هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٦

فإنّه (١) مملوك له ، لكن (٢) ليس له التصرّف فيه إلّا بتقويمه وأخذ قيمته.

وتعارض (٣) السبب المملّك والمزيل للملك ،

______________________________________________________

فالمناط هو الشركة في حال المباشرة ليكون من التصرف في ملك الغير بغير إذنه.

(١) أي : فإنّ الولد مملوك للشريك الآخر الذي لم يطأها.

(٢) يعني : وإن كان الولد مملوكا للشريك الآخر ، إلّا أنّه ممنوع من بيعه وهبته ووقفه ، فليس له إلّا التقويم وأخذ قيمة الولد.

(٣) معطوف أيضا على «النذر» وهذا إشارة إلى الحقّ الثالث عشر الموجب لنقص الملك ، قال في المقابس : «الحادي والعشرون : تدافع السبب المملّك والمزيل له دائما. والمسألة مفروضة فيما لو قهر حربي حربيّا ينعتق عليه وأراد بيعه ، فأطلق ابن حمزة في كتاب العتق من الوسيلة : أنّه يجوز تملّك من سبي ومن سرق ومن اشتري من آبائهم وقراباتهم وأزواجهم ومن سباهم [و] إن كان كافرا» (١).

توضيحه : أنّ الاستيلاء يوجب تملّك الكافر الحربي الذي هو كالمباح الأصلي في صيرورته ملكا لكلّ من استولى عليه وإن كان المستولي كافرا حربيا مثله. فإذا قهر حربيّ أباه كان القهر سببا لملكية المقهور دائما ، والقرابة الخاصة سببا لزوال الملكية.

ومع تعارض السبب المملّك والمزيل يشكل البيع ، إذ لا بيع إلّا في ملك ، والمفروض هنا توارد السببين في جميع الآنات على الكافر المقهور ، ولا موجب لترجيح أحدهما على الآخر. ولذا قيل : إنّ جواز شرائه للمسلم بمعنى الاستنقاذ ، ومعناه بذل عوض للكافر الحربي القاهر بإزاء رفع يده عن المقهور. كما يظهر من بعض الكلمات المنقولة في المقابس ، كقول العلّامة : «والتحقيق صرف الشراء إلى الاستنقاذ وثبوت الملك للمشتري بالتسلّط. وفي لحوق أحكام البيع حينئذ نظر» (٢).

وسيأتي في مستثنيات خيار المجلس بعض الكلام في كون شراء المسلم للكافر الحربي ـ من مثله ـ شراء حقيقة أو استنقاذا ، أو أنّه استنقاذ من أحد الطرفين وهو كالبيع من الطرف الآخر.

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ١٣٥.

(٢) قواعد الأحكام ، ج ٢ ، ص ٢٩.

٥٠١

كما لو قهر (١) حربيّ أباه.

والغنيمة (٢) قبل القسمة ، بناء (٣) على حصول الملك بمجرّد الاستيلاء ـ دون

______________________________________________________

(١) حيث إنّ الغلبة على الحربي مملّكة ، والقرابة بالأبوّة موجبة للانعتاق ، فيتعارضان.

(٢) معطوف أيضا على «النذر» وهذا هو الرابع عشر من موجبات نقص الملك ، قال في المقابس : «الثاني والعشرون : اشتراك يقتضي رجوع الأمر في القسمة إلى غير المالك ، وعدم تمكنه من البيع قبله لا معيّنا ولا مشاعا ، وذلك كالغنيمة قبل القسمة ، فإنّها مشتركة بين الغانمين ، وقسمتها إلى الإمام. فإن قلنا بأنّ الملك موقوف على القسمة وتعيين السّهام فلا يجوز البيع قبله ، لعدم الملك. وإن قلنا بحصوله بمجرد الاستيلاء لامتناع بقاء المال بلا مالك ـ وليس هو للحربي ولا للإمام ـ فتعيّن أن يكون للغانمين ..» (١).

وتوضيحه : أنّ ما غنمه المسلمون ـ من الأموال المنقولة ـ من الكفار هل تدخل في ملكهم بمجرد حيازتهم لها وجمعها ، أم يتوقف تملكهم لها على قسمة الامام عليه‌السلام؟ فبناء على توقف التملك على القسمة تكون المسألة خارجة عن المقام ـ أي من موجبات نقص الملك ـ إذ لا ملك حقيقة قبل القسمة.

وبناء على الأوّل ـ وهو التملّك بمجرد احتواء المسلمين عليها ـ تندرج في ما نحن فيه ، فكلّ جزء من هذه الأموال المغنومة ملك مشاع بين المقاتلين ، لكنه لجهالة حصّة كلّ منهم يمنع من التصرف فيه ، بل يتوقف على قسمة الإمام لها.

ووجه كونها ملكا للجميع هو خروجها عن ملك الكفار بمجرّد استيلاء المسلمين عليها ، فلو بقيت بلا مالك إلى زمان القسمة لزم بقاء المال بلا مالك ، وهو ممتنع ، فلا بدّ من دخولها في ملك المجاهدين ، ويستقرّ ملكهم لها بالقسمة.

(٣) اتّضح وجه التقييد بحصول الملك بالاستيلاء ، إذ بناء على القول الآخر ـ وهو إناطة الملك بالقسمة ـ يكون منع بيع الغنيمة قبل القسمة لأجل انتفاء الملك لا طلقيّته.

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ١٣٧.

٥٠٢

القسمة ـ لاستحالة (١) بقاء الملك بلا مالك.

وغير (٢) ذلك ممّا سيقف عليه المتتبّع ، لكنّا نقتصر على ما اقتصر عليه الأصحاب ، من ذكر الوقف ، ثمّ أمّ الولد ، ثمّ الرّهن ، ثمّ الجناية ، إن شاء الله.

______________________________________________________

(١) تعليل لترجيح القول بالتملك بالاغتنام على القول بتوقفه على القسمة ، وحاصله : أنّ الغنائم أموال مملوكة للكفّار ، ولا تصير من المباحات بحيازتها ، فلو توقّف تملّكها على القسمة المتأخرة عن الاغتنام ـ للزوم جمعها وتبديل ما لا يقبل التقسيم منها ـ لزم بقاء الملك بلا مالك ، وهو ممتنع.

(٢) معطوف أيضا على «النذر» وما بعده من الحقوق. والمراد بالغير أمور أربعة ذكرها المحقق الشوشتري وأشرنا إليها في (ص ٤٨٩) فراجع.

٥٠٣

مسألة (١)

لا يجوز بيع الوقف (*)

______________________________________________________

بيع الوقف

(١) الغرض من عقد هذه المسألة التعرض لإحدى موجبات نقص الملك مع بقاء أصله. وهذا مبني على القول بكون العين الموقوفة ملكا للموقوف عليه ، وتعلق حقّ الغير ـ كالبطن المعدوم ـ بها. وأمّا بناء على القول بانتقال العين إليه تعالى كان أصل الملك منتفيا ، لا طلقيته ، كما نبّه على ذلك صاحب المقابس قدس‌سره (١) ، ويظهر من كلام شيخه قدس‌سره في وقف كشف الغطاء ، كقوله : «وهو بقسميه ـ عامّة وخاصّة ـ مفيد للاختصاص دون الملك ، فإنّه لله ، والقول بانفصال الملك في القسم الثاني الموقوف عليه غير بعيد كما مال أعاظم الفقهاء إليه ، وإن كان الأقوى خلافه ، وجريان الأحكام فيه على نحو جريانها في الوقف العام ، وفي متعلقات النذور ، فإنّ الأقوى خروجها عن ملّاكها ، ورجوعها كباقي الكائنات إلى من بيده أزمة الأمور. وملك الفوائد والمنافع ليس بمقتض لملك العين ولا مانع ..» (٢).

__________________

(*) عرّف الوقف في كلمات الأصحاب تبعا لما في النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المروي في عوالي اللئالي (٣) بأنّه «عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة» كما في

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٤٢.

(٢) كشف الغطاء (الطبعة الحجرية) كتاب العبادات الداخلة في العقود ، الباب الأوّل ، البحث الأوّل.

(٣) عوالي اللئالي ، ج ٣ ، ص ٢٦١ ، ح ٥ ، رواه عنه في مستدرك الوسائل ، ج ١٤ ، ص ٤٧ ، الباب ٢ من أبواب الوقوف ، ح ١.

٥٠٤

إجماعا (١) محقّقا في الجملة ، ومحكيّا

______________________________________________________

(١) استدل المصنّف قدس‌سره على حرمة بيع الوقف بوجوه :

الأوّل : الإجماع ، محصّلا ومنقولا. أمّا المحصّل فهو ثابت في الجملة ، وغرضه من قيد «في الجملة» ما عدا الصور التي يجوز فيها البيع لطروء المسوّغ.

قال في المقابس : «وإيجابه ـ أي إيجاب الوقف ـ لفساد البيع في الجملة ثابت بالإجماع من الخاصة والعامة» (١).

وأما المنقول فقد ادّعي مطلقا على حرمة البيع ، ومن دون التقييد ببعض الصور كما سيأتي في (ص ٥٤٤). وفي الجواهر : «ومن هنا اتفق الأصحاب على أن الأصل فيه ـ أي في بيع الوقف ـ المنع ، وإن اختلفوا فيما خرج عنه بالدليل ، أو بزعمه. بل في السرائر :

نفى الخلاف عن عدم جواز بيعه إذا كان مؤبّدا ، ونزّل خلاف الأصحاب في المنقطع منه ..» (٢).

والمقصود من نقله أنّ دعوى الإجماع على منع بيع الوقف موجود في بعض الكلمات ، خصوصا لو قيل بأنّ الوقف المنقطع حبس حقيقة ، لاشتراط التأييد في الوقف

__________________

الشرائع (٣) وبعض آخر ، أو أنّه «عقد يفيد تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة» كما في القواعد (٤). أو أنه «تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة» كما حكي عن المبسوط وغيره (٥) بحذف «العقد» وتبديل الإطلاق بالتسبيل ، ولعلّه أولى كما في الجواهر «لإشعاره باعتبار القربة فيه ، وأنّه من الصدقات» (٦).

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٤٢.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٣٥٨.

(٣) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢١١.

(٤) قواعد الأحكام ، ج ٢ ، ص ٣٨٧.

(٥) مفتاح الكرامة ، ج ٩ ، ص ٢.

(٦) جواهر الكلام ، ج ٢٨ ، ص ٢.

٥٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فالمنقطع إمّا باطل أصلا ، وإمّا صحيح حبسا لا وقفا مصطلحا.

وقد تحصّل : أنّ الإجماع محقّق في المسألة ، إنّما الكلام في حجيته مع احتمال استناد المجمعين إلى النصوص المعتبرة التي لم يستبعد صاحب الجواهر تواترها (١).

__________________

وعلى كلّ فالتعاريف المزبورة تناسب تفسير الوقف في اللغة بالحبس كما في اللسان وغيره (٢) ، فمعنى قوله : «وقفت داري على كذا» بعد تعذر إيقاف نفس الدار على الموقوف عليه هو حبسها عليهم. إنّما الكلام في ما يراد بالحبس ، لما فيه من احتمالين.

أحدهما : الممنوعية من التصرفات الناقلة ، بمعنى : أنّ الواقف ينشئ منع التقلب في العين وحركتها في وعاء الاعتبار من الموقوف عليه الى غيره. ومقتضاه بطلان الوقف بطروء ما يجوّز بيعه شرعا وإن لم يتحقق البيع خارجا ، كما سيأتي من الفقيه الكبير في شرح القواعد وجمع. قال السيد العاملي قدس‌سره : «إذ المراد به ـ أي بالتحبيس ـ المنع من التصرف فيه تصرفا ناقلا» (٣) ونحوه في الرياض (٤).

ثانيهما : إيقاف ملكية العين على الموقوف عليهم بحيث لا تتجاوزهم إلى غيرهم. هذا في الوقف على الأشخاص أو العناوين القابلة للتملك ، وإلّا فالمراد إيقاف الاختصاص بالموقوف عليه.

قال المحقق التقي الشيرازي قدس‌سره : «إن الظاهر من قول القائل : ـ وقفت داري مثلا بعد عدم صحة اعتبار معناه الحقيقي من إرادة إيقاف نفس العين ـ أن يكون الإيقاف باعتبار الملكية .. ثم إذا قامت قرينة أخرى على عدم اعتبار ذلك انتقلنا من ذلك إلى إرادة نوع خاصّ من الاختصاص يصحّ اعتباره في الأوقاف العامة وأمثاله» (٥).

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٣٥٧ ، ونقل في غيره عن ابن إدريس أيضا ، فلاحظ : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ٢٥٨ ، وج ٩ ، ص ٨٤ ، مقابس الأنوار ، ص ٤٨.

(٢) لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٣٥١ ، المصباح المنير ، ص ٦٦٩ ، مجمع البحرين ، ج ٥ ، ص ١٢٩.

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٩ ، ص ٢.

(٤) رياض المسائل ، ج ١٠ ، ص ٩١.

(٥) تعليقة المكاسب (القسم الثاني) ص ٢٢.

٥٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والملكية الحاصلة من أيّ سبب وإن كانت حقيقة واحدة ، إلّا أنّ حكمها يختلف في الوقف عمّا عداه من جهة حكم الشارع بعدم الانتقال عن موضوعها وهو الموقوف عليه.

ويترتب على هذا الاحتمال بقاء الوقف على ما كان عليه بعد عروض مسوّغ بيعه ، إذ لا منافاة بين قصر ملكية العين أو اختصاصها ، وبين جواز النقل ، لعدم كون المنع من التصرف مأخوذا في حقيقة الوقف.

نعم تتحقق المنافاة بين حكمين ، وهما جواز البيع بعد طروء السبب ، وبين حرمته التي كانت قبله. وهي توجب انقلاب لزوم الوقف إلى الجواز ، لا الصحة إلى البطلان.

ولعلّ هذا مبنى ما سيأتي من المصنف بقوله : «ثم إن جواز البيع لا ينافي بقاء الوقف ..» فانتظر.

وكيف كان فاختار المحقق الأصفهاني قدس‌سره الاحتمال الثاني ، لما في كون الحبس منعا من التصرف الناقل من محذور ، سواء أريد به المنع المالكي أم الشرعي ، تكليفيا أم وضعيا.

وحيث إنّ المناط ملاحظة إنشاء الواقف ، لفرض كون الأدلة الشرعية إمضاء له بمعنى جعل المماثل ، فالأولى الاقتصار على توضيح استدلاله بوجهين على عدم كون الحبس منعا عن التصرفات ، وسلامة كلامه عمّا أورد عليه. فنقول وبه نستعين :

الوجه الأوّل : أنّ منع الغير عن التصرف في العين وإن كان قابلا للإنشاء كإنشاء الإباحة ، إلّا أنه لكونه من الإيقاعات القائمة بطرف واحد لا يعقل أن يتوقف وجوده في موطن الاعتبار على قبول الغير. مع أنّه لا شبهة في قابلية إنشاء الوقف للقبول ، بل المعروف اعتباره سيّما في الوقف الخاص.

ففي الجواهر بعد تقوية اعتبار القبول في الوقف مطلقا : «فالوحدة المزبورة حينئذ تقتضي اعتباره أيضا» (١). فالمقصود أن الوقف من سنخ المعاني القابلة للحوق القبول به ، سواء قيل بدخله فيه أم لا ، فهو كالوصية القابلة للرد والإمضاء. مع أنّ المنع المالكي إيقاع كترخيصه.

الوجه الثاني : أنّ المنع المالكي إن أريد به ممنوعية الموقوف عليه عن بيع الوقف ونقله إلى الغير ، ففيه : أنّه لا يتصور هذا المنع إلّا في ظرف بقاء العين على ملك المانع ، إذ لا معنى

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٨ ، ص ٦ و ٧.

٥٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

للمنع عمّا هو أجنبي عنه ولا مساس له به ، مع أنّ خروج العين عن ملك الواقف مما لا كلام فيه.

وإن أريد به ممنوعية نفسه عن التصرف ، ففيه : أنّ معناه التزامه بعدم تصرفه في العين بعد إنشاء الوقف ، وأمّا ممنوعية الموقوف عليه فلا موجب لها ، فإنّ نفوذ الوقف شرعا معناه أنّ للشارع اعتبارا مماثلا لما أنشأه الواقف.

هذا توضيح ما أفاده قدس‌سره في منع كون الحبس منعا عن التصرف الناقل. ولا يتجه شي‌ء ممّا ذكر على جعل الحبس بمعنى كون الملكية ـ في مورد قابلية الموقوف عليه للتملك ـ مقصورة على أشخاص أو عنوان ، أو اختصاصها مقصورا على جهة أو فعل كما في وقف مال للصرف في الإحجاج أو الإرسال إلى زيارة المشاهد المقدّسة. قال قدس‌سره : «ومرجع قصر العين ملكا أو اختصاصا قصر ملكيتها على شخص ، المساوق لعدم زوالها عنه ، لا أنّ المنشأ والمتسبّب إليه نفس اعتبار الملكية ، فإنّه غير مناسب لمفهوم الوقف» (١).

إلّا أن يناقش في الوجه الثاني بما أفيد من «أنّ إيقاع المنع وإنشاءه يكون في زمان مالكيته. فلو كان الحبس هي الممنوعية لكان حصول الممنوعية وخروج العين عن ملكه بإنشائها في زمان مالكيته. ولا يعتبر في جعل المالك وتصرفه في ملكه إلّا كونه ملكا له حال التصرف. نظير الشرائط في ضمن العقد. فلو شرط على المشتري عدم بيعه أو شرط إجارته في رأس السنة الآتية صحّ وإن لم يكن ملكا له في رأسها ، وهو واضح» (٢). هذا.

فإن كان المنع المالكي نظير باب الشرط الضمني الذي يكفي فيه الملك حين الشرط وإن زالت العلقة بعده فالأمر كما أفيد. وإن كان المنع والترخيص المالكيّان دائرين مدار الملك حدوثا وبقاء ـ أي يلزم بقاء الإضافة حين التصرف ـ لم يتجه تنظير إنشاء الواقف ـ بناء كون الحبس منعا عن التصرف الناقل ـ بباب الشرط الضمني ، والمسألة محتاجة إلى مزيد التأمّل.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٢٥٣ و ٢٥٤.

(٢) كتاب البيع ، ج ٣ ، ص ٨٠.

٥٠٨

ولعموم (١) قوله عليه‌السلام : «الوقوف على حسب

______________________________________________________

(١) معطوف على «إجماعا» فكأنه قال : «لا يجوز بيع الوقف للإجماع ولعموم» وهذا دليل ثان على منع بيع الوقف. وهو ما ورد في مكاتبة الصفّار ـ بألفاظ متقاربة ـ عن الإمام العسكري «صلوات الله وسلامه عليه» ، فروى الشيخ بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفار ، قال : «كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي : أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقّتا فهو صحيح ممضى.

قال قوم : إنّ الموقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

قال : وقال آخرون : هذا موقت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ، ولم يذكر في آخره : للفقراء والمساكين إلى أن يرث .. الأرض ومن عليها. والذي هو غير موقّت أن يقول : هذا وقف ، ولم يذكر أحدا. فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الذي يبطل؟ فوقّع عليه‌السلام : الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء الله» (١).

واستظهر العلّامة المجلسي قدس‌سره صحة جميع الشقوق (٢). ولعلّه لإطلاق الجواب وعدم التفصيل بين الصور المفروضة في سؤال الصفّار.

وروى الصدوق بإسناده إلى الصفار «أنّه كتب إلى أبي محمّد الحسن عليهما‌السلام في الوقف وما روى فيها عن آبائه عليهم‌السلام ، فوقّع : الوقف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله تعالى» (٣).

وروى ثقة الإسلام عن محمّد بن يحيى ، قال : «كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمّد عليه‌السلام في الوقوف وما روي فيها ، فوقّع عليه‌السلام : الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاء الله» (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، الباب ٧ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات ، الحديث : ٢ ، تهذيب الأحكام ، ج ٩ ، ص ١٣٢ و ١٣٣ ، الحديث ٩ من أبواب الوقوف والصدقات.

(٢) ملاذ الأخيار ، ج ١٤ ، ص ٤٠٤ ـ ٤٠٥ ، ولاحظ أيضا كلام والده في روضة المتقين ، ج ١١ ، ص ١٥٠.

(٣) الفقيه ، ج ٤ ، ص ١٧٩ ، ح ١٠ ، ورواه عنه في وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٩٥ ، الباب ٢ من أحكام الوقوف ، ح ١ ، لكنه لم يذكر فيه كلمة «تعالى».

(٤) الكافي ، ج ٧ ، ص ٣٧ ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة ـ من كتاب الوصايا ـ ح ٣٤ ، ورواه عنه في الوسائل ، ج ١٣ ، ص ٢٩٥ ، ح ١.

٥٠٩

ما يوقفها (١) أهلها» (*)

______________________________________________________

وهذه الرواية وإن كانت معتبرة سندا ، لصحة إسناد الصدوق والشيخ إلى الصفار ، وكذا بطريق الكافي ، إلّا أنّ جواب الإمام عليه‌السلام مذكور في كلّ منها بلفظ. وإن كان الاختلاف يسيرا غير مؤثر في المعنى.

كما ظهر بما نقلناه من ألفاظ الرواية عدم موافقه ما نقله المصنف في المتن لشي‌ء منها نعم هو أوفق بنقل الصدوق قدس‌سره.

(١) هذا الكلمة منقولة في الفقيه والتهذيب بصيغة باب الإفعال ، لكنها في الكافي بصيغة الثلاثي المجرّد ، ولعلّ الأولى ما في الكافي ، قال العلّامة الطريحي قدس‌سره : «وقد تكرّر ذكر الوقف في الحديث ، وهو تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة. يقال : وقفت الدار للمساكين وقفا. و : أوقفتها لغة رديّة» (١).

وكيف كان فتقريب دلالة هذه المعتبرة على عدم جواز بيع الوقف هو : أنّ الوقف ـ كما صرّح به المصنف قدس‌سره في (ص ٥٢٥) يوجب تعلق حقّ كلّ من الواقف والموقوف عليه بالعين الموقوفة ، فحقّ الواقف هو حبس ماله عن النقل والانتقال ، وحق الموقوف عليه هو الانتفاع بالعين واختصاصها به. وهذا الغرض ممضى شرعا بالتوقيع الشريف ، ومن المعلوم أنّ جواز بيع الوقف ينافي هذا المقصود ، فلا يجوز.

والوجه في التعبير عن مكاتبة الصفار بالعموم هو عدم التصريح بحرمة البيع والشراء فيها ، كما صرّح بمنع الشراء بالخصوص في ما سيأتي من رواية ابن راشد ، ورواية ربعي الحاكية لصورة وقف مولانا أمير المؤمنين «عليه أفضل صلوات المصلين» لداره الواقعة في بني زريق. فيستفاد ـ من هذه المكاتبة ـ منع البيع والصلح والهبة ونحوها ، لأنّ الشارع أمضى قصد الواقف ونفّذه.

__________________

(*) الاستدلال به على عدم جواز بيع الوقف مشكل ، لأنّه في مقام إمضاء الكيفيات التي يجعلها الواقفون في الوقف من الجهات الراجعة إلى نفس العين الموقوفة من كيفية بنائها وعمارتها ، والموقوف عليه من الصفات الخاصة ، إلى غير ذلك ممّا يتعلق بالوقف.

__________________

(١) مجمع البحرين ، ج ٥ ، ص ١٢٩ ، وكذا في لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٣٦٠

٥١٠

ورواية (١) أبي علي بن راشد ، قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام قلت : جعلت فداك ،

______________________________________________________

(١) معطوف على «عموم» وهذا دليل ثالث على حرمة بيع الوقف ، وهو ما رواه ثقة الإسلام عن محمّد بن جعفر الرزاز عن محمد بن عيسى عن أبي علي بن راشد ـ وهو الحسن بن راشد ـ عن الإمام الهادي عليه‌السلام. والظاهر اعتبار هذا السند ، لوثاقة رواته ،

__________________

وأمّا عدم جواز بيعها فليس في عداد تلك الجهات المجعولة من الواقف ، إذ لو كان كذلك فلازمه جواز اشتراط بيعها أيضا ، لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها. فإذا وقفها على أن تباع رأس خمسين سنة ينفذ هذا الشرط ، مع أنّه واضح البطلان ، إذ المقصود إثبات عدم جواز البيع في نوع الوقف ، لا في شخصه.

والحاصل : أنّ ظهور مثل قولهم عليهم‌السلام : «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» في إمضاء مجعولات الواقفين الخارجة عن حقيقة الوقف ومفهومه ، وعن المجعولات التي جعلها الشارع ، ممّا لا سبيل إلى إنكاره. فمثل هذا الدليل مساق لدليل إمضاء الشروط الذي هو أجنبي عن أدلة نفوذ أصل المعاملة ، مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وغيرهما.

وقد ظهر مما ذكرنا ضعف ما في بعض الحواشي من الاستدلال بعموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» بتقريب : أنّ حقيقة الوقف هي التحبيس والمنع عن خروج العين الموقوفة عن الحبس ، وكونها غير قابلة للبيع وغيره من التصرفات الناقلة ، والواقف لمّا أنشأ هذا المفهوم والتزم به وبنى عليه ، فالشارع أمضى هذا البناء والالتزام بمثل الحديث المزبور ، هذا.

وجه ضعفه : أنّ دليل إمضاء هذا البناء هو «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ونحوه ممّا يدلّ مطابقة على وجوب الوفاء بعقد الوقف ، لا ما جعله الواقف في ضمن الوقف.

فالأولى جعل مثل هذا الحديث من أدلّة إمضاء الكيفيّات المجعولة من الواقفين ، لا من أدلة إمضاء نفس عقد الوقف. والنصوص الخاصة الدالة على عدم جواز بيع الوقف ـ كرواية أبي عليّ بن راشد ـ كافية في المطلب.

٥١١

.................................................................................................

______________________________________________________

ولذا عبّر في الحدائق عنه ب «بالقوي» (١) وصاحب المقابس ب «ما رواه الصدوق في الحسن كالصحيح ، والكليني والشيخ في القوي» (٢). وصاحب المستند بالصحيحة (٣).

فالتعبير عنها بالرواية ـ الموهم للخدشة في السند ـ لم يظهر وجهه. ولعلّ منشأه توصيف العلّامة المجلسي قدس‌سره له بقوله : «مجهول هنا ، وفي الفقيه صحيح» (٤) مع أنّ إسناد الشيخ إلى ثقة الإسلام الكليني ، وإسناد الصدوق إلى محمّد بن عيسى معتبر ، كما يظهر بمراجعة مشيخة الفقيه والتهذيب (٥). هذا مع أنه لا حاجة إلى ملاحظة الإسناد بعد ذكر الرواية مسندة في الكافي.

وكيف كان ، فمضمون الرواية : أنّ الحسن بن راشد سأل عن حكم أرض موقوفة اشتراها بألفي درهم جاهلا بوقفيّتها. فأجاب عليه الصلاة والسلام بالنهي عن الشراء وبوجوب صرف الغلّة في الموقوف عليه.

وتقريب الاستدلال ـ كما في المقابس ـ بوجهين :

أحدهما : أنّ قوله عليه‌السلام : «لا يجوز شراء الوقف» يشمل مورد السؤال ـ وهو الأرض ـ وغيره ، ضرورة إفادة نفي الجنس للشمول. هذا بناء على كون النسخة بلفظ المفرد. وأمّا بناء على ما نقله صاحب المقابس من «لا يجوز شراء الوقوف» فالشمول وضعي ، لدلالة الجمع المحلّى باللام على العموم.

ثانيهما : أنّ قوله عليه‌السلام : «ولا تدخل الغلة في ملكك» مطلق ، حيث إنّه عليه‌السلام لم يستفصل من السائل عن حال بائع الأرض الموقوفة ، وأنّه كان هو الواقف أو هو الموقوف عليه أو المتولّي أو المأذون من قبل أحدهم ، أم غير مأذون. كما أنه عليه‌السلام لم يستفصل عن كون هذا البيع أنفع بحال الموقوف عليه أم لا. فحكمه عليه‌السلام بعدم تملّك

__________________

(١) الحدائق الناضرة ، ج ١٨ ، ص ٤٤٤.

(٢) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٤٩.

(٣) مستند الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٣٠٧.

(٤) ملاذ الأخيار ، ج ١٤ ، ص ٣٩٧.

(٥) تهذيب الأحكام ، ج ١٠ ، (المشيخة) ص ٨ ، من لا يحضره الفقيه ، ج ٤ ، ص ٤٩٢.

٥١٢

إنّي (١) اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي ، فلمّا عمّرتها خبّرت أنّها وقف ، فقال : لا يجوز شراء الوقف ، ولا تدخل الغلّة في ملكك ، ادفعها إلى من أوقفت عليه. قلت : لا أعرف لها ربّا. قال : تصدّق بغلّتها (٢)» (١).

وما ورد (٣) من حكاية وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام

______________________________________________________

الغلّة وبقائها على ملك الموقوف عليه ـ ووجوب إيصالها إليه إن كان معلوما ، أو التصدق به إن لم يعلم ـ ظاهر في أنّ حكم طبيعي الوقف بطلان بيعه وشرائه.

هذا توضيح ما في المقابس في بيان الاستدلال.

ثم تعرّض قدس‌سره لكلام شيخ الطائفة في التهذيب والاستبصار من احتمال عدم كون البائع هو الموقوف عليه أو المأذون من قبله ، فلا إطلاق حينئذ في الرواية ، وأجاب عنه ، فراجع (٢).

(١) هذه الجملة مغايرة لما في الكافي والتهذيب والوسائل من قول السائل : «اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم ، فلمّا وفيت [وفّرت] خبّرت أنّ الأرض وقف» والمراد بتوفير الثمن إقباضه للبائع تامّا. هذا بناء على ما في التهذيب. وفي الكافي «وفيت المال» وهو واضح.

لكن يظهر من كلام العلّامة المجلسي اختلاف نسخ الكافي في ضبط هذه الكلمة ، لقوله : «وفي بعض نسخ الكافي : وفيت ، وفي بعضها : وزنت. وهما أظهر» (٣).

(٢) هذا الضمير وضمائر «عمّرتها ، أنّها ، ادفعها ، لها» راجعة إلى الأرض.

(٣) معطوف على «رواية» وهذا دليل رابع على حرمة بيع الوقف ، وهو كرواية ابن راشد من الأدلة الخاصة ، للتصريح فيها بعدم البيع ، وإن ضمّ إليه الهبة ، وكذا الإرث في بعضها.

قال المحقق الشوشتري ـ في عدّ حجة المانعين عن بيع الوقف مطلقا ـ ما لفظه :

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٠٣ ، الباب ٦ من أحكام الوقوف والصدقات ، ح ١ ، الكافي ، ج ٧ ، ص ٣٧ الفقيه ، ج ٤ ، ص ١٧٩ ، ح ١٠ ، التهذيب ، ج ٩ ، ص ١٣٠.

(٢) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٤٩.

(٣) ملاذ الأخيار ، ج ١٤ ، ص ٣٩٨.

٥١٣

وغيره (١) من الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، مثل : ما عن ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام في صورة وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام : «بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تصدّق به عليّ بن أبي طالب وهو حيّ سويّ ، تصدّق بداره التي في بني زريق (٢) ، صدقة لا تباع ولا توهب حتّى يرثها الله الذي يرث السماوات والأرض ،

______________________________________________________

«ومنها ما روي في كيفية أوقاف الأئمة عليهم‌السلام ، كوقف عليّ لبعض الأراضي ، ووقفه الآخر لبعض الدور ، ووقف الكاظم عليه‌السلام لبعض الأراضي. وذكر في الأوّل ـ أي وقف أمير المؤمنين لبعض الأراضي ـ أنّه صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث ، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» إلى أن قال : «وهي أخبار متكثرة صحيحة الأسانيد .. وهي تدلّ على بطلان بيع المؤبّد مطلقا من وجوه متقاربة».

وهي وجوه ثلاثة ، قال في ثانيها : «ان الظاهر أن ما ذكر فيها من لعن البائع وعدم حلية البيع بمنزلة الأحكام للأوقاف المؤبّدة ، ولا خصوصية لها بتلك الأوقاف. والغرض الإشارة إلى ذلك القسم المعروف من الصدقة أي الوقف ، وبيان لوازمه ، وتأكيد الأمر في ذلك .. إلخ» (١). وسيأتي تقريب الاستدلال.

(١) كحكاية وقف الإمام الكاظم عليه‌السلام كما في معتبرة ابن الحجاج ، وفيها : «تصدّق موسى بن جعفر عليه‌السلام بصدقته هذه ، وهو حيّ صحيح صدقة حبسا بتّا بتلا مبتوتة لا رجعة فيها ولا ردّ ، ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ، لا يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها أو يبتاعها ، ولا يهبها ولا ينحلها ..» (٢).

(٢) قال الفقيه المامقاني قدس‌سره : «بضمّ الزاي المعجمة وفتح الراء المهملة : جماعة من الأنصار» (٣). وعلى هذا فالمقصود كون الدار المتصدق بها واقعة في محلّة سمّيت ب «بني زريق».

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٤٨.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣١٤ و ٣١٥ ، الباب ١٠ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات ، ح ٥.

(٣) غاية الآمال ، ص ٤٣٨.

٥١٤

وأسكن (١) فلانا هذه الصدقة ما عاش وعاش عقبه ، فإذا انقرضوا فهي لذوي الحاجة من المسلمين ..» الخبر (٢).

فإنّ (٣) الظاهر من الوصف كونها صفة لنوع الصدقة ،

______________________________________________________

(١) كذا في نسخ الكتاب ، وهو موافق لما في المقابس من رواية عجلان بن صالح ، لا رواية ربعي المذكورة في المتن ، إذ ذيلها في الوسائل : «وأسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن وما عاش عقبهنّ ، فإذا انقرضوا فهي لذي الحاجة ..» (١).

نعم في الاستبصار : «وأنّه قد أسكن صدقته هذه فلانا وعقبه» (٢).

(٢) المذكور في المتن تمام خبر ربعي الموجود في الكافي والتهذيب والوسائل.

فلا حاجة إلى كلمة «الخبر» إلّا بناء على ما رواه الصدوق ، إذ فيه بعد كلمة المسلمين «شهد ..» أي : شهد بذلك فلان وفلان كما أفاده المحدث المجلسي في شرحه (٣).

(٣) هذا تقريب الاستدلال برواية ربعي الحاكية لصورة وقف أمير المؤمنين «عليه أفضل صلوات المصلّين» لداره التي كانت في بني زريق ، والشاهد في هذه الرواية على حرمة بيع الوقف هو قوله عليه‌السلام : «تصدّق .. صدقة لا تباع ولا توهب» ولم يرد فيها مثل ما تقدم في رواية ابن راشد من كون متعلق النهي شراء العين الموقوفة وعدم تملك منفعتها.

فلا بدّ من استفادة حكم الوقف من الجملة المزبورة ، فنقول :

إن عنوان «الصدقة» يطلق على معان.

الأوّل : الزكاة ، كما في قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) (٤).

الثاني : الصدقة المصطلحة ، وهي تمليك مال للغير تبرعا بقصد القربة ، فتمتاز عن سائر أنحاء التمليك المجاني ـ من الهبة والهدية والعطية ـ باعتبار التطوع فيها دون أخواتها. وهي بهذا المعنى تشمل الوقف المفيد للملك بناء على اعتبار القربة فيه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٠٤ ، الباب ٦ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات ، ح ٤ ، الكافي ، ج ٧ ، ص ٣٩ ، ح ٤٠ ، التهذيب ، ج ٩ ، ص ١٣١ ، ح ٥٥٨.

(٢) الاستبصار ، ج ٤ ، ص ٩٨ ، ح ٣٨٠.

(٣) من لا يحضره الفقيه ، ج ٤ ، ص ٢٤٨ ، ح ٥٥٨٨ ، روضة المتقين ، ج ١١ ، ص ١٧١.

(٤) سورة التوبة ، الآية ١١.

٥١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الثالث : ما يعمّ الوقف المصطلح ـ بجميع أقسامه ـ وأخواته من السكنى والعمرى والرقبى.

الرابع : خصوص الوقف الذي هو تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ، وإطلاق «الصدقة» على الوقف شائع في النصوص ، كالحاكية لأوقاف الأئمة عليهم‌السلام. وتوصف هذه الصدقة ب «الجارية».

الخامس : فعل الخير مطلقا وإن لم يتعلق بالأموال كما تقدم في بحث الولاية (ص ١٩٥) من مثل «كل معروف صدقه» وما روي أيضا من قوله عليه‌السلام : «إماطتك الأذى عن الطريق صدقة ، وإرشادك الضال صدقة» (١).

وحيث أطلقت «الصدقة» على معان ، قلنا في تقريب الاستدلال بالرواية : انّ الإمام عليه‌السلام وصف صدقته بأنّها «لا تباع ولا توهب» ، وهي مقابلة للصدقة التي حقيقتها التمليك القربى التي يجوز للمتصدّق عليه بيعها وهبتها. ويحتمل في هذا التوصيف أمران :

أحدهما : كون الوصف صفة لشخص الصدقة التي تصدق بها عليه‌السلام. فالمعنى : أنّه لا يجوز للمتصدّق عليه بيع الدار الواقعة في بني زريق. وبناء على هذا الاحتمال لا تقتضي ذات الصدقة وطبيعيّها المنع من النقل إلى الغير بالبيع ونحوه ، وإلّا لما احتاج عدم البيع إلى الاشتراط. وعليه تكون الرواية أجنبية عن حكم بيع الوقف كلّية ، لفرض اختصاص موردها بالصدقة المشروط فيها عدم البيع ، ولا يعمّ الصدقة التي لم يشترط فيها البيع.

ثانيهما : كون الوصف بيانا لما هو لازم ماهية هذه الصدقة ونوعها ، يعني : أنّ من خواصّ طبيعيّ هذه الصدقة عدم نقلها إلى الغير ، وأنّ شأنها الدوام ليتحقق غرض المتصدّق. وعلى هذا يكون المنع من البيع لازما لا ينفك ، وفصلا مميّزا للوقف عن الصدقة التي يجوز بيعها وهبتها.

وهذا الاحتمال هو المجدي في استظهار الحكم من الرواية ، وقد رجّحه المصنف بوجوه ثلاثة :

الأوّل : ظهور السياق ، وبيانه : أنّ الأصل في القيود وإن كان هو الاحترازية.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، ج ٧ ، ص ٢٤٢ ، الباب ٧ من أبواب الصدقة ، ح ١.

٥١٦

لا لشخصها (١) ، ويبعد كونها (٢) شرطا خارجا عن النوع مأخوذا في الشخص.

مع (٣) أنّ سياق الاشتراط يقتضي تأخّره عن ركن العقد ، أعني الموقوف

______________________________________________________

لا التوضيحية ، وهذا الأصل متّبع في كلّ قيد ما لم يقم هناك ما يصرفه عن ظاهره. إلّا أنّ المدّعى وجود الصارف هنا ، وهو ظهور المفعول المطلق النوعي ـ أعني به قوله عليه‌السلام : صدقة ـ في كون الوصف مقوّما للنوع ، لا مشخّصا للمورد ، وخارجا عن طبيعيّ المفعول المطلق حتى يكون احترازيا.

وبعبارة أخرى : فرق بين أن يقال : «هذه الدار صدقة لا تباع ولا توهب» وبين أن يقال : «هذه الدار صدقة ، والتزم فيها عدم بيعها». فالأوّل ظاهر في اقتضاء ذات هذا النوع من الصدقة لعدم قبول النقل ، والثاني ظاهر في أنّ منشأ عدم البيع هو شرط الشارط. ومن المعلوم أنّ الاشتراط منوط في مقام الإثبات بما يدلّ عليه.

(١) أي : لشخص الصدقة ، والمراد بالشخص هو تصدّق أمير المؤمنين عليه‌السلام بداره المعيّنة على خالاته وعقبهنّ. فلو كان قوله عليه‌السلام : «لا تباع ولا توهب» وصفا لشخص هذه الصدقة تعيّن أن يؤخذ في مقام الإنشاء بلسان الشرط ، لفرض عدم اقتضاء نفس الصدقة للمنع عن البيع ، مع أنّ قوله عليه‌السلام «لا تباع ولا توهب» بعيد عن سياق الاشتراط.

(٢) أي : كون الصفة. وقد تقدم وجه البعد ، وهو ظهور المفعول المطلق النوعي في كون القيد مقوّما للنوع.

(٣) هذا وجه ثان لاستظهار كون القيد قيدا للنوع لا الشخص ، وحاصله : أنّ سياق الشرط الخارج عن النوع يقتضي تأخره عن ركن العقد ، لأنّ الشرط التزام في التزام ، فلا بدّ أوّلا من تحقق الالتزام الظرفي ـ وهو العقد ـ حتى يتحقق الالتزام المظروفي. فالعبارة الوافية به هكذا : «وقفت هذه الدار على الفقهاء مثلا ، واشترطت عليهم أن لا يبيعوها» إذ الالتزام الوقفي متقوّم بالموقوف عليه ، لكون الوقف حبسا على بطن أو على جهة أو شبههما. ولا ينبغي بيان الشرط قبل تمامية المشروط.

وليس الأمر في المقام كذلك ، ضرورة أن الشرط وقع قبل أحد ركني الوقف أعني به الموقوف عليهم. فالالتزام الشرطي وقع قبل تمامية الالتزام العقدي ، وهذا يقتضي أن

٥١٧

عليهم ، خصوصا مع كونه (١) اشتراطا عليهم.

مع أنّه (٢) لو جاز البيع في بعض الأحيان

______________________________________________________

يكون الشرط قيدا للنوع ، لا للشخص ، هذا.

ولا فرق في اقتضاء الاشتراط تأخّر ذكر الشرط عن ركن العقد بين كون المشروط عليه هو الواقف أو الموقوف عليه. ولكن يتأكّد تأخير الشرط فيما لو كان المشروط عليه هو الموقوف عليه ، لكونه الممنوع من البيع والهبة هنا ، فيشكل إلزامه بشي‌ء قبل تعيينه.

نعم لو كان الشرط على الواقف أمكن جواز تقديمه على ركن العقد أو الإيقاع ، بأن يقول : «تصدقت بداري كذا ، وشرطت على نفسي أن اعطي في كل شهر كذا من المال ، والمتصدق عليه خالاتي وعقبهن».

(١) أي : مع كون الشرط شرطا على الموقوف عليهم لا على الواقف ، ووجه الخصوصية واضح ، فإنّ الشرط من قبيل الحكم على الموضوع ، وتوقف الحكم على الموضوع بديهي ، فلا بدّ في جعل الشرط قيدا للشخص من ذكر الموقوف عليه قبل الشرط.

(٢) الضمير للشأن ، وهذا وجه ثالث لاستظهار كون القيد مقوّما للنوع ، وحاصله : أنّه لو كان قيدا للشخص لزم كون الشرط مخالفا للمشروع ، فيبطل ، بل يبطل الوقف أيضا ، بناء على مفسديّة الشرط الفاسد ، بداهة أنّ البيع في موارد طروء الطواري جائز بلا إشكال ، وإطلاق الشرط ـ وهو قوله صلوات الله عليه : «صدقة لا تباع ولا توهب» ـ يخالف جواز البيع في تلك الموارد ، فلا بد من جعله شرطا وقيدا للنوع حتى لا يكون فاسدا من جهة مخالفته للسنة ، وهي جواز بيع الوقف في بعض الحالات. فيقال : إنّ نوع الوقف يحرم نقله ـ لا خصوص الدار الواقعة في بني زريق ـ وهذا التحريم لا ينافي جواز البيع بطروء المسوّغ.

وهذا الوجه الثالث أفاده المحقق الشوشتري أيضا بقوله : «أنّه لو كان الوقف ممّا يصحّ بيعه في بعض الأحوال خصوصا .. لكان يلزم استثناء تلك الحالة أو الأحوال من

٥١٨

كان اشتراط عدمه (١) على الإطلاق فاسدا ، بل مفسدا ، لمخالفته (٢) للمشروع من جواز بيعه في بعض الموارد ، كدفع (٣) الفساد بين الموقوف عليهم أو رفعه ، أو طروء الحاجة ، أو صيرورته (٤) ممّا لا ينتفع به أصلا.

إلّا أن يقال (٥) إنّ هذا الإطلاق نظير الإطلاق المتقدّم في رواية ابن راشد

______________________________________________________

ذلك العموم أو الإطلاق ، وإذ لم يستثن منه أصلا علم استحكام العموم» (١).

وبالجملة : فالمصنف قدس‌سره أثبت كون الشرط قيدا للنوع بهذه الوجوه الثلاثة ، وسيأتي منه مناقشة الوجه الثالث.

(١) أي : اشتراط عدم البيع على الإطلاق ، وهذا الاشتراط المطلق هو مدلول قوله عليه‌السلام : «لا تباع ولا توهب» إذ لم يقيّد بعدم طروء مسوّغ بيع الموقوفة. ولا ريب في مخالفة هذا الإطلاق لما ثبت من جواز البيع في الجملة. كما لا ريب في فساد الشرط المأخوذ في شخص هذا الوقف.

(٢) أي : مخالفة اشتراط عدم البيع لما هو المشروع من جواز بيع الوقف أحيانا.

(٣) أي : المنع عن تحقق الفساد ، في قبال رفعه الذي هو إعدامه بعد تحققه.

(٤) أي : صيرورة الوقف ممّا لا ينتفع به أصلا كما سيأتي تفصيله في الصورة الاولى والثانية.

(٥) ناقش المصنف قدس‌سره بأمور ثلاثة في الوجه الثالث المتقدم آنفا.

الأوّل : أنّه لا موضوع للتنافي بين جواز بيع الوقف في بعض الأحيان ، وبين إطلاق قوله عليه‌السلام : «لا تباع ولا توهب» حتى نلتجئ إلى جعل الوصف مقوّما للنوع ، دون الشخص. وذلك لأنّ التنافي فرع بقاء الإطلاق على حاله ، مع إمكان منع الإطلاق من جهة انصرافه إلى غير صورة العذر.

كما أنّ إطلاق قوله عليه‌السلام في رواية ابن راشد : «لا يجوز شراء الوقف» منصرف إلى عدم طروء مسوّغ البيع.

وعلى هذا فيكون قوله عليه‌السلام : «لا تباع» قيدا للشخص ، لا النوع. والإطلاق لصورة وجود العذر غير مقصود حتى يكون مخالفا للمشروع ، فلم يمنع عليه‌السلام عن بيع الوقف مطلقا ـ حتى مع عروض المسوّغ ـ حتى يكون مخالفا للسنّة ، هذا.

__________________

(١) مقابس الأنوار ، ص ٤٩.

٥١٩

في (١) انصرافه إلى البيع لا لعذر.

مع (٢) أنّ هذا التقييد (٣) ممّا لا بدّ منه على تقدير كون الصفة فصلا للنوع أو شرطا خارجيّا (٤).

______________________________________________________

(١) متعلق ب «نظير» يعني : كما أنّ قوله عليه‌السلام : «لا يجوز شراء الوقف» منصرف إلى مورد انتفاء العذر ، فلا إطلاق حقيقة ، فكأنه قال : «لا يجوز شراء الوقف ما لم يعرض المسوّغ للبيع» فكذا قوله عليه‌السلام : «لا يباع» ناظر إلى عدم تحقق الحالات المجوّزة للبيع.

(٢) هذا ثاني وجوه المناقشة ، وحاصله : أنّه لا إطلاق في البين ـ حتى يكون دليلا على كون القيد قيدا للنوع ـ سواء أكان الشرط قيدا للنوع أم الشخص ، ضرورة جواز البيع مع طروء المسوّغ على كل حال ، فيصير الكلام مجملا ، لعدم ظهوره حينئذ في رجوعه إلى النوع أو الشخص.

وبعبارة أخرى : أراد صاحب المقابس قدس‌سره استفادة كون «لا تباع ولا توهب» فصلا مميّزا للوقف عن غيره ، من جهة أنّه لو كان وصفا لشخص ما تصدّق به عليه‌السلام لزم تقييده بعدم عروض حالة مجوّزة للبيع ، وحيث إنه لا مقيّد في الكلام فلا بدّ من جعل الوصف مقوّما لنوع الوقف ليتمّ الإطلاق.

ولكن يرد عليه : أنّ تقييد «لا تباع ولا توهب» لازم حتى لو جعلناه مقوّما للوقف وصفة للنوع. والوجه في لا بديّة التقييد هو : أنّ طبيعيّ الوقف ـ الذي لا يباع ـ قد ثبت من الشرع صحة بيعه في مورد الخراب أو اختلاف الموقوف عليهم وغيرهما ممّا سيأتي مفصّلا. ولمّا كان إطلاق «لا تباع» مخالفا للسنة لزم تقييده بعدم عروض المجوّز.

وعليه فعدم الإطلاق مشترك بين كون الوصف مقوّما للنوع وبين كونه شرطا للشخص.

(٣) أي : لا بدّ من تقييد إطلاق وصف «لا تباع ولا توهب» بعدم عروض المسوّغ حتى لو كان مقوّما لطبيعيّ الوقف.

(٤) أي : خارجا عن حقيقة الوقف ومأخوذا في شخص هذا الوقف من باب الشرط ، كما هو شأن مطلق الشروط المأخوذة في العقود من حيث كونها خارجة عن حقائق العقود.

٥٢٠