هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٦

لا كونهم (١) كالنبيّ والأئمّة «صلوات الله عليهم» في كونهم أولى الناس في أموالهم. فلو (٢) طلب الفقيه الزكاة والخمس من المكلّف فلا دليل على وجوب الدفع إليه شرعا.

نعم (٣) لو ثبت شرعا اشتراط صحّة أدائهما بدفعه إلى الفقيه

______________________________________________________

وحاصله : أنّ المستفاد منها ـ بعد ملاحظتها سياقا أو صدرا أو ذيلا ـ هو الجزم بأنّ تلك الروايات في مقام بيان وظيفة الفقهاء من حيث تبليغهم للأحكام الشرعية ، وعدم كونها في مقام بيان أنّ الفقهاء كالنبي والأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام في كونهم أولى الناس بأنفسهم وأموالهم كما هو المطلوب من ولاية الفقيه.

أمّا ما يدلّ سياقا من تلك الروايات على كون وظيفة الفقهاء تبليغ الأحكام الشرعية ـ ولا يدلّ على ولاية الفقيه ـ فهو كرواية الكافي وأمالي الصدوق عن أبي عبد الله عليه‌السلام حيث قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سلك طريقا يطلب فيه علما .. إلخ» فإنّ سياقه يشهد بأنّ المراد به العلماء المبلّغون للأحكام الشرعية ، دون الأئمة عليهم‌السلام. ونظيره غيره.

وإمّا ما يدلّ على ذلك صدرا فهو كالتوقيع ومقبولة ابن حنظلة ومشهورة أبي خديجة.

وأمّا ما يدلّ عليه ذيلا فهو ما ورد في تعيين ما ورثه العلماء من الأنبياء من العلم ، لا الدرهم والدينار.

(١) عطف على «بيان» أي : لا في مقام كونهم .. إلخ.

(٢) هذا متفرع على كون وظيفة الفقهاء تبليغ الأحكام الشرعية فقط ، وعدم ولايتهم ، لأنّ وجوب الدفع إلى الفقيه ـ مع طلبه الخمس والزكاة ممّن وجبا عليه ـ منوط بدليل آخر كالولاية ، غير الدليل الأوّلي الدال على وجوبهما على المكلف ، بل مقتضى إطلاق وجوبهما عليه هو اعتبار المباشرة ، إلّا إذا قام الدليل على عدم اعتبارها.

(٣) استدراك على قوله : «فلا دليل» وحاصله : أنّه يمكن أن يكون وجوب الدفع إلى الفقيه من جهة أخرى غير ولاية الفقيه ، وهي فتوى الفقيه باشتراط صحة أدائهما بالدفع الى الفقيه ، فإنّه حينئذ يجب على المكلف اتباعه إن كان أعلم بناء على وجوب تقليد الأعلم ، فإنّه يجب تقليده ابتداء ، أو يجب تقليده بعد الاختيار ، كما إذا تعدّد الفقهاء ولم يثبت أعلمية أحدهم ، أو ثبتت ولكن لم يثبت وجوب تقليد الأعلم ، فإنّه بعد الاختيار يجب تقليده تعيينا ، بناء على كون التخيير ابتدائيا لا استمراريا.

١٦١

مطلقا (١) أو بعد (٢) المطالبة ، وأفتى بذلك الفقيه ، وجب (٣) اتّباعه إن كان ممّن يتعيّن تقليده ابتداء أو بعد الاختيار (٤) ، فيخرج (٥) عن محلّ الكلام (٦).

هذا ، مع (٧) أنّه لو فرض العموم فيما ذكر من الأخبار ، وجب حملها على إرادة

______________________________________________________

(١) يعني : سواء طلب الفقيه ، أم لا ، فاشتراط صحة أدائهما بالدفع الى الفقيه مطلق ، ولا يتوقف على طلبه.

(٢) يعني : أو كان اشتراط صحة أدائهما بالدفع الى الفقيه بعد المطالبة.

(٣) جواب الشرط في قوله : «لو ثبت».

(٤) قد عرفت المراد بهما فلا نعيد.

(٥) أي : فيخرج اشتراط صحة أدائهما ـ بدفعه الى الفقيه ـ عن محل الكلام.

(٦) إذ محلّ الكلام هو ثبوت الولاية للمجتهد حتى يجب دفع الخمس والزكاة إليه مطلقا سواء طلبهما الفقيه أم لا ، وسواء قلّده المكلف أم لا.

ولعلّ الأولى بسوق العبارة أن يقال : «أو بعد الاختيار ، لكنه خارج عن محل الكلام».

(٧) هذا وجه آخر لعدم استفادة كون الفقهاء كالنبي والأئمة «صلوات الله عليهم أجمعين». ومحصل هذا الوجه مع الغضّ عن الوجه الأوّل ـ من أنّ تلك الروايات تدل بملاحظة سياقها أو صدرها أو ذيلها على أنّها في مقام بيان وظيفة الفقهاء من حيث الأحكام الشرعية ـ هو : أنّه لو فرض دلالة الأخبار المذكورة على كون الفقهاء كالنبي والأئمة الطاهرين «عليهم الصلاة والسلام» في عموم الآثار ، وأنّهم كالمعصومين حتى في الولاية على الأنفس والأموال ، وجب حمل تلك الأخبار على خلاف ظاهرها ، وهو أظهر الآثار أعنى وظيفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث الرسالة والتبليغ ، إذ لو لم تحمل على هذا الأثر الخاص لزم تخصيص أكثر أفراد العام ، وهو الولاية على الأموال والأنفس ، لوضوح عدم سلطنة الفقيه على أموال الناس وأنفسهم إلّا في موارد قليلة كالتصرف في أموال القصّر. وهذا المحذور يوجب صرف الكلام عن هذا الظهور ، وحمله على إرادة الأثر الأظهر وهو تبليغ الأحكام ، لأنّه يناسب الرسالة.

١٦٢

العام من الجهة [على إرادة الجهة] المعهودة المتعارفة من وظيفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث كونه رسولا مبلّغا ، وإلّا (١) لزم تخصيص أكثر أفراد العامّ ، لعدم سلطنة الفقيه على أموال الناس وأنفسهم إلّا في موارد قليلة (٢) بالنسبة إلى موارد عدم سلطنته (٣).

وبالجملة (٤) فأقامه الدليل على وجوب طاعة الفقيه كالإمام ـ إلّا ما خرج بالدليل ـ دونه خرط (٥) القتاد (*).

______________________________________________________

(١) أي : وإن لم تحمل تلك الأخبار على الجهة المعهودة المتعارفة لزم تخصيص الأكثر ، لعدم سلطنة الفقيه على الأنفس والأموال ، فليس له الأمر بسكنى شخص في محل خاص ، أو النهي عنها ، وأمره بتزويج بنته بشخص خاص ، أو نهيه عنه ، ونحو ذلك من الموارد التي لا تحصى.

(٢) كالتصرف في أموال القاصرين والأموال المجهول ملّاكها ونحو ذلك ، وهذه الموارد في غاية القلة بالنسبة إلى الموارد التي لا سلطنة للفقيه عليها كما لا يخفى.

(٣) أي : سلطنة الفقيه.

(٤) غرضه أنّ الأخبار المذكورة قاصرة عن إثبات الولاية ووجوب طاعة الفقيه كإطاعة النبي والإمام «صلوات الله وسلامه عليهما» ، وليس فيها دليل عام يدلّ على ولاية الفقيه بحيث يرجع إليه عند الشك في ولايته في مورد.

فصار المتحصل إلى هنا : أنّ المصنف قدس‌سره لا يقول بولاية الفقيه بمعناها الأوّل.

وعليه فمار امه الفاضل النراقي وغيره ـ من إثبات ولاية الحاكم الشرعي مطلقا ـ قد عرفت عدم وفاء الدليل به.

(٥) خبر قوله : «فأقامه» وهذا إشارة إلى صعوبة إثبات ولاية الفقيه ، لعدم دليل تامّ عليها ، لا من الأخبار المتقدمة ولا غيرها.

__________________

(*) قدم تقدم في بعض التعاليق : أنّ بعض الروايات التي ذكرت في المتن تدلّ على ولاية الفقيه كالتوقيع الرفيع بعد دفع إشكال إجمال الحوادث.

نعم يبقى إشكال ضعف السند ، لعدم ذكر محمّد بن إسحاق في كتب الرجال بمدح.

١٦٣

بقي الكلام في ولايته على الوجه الثاني أعني توقّف تصرّف الغير على إذنه فيما كان متوقّفا على إذن الإمام عليه‌السلام (١). وحيث إنّ موارد التوقّف على إذن الإمام عليه‌السلام غير مضبوطة ، فلا بدّ من ذكر ما يكون كالضابط لها (٢) ، فنقول :

كلّ (٣) معروف علم من الشارع إرادة وجوده (٤) (*).

______________________________________________________

ولاية الفقيه بمعنى إناطة تصرف الغير بإذنه

(١) بحيث يكون جواز تصدّي الغير له مشروطا بإذن الفقيه في الموارد التي يشترط فيها إذن الإمام «عليه الصلاة والسلام» ، ولا يكون الغير مستقلّا بالتصرف فيه.

(٢) أي : لتلك الموارد التي تكون الولاية فيها على الوجه الثاني ثابتة له عليه‌السلام.

(٣) مبتدء ، خبره جملة الشرط والجزاء ، وهي «إن علم كونه ..».

(٤) أي : وجود المعروف ، وجملة «علم من الشارع» صفة ل «معروف».

__________________

وإن تكلف بعض لإثبات وثاقته ببيان بعض الوجوه ، من نقل محمّد بن يعقوب الكليني الذي هو أخو إسحاق بن يعقوب الكليني في كتابه الكافي المرسل بادّعائه إلى الناحية المقدسة بواسطة أحد نوّاب الناحية. ولو كان إسحاق مجهولا عنده كان من البعيد جدّا نقل التوقيع عنه بلا إشارة إلى حاله.

ومن نقل الشيخ الصدوق الرجالي المولود بدعاء صاحب الأمر أرواحنا فداه عن الكليني هذه الواقعة في إكمال الدين. ولذا نقل شيخ الطائفة هذا التوقيع في كتاب الغيبة. وكذا الطبرسي في الاحتجاج ، مع عدم إشارة هؤلاء الأجلاء على حاله.

وبالجملة : هذه الوجوه وغيرها ممّا ذكروه إن أوجبت الاطمئنان بوثاقة الرجل فهو ، وإلّا فضعف السند باق على حاله.

(*) ظاهر العبارة أنّ المقسم هو كلّ معروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج بحيث لا يرضى بتركه. فإن كان كذلك فلا يكون قوله : «وان لم يعلم ذلك واحتمل .. إلخ» قسما من هذا المقسم ، بل يكون قسيما له ، إذ المفروض عدم العلم بإرادة الشارع إيجاده في الخارج. واحتمال اشتراط جوازه أو وجوبه بنظر الفقيه.

وعليه فلا تخلو العبارة من اضطراب ، لأنّ قوله : «وإن لم يعلم ذلك» بمقتضى السياق

١٦٤

في الخارج (١) إن علم كونه وظيفة شخص خاصّ كنظر الأب في مال ولده الصغير ، أو صنف خاصّ كالإفتاء والقضاء ، أو كلّ من يقدر على القيام به كالأمر بالمعروف

______________________________________________________

(١) بحيث لا يرضى بتركه ، بل لا بدّ من إيجاده في الخارج ، سواء أكان إيجاده وظيفة شخص خاص كالأب ، حيث إن وظيفته النظر في مال ولده الصغير. أم كان إيجاده وظيفة صنف خاص كالإفتاء والقضاء اللذين هما وظيفتا الفقيه الجامع للشرائط. أم كان إيجاده وظيفة كلّ مكلف قادر عليه ، كالأمر بالمعروف مع شرائطه.

__________________

عدل لقوله : إن علم كونه وظيفة شخص خاص» مع أنّه ليس بسديد ، لأنّه لو كان كذلك لزم أن يكون لقوله : «كل معروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج» فردان :

أحدهما : أن يكون وجوده في الخارج وظيفة شخص أو صنف ، أو كلّ قادر على القيام به.

وثانيهما : أن لا يعلم إرادة الشارع وجوده في الخارج.

وهذا بمكان من الفساد ، لاستلزامه فرديّة كلا المتناقضين لشي‌ء واحد ، وهو ما علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج ، فلا محالة يكون قوله : «وإن لم يعلم ذلك» عدلا لمعروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج. وليس عدلا لما علم كونه وظيفة شخص خاصّ .. إلخ.

فالأولى إنشاء العبارة هكذا «كل معروف إن علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج من شخص خاص كالأب .. أو صنف خاص كالفقيه ، أو كلّ من يقدر على القيام به ، فلا إشكال في شي‌ء من ذلك. وان لم يعلم ذلك أي : لم يعلم إرادة الشارع وجوده في الخارج واحتمل .. إلخ.

فيكون قوله : «وان لم يعلم ذلك» عدلا لقوله : «إن علم من الشارع .. إلخ» ومعطوفا عليه حتى لا يلزم خلل في المطلب ، فلا بد من دخول إن الشرطية على قوله : «علم من الشارع» حتى يكون : «وإن لم يعلم» عدلا له.

١٦٥

فلا إشكال (١) في شي‌ء من ذلك (٢). وإن لم يعلم ذلك (٣) واحتمل كونه مشروطا في جوازه أو وجوبه بنظر الفقيه ، وجب (٤) الرجوع فيه إليه.

ثمّ (٥) إن علم الفقيه من الأدلّة جواز تولّيه ، لعدم إناطته بنظر خصوص الإمام أو نائبه الخاصّ ، تولّاه (٦) مباشرة أو استنابة (*) إن كان ممّن يرى الاستنابة فيه.

______________________________________________________

(١) يعني : لا إشكال في عدم توقف هذه الأمور على إذن الفقيه ، وعدم احتياج جواز تصدّيها إلى إذنه.

(٢) أي : في تلك الأمور.

(٣) أي : وإن لم يعلم إرادة الشارع وجود معروف في الخارج مطلقا ، واحتمل كون ذلك المعروف مشروطا جوازه أو وجوبه بنظر الفقيه ، وجب الرجوع إليه في ذلك المعروف المحتمل اشتراط وجوبه أو جوازه بنظر الفقيه. وذلك لعدم العلم بإرادة الشارع وجوده في الخارج ، فلو تصدّى لفعله بدون الرجوع إلى الفقيه كان ذلك تشريعا محرّما. ودليل مشروعية «كل معروف حسن» لا يشمله ، لكون الشبهة موضوعية.

(٤) جواب «إن لم يعلم» وقد مرّ وجه وجوب الرجوع فيه إلى الفقيه.

(٥) بعد عدم جواز التصدي لما يحتمل اشتراط وجوبه أو جوازه بنظر الفقيه ووجوب الرجوع إليه ، فإذا رجع إلى الفقيه في ذلك ، فإن استنبط من الأدلة عدم إناطته بنظر الامام عليه‌السلام أو نائبه الخاص تصدّاه الفقيه بنفسه ، أو بالاستنابة إن كان ممّن يجوّز الاستنابة فيه.

(٦) جواب الشرط في «إن علم» وضميره البارز وضمير «تولّيه» راجعان إلى كلّ معروف.

__________________

(*) هذا صحيح ، لكنه يلائم الولاية بالمعنى الأوّل وهو الاستقلال بالتصرف ، لا بمعناها الثاني أعني به توقف تصرف الغير على إذن الفقيه الذي هو مورد البحث. ولعلّ مراده من جواز تولّي الفقيه له مباشرة أو استنابة هو أنّ هذا المورد من موارد توقف تصدّي الغير على إذن الفقيه ، فتدبّر.

١٦٦

وإلّا (١) عطّله (*) فإنّ (٢) كونه معروفا

______________________________________________________

(١) أي : وإن لم يعلم الفقيه جواز تولّيه وتصدّيه من الأدلة ، واحتمل إناطته بنظر الامام عليه‌السلام أو نائبه الخاص وعدم كفاية إذن نائبه العام ، عطّله ، لفقدان شرطه.

(٢) إشارة إلى إشكال ودفعه. أمّا الإشكال فهو : أنّه مع فرض كون المورد معروفا كيف يجوز تعطيله؟ كما إذا كان الأمر بالمعروف موجبا لجرح تارك المعروف ، فإنّ كونه

__________________

(*) التعطيل قرينة على كون قوله : «وإن لم يعلم ذلك .. إلخ» عدلا لقوله : «كل معروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج» كما تقدّم آنفا ، إذ لو كان عدلا لقوله : «إن علم كونه وظيفة شخص خاص ..» لم يلائم قوله : «عطّله» إذ لا معنى للتعطيل ، مع كون المورد ممّا علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج ، فيكون قوله : «وإن لم يعلم ذلك» قسيما لقوله : «كل معروف» لا قسما له ، لامتناع كونه قسما له كما مرّ آنفا.

وبالجملة : لو كان قوله : «وإن لم يعلم» قسما لمعروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج ، لم يكن وجه لتعطيل الواقعة ، بل كان على الفقهاء أو عموم المسلمين إنفاذ حكمها ، لتوجه التكليف إليهم ، إذ المفروض العلم بإرادة الشارع وجوده في الخارج مطلقا وإن كان الإمام عليه‌السلام غائبا أو متعذر الوصول إليه.

وبما ذكرنا ـ من كون قوله : «وإن لم يعلم ذلك» قسيما لما علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج ـ يظهر عدم توجه إشكال العلامة الإيرواني قدس‌سره على ما أفاده المصنف قدس‌سره من تعطيل الواقعة بتعذر الوصول إلى الامام عليه‌السلام. وحاصل الاشكال : أنّه مع فرض إرادة الشارع وجود الواقعة في الخارج لا وجه للتعطيل ، بل لا بدّ من إيجادها الواجب على كافة المسلمين ، أو خصوص الفقهاء (١).

نعم يرد هذا الإشكال بناء على كون قول المصنف : «وان لم يعلم» قسما لمعروف علم من الشارع إرادة وجوده ، لا قسيما له. وقد عرفت أنّه قسيم له ، لا قسم له.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٥٧.

١٦٧

لا ينافي (١) إناطته بنظر الإمام عليه‌السلام والحرمان (٢) عنه عند فقده (٣) ، كسائر (٤) البركات التي حرمناها بفقده عجّل الله تعالى فرجه.

ومرجع هذا (٥) إلى الشكّ في كون المطلوب مطلق وجوده ، أو وجوده من موجد خاصّ (٦).

أمّا (٧) وجوب الرجوع إلى الفقيه في الأمور المذكورة ، فيدلّ عليه ـ مضافا إلى

______________________________________________________

معروفا ينافي تعطيله.

(١) وأمّا دفع الإشكال فهو ما أشار إليه بقوله : «لا ينافي» وحاصله : أنّه لا ينافي معروفية المعروف إناطته بنظر الامام عليه‌السلام ، كما إذا كان الإذن شرطا لصحته كصلاة الميت التي هي من المعروف ، ومع ذلك تكون صحتها مشروطة بإذن الولي. فمجرد كونه معروفا لا يسوّغ تصديه.

(٢) مبتدء خبره «كسائر» وهذا إشارة إلى إشكال ودفعه.

أمّا الإشكال فهو : أنّه مع كون الفعل معروفا كيف يجوز للفقيه ترك التصدي له؟ فإنّ تركه حرمان. وضمير «عنه» راجع الى المعروف.

(٣) أي : فقد الامام عليه‌السلام.

(٤) وأمّا دفعه فهو ما أشار إليه بقوله «كسائر البركات» وحاصله : أنّ هذا الحرمان كالحرمان عن سائر البركات التي حرمنا عنها بسبب غيبته «عجل الله تعالى فرجه الشريف» ، فلا يختص الحرمان بهذا الأمر المعروف المشروط بإذنه عليه الصلاة والسلام.

(٥) أي : بكون مرجع علم الفقيه من الأدلة بجواز تولّي الحكم ـ وعدم علمه به ـ إلى الشك في مطلوبية وجوده من أيّ شخص حصل ، أو من شخص خاصّ وهو الإمام عليه‌السلام حتى لا يجوز لغيره التصدّي له.

(٦) وهو الامام صلوات الله عليه أو نائبه الخاص.

(٧) غرضه إقامة الدليل على وجوب الرجوع إلى الفقيه في الأمور التي لا تناط بنظر الإمام أو نائبه الخاص. وأشار إليها بقوله : «ثم ان علم الفقيه من الأدلة جواز تولّيه لعدم إناطته بنظر خصوص الإمام أو نائبه الخاصّ .. إلخ».

١٦٨

ما يستفاد من جعله (١) حاكما ، كما في مقبولة ابن حنظلة (١) الظاهرة في كونه (٢) كسائر الحكّام المنصوبة في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة في إلزام الناس بإرجاع الأمور المذكورة (٣) إليه ، والانتهاء فيها (٤) إلى نظره (٥). بل (٦) المتبادر عرفا من نصب السلطان حاكما وجوب الرجوع في الأمور العامّة المطلوبة للسلطان إليه (٧). وإلى (٨) ما تقدّم

______________________________________________________

(١) أي : من جعل الفقيه حاكما.

(٢) أي : كون الفقيه في قوله عليه‌السلام : «قد جعلته عليكم حاكما» وحاصل ما أفاده قدس‌سره : أنّ جعل الفقيه حاكما في مقبولة ابن حنظلة ظاهر ـ بمعونة نصب الحكّام في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في إلزام الناس بإرجاع الأمور العامّة المطلوبة للسلطان إلى الحاكم ، في وجوب الرجوع في تلك الأمور إلى الفقيه ، كوجوب الرجوع فيها إلى الحكّام المنصوبين في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) أي : الأمور التي يرجع فيها كلّ قوم إلى رئيسهم.

(٤) أي : في الأمور المذكورة ، وضمير «إليه» راجع إلى الحاكم.

(٥) أي : نظر الحاكم ، وبالجملة : فيكون الفقيه المنصوب من قبل الامام عليه‌السلام كالحاكم المنصوب في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب الرجوع إليه في جميع الأمور المذكورة.

(٦) توضيحه : أنّ نفس نصب السلطان حاكما ـ مع قطع النظر عن نصب الحكّام في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ظاهر عرفا في ذلك ، وهذا هو الفارق بين هذا التقريب وسابقه ، فإنّ دعوى الظهور في التقريب الأوّل مستندة إلى لحاظ كيفية نصب الحكّام في زمان الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخلاف دعوى الظهور في التقريب الثاني ، فإنّها مستندة إلى ظهور نفس النصب عرفا في ذلك.

(٧) أي : إلى الحاكم المنصوب من السلطان.

(٨) معطوف على قوله : «إلى ما يستفاد» يعني : ومضافا إلى ما تقدم من قوله .. إلخ.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩٩ ، الباب ١١ ، ح ١.

١٦٩

من (١) قوله عليه‌السلام : «مجاري الأمور بيد العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه» (١) (٢) ـ التوقيع (٣) (*) المرويّ في إكمال الدين وكتاب الغيبة واحتجاج (٢) الطبرسي الوارد (٤) في جواب مسائل إسحاق بن يعقوب ،

______________________________________________________

(١) مفسّر ل «ما» الموصول.

(٢) قد تقدم ما يستفاد من هذه الأدلة في (ص ١٥٤ الى ١٦٠).

(٣) فاعل قوله في (ص ١٦٨) : «فيدل» يعني : فيدلّ على وجوب الرجوع إلى الفقيه في الأمور المذكورة التوقيع الرفيع.

(٤) صفة ل «التوقيع».

__________________

(*) لا يخفى أنّه قد أورد على الاستدلال بهذا التوقيع الشريف بوجوه :

الأوّل : ضعف السند ، لعدم ذكر محمّد بن إسحاق في كتب الرجال بمدح. وقد تقدم في (ص ١٦٤) بعض ما يتعلق بترجمته.

الثاني : إجمال الحوادث الواقعة ، لاحتمال إرادة حوادث خاصة مذكورة في الأسئلة التي لم تصل إلينا. قال سيّدنا الأستاذ قدس‌سره : «وأما التوقيع الرفيع فإجمال الحوادث المسؤول عنها مانع من التمسك به .. إلخ» (٣). وقد تقدم في (ص ١٤٥) هذا الاشكال ودفعه ، فلاحظ.

الثالث : أنّ الثابت بهذا التوقيع وجوب الرجوع إلى الفقهاء في تعلّم الأحكام الشرعية ، لأنّه المناسب للحجة التي هي بمعنى الاحتجاج كما أشير إليه سابقا.

وفيه : أنّ الثابت به كلّ ما يرجع فيه إلى الامام عليه‌السلام من الأحكام التكليفية والوضعية وغيرها ، فيندرج فيها جميع المسائل المستحدثة من إحداث الشوارع في أملاك الناس كالدور والخانات والدكاكين ، وفي الموقوفات العامة والخاصة ، وتوسعة المساجد

__________________

(١) تقدم مصدره في ص ١٥٦.

(٢) إكمال الدين ، ص ٤٨٤ ، الباب ٤٥ ، ح ٤ ، كتاب الغيبة ، ص ٢٩ ، الفصل ٤ ، ح ٢٤٧ ، الاحتجاج ، ج ٢ ، ص ٢٨٣ ، ونقله عنها صاحب الوسائل في ج ١٨ ، ص ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٩.

(٣) نهج الفقاهة ، ص ٣٠٠ و ٣٠١.

١٧٠

التي ذكر «إنّي سألت العمري (١) رضى الله عنه أن يوصل إلى الصاحب عجّل الله فرجه الشريف كتابا فيه (٢) تلك المسائل التي قد أشكلت عليّ ، فورد التوقيع بخطّه عليه آلاف الصلاة والسلام

______________________________________________________

(١) هو ثاني النوّاب الأربعة ، وهم : أبو عمرو عثمان بن سعيد الأسدي ، وأبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري ، وأبو القاسم حسين بن روح النوبختي ، وأبو الحسن علي بن محمّد السّمري «رضوان الله تعالى عليهم».

(٢) أي : في ذلك الكتاب.

__________________

والمشاهد والبلاد التي تترتب عليها أحكام خاصة. فهل يترتب على ما الحق بها تلك الأحكام أم لا؟

وكذا يندرج فيها مسائل التشريح والتأمين والسرقفلية ، والمعاهدة مع الأجانب في استخراج المعادن من النفط والذهب والفضة وغيرها ممّا لا يحصى كثرة ، فإنّ عموم الجمع المحلّى باللام ـ وهي الحوادث ـ يشمل الجميع بلا عناية. كشمول سائر ألفاظ العموم لجميع مصاديق معانيها ، هذا.

ثم إنّ هنا احتمالين :

أحدهما : أنه يبعد سؤال مثل إسحاق عن الأحكام الشرعية ، مع كون السؤال عنها مركوزا عند العقلاء ، فلا ينبغي أن يقال : إنّ إسحاق سأل عن الأحكام الشرعية الثابتة للحوادث الواقعة.

وفيه : أنّ احتمال إرجاع الإمام عليه‌السلام في أحكام تلك الحوادث إلى شخص معيّن من ثقاته كاف في صحة السؤال. هذا مضافا إلى سؤال غير واحد من فقهاء الرواة عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، كما لا يخفى على من راجع تراجم الرواة. كسؤال أحمد بن إسحاق ـ الذي هو من الأجلة ـ وإرجاعه إلى العمري وابنه.

وثانيهما : ما في المتن من : «أنّ الظاهر وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها .. إلخ» وسيأتي ما فيه عند شرح المتن إن شاء الله تعالى.

١٧١

في أجوبتها ، وفيها (١) «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله».

فإنّ (٢) المراد «بالحوادث» ظاهرا مطلق الأمور التي لا بدّ من الرجوع فيها عرفا أو عقلا أو شرعا إلى الرئيس ، مثل (٣) النظر في أموال القاصرين لغيبة (٤) أو موت أو صغر أو سفه.

______________________________________________________

(١) أي : وفي الأجوبة قوله عليه‌السلام : «وأمّا» ، وضمير «أجوبتها» راجع الى المسائل.

(٢) هذا تقريب الاستدلال ، وحاصله : أنّ المراد بالحوادث ليس خصوص الأحكام الشرعية ، بل مطلق الأمور التي لا محيص عن الرجوع فيها عرفا أو عقلا أو شرعا إلى الرئيس ، فالرجوع إلى الفقيه في الحوادث الواقعة ـ بما لها من الشؤون ـ مأمور به ، من دون خصوصية لأحكامها الشرعية.

وبالجملة : الرجوع إلى الفقيه في الحوادث الواقعة لا يراد به الرجوع إليه في إيجادها ، إذ المفروض وقوعها خارجا ، فالأمر بإيجادها أمر بتحصيل الحاصل ، فلا بدّ أن يراد بالرجوع إليه الرجوع في شؤون الحوادث الواقعة. وحيث إنّه لم يعيّن شي‌ء من تلك الشؤون ، فلا محيص عن إرادة جميعها ممّا يرجع فيها إلى الإمام «عجل الله تعالى فرجه الشريف» من الأحكام الشرعية وغيرها من العرفية ، كتأمين الطرق والبلاد ، والعقلية كالمعاهدات الدولية ، ونحو ذلك ممّا يرجع فيه إلى الرئيس.

ولا وجه لرمي الحوادث بالإجمال مع كون الامام عليه‌السلام في مقام بيان الوظيفة.

ومنه يظهر غموض ما أفاده سيّدنا الأستاد قدس‌سره من قوله : «فالمراد إمّا إيكال حلّها ، أو إيكال الشأن اللازم فيها إليه. وتعيّن الثاني غير ظاهر» (١).

(٣) هذا مثال الحكم الشرعي.

(٤) متعلق ب «القاصرين» ومبيّن لمنشإ القصور.

__________________

(١) نهج الفقاهة ، ص ٣٠١.

١٧٢

وأمّا تخصيصها (١) بخصوص المسائل الشرعية ، فبعيد من وجوه :

منها (٢) أنّ الظاهر (*) وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها مباشرة أو استنابة ، لا الرجوع (٣) في حكمها (٤) إليه.

ومنها (٥) التعليل «بكونهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» فإنّه (٦) إنّما يناسب

______________________________________________________

(١) أي : تخصيص «الحوادث» بخصوص المسائل الشرعية كما قيل ـ وعدم شمولها لسائر شؤونها ، حتى يدلّ التوقيع على الولاية ـ بعيد من وجوه.

(٢) أي : من تلك الوجوه المبعّدة : أنّ الظاهر وكول نفس الحادثة إلى الفقيه. وقد مر في التعليقة امتناعه.

(٣) معطوف على «نفس» أي : لا وكول الرجوع في حكم الحادثة إلى راوي الحديث المراد به الفقيه الجامع للشرائط.

(٤) أي : حكم الحادثة إلى الفقيه ، كما ذهب إليه بعض كسيدنا الأستاد قدس‌سره ، كما تقدم في (ص ١٧٢).

(٥) أي : ومن الوجوه ـ المبعّدة لإرادة المسائل الشرعية من «الحوادث» ـ هذا التعليل ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : «فإنّهم حجّتي عليكم».

(٦) أي : فإنّ التعليل. وهذا تقريب الاستدلال به على عدم إرادة المسائل الشرعية من «الحوادث» وحاصله : أنّ إضافة الرواة إلى نفسه المقدسة بقوله عليه‌السلام : «فإنّهم حجّتي عليكم» ظاهرة في أنّ المرجوع إليهم هو النظر والرأي دون الأحكام الشرعية ، وإلّا كان المناسب إضافتهم إلى الله تعالى ، بأن يقول عليه‌السلام : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا في أحكامها الشرعية إلى رواة حديثنا ، لأنّهم حجج الله».

__________________

(*) كيف يكون هذا ظاهر الكلام مع ما أشير إليه في التوضيح من أنّ إيكال نفس الحادثة إلى الفقيه عبارة أخرى عن الأمر بتحصيل الحاصل؟ فلا بدّ من إرادة شؤون الحادثة ، كما مرّ في التوضيح. مع أنّ العبارة الوافية بإرجاع نفس الحادثة إلى الفقيه هي كلمة «فأرجعوها» بصيغة باب الإفعال.

١٧٣

الأمور التي يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر (*) ، فكان هذا (١) منصب ولاة الإمام من قبل نفسه. لا أنّه (٢) واجب من قبل الله سبحانه على الفقيه بعد غيبة الإمام ، وإلّا كان المناسب أن يقول : «إنّهم حجج الله عليكم» كما وصفهم في مقام آخر (٣) بأنّهم أمناء الله على الحلال والحرام.

______________________________________________________

(١) أي : كون المرجع في تلك الأمور هو الرأي والنظر منصب ولاة الامام عليه‌السلام من قبل نفسه المقدسة.

(٢) يعني : لا أنّ هذا المنصب واجب من قبله سبحانه وتعالى على الفقيه بعد غيبة الإمام عليه‌السلام ، وإلّا كان المناسب أن يقول : «إنّهم حجج الله» كما وصفهم الامام بذلك في حديث آخر.

(٣) وهو ما تقدم في (ص ١٥٦) عن تحف العقول ممّا روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أو عن السبط الشهيد عليه‌السلام فراجع.

__________________

(*) التعليل بكونهم «حجتي عليكم» يدل على استناد حجية الفقهاء إلى نفسه المقدّسة ، وأنّهم وسائط بينه عليه الصلاة والسلام وبين الخلق ، كما أنّه «عجل الله تعالى فرجه الشريف» واسطة بين الله تعالى شأنه وبين عوالم الوجود كلّها. ولا يستفاد من إضافة حجية الفقهاء إلى نفسه المقدّسة أزيد من ذلك.

وأمّا الأمور التي يرجع فيها إلى الفقهاء فهي تستفاد من عموم الحوادث ، وإطلاق الأمر بالرجوع إليهم. وقد مرّ في بعض التعاليق أنّ الأمور التي يرجع فيها إلى الفقيه هي جميع شؤون الحوادث ، كما أفاده المصنف قدس‌سره في (ص ١٧٢) بقوله : «بل مطلق الأمور التي لا بدّ من الرجوع فيها عرفا أو عقلا أو شرعا إلى الرئيس».

ثم إنّه لم يظهر منشأ لقوله قدس‌سره : «فإنّه إنما يناسب الأمور التي يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر». فإن كان منشؤه نفس لفظ «الحجة» ففيه : أنّ التفكيك في معناها بين إطلاقها عليه عليه‌السلام وإطلاقها على الفقهاء منوط بدليل مفقود ، بل وحدة السياق تقتضي اتحاد المراد منها في كلا الإطلاقين. وإن كان منشؤه إضافة الحجة إلى نفسه المقدسة ، بقوله : «فإنهم حجتي عليكم» ففيه : أنّه يكفي في صحة الإضافة كون الفقهاء وسائط بينه عليه‌السلام وبين الخلق ، من دون حاجة إلى التصرف في معنى الحجة.

١٧٤

ومنها (١) أنّ وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء الذي (٢) هو من بديهيّات الإسلام من السّلف إلى الخلف ممّا (٣) لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب حتّى يكتبه (٤) في عداد مسائل أشكلت عليه. بخلاف وجوب الرجوع في المصالح العامّة إلى رأي أحد ونظره ، فإنّه (٥) يحتمل أن يكون الإمام عليه‌السلام قد وكله (٦) في غيبته إلى (٧) شخص أو أشخاص من ثقاته في ذلك الزمان (٨).

______________________________________________________

(١) أي : ومن الوجوه الدالة على بعد إرادة خصوص المسائل الشرعية من «الحوادث» : أنّ وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء ممّا لا يحتاج الى البيان ، لكونه من بديهيات الإسلام ، ولا ممّا يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب ، حتى يكتبه في جملة المسائل التي أشكلت عليه. وهذا بخلاف وجوب الرجوع في المصالح العامة إلى شخص ونظره ، إذ من المحتمل أن يكل عليه‌السلام وجوب الرجوع فيها إلى البعض المعيّن من ثقاته عليه‌السلام في زمان الغيبة. وهذا الاحتمال يصلح أن يكون داعيا إلى السؤال.

والحاصل : أنّ هذا الوجه يقتضي أن يكون الرجوع إلى الرواة الفقهاء في المصالح العامة التي يرجع كل قوم فيها إلى رئيسهم ، دون المسائل الشرعية.

(٢) صفة ل «وجوب الرجوع».

(٣) خبر قوله : «أن وجوب» والمراد بالموصول المسائل الشرعية.

(٤) الضمير المستتر راجع إلى إسحاق ، والضمير البارز إلى وجوب الرجوع.

(٥) الضمير للشأن.

(٦) أي : وكل الإمام عليه‌السلام وجوب الرجوع في المصالح العامة ـ في عصر غيبته ـ إلى شخص أو أشخاص من ثقاته.

(٧) هذا وكذا «في غيبته» متعلّقان ب «وكله».

(٨) أي : في زمان غيبته عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

١٧٥

والحاصل (*) : أنّ الظاهر أنّ لفظ «الحوادث» ليس مختصّا بما اشتبه حكمه (١) ، ولا بالمنازعات (٢).

ثمّ (٣) إنّ النسبة بين مثل هذا التوقيع (٤) وبين العمومات الظاهرة في إذن الشارع في كلّ معروف لكلّ أحد (٥)

______________________________________________________

(١) حتى يكون التوقيع مختصا بباب رجوع الجاهل إلى العالم ، وهو التقليد.

(٢) حتى يختصّ بباب القضاء وفصل الخصومة.

(٣) الغرض من بيان هذا المطلب دفع توهم ، وهو : أنّ أدلة ولاية الفقيه وإن دلّت على ولاية الفقيه في الأمور المذكورة ، لكنها تسقط بمعارضتها بالعمومات الظاهرة في إذن الشارع في كلّ معروف ، وعدم توقفه على الرجوع إلى الفقيه والاستيذان منه ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

(٤) وهو التوقيع الصادر لإسحاق بن يعقوب ، والمراد بمثل هذا التوقيع سائر أدلّة الولاية المتقدمة.

(٥) الظاهر في العموم الاستغراقي الشامل لموارد ولاية الفقيه.

__________________

(*) مقتضى السياق هو كون «الحاصل» خلاصة الوجه الثالث من الوجوه المبعّدة لإرادة المسائل الشرعية من الحوادث. وعليه فحاصل ما يقتضيه السياق هو أنّ ما يرجع فيه إلى الفقيه هو خصوص الأمور العامة. وهذا غير الحاصل الذي ذكره في المتن.

نعم ما أفاده فيه بقوله : «ان الظاهر أنّ لفظ الحوادث ليس مختصّا بما اشتبه حكمه ..» هو الحق الموافق لما أفاده في (ص ١٧٢) بقوله : «فان المراد بالحوادث ظاهرا مطلق الأمور التي لا بدّ من الرجوع فيها .. إلخ».

ولا يبعد أن يكون مراده بقوله : «والحاصل» ما استظهره بقوله : «فإن المراد بالحوادث ظاهرا مطلق الأمور .. إلخ» وإن كان ذلك خلاف السياق ، خصوصا مع عدم رد هذا الوجه المبعّد.

١٧٦

مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ معروف صدقة» (١) وقوله عليه‌السلام : «عون الضعيف من أفضل الصدقة» (٢) وأمثال ذلك (١) وإن كانت (٢) عموما من وجه ،

______________________________________________________

(١) لعلّ المقصود منه ما سيأتي في ولاية عدول المؤمنين (ص ١٩٥) من كلام الشهيد قدس‌سره ، من جواز أن يتولّى المؤمنون التصرف عند تعذر الحكّام ، لما دلّ على الأمر بالتعاون بالبرّ والتقوى (٣) ، وللنبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (٤). إذ المستفاد منها كون إعانة الضعيف من أفضل الصدقة ، فيجوز لكلّ أحد التصدّي لذلك ، فراجع (٥).

(٢) خبر قوله : «إن النسبة» وبيان كون النسبة عموما من وجه هو : أنّ لدليلي الولاية والإحسان والإعانة مورد اجتماع وموردي افتراق ، كما هو شأن العامّين من وجه في سائر الموارد.

أمّا مورد اجتماعهما فكبيع أموال القاصرين ونحوه من الأمور الحسبية التي هي إحسان وإعانة ، فإنّ دليل ولاية الفقيه يقتضي جواز تصدّيها لخصوص الفقيه دون غيره ، ودليل الإحسان والإعانة يقتضي جواز التصدي لكلّ أحد ، وعدم توقفه على إذن الفقيه.

وأمّا مورد الافتراق من طرف دليل الإحسان ، فكالمستحبات من الصدقات ، وإصلاح ذات البين ، وزيارة الأموات ، وغيرها ، فإنّها إحسان لا يتوقف جواز فعلها على إذن الفقيه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ٥٢٢ ، الباب ١ من أبواب فعل المعروف ، ح ٥ وص ٥٢٢ ، ح ١٠ ، وج ٦ ، ص ٣٢٣ ، الباب ٤٢ من أبواب الصدقة ، ح ٤ ، وص ٣٢١ ، ح ١ و ٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ١٠٨ ، الباب ٥٩ من أبواب جهاد العدو ، ح ٢ ، وفيه : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عونك الضعيف .. فلاحظ.

(٣) المائدة ، الآية ٢.

(٤) نقل عن سنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٨٢ ، الباب ١٧ من أبواب المقدمة ، ح ٢٢٥.

(٥) القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ٤٠٦ و ٤٠٧.

١٧٧

إلّا (١) أنّ الظاهر حكومة هذا التوقيع عليها (٢) ، وكونها (٣) بمنزلة المفسّر الدالّ على وجوب الرجوع (٤) إلى الإمام عليه‌السلام أو نائبه في الأمور العامّة التي يفهم عرفا دخولها تحت الحوادث الواقعة وتحت عنوان الأمر (٥) في قوله (أُولِي الْأَمْرِ).

______________________________________________________

وأمّا من طرف دليل الولاية فكمنصبي الإفتاء والقضاء ، فإنّه ليس لغير الفقيه التصدي لهما.

والتعارض في مورد الاجتماع يوجب سقوط الدليلين ، فلا يبقى لولاية الفقيه دليل ، هذا حاصل التوهم.

(١) هذا إشارة إلى دفع التوهم المذكور ، وحاصله : منع التعارض ، وإثبات حكومة توقيع إسحاق على أدلة الإحسان والإعانة.

(٢) أي : على العمومات الدالة على الإحسان والإعانة ونحوهما.

(٣) معطوف على «حكومة» وضميره راجع إلى التوقيع ، والأولى تذكيره وإرجاعه إلى «حكومة» ـ كما قيل ـ غير مناسب كما لا يخفى.

وكيف كان فتقريب حكومة التوقيع ـ ومثله من أدلة ولاية الفقيه ـ هو : أنّ التوقيع ونظائره تضيّق دائرة موضوع تلك العمومات وتقيّده بانّ للإمام عليه‌السلام أو نائبه حقّا في تلك الأمور ، بحيث لا تكون إحسانا وإعانة بدون الرجوع إليه عليه‌السلام أو نائبه ، لأنّهما بدون رعاية هذا الحق ليسا بإحسان ولا إعانة. فنتيجة هذه الحكومة هي خروجهما عن عنوانهما بدون إذن الامام عليه‌السلام أو نائبه.

وبالجملة : الإحسان والإعانة لا يحسنان مع مزاحمة حقّ الغير ، فمع المزاحمة لا تشملهما عمومات الإحسان والإعانة حتى يقع التعارض بينها وبين أدلة ولاية الفقيه حتى تتساقطا ولا يبقى لولاية الفقيه دليل.

(٤) بحيث يكون هذا الرجوع قيدا مقوّما لموضوعات عمومات الإحسان والإعانة.

(٥) كما في قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وقد تقدم في (ص ١٣٢ و ١٤١).

١٧٨

وعلى تسليم التنزّل (١) عن ذلك ، فالمرجع بعد تعارض العمومين إلى أصالة عدم مشروعيّة ذلك المعروف مع (٢) عدم وقوعه عن رأي وليّ الأمر ، هذا.

لكن المسألة (٣) لا تخلو عن إشكال ، وإن كان الحكم به (٤) مشهوريّا.

وعلى أيّ تقدير (٥) فقد ظهر ممّا (٦) ذكرنا : أنّ ما دلّت عليه

______________________________________________________

(١) يعني : وبناء على التنزل عن حكومة التوقيع على عمومات أدلة الإحسان والإعانة ـ وتسليم التعارض بين التوقيع وتلك العمومات ـ يكون المرجع بعد التساقط أصالة عدم مشروعية ذلك المعروف ، لا أصالة عدم اعتبار إذن الإمام عليه‌السلام ، لأنّه إنّما يكون فيما إذا علم بإرادة الشارع إيجاده في الخارج ، وكان الشك في اعتبار إذن الامام عليه‌السلام فيه.

ثم إنّ نتيجة أصالة المشروعية اعتبار إذن الإمام عليه‌السلام أو نائبه في ذلك المعروف.

(٢) متعلق بأصالة عدم مشروعية ذلك المعروف ، فكأنه قال : «فالمرجع إلى أصالة .. حين عدم وقوع ذلك المعروف عن رأي وليّ الأمر».

(٣) أي : مسألة الولاية المطلقة للفقيه لا تخلو عن إشكال ، وإن كان الحكم بثبوت الولاية للفقيه مشهورا بين الأصحاب. بل يظهر من الفاضل النراقي قدس‌سره كون المسألة إجماعية ، حيث قال «حيث نصّ به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلّمات» (١).

(٤) أي : بوجوب الرجوع في الأمور المذكورة إلى الفقيه الذي هو مقتضى الولاية.

(٥) أي : سواء قلنا بحكومة التوقيع أم بتعارض العمومين ، والرجوع إلى أصالة عدم مشروعية المعروف بدون إذن الفقيه ، فقد ظهر .. إلخ.

(٦) الموصول إشارة إلى ما ذكره في (ص ١٦٩) بقوله : «في مقبولة ابن حنظلة الظاهرة في كونه كسائر الحكّام المنصوبة في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة في إلزام الناس بإرجاع الأمور المذكورة إليه .. إلخ».

__________________

(١) عوائد الأيام ، ص ٥٣٦.

١٧٩

هذه الأدلّة (١) هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي تكون مشروعيّة إيجادها في الخارج مفروغا عنها ، بحيث لو فرض عدم الفقيه كان على الناس القيام بها كفاية.

وأمّا (٢) ما يشكّ في مشروعيته ـ كالحدود لغير الإمام ، وتزويج الصغيرة لغير الأب والجدّ ، وولاية المعاملة على مال الغائب بالعقد عليه ، وفسخ العقد الخياريّ عنه (٣) ، وغير ذلك ـ ، فلا يثبت من تلك الأدلّة (٤) مشروعيّتها للفقيه ، بل لا بدّ للفقيه من استنباط مشروعيّتها من دليل آخر (٥).

نعم (٦) ،

______________________________________________________

(١) وهي أدلة الولاية ، وحاصله : أنّ مدلول أدلة ولاية الفقيه هو ولايته في الأمور التي ثبتت مشروعية إيجادها في الخارج ، كتجهيز الأموات التي لا وليّ لها ، وحفظ أموال القاصرين ، والموقوفات التي ليس لها متولّ منصوص من قبل واقفيها ، ونحو ذلك ممّا علم بمشروعية إيجادها في الخارج ، وعدم جواز تعطيلها وإهمالها ، بحيث لو فرض عدم فقيه وجب على الناس القيام بها كفاية. هذا إذا علم بمشروعية إيجادها في الخارج.

(٢) وأمّا إذا شكّ في مشروعية إيجادها في الخارج بدون إذن الإمام عليه‌السلام ـ كالحدود والتعزيرات ، وتزويج الصغيرة بدون إذن الأب والجدّ ، ومعاملة مال الغائب ببيعه ونحوه ، وفسخ العقد الخياري عن الغائب ، إذا كان له خيار في عقد ـ فلا يثبت من أدلة ولاية الفقيه مشروعيتها للفقيه ، بل لا بدّ من استنباط مشروعيّتها له من دليل آخر غير أدلة الولاية.

(٣) أي : عن الغائب ، وقوله : «فلا يثبت» جواب قوله : «وأمّا ما يشك».

(٤) أي : أدلة ولاية الفقيه ، وضمير «مشروعيتها» راجع إلى الأمور المذكورة من الحدود وتزويج الصغيرة ، إلى آخر ما هناك.

(٥) أي : غير أدلة ولاية الفقيه.

(٦) استدراك على عدم ثبوت مشروعية الحدود وغيرها ممّا ذكر للفقيه من أدلة ولاية الفقيه. وحاصل الاستدراك : أنّ تلك الأمور تثبت الولاية عليها وعلى غيرها ـ كالولاية على الأنفس والأموال ـ للإمام عليه‌السلام.

١٨٠