الظلمات التي هن حواجب وسواتر لهم على الإحاطة بحقائق الأشياء وبواطنها ، وعلى شكلهم تنشأ الأجساد (٥) المجعولة أجزاء لهم ، فيلحقون بجميع اللطائف جسدا بما فيها من الجوهر الروحاني [و] تصير هذه في اللطف كذلك الجوهر ، وهي لما تنقل إلى ألطف من ذلك ، وأنور لهم كالأرواح ؛

__________________

(١) في ب : الأول.

(٢) في ب : المنكر.

(٣) الدهريون أو الطبيعيون : هم قوم لا يثبتون معقولا ولا يهديهم عقلهم ونظرهم إلى اعتقاد ولا يرشدهم فكرهم إلى معاد. قد ألغوا المحسوس وركنوا إليه وظنوا أنه لا عالم سوى ما هم فيه من مطعم شهي ومنظر بهي ولا عالم وراء هذا المحسوس. ومن الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول وهم سوفسطائية. ومنهم من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول وهم الطبيعيون. ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولا يقول بحدود وأحكام وهم الفلاسفة الدهرية. ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام ولا يقول بالشريعة والإسلام وهم الصابئة ومنهم من يقول بهذا كله وبشريعة ما ، ولا يقول بشريعة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم المجوس ، واليهود والنصارى ، ومنهم من يقول بهذا كله وهم المسلمون. ينظر : الملل والنحل للشهرستاني القسم الثاني ص (٦٦١ ـ ٦٦٦).

(٤) في ب : آفاق.

(٥) في ب : أجاد.

٢١٦

فيفضلون على الروحانيين بأجساد فيها معانيها من اللطافة ، والنفاذ في الأمور التي هي كالروحانيين في التمثيل وما فيهم حق الروحانيين ألطف من ذلك بارتفاع آثار الفناء عنها ، وخروجها من أن يعمل فيها الفساد ، وعلى ذلك أجساد الجزاء ، فإنها تخرج عن الآفات ، وتمنع عن الفساد ، وتصير أجسادها في الطيب والضياء كالروحاني ، وما فيها من الروحاني يبقى فيها على كل حال لا يفنى ، والأصل فيه أن الجزاء بحق الشهوات واللذات ، لا بحق الأغذية وحياة أجساد المستنفعين بها ، فتكون هي بجسدها وسريتها واحدة ، وبقاء الأجساد لها أحق من بقاء الروحاني في هذا العالم من طريق الاعتبار ؛ لأن الذي له حق الروحاني في الشاهد به البقاء والغذاء والحياة لا يدفع بها الآفات العارضة في الأرواح من جهة القوالب التي تضعف وتقوى ، وفي الآخرة لا تعرض الآفات [التي](١) يحتاج فيها إلى الأغذية ، وإنما ينال عنها الشهوات واللذات ، وإنما يكون ذلك من حق الأجساد في الشاهد ؛ لذلك كانت أحق أن تكون في الآخرة ، ثم هذا القول أوفق بما جاء به من حجج السمع وما عليه الاعتبار.

فأما حجج السمع : فإن الله ـ عزوجل ـ قال : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ ...) الآية [الحج : ٥] ، وقال : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً ...) الآية [الإسراء : ٤٩] ، وقال ـ عزوجل ـ : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية [يس : ٧٨ ـ ٧٩] ، وغير ذلك مما حاج به منكري البعث ، والإشكال كان لهم في الأجساد ، وفيها جرت المحاجاة ؛ لذلك كانت هي أولى في الاعتبار مع ما كانت الأشياء اللطيفة [التي](٢) لا تمس ولا تحس في التجديد (٣) لم يكن بحيث احتمال الإنكار (٤) لوجودهم في كل حال ؛ نحو العقول تذهب بأسباب ثم تعود ، وكذلك العلوم والسمع والبصر ، ونحو ذلك ، ثم الحسيات اللطائف : نحو الليل ، والنهار ، والنور ، والظلمة ، والظل ، ونحو ذلك يرون الفناء والعود في كل حين لا ينكرون هذا النوع ؛ ليحاجوا بالذي ذكر وبهذا ؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق ، والله أعلم.

والاعتبار أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنشأ هذا الخلق على ما يتلذذون ويتألمون ؛ ليكون ذلك علما للترغيب والترهيب بالموعود ، وما يحل من الآفات وأضدادها في الروحاني في

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : التحذير.

(٤) في ب : الإبكار.

٢١٧

الجسد يكون له سرور وحزن ، لا يتألم (١) ويتلذذ ، وقد جرى الوعد بالمؤلم والملذ.

وكذلك حكمة خلق الجسد على ذلك بما يحقق (٢) العلم بالمرغب والمرهب من الموعود ، على أن السرور والغموم ليسا بحيث يرغب فيهما أو يزهد إلا من حيث يألم الجسد ويتلذذ ، بل كلّ يكون فيه الأمران ؛ ليسر ويحزن ؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق من طريق التقدير على ما جرى به حق السمع والعقل ، والله أعلم بحقيقة ذلك ، وبيده الملك ، يكرم من شاء بما شاء ؛ فضلا منه ، ويهين من شاء ؛ بما شاء عدلا منه ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ)

بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) :

قال : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) يعنى : بالكتاب الذي أعطى إبراهيم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) : عن الكتاب ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه (٣).

وقيل : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) يعنى : إبراهيم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) يعنى : عن إبراهيم ، عليه‌السلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)

كأن جهنم ـ والله أعلم ـ معظم النار وجميع دركاتها ، والسعير هو التهابها ووقودها ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر : ٤٣ ـ ٤٤].

ويحتمل قوله : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) أي : عذابا ، والله أعلم.

(وَكَفى بِجَهَنَّمَ) أي : بالتهاب جهنم التهابا ؛ إذ السعير : الالتهاب ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً)(٥٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا)

يحتمل الآيات : أعلام الدين وآثاره.

__________________

(١) في ب : يألم.

(٢) في ب : يحق.

(٣) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٨٢ ـ ٤٨٣) (٩٨٣١ ، ٩٨٣٢) عن مجاهد بن جبر ؛ وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٣١٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٢١٨

ويحتمل الآيات : آيات الربوبية له.

ويحتمل الآيات : أعلام رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيكون الكفر بها كفرا بالله.

وقوله ـ تعالى ـ : (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً)

قيل : (نُصْلِيهِمْ) : ندخلهم ، وقيل : (نُصْلِيهِمْ) : نشويهم ؛ يقال : شاة مصلية ، أي :

مشوية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) :

كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ، أي : جددنا لهم جلودا غيرها ؛ ليزدادوا (١) التهابا وإيقادا من غير أن يسكن ألم العذاب ، فهو من حيث التجديد غير ؛ لأن الأولى قد احترقت ونضجت ، ومن حيث العين نفسها هي الأولى ، ألا ترى ما يقال : تبدل فلان ، فإنما يقال من حيث تغيره من لون إلى لون ، لا أن كانت تحولت نفسه وتبدل (٢) من حال إلى حال ؛ فعلى ذلك قوله : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) هي من حيث العين أنها تلك بعينها واحد ، وعلى ذلك البعث بعد الموت ، والإنشاء هو من حيث التجديد غير ، حيث تفانوا وذهبت آثارهم ، ومن حيث الإعادة إلى الحالة الأولى هم بأنفسهم ليسوا بغير ، وعلى ذلك قد سمى البعث خلقا جديدا ، وإن كان بعث الأولى في المعنى.

ثم تكلموا في قوله ـ تعالى ـ : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) قالوا : كيف كان أن (٣) يعذب جلودا لا مأثم فيها ، وإنما المأثم في الجلود التي احترقت ونضجت ، وقالوا : أيدنا فيمن قطع يده وهو كافر ، ثم أسلم ، فمات على الإسلام ، ما حال اليد المقطوعة ، تعذب في النار ، أو تكون مع النفس في الجنة؟ وفيمن قطعت يده وهو مسلم ، ثم كفر ، فمات على كفره ، تلحق النفس أو تكون في الجنة؟

فالجواب لهذا كله : أن الجوارح والأعضاء ليست تعمل ما تعمل بالاختيار والطوع ، ولكنها كالمكرهات والمقهورات في العمل ؛ ألا ترى أن الإكراه عليها يوجب تحويل الفعل منها إلى المكره ، فيجعل كأن المكره هو الذي [قد](٤) فعل ذلك في حق الضمان ؛ فهذا يدل أن هذه الجوارح كالمكرهات والمقهورات لحقت النفس حيث كانت.

ثم معلوم : أن من أسلم في آخر عمره يتمنى سلامة جوارحه التي كانت ذهبت عنه ؛

__________________

(١) في ب : ليزداد.

(٢) في ب : تتبدل.

(٣) في ب : أو.

(٤) سقط من ب.

٢١٩

ليعمل بها في طلب مرضاة ربه ـ تعالى ـ وكذلك من كفر بعد الإسلام يتمنى سلامة جوارحه ؛ ليستعملها (١) فيما اختار من الدين ، فإذا كان كذلك لحقت النفس حيث كانت في طاعتها ومعصيتها.

وقالت فرقة من الملحدة : إن الثواب في الآخرة لا يكون لهذه (٢) النفس التي تأكل ، وتشرب ، وتعمل كل ما تعمل ، ولكن إنما يكون للروحاني الذي جوهرها جوهر النور ، لكن هذه النفس ممتحنة في الدنيا بالأكل والشرب (٣) ، مشوبة بالآفات والعيوب ، فإذا صفت عن الآفات ، ونزهت عن العيوب التي بها امتحنت ـ صارت أهلا للثواب العظيم ، ومحلا للجزاء الجزيل ، وبالله العصمة والنجاة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)

أما ذوق الطعام والشراب يكون بالفم ؛ ليعرف طعمه ولذته ، وأما ذوق العذاب فإنما يكون بكل جارحة منه ؛ ليجد ألم ذلك في جميع الجوارح ، والله أعلم.

[و] الذوق في العرف جعل ليعرف الطعم ، يلقب به كل شيء يعرف ؛ يقال : لفلان ذوق في أمر كذا : أي بصر ومعرفة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً)

قيل : العزيز : هو ما يتعزز وجوده في الشاهد.

وقيل : هو عزيز لا يعجز ، فهو عزيز لما لا يوجد في الأفهام ، ولا يدرك بالأوهام.

وقيل : العزيز : المنتقم (٤) ، وقد ذكرناه (٥) في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الآفات والعيوب ، لسن كأزواج الدنيا ونسائها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً)

لا تنسخه الشمس ، ولا أذى فيه ؛ لأن الشمس فيها منافع للناس وأذى ، وكذلك القمر فيه أذى ، وإن كان فيه منافع ، والظلمة كذلك فيها منافع وأذى ، وأما الظل نفسه فليس فيه أذى على كل حال ، فإن كان فهو للزمان ، لا للظل بنفسه ، فأخبر ـ عزوجل ـ أنه يدخلهم الظل الذي ليس فيه أذى الشمس ، ولا أذى الظلمة ، ولا أذى الزمان ، ليس كظل الدنيا

__________________

(١) في ب : يستعملها.

(٢) في ب : لهذا.

(٣) في ب : الأشرب.

(٤) انظر : ابن جرير (٨ / ٤٨٨).

(٥) في أ : ذكر.

٢٢٠