هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٦

ونحوها ، فإن بقيت على حالها وأمكن الانتفاع بها في خصوص المحلّ الذي أعدّت له ، كانت (١) على حالها ، وإلّا (٢) جعلت في المماثل ، وإلّا (٣) ففي غيره ، وإلّا (٤) ففي المصالح ، على نحو ما مرّ (٥).

______________________________________________________

انهدام بناء المسجد ، أو البساط والفرش الموضوعين فيه ، والحيوان الذي ينتفع به أو بأجرته ، وثياب الضرائح المشرفة إذا استغني عنها ونحو ذلك ـ هو : أنّ الانتفاع بها باقية على حالها إمّا أن يكون ممكنا ، وإمّا متعذرا. فإن أمكن الانتفاع بنفس أعيانها فله صور :

الأولى : الانتفاع بها في المحلّ الّذي أعدّت له ، ويجب إبقاؤها فيه لينتفع بها في الجهة المقصودة ، كافتراش البساط الموقوف في مسجد انهدم.

الثانية : الانتفاع بأعيانها في مكان آخر مماثل لما أعدّت له ، كوضع الفرش في مسجد آخر ، أو جعل ثوب ضريح ثوبا لضريح آخر ، ويجب النقل مع مراعاة الأمور الثلاثة ، وهي كون المنتقل إليه أقرب وأحوج وأفضل.

الثالثة : الانتفاع بأعيانها في مكان آخر غير مماثل ، كافتراش بساط المسجد في مشهد أو حسينية ، ويجب النقل مع مراعاة المراتب الثلاثة المتقدمة.

الرابعة : الانتفاع بأعيانها في مصالح المسلمين العامّة بعد تعذر الانتفاع بها في الصور الثلاث المتقدمة ، وهي الاستفادة منها في موضعها المعدّ لها أوّلا ، وكذا في المماثل ، وفي غير المماثل.

وإن تعذّر الانتفاع بالآلات والأثاث فسيأتي.

(١) جواب «فإن بقيت» يعني : وجب إبقاؤها في المحلّ الذي أعدّت له ، وهذا إشارة إلى الصورة الأولى.

(٢) أي : وإن امتنع الانتفاع بها في المحلّ الذي أعدّت له جعلت في المماثل ، كما تقدم في الصورة الثانية.

(٣) أي : وإن امتنع جعلها في المماثل وجب جعلها في غير المماثل ، كما تقدّم في الصورة الثالثة.

(٤) أي : وإن امتنع جعلها في غير المماثل والانتفاع بأعيانها لزم صرفها في مصالح المسلمين. كما تقدم في الصورة الرابعة.

(٥) يعني : مع ما مرّ ـ في صرف أجرة الأرض ـ من تقدم الأقرب والأحوج والأفضل.

٥٨١

وإن تعذّر (١) الانتفاع بها باقية على حالها بالوجه المقصود منها أو ما قام مقامه ، أشبهت (٢) الملك بعد إعراض المالك ، فيقوم فيها احتمال الرجوع (٣) إلى حكم الإباحة ، والعود (٤) ملكا للمسلمين ليصرف في مصالحهم ، والعود (٥) إلى المالك. ومع اليأس عن معرفته تدخل في مجهول المالك.

ويحتمل (٦) بقاؤه على الوقف ويباع ، احترازا عن التلف والضرر ، ولزوم

______________________________________________________

(١) معطوف على «أمكن الانتفاع بها» يعني : لو بقيت آلات الوقف ولم تضمحلّ ، ولكن تعذّر الانتفاع بأعيانها ـ من آلات وأثاث ـ مطلقا سواء في نفس الجهة المقصودة ، أو في ما يقوم مقامها من الصرف في المصالح العامة ، جرى في حكمها احتمالات :

الأوّل : تكون كالمباحات الأصلية ، تملك بالحيازة.

الثاني : تصير ملكا للمسلمين ، وتصرف في مصالحهم.

الثالث : تعود إلى ملك الواقف ، فإن عرف شخصه أو وارثه فهو ، وإن لم يعرف كانت من مجهول المالك ، يتصدّق به.

الرابع : تبقى وقفا ، كما أن أرض المسجد لم تخرج عن الوقفية بطروء الخراب ، فتباع الآلات ، ويصرف ثمنها في المماثل مقدّما للأقرب فالأحوج فالأفضل.

وإن لم يوجد المماثل صرف في غير المماثل مع رعاية الأمور الثلاثة. وإن لم يوجد ففي مصالح المسلمين.

(٢) جواب الشرط في «وإن تعذّر».

(٣) هذا هو الاحتمال الأوّل ، فكما أنّ إعراض المالك يجعل ماله كالمباحات الأصلية ، فيتملّكه الحائر له ، فكذا آلات الوقف بعد سقوطها عن الانتفاع بها تصير من المباح.

(٤) معطوف على «الرجوع» وهذا ثاني الاحتمالات ، ولعلّه أقرب إلى مقصود الواقف.

(٥) معطوف على «الرجوع» وهذا هو الاحتمال الثالث ، وقد تقدم توضيحه.

(٦) معطوف على «فيقوم» وهذا في قبال الاحتمالات الثلاث المتقدمة المبنية على بطلان الوقف. والوجه في وجوب البيع هو الجمع بين دليلين.

أحدهما : الاحتراز عن ضياع المال وتلفه ، الموجب لتضرر المسلمين.

٥٨٢

الحرج ، وتصرف (١) مرتّبا على النحو السابق. وهذا (٢) هو الأقوى ، كما صرّح به بعضهم (١)» (٢) انتهى.

وفيه : أنّ إجارة الأرض (٣)

______________________________________________________

وثانيهما : لزوم الحرج على المتولّي من إبقاء هذه الآلات على حالها مع عدم الانتفاع بأعيانها مطلقا ، لا في محلها الأوّل ولا في محلّ آخر.

(١) معطوف على «يباع».

(٢) أي : احتمال بقاء الآلات على الوقف ـ ووجوب بيعها وصرف ثمنها في المماثل ، ثم في غيره ، ثم في المصالح العامة ، مع رعاية الترتيب في الكل ـ هو الأقوى.

هذا تمام ما أفاده الشيخ الكبير ، وسيأتي إيراد المصنف عليه.

(٣) ناقش المصنف قدس‌سره في كلام بعض الأساطين ـ من إجارة أرض موقوفة طرأ عليها الخراب كالمسجد المنهدم ، وبيع الآلات ـ بما حاصله : أنّه لا ريب في إناطة البيع والإجارة بالملك. وليس المراد به خصوص الملك المعيّن والمشاع ، بل يعمّ ما إذا لم يتملك العين أصلا ، ولكن يصرف منفعته وما يعود منه في مصلحة المالك ، كما هو الحال في مالكية المسلمين للأراضي المفتوحة عنوة ، إذ ليست هي ملكا مشاعا لآحادهم كي تتعيّن حصصهم بالتقسيم والإفراز ، وإنّما تصرف منافعها فيما يصلح لهم بإذن الولي وهو الحاكم الشرعي.

وحيث إنّ الكلام في الأوقاف العامة التي حقيقتها تحرير الملك ـ أي خروجها عن ملك الواقف ، وعدم دليل على دخولها في ملك المسلمين ـ فجواز بيعها وإجارتها منوط بدليل خاص عليه ، والمفروض عدمه. ولو شكّ فمقتضى الاستصحاب عدم دخولها في ملك الموقوف عليهم. وبانتفاء الملك لا وجه لصحة البيع والإجارة. نعم القدر المتيقن من دليل الوقف إباحة انتفاع المسلمين بالأوقاف العامة في الجهة المقصودة ، لا غير. ومن المعلوم عدم اقتضاء حلية الانتفاع الخاص لجواز بيعها وإجارتها المتوقفين على الملك.

فالنتيجة : أنّ ما أفاده الشيخ الكبير قدس‌سره ـ من جواز إجارة الأرض وبيع الآلات في الأوقاف العامة ـ لا يساعده دليل في مقام الإثبات وإن كان ممكنا ثبوتا.

__________________

(١) لاحظ تفصيل البحث في الجواهر ، ج ١٤ ، ص ٩٤.

(٢) شرح القواعد ، مخطوط ، الورقة ٨٤ ـ ٨٥.

٥٨٣

وبيع الآلات حسن (١) لو ثبت دليل على كونها ملكا للمسلمين (٢) ، ولو على نحو الأرض المفتوحة عنوة (٣). لكنّه (٤) غير ثابت ، والمتيقّن (٥) خروجه عن ملك مالكه ، أمّا دخوله في ملك المسلمين فمنفيّ بالأصل (٦).

نعم (٧) يمكن الحكم بإباحة الانتفاع للمسلمين ، لأصالة الإباحة (*).

______________________________________________________

(١) لكونه أقرب إلى نظر الواقف عند فوات استعماله في مورد الوقف.

(٢) كون الوقف العام ملكا للمسلمين إمّا بأن تكون الرقبة مملوكة للمسلمين على نحو الإشاعة ، كما في الوقف الخاص. وإمّا بأن يجب صرف منافعها في مصالحهم. وحيث إن الملكية بالمعنى الثاني أخفى من ملكية العين بنحو الإشاعة ، فلذا أتى بكلمة «ولو» ويترتب على هذه الملكية ضمان المتصرّف فيها بغير إذن الحاكم الشرعي.

وعلى كلّ ، فالمفروض انتفاء كلا الفردين في الوقف العام.

(٣) فإنّ معنى مالكية المسلمين لها وجوب صرف منافعها في مصالحهم ، كما تقدم في بحث الأراضي بقوله : «فهذه الملكية نحو مستقلّ من الملكية قد دلّ عليه الدليل ، ومعناها صرف حاصل الملك في مصالح الملّاك» فراجع (ص ٣٩٨).

(٤) أي : لكن كون الوقف العام ملكا للمسلمين ـ بمعنييه ـ غير ثابت.

(٥) أي : والمتيقن من دليل الوقف العام خروجه عن ملك مالكه.

(٦) وهو الاستصحاب ، لليقين بعدم كونه ملكا للمسلمين قبل إنشاء الوقف ، والشك في دخوله في ملكهم بعد الإنشاء ، والأصل يقتضي عدمه.

(٧) استدراك على قوله : «أمّا دخوله في ملك المسلمين» وغرضه أنّ ملكية العين والمنفعة منتفية في مثل المسجد ، ولكنّ حقّ الانتفاع ثابت للمسلمين ، لأصالة إباحة كلّ فعل شكّ في حرمته وحليّته.

__________________

(*) فيه : أنّ أصالة الإباحة هنا محكومة باستصحاب حرمة الانتفاع الثابتة حال عدم التعذر. ودعوى تبدل الموضوع مدفوعة بكون التعذر وعدمه من الحالات المتبادلة على الموضوع لا المقوّمة له.

ثمّ إنّه لا بأس بالتعرض هنا لبعض الفروع المبتلى بها ، وهو حكم المساجد

٥٨٤

ولا يتعلّق (١) عليهم اجرة.

______________________________________________________

(١) أي : لا يكون المنتفع ضامنا لاجرة ما استوفاه من المنفعة ، لأنّ الضمان تابع للتصرف في مال الغير عينا أو منفعة ، والمفروض أنّ الثابت في مثل وقف المسجد حلّية الانتفاع في الجهة المقصودة ، لا ملك المنفعة حتى تضمن ـ بأجرة المثل ـ لسائر المسلمين.

هذا تمام ما يتعلق بكلام كاشف الغطاء قدس‌سره.

__________________

والأوقاف العامة الواقعة في الشوارع المستحدثة قهرا بأمر الحكومات الإسلامية وغيرها ، فنقول وبه نستعين :

ينبغي الكلام في مقامين ، أحدهما في المساجد ، وثانيهما : في سائر الموقوفات.

أما المقام الأوّل ، فملخّص الكلام فيه : أنّ المعروف بين الأصحاب ـ بل الظاهر عدم الخلاف بينهم ـ في عدم بطلان المسجدية بالخراب ، وإن حكي عن بعض العامة رجوعه بعد الخراب إلى ملك الواقف قياسا على كفن الميت الذي أخذه السّيل ، لرجوع كفنه حينئذ إلى ملك الوارث أو غيره ممّن بذله له.

لكنّه قياس مع الفارق ، حيث إنّ بذل الكفن حكم تكليفي منوط ببقاء موضوعه أعني به الميت. فإذا ذهب الموضوع بالحرق أو الغرق أو غيرهما يسقط هذا التكليف. وهذا بخلاف المسجدية ، فإنّها من الوضعيات الثابتة لنفس الأرض الباقية وإن زالت آثارها وأبنيتها ، لأنّ المسجدية كالملكية من الأمور الاعتبارية القائمة بنفس الأرض ، ولا تنفكّ عنها بالخراب ، إذ المسجدية كالملكية من الاعتباريات التي لها في حدّ ذاتها بقاء واستمرار ، فلا ترتفع إلّا برافع ، إذ لا يكون الشك في بقائها لأجل الشك في مقتضيها. فإذا شكّ فيها جرى فيها الاستصحاب بلا كلام.

ولكن لا تصل النوبة إلى الاستصحاب بعد كشف السيرة عن كون المسجدية كالحرية غير قابلة للزوال. فالشكّ في بقاء المسجدية من ناحية الشكّ في الرافع غير متصوّر أيضا.

ويدلّ على ذلك السيرة القطعية القائمة على بقاء أحكام المسجدية للمساجد الخربة التي لم يبق لها آثار أصلا ، فإنّ هذه السيرة تكشف عن كون المسجدية من الاعتبارات والعناوين القائمة بنفس الأرض ، وأنّ وقف أرض مسجدا غير وقفها مدرسة أو مكانا للزّوّار

٥٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والمسافرين ، أو معبدا للمتعبدين ، أو مكانا للراكعين أو الساجدين ، أو ما أشبه ذلك ، فإنّ هذه العناوين جهات تبطل الوقفية بفواتها.

وليست المسجدية منها ، إذ المقصود من وقف المسجد ليس حفظ جهة الصلاة أو مطلق العبادة ، حتى يقال ببطلان المسجدية بفوات الجهة المقصودة ، بل المقصود حفظ عنوان خاص ، وهو ما يسمى مسجدا أو جامعا أو بيتا لله تعالى أو ما يؤدّي معناها من لغات شتى. فليس منه ما يصنع في البيوت في بعض البلدان من إعداد مكان للصلاة ويسمّى بالمصلّي ، وبالفارسية ب «نمازخانه» فإنّه ليس مسجدا.

وممّا ذكرنا من بقاء عنوان المسجدية وعدم ذهابه بزوال الآثار يظهر ما في المسالك «من اختصاص بقاء المسجدية وأحكامها بالمساجد المبنية في غير الأراضي المفتوحة عنوة. وأمّا ما فيها حيث يجوز وقفها تبعا لآثار المتصرف ، فإنّه ينبغي حينئذ بطلان الوقف بزوال الآثار ، لزوال المقتضي للاختصاص ، وخروجه عن حكم الأصل» (١).

وجه الظهور : أنّ عنوان المسجدية من العناوين القائمة بنفس الأرض ، ولا يبطل بذهاب الآثار أصلا.

نعم إن كان نظره قدس‌سره إلى عدم صحة جعل المسجدية في الأراضي المفتوحة عنوة ـ لعدم صحة تملكها حتى تجعل مسجدا ، بل المسجدية قائمة بالآثار ، والأرض ليست حقيقة مسجدا ، بل هي مسجد حكما. وهذا الحكم منوط ببقاء الآثار ـ فهو متين كما تقدم في حكم الأراضي المفتوحة عنوة ، فيصير النزاع مع المسالك على هذا التقدير صغرويا.

لكن هذا الكلام يجري في العامرة حال الفتح دون الموات حاله ، فإنّ بقاء عنوان المسجدية في المساجد المبنية في مواتها مما لا ينبغي الإشكال فيه.

ودعوى السيرة القطعية على اتخاذ المساجد في العراق وغيره من المفتوحة عنوة كما في الجواهر «والعلم بترتيب آثار المسجدية عليها حتى بعد الخراب» (٢) غير مسموعة في مطلق المساجد ، بل في خصوص المبنية منها في مواتها ، فإنّ المتيقن منها هي المساجد

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٣٩٧.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٨ ، ص ١٠٧.

٥٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المبنية في موات المفتوحة عنوة. وأمّا في المبنية منها في معمورتها فالسيرة فيها غير ثابتة. فدعوى بطلان مسجديتها بذهاب الآثار في غاية القرب.

وممّا ذكرنا من عدم زوال عنوان المسجدية باندراس الآثار يظهر بقاء جميع الأحكام الثابتة لعنوان المسجد حين وجود الأبنية ، وعدم ارتفاعها باندراس الآثار ، لما مرّ من أنّ عنوان المسجدية من الاعتباريات التي لا تزول بزوال الآثار ، لقيامها بنفس الأرض ، من دون دخل للآثار في مسجديتها. بل المسجد إمّا معمور وإما مغمور ، بلا مساس للعمارة في طروء المسجدية للأرض ، فليس العمران مقوّما لعنوان المسجدية ولا شرطا له.

ومن هنا يظهر أنّ نظر العرف في ذهاب عنوان المسجدية العرفية بذهاب الآثار ليس متّبعا في ترتيب الأحكام الشرعية الثابتة للمسجد ، إذ الموضوع هو ما عرفت ممّا استفيد من السيرة القطعية القائمة على بقاء أحكام المسجدية على نفس الأرض ولو بعد زوال جميع الآثار والأبنية ، إذ السيرة تكشف عن عدم إحالة الشارع تمييز مفهوم المسجد إلى العرف حتى يكون نظرهم في ذلك متّبعا شرعا.

فاتّضح من جميع ما ذكرنا عدم الوجه في التفكيك بين الآثار الشرعية ، كما يظهر من العروة الوثقى ، حيث قال : «مسألة : إذا تغيّر عنوان المسجد بأن غصب وجعل دارا ، أو صار خرابا بحيث لا يمكن تعميره ولا الصلاة فيه ، وقلنا بجواز جعله مكانا للزرع ، ففي جواز تنجيسه وعدم وجوب تطهيره كما قيل إشكال. والأظهر عدم جواز الأوّل ، بل وجوب الثاني أيضا» (١).

وقال شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره في حاشيته على هذه العبارة ما لفظه : «إذا خرج عنوان المسجدية وبطل رسمه بالكلية ، فالأظهر عدم وجوب تطهيره ، وإن كان جواز التنجيس لا يخلو عن إشكال» (٢).

وعبارة العروة المتقدمة وإن كان ظهورها البدوي في التفكيك بين الحكمين لا ينكر ،

__________________

(١) العروة الوثقى ، كتاب الطهارة ، أحكام النجاسات ، فصل اشتراط الصلاة بإزالة النجاسة عن الثوب والبدن ، المسألة ١٣.

(٢) تعليقة العروة ، ص ٩ ، طبعة عام ١٣٤٠ (الحجرية).

٥٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إلّا أنّ قوله قدس‌سره في المسألة العاشرة من ذلك الفصل : «لا يجوز تنجيس المسجد الذي صار خرابا وإن لم يصلّ فيه أحد ، ويجب تطهيره إذا تنجيس» قرينة على عدم التفكيك بين وجود التطهير وحرمة التنجيس ، هذا.

مضافا إلى : أنّ نفس العبارة ظاهرة بعد التأمل اليسير في الملازمة بين الحكمين ، غاية الأمر أنه قدس‌سره نبّه على أن في المسألة إشكالا عند بعض الأصحاب. فغرض صاحب العروة التنبيه على القول بالتفكيك ، لا أنّه يلتزم ويقول به.

فالحري حينئذ التعرض للمنشإ الاشكال. ولعلّه ملاحظة أنّ المسجدية وإن كانت من قبيل الملكات ، إلّا أنّ صدقها منوط بالإعداد للصلاة وغيرها من العبادات ، كالمفتاح ، فإنّ صدقه على حديد مثلا منوط بكونه معدّا للفتح ، وبدونه لا يصدق عنوان المفتاح عليه. نعم لا يتوقف صدقة على التلبس الفعلي الخارجي بالمبدء ، كما هو الشأن في سائر المبادي التي تكون من الملكات ، لكفاية إعدادها في الصدق المزبور. هذا.

وقد عرفت أنّ المسجدية الموضوعة للأحكام الخاصة الشرعية المستفادة من السيرة المتقدمة لا يعتبر فيها الإعداد للصلاة أو غيرها ، وإن حكم العرف باعتبار إعداد الأرض للصلاة في المسجدية العرفية.

لكن الرجوع إلى العرف في تشخيص موضوع الحكم الشرعي على ما هو قضية الإطلاق المقامي منوط بعدم بيان الشارع صريحا أو التزاما لتحديد موضوع حكمه كما في المقام ، إذ السيرة القائمة على ترتب أحكام المسجد على المعمورة والمغمورة تدلّ التزاما على كون المسجدية التي جعلت موضوعا لأحكام خاصّة عبارة عمّا لا ينفكّ عن الأرض ولو بعد الخراب ، ولذا تكون المسجدية من قبيل التحرير.

فالمتحصّل : أن عبارة السيد قدس‌سره في كتاب الطهارة ظاهرة في بقاء حكم المسجد بعد خرابه أو غصبه. لكنه ذهب في كتاب الوقف إلى سقوط عنوان المسجد باندراس أثره ، أو باستيلاء جائر عليه ، وجعله دارا ونحوها. فإنه قدس‌سره وإن حكم بدوا بعدم خروج العرصة عن المسجدية إذا خرب البناء ، وبحرمة بيعها وحرمة تنجيسها مع إمكان الصلاة فيها للمارّة

٥٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وغيرهم ، إلّا أنّه نفى البعد عن زوال عنوان المسجد ، بشهادة أنّه لو خرب المسجد المبنى في الأرض المفتوحة عنوة التي هي للمسلمين خرج عن كونه مسجدا. الى أن قال : «بل يمكن أن يقال بجواز بيعه وإخراجه عن المسجدية إذا غلب الكفار عليه ، وجعلوه خانا أو دارا أو دكانا. بل الأولى أن يباع إذا جعلوه محلّا للكثافات ، أو جعلوه بيت خمر مثلا ، صونا لحرمة بيت الله عن انتهاك. والحاصل : أنه لا دليل على أن المسجد لا يخرج عن المسجدية أبدا» (١).

وكذلك صرّح في (مسألة ٣٨) بجواز بيع المساجد كسائر الموقوفات العامة والخاصة في موارد جواز بيع الوقف (٢). وفي (مسألة ٣٩) ببطلان الوقف بزوال العنوان ، فيباع. فراجع (٣).

ولكنه لا يخلو عن غموض ، لأنّ مجرّد الإمكان لا يكفي في الحكم بخروج العرصة عن المسجدية مع فرض كون المقصود جعلها مسجدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. بل السقوط منوط بالدليل. وما أفاده من زوال العنوان لو خرب المسجد المبنى في الأرض المفتوحة عنوة غير ظاهر أيضا ، إذ لو كان جعلها مسجدا من قبل وليّ المسلمين وهو الامام المعصوم عليه‌السلام أو نائبه العام ـ بناء على ثبوت عموم ولاية الفقيه ـ فما الوجه لاقتضاء الخراب أو غصب الظالم أو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين لزوال عنوان المسجد؟ مع فرض عدم تحديد إنشاء المسجدية بزمان معيّن أو زماني كذلك. وكذا لا إهمال من حيث الدوام والتوقيت ، والحالات الطارئة عليه ، ولذا لا تعدد في المطلوب كما في الأوقاف الخاصة حتى ينتقل الوقف إلى البدل بعد عدم وفاء العين بغرض الواقف ، فيتعيّن الإطلاق ثبوتا وإثباتا.

ومنه يظهر غموض ما فرّعه قدس‌سره على بطلان وقف المسجد من جواز بيعه صونا لحرمته عن الهتك.

وما أفاده قدس‌سره في (مسألة ٣٨) : في أوّل إشكالاته الأربعة على شيخنا الأعظم «من كون

__________________

(١) ملحقات العروة الوثقى ، ج ٢ ، ص ٢٤٧.

(٢) المصدر ، ص ٢٥٧.

(٣) المصدر ، ص ٢٦٠.

٥٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الوقف ملكا له تعالى على نحو ملكه لسدس الخمس في آية الخمس ، فلا مانع من بيعه مع المسوّغ ، وأمره راجع إلى الحاكم الشرعي» (١) غير ظاهر أيضا ، فإنّ «اللام» بناء على ظهوره في الملك ـ لا في مطلق الاختصاص ـ دلّ على ملكية هذا السدس له تعالى بالملكية الاعتبارية ، ولم ينهض عليها في الوقف. والمقصود بقوله تعالى «الْمَساجِدَ لِلّهِ» هو التوحيد في العبادة ، هذا مع الغض عمّا ورد من إرادة مواضع السجود.

فتلخّص : أنّ أحكام المسجد تترتب على المساجد المعمورة والمغمورة على نسق واحد ، فتنجيس أنقاض المساجد الباقية في الشوارع حرام ، وتطهيرها على تقدير تنجسها واجب ، لما مرّ من السيرة على عدم الفرق في جريان أحكام المساجد بين عامرها وخرابها. ومع هذه السيرة لا يبقى شك في بقاء أحكام المسجد بعد طروء الخراب حتى نحتاج إلى الاستصحاب ، ويستشكل في جريان استصحاب وجوب التطهير بكونه تعليقيا.

بل يمكن أن يقال : بعدم شكّ هنا حتى نحتاج إلى الاستصحاب ، إذ لو كان الموضوع ما ذكرناه من معنى المسجدية ، فلا ريب في بقاء أحكام المسجد بعد الخراب ، لعدم زوال عنوان المسجدية باندراس الآثار. ولو كان ما يراه العرف من إعداده للصلاة ، فلا شك في ارتفاعه حتى يجرى فيه الاستصحاب.

ومع فرض الشكّ في الموضوع وعدم تمييزه ـ وأنّه هل المسجدية الشرعية التي تستفاد من السيرة المتقدمة؟ أم العرفية التي يعتبر فيها الإعداد للصلاة ، وبدونه لا يعتبر العرف عنوان المسجدية للأرض ، كما فيما جعل جزء من الشارع أو محلّا للمكائن مثلا ـ لا مجال أيضا للاستصحاب ، للشك في بقاء الموضوع ، إذ لو كان الموضوع المسجدية الشرعية الأبدية فلا شكّ في بقاء الموضوع الموجب للعلم ببقاء الأحكام التنجيزية والتعليقية. وإن كان الموضوع المسجدية العرفية ، فلا إشكال في انتفائه الموجب للقطع بارتفاع الأحكام مطلقا.

إلّا أن يقال : إنّ الموضوع ذات الأرض ، وعنوان المسجدية من الجهات التعليلية ، فمنشأ الشك حينئذ هو كون هذه العلة محدثة ومبقية ، أو محدثة فقط ، هذا.

__________________

(١) ملحقات العروة الوثقى ، ج ٢ ، ص ٢٥٧.

٥٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

لكنه خلاف ظاهر الأدلة المثبتة للأحكام لعنوان المساجد ، فإنّ ظاهر الإسناد هو كون المسجدية جهة تقييدية لا تعليلية ، فينسدّ باب الاستصحاب من هذه الناحية أيضا.

هذا كلّه مضافا إلى : أنّه ليس وجوب التطهير من الأحكام التعليقية حتى يشكل جريان الاستصحاب فيها ، لأنّ هذا الحكم يستفاد من مثل قولهم عليهم‌السلام : «جنبوا مساجدكم النجاسة» (١) فإنّ المستفاد من مثل هذا الكلام هو وجوب تبعيد النجاسة وحرمة تقريبها حدوثا وبقاء. وعصيان وجوب تبعيد النجاسة عن المسجد تارة يتحقق بتنجيسه ، واخرى بترك تطهيره مع التمكن منه. فالتكليف المستفاد من الكلام المذكور واحد ومنجّز ، فالمقام أجنبي عن الحكم التعليقي الذي لا يجري فيه الاستصحاب على مذهب بعض.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أنّ الأقوى ترتب أحكام المسجد على المساجد الواقعة في الشوارع ، سواء أكانت في الأراضي المفتوحة عنوة أم غيرها ، وسواء وقعت في المعمورة حال الفتح أم في مواتها.

نعم الّذي يسهّل الخطب في كثير ممّا يقع من المساجد في الشوارع : أنّ نفس أرض المسجد تقع تحت التراب والتبليط غالبا ، بحيث لا تؤثّر النجاسة في نفس الأرض ، فالمتنجس غير أجزاء المسجد ، كما إذا تنجّس آجر من خارج المسجد ، ثم أدخل إلى المسجد ، أو العكس. وإن كان الفضاء أيضا من المسجد. إلّا أنّ معروض النجاسة هو الأرض ، إذ لا معنى لنجاسة الفضاء.

إلّا أن يقال : إنّ ما دلّ على حرمة إدخال النجاسة في المسجد يشمل إدخالها في الفضاء أيضا. فحينئذ تجب إزالة النجاسة عن المبلّط ، كوجوب إزالتها عن نفس أرض المسجد ، هذا.

لكن الإنصاف أنّ استفادة هذا المعنى منوطة بظهور أدلة حرمة إدخال النجاسة إلى المسجد في حرمته وإن لم تكن النجاسة متعدية ، وهو محل بحث وكلام ، لقوّة احتمال إرادة التلويث من إدخال النجاسة. والمفروض فقدان التلويث في المقام.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٥٠٤ ، الباب ٢٤ من أبواب أحكام المساجد ، ح ٢ ، رواه عن الكتب الاستدلالية ، وفي التذكرة : «ولقوله عليه‌السلام : جنّبوا ..» ج ٢ ، ص ٤٣٣ ، الطبعة الحديثة.

٥٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

وإذا شكّ في إرادة مطلق إدخال النجاسة وإن لم تكن متعدية ، فالأصل يقتضي جوازه ، إلّا إذا استلزم هتك المسجد. ولا بدّ من التأمّل ومراجعة أدلة إدخال النجاسة إلى المسجد ليتضح الحال ، وفقنا الله تعالى لذلك عاجلا.

ولنختم الكلام في المساجد بما يتعلق بالبيع والكنائس الواقعة في الشوارع ، فنقول : إنّ البحث في البيع والكنائس المبنية في غير بلاد المسلمين ، إذ ما يبنى منهما في بلادهم لا يترتب عليهما أثر أصلا ، لكون بنائهما فيها مخالفا لشرائط الذمّة ، فيبطل وقفهما ، فيكون بناؤهما كالعدم ، فلا إشكال في جواز العبور فيما يقع منهما في الشوارع.

وأمّا فيما يبنى منهما في ممالك الكفار سواء أكان بناؤهما قبل تشريع الدين الإسلامي أم بعده ، فإن كان حقيقتهما حفظ عنوان المسجدية وإن كان يسمّى عندهم بالبيع أو الكنائس ، فيرجع هذا الكلام إلى اتحاد المسجد والبيعة والكنيسة مفهوما وإن اختلفت اسما. لكن هذا الاختلاف لا يقدح في حقيقتها ، لكون الاسم عنوانا مشيرا لا يختلف المعنون باختلاف العناوين المشيرة ، ويلزمه ترتب جميع أحكام المسجد عليهما بناء على صحة هذا الوقف من غير المؤمن ، كما يظهر من صحة وقف الكافر على البيع والكنائس ، أو أحد الكتابين كما في الشرائع (١) وفي الجواهر : «بلا خلاف أجده فيه كما عن المقتصر الاعتراف به ، بل عن ظاهر التنقيح الإجماع عليه» (٢).

لكن في المسالك ما محصله : «هو يتم بناء على عدم اشتراط القربة ، أمّا معه فمشكل ، من حيث إنّ ذلك معصية في الواقع ، فلا يتحقق معنى القربة» (٣).

أقول : المراد بالقربة في الوقف هو جعله لله تعالى. فإن أراد الكافر هذا المعنى من القربة فلا بأس به ، واعتبار صلاحية الفاعل للتقرب بفعله لا دليل عليه ، فوقف الكافر من ناحية قصد القربة صحيح.

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢١٤.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٨ ، ص ٣٥.

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٣٣٦.

٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وحينئذ نقول : إنّ لوقف أرض من الكافر للعبادة احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يقصد جعل مكان لله تعالى ، لا بنحو يكون وقفا على عبادة أو متعبدين كما تقدم في وقف المسجد ، فهذا الوقف ليس إلّا وقف المسجد.

الثاني : أن يقصد وقفية المكان على العبادة الصحيحة عند الله تبارك وتعالى ، غايته أنّه يتخيّل انطباقها على عباداتهم.

الثالث : أن يقصد وقفيته على عباداتهم بتخيّل أنّها هي العبادة الصحيحة عنده تعالى شأنه.

والوقف على النحوين الأوّلين صحيح. أمّا الأوّل فلكونه من وقف المسجد حقيقة.

وأمّا الثاني فلأنّ غاية الوقف ـ وهي العبادة الصحيحة الواقعية ـ غرض عقلائي محلّل ، فلا مانع من الوقف لها.

وعلى النحو الثالث باطل ، لبطلان غايته ، فإنّ العبادة الباطلة حرام ، والوقف عليها وقف على جهة محرّمة كالوقف على عبادة الأصنام مثلا. ولا إشكال في بطلان الوقف على الجهات المحرّمة. هذا في مقام الثبوت.

وأمّا مرحلة الإثبات ، فإن أحرز كيفية الوقف فلا إشكال ، وإن شك فيها فمقتضى الاستصحاب عدم صيرورة المكان مسجدا. ولا يعارض باستصحاب عدم جعل المكان وقفا على العبادة. وذلك لعدم ترتب الأثر على هذا الاستصحاب ، إذ وجوب التطهير وحرمة التنجيس مثلا من أحكام خصوص المسجد ، لا كلّ موقوفة.

فالمتحصل من جميع ما ذكرنا : جواز الاستطراق في الكنائس والبيع الواقعة في الشوارع المستحدثة ، وعدم حرمة تنجيسها ، كعدم وجوب تطهيرها.

وأمّا المقام الثاني ـ أعني به سائر الموقوفات غير المساجد ـ فالظاهر أنّ الأوقاف الموقوفة على جهات خاصة كالمدارس والخانات والحسينيات والدور والبساتين التي وقفها أربابها على الطلبة والزوار والمآتم وغيرها تبطل وقفيتها بتعذر الانتفاع بها في الجهة المقصودة من الوقف ، سواء أكان السقوط عن الانتفاع في تلك الجهة بتخريب قاهر كما في المقام ، أم بخرابها طبعا ، فإنّ الوقف يبطل بخروج الموقوفة عن الانتفاع الخاص ، وتصير

٥٩٣

ثمّ إنّه ربما ينافي (١) ما ذكرنا من عدم جواز بيع القسم الثاني

______________________________________________________

(١) التنافي مبني على توهم التلازم ـ في عدم جواز البيع ـ بين نفس العين الموقوفة وبين الآلات والفرش وغيرهما ممّا يتعلق بها. وغرضه قدس‌سره بيان وهم ودفعه.

أمّا الوهم فهو : أنّ ما تقدم ـ من منع بيع الوقف التحريري كالمسجد وما بحكمه ـ ينافيه ورود الدليل في موردين على جواز بيع هذا القسم من الوقف :

أحدهما : الخبر الدال على جواز بيع ثوب الكعبة ، مع أنه موقوف وليس ملكا لأحد.

وثانيهما : ما ذكره الفقهاء من جواز بيع حصير المسجد إذا خلق ، وكذا جذوعه إذا خرجت عن الانتفاع.

وعليه لا وجه لمنع بيع المسجد وأجزائه ، وما يتعلّق به من أثاث.

وأمّا الدفع فسيأتي.

__________________

أرضها صدقة مطلقة تصرف في مطلق الوجوه البريّة ، أو في خصوص ما هو أقرب إلى غرض الواقف ، فمقتضى القاعدة عدم المنع عن العبور في أرض تلك الموقوفات بعد هدمها وجعلها طرقا وشوارع.

وأمّا المقابر ، فإن كانت مملوكة ، فالعبور فيها تصرف في ملك الغير منوط بإذن مالكه كما هو حكم المملوكات الواقعة في الشوارع ، فحكمها حكم المملوكات. وإن لم تكن مملوكة ـ بل كانت مسبّلة ، بأنّ جعلها مالكها موقوفة على دفن المسلمين فيها ـ فالعبور فيها لا بأس به.

كما لا إشكال في جواز الاستطراق في المقابر الفعلية التي لم تقع في الشوارع ، فإنّ الوقفية للدفن لا تمنع عن الاستطراق غير المزاحم لجهة الوقف.

نعم مع المزاحمة لا يجوز ، لاقتضاء نفس دليل الوقف حرمة التصرفات المنافية له. إلّا أنّها إن وقعت في الشوارع تصير ساقطة عن الانتفاع بها في الجهة المقصودة من الوقف ، كسائر الموقوفات على جهات خاصّة.

٥٩٤

من الوقف ما ورد (١) في بيع ثوب الكعبة وهبته (٢) ، مثل (٣) رواية مروان بن (٤) عبد الملك ، قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل اشترى من كسوة الكعبة ما قضى ببعضه حاجته ، وبقي بعضه في يده ، هل يصلح له أن يبيع ما أراد؟ قال : يبيع (٥) ما أراد ، ويهب (٦) ما لم يرد ،

______________________________________________________

(١) فاعل «ينافي» وقد تقدم وجه المنافاة آنفا بقولنا : «أمّا الوهم ..».

(٢) أي : هبة ثوب الكعبة.

(٣) بيان ل «ما ورد» والتعبير بالمثل لأجل ورود جواز بيع ثوب الكعبة في غير هذه الرواية أيضا ، كما في معتبرة عبد الملك بن عتبة ، فراجع (١).

(٤) كذا في موضعين من الوسائل وفي المقابس أيضا ، ولكن في التهذيب والكافي : «مروان عن عبد الملك» (٢).

(٥) يحتمل في جواز بيع كسوة الكعبة ما قيل : من عدم كونها وقفا ، بل تكون من قبيل الحبس ، فهي مبذولة لأن يكتسى بها البيت سنة مثلا ، ثم تباع ويصرف ثمنها في الخدمة. وعلى هذا تكون باقية على ملك الباذل لها ، مع إذنه في التصرف فيها وفي ثمنها على النهج المعهود من بيعها بعد مدّة.

ويحتمل أن تكون مشتراة من منافع الأملاك الموقوفة لمصالح البيت المكرّم ، فتكون نظير ما سيأتي من حصير المسجد المشتري من منافع دكّان موقوف لمصالحه ، فإنّ أمر البيع بيد الناظر العامّ.

(٦) ظاهر جوابه عليه‌السلام جعل ثوب الكعبة المعظّمة قسمين ، بأن يبيع قسما ، ويهب قسما آخر منه.

ولكن يحتمل في جملتي «ينتفع ، يطلب» عطفهما على «يهب» فيكون المراد انتفاع المشتري ـ لكسوة الكعبة ـ بالهبة.

ويحتمل عطفهما على «يرد» فيكون المعنى : أنّ ما لا يريد الانتفاع

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٢ ، ص ٧٥٢ ، الباب ٢٢ من أبواب التكفين ، ح ٣ ، وكذا ح ٢.

(٢) الكافي ، ج ٣ ، ص ١٤٨ ، باب ما يستحب من الثياب للكفن وما يكره ، ح ٥ ، التهذيب ، ج ١ ، ص ٤٣٤ ، ح ٣٦ من باب ٢٣.

٥٩٥

وينتفع (١) به ، ويطلب بركته. قلت : أيكفّن به الميت؟ قال : لا (٢)» (١).

قيل (٣) وفي رواية أخرى : «يجوز استعماله ، وبيع بقيّته [نفسه]».

وكذلك (٤) ما ذكروه في بيع حصر المسجد إذا خلقت ، وجذوعه إذا خرجت عن الانتفاع.

اللهم إلّا أن يقال (٥) إنّ ثوب الكعبة وحصير المسجد ليسا من قبيل

______________________________________________________

به مباشرة ولا طلب بركته يهبه للغير لينتفع به. ولعلّ الأقرب هو الاحتمال الأوّل.

(١) كذا في نسخ الكتاب ، ولكن في الوسائل والكافي والتهذيب «ويستنفع به» أي : بالثوب.

(٢) لعلّ النهي عن التكفين به لأجل كونه حريرا محضا كما احتمله العلّامة المجلسي قدس‌سره (٢).

(٣) قال في الوسائل والمقابس : «وقال الكليني : وفي رواية اخرى : أنه يجوز استعماله وبيع بقيّته» (٣).

(٤) معطوف على الموصول في «ما ورد» وهذا إشارة إلى المورد الثاني ، وهو فتوى الأصحاب. يعني : ينافي ما ذكرناه ـ من عدم جواز البيع ـ ما ذكروه من بيع حصير المسجد .. إلخ. وهذا التنافي كسابقه أيضا مبني على التلازم المزبور.

(٥) غرضه من هذا دفع توهم المنافاة المذكورة في المقامين. وفيه تعرّض للموضع الثاني المشار إليه في (ص ٥٧٧) ، وهو حكم آلات المسجد والأثاث الموضوعة فيه.

وحاصل ما أفاده : أنّ ثوب الكعبة وحصير المسجد إن كانا كنفس الكعبة والمسجد لكان لما ذكر من التنافي وجه. لكنّه ليس كذلك ، إذ الأموال الموقوفة للكعبة والمساجد تكون مملوكة للموقوف عليهم ، فللمتولّي التصرف فيها بما يراه مصلحة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٢ ، ص ٧٥٢ ، الباب ٢٢ من أبواب التكفين ، ح ١ ، ج ٩ ، ص ٣٦٠ ، الباب ٢٦ من أبواب مقدمات الطواف ، ح ٣ ، مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٦٤

(٢) ملاذ الأخيار ، ج ٣ ، ص ٢٣٤

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٩ ، ص ٣٥٩ ، الباب ٢٦ من أبواب مقدمات الطواف ، ح ٢ ، مقابس الأنوار ، ص ٦٤ ولم تظفر بها في الكافي المطبوع. والظاهر اختلاف نسخ الكافي ، بشهادة نقل هذين العلمين عنه.

٥٩٦

المسجد (١) ، بل هما مبذولان للبيت والمسجد ، فيكون (٢) كسائر أموالهما. ومعلوم أنّ وقفيّة أموال المساجد والكعبة من قبيل القسم الأوّل (٣) ، وليس (٤) من قبيل نفس المسجد ، فهي ملك للمسلمين ، فللناظر العامّ التصرّف [فيه] (٥) فيها بالبيع.

نعم (٦) ، فرق بين ما يكون ملكا طلقا كالحصير المشتري من مال المسجد ،

______________________________________________________

بخلاف نفس المسجد والكعبة ، فإنّهما ليسا مملوكين لأحد ، فلا يجوز بيعهما.

(١) في كون وقف المسجد تحرير الملك ، لا تمليكه للمصلّين والعابدين.

(٢) كذا في النسخ ، والمناسب «فيكونان» ليطابق تثنية الضمير في «أموالهما».

(٣) يعني : يكون تمليكا للموقوف عليهم.

(٤) الأولى : «وليست» لأنّ اسمها ضمير راجع إلى الوقفية.

(٥) كذا في نسختنا ، والأولى «فيها» كما في نسخة اخرى.

(٦) استدراك على قوله : «ليسا من قبيل المسجد ، بل هما مبذولان للبيت والمسجد ..» وغرضه قدس‌سره التفصيل في مثل ثوب البيت وحصير المسجد ، وتقييد إطلاق جواز البيع ، وبيانه : أنّ الحصير قد يشترى من منافع موقوفة وقفها صاحبها لصرف منافعها في ما يحتاج إليه المسجد ، كما إذا أوقف شخص بستانا على مسجد ، لتسدّ به ما يحتاجه من فرش وضوء وماء واجرة خادم ، وهكذا.

وقد يشتريه شخص من ماله فيوقفه في المسجد.

وما ذكرناه من أنّ حصير المسجد مبذول له ويجوز بيعه ـ وليس وقفه فكّ الملك ـ ناظر إلى القسم الأوّل دون الثاني ، وذلك لأنّ منافع الأوقاف الموقوفة على المساجد كالدكاكين والبساتين وغيرهما ليست أوقافا ، وإنّما الموقوف نفس الدكاكين والبساتين وغيرهما من الأصول ، فالمنافع مملوكة للمسلمين ، غايته أنّها تصرف في مصرف خاص وهو المساجد. فبيع المنافع وكذا تبديل أثمانها بما يراه المتولي مصلحة للمسجد جائز.

وهذا بخلاف الحصر التي يشتريها الرجل ويضعها في المسجد ، وكذا الثوب الذي يلبس به البيت ، فإنّهما مملوكان للمسلمين ، ولا يجوز بيعهما إلّا بطروء مسوّغ له.

وبعبارة أخرى : الفرق بين شراء شخص حصيرا ووقفه على المسجد ، وبين شراء الحصير من عوائد بستان أوقف على المسجد هو : أنّ مقصود المشتري للحصير الانتفاع

٥٩٧

فهذا يجوز للناظر بيعه مع المصلحة ولو لم يخرج عن حيّز الانتفاع ، بل (١) كان جديدا غير مستعمل ، وبين (٢) ما يكون من الأموال وقفا (٣) على المسجد كالحصير الذي يشتريه الرجل ويضعه في المسجد. والثوب الذي يلبس البيت ، فمثل هذا يكون ملكا للمسلمين لا يجوز لهم تغييره عن وضعه إلّا في مواضع يسوغ فيها بيع الوقف.

______________________________________________________

بعينه في المسجد بالصلاة ونحوها من الأمور العبادية ، فلا يجوز للمتولّي بيعه إلّا بطروء المسوّغ. وهذا بخلاف شراء حصير من عوائد موقوفة كالبستان ، فإنّ الحصير لم ينشأ وقفيته من قبل واقف البستان ، وإنّما صار وقفا من جهة ابتياعه بغلّة الموقوفة.

ومن المعلوم أنّ دليل المنع عن بيع الوقف وشرائه كقوله عليه‌السلام : «لا تباع ولا توهب ، ولا يجوز شراء الوقف» مختص بما ورد عليه الوقف ، وليس فيه دلالة على المنع عن بيع ما اشترى بعائدات الوقف. فحكم هذا الحصير حكم سائر ما يحصل من البستان من جواز صرف أعيانها في المسجد ، وجواز تبديلها بما هو أصلح بحاله.

قال الشهيد الثاني قدس‌سره : «ولو لم يكن أصله موقوفا ، بل اشتري للمسجد مثلا ، أو بذله له باذل صحّ للناظر بيعه مطلقا ، مع المصلحة» (١).

(١) يعني : فلا يدور جواز بيعها مدار خروجها عن حيّز الانتفاع بها ، بل المدار فيه نظر المتولّي ، وكون البيع أكثر نفعا للمسجد.

(٢) معطوف على «بين» وهذا هو القسم الثاني الذي ينشأ فيه وقفيته على الجهة ، ولا يجوز تبديله.

(٣) أي : ما يكون من الأموال وقفا على المسجد ابتداء ـ لا باشترائه من مال المسجد ـ يكون ملكا للمسلمين محبوس بعينه عليهم ، فلا يجوز بيعه إلّا في موضع يسوغ فيه بيع الوقف كصيرورته خلقا ، أو عدم الانتفاع به من جهة أخرى.

هذا كله ما يتعلق بردّ التنافي بين منع بيع الوقف التحريري ، وبين جواز بيع الحصير وثوب البيت المعظّم. وسيأتي بيان الفارق بينهما بعد اشتراك كليهما في جواز

__________________

(١) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٥٤ ، ولاحظ مقابس الأنوار أيضا ، كتاب البيع ، ص ٦٣.

٥٩٨

ثمّ الفرق بين ثوب الكعبة وحصير المسجد (١) أنّ الحصير يتصوّر فيه كونه وقفا على المسلمين (٢) ، ولكن يضعه في المسجد ، لأنّه أحد وجوه انتفاعهم ، كالماء المسبّل الموضوع في المسجد. فإذا خرب المسجد أو استغني عنه جاز الانتفاع به ولو في مسجد آخر ، بل يمكن الانتفاع به (٣) في غيره ولو مع حاجته.

لكن يبقى الكلام في مورد الشكّ (٤) ، مثل ما إذا فرض حصيرا في المسجد ، أو

______________________________________________________

البيع في الجملة.

(١) حاصله : أنّ الفرق بينهما في صورة وقفهما بأن يقفهما شخص من ماله على الكعبة والمسجد ـ لا في صورة اشترائهما من عائدات أوقاف المسجد ، حيث إنّ الثوب والحصير حينئذ ليسا موقوفين ، بل الموقوف أصول تلك العائدات ـ هو : أنّ الحصر توقف على المسلمين بحيث ينتفعون بها في وجوه الانتفاع ، ووضعها في المسجد لأجل كونه أحد وجوه انتفاعهم ، كالماء المسبّل الموضوع في المسجد. وهذا بخلاف ثوب الكعبة ، فإنّه موقوف على جهة خاصة وانتفاع مخصوص ، هذا.

ولا يخفى أنّ هذا بحسب المتعارف ، وإلّا فيمكن في ثوب الكعبة ما ذكرناه في حصير المسجد أيضا.

(٢) فإذا كان وقفا على المسلمين جاز الانتفاع به في مطلق المسجد ، فوضعه في مسجد خاص كالجامع أو السوق ليس لخصوصية بنظر الواقف ، بل لانطباق الانتفاع في الجهة المقصودة عليه. وهذا نظير الماء المسبّل ، فإنّ مقصود المسبّل سقيه للمؤمنين والمصلّين سواء أكانوا في هذا المسجد أم في غيره. فوضع حبّ الماء مثلا في مسجد ليس قرينة على أنّ تمام المطلوب هو تسبيل الماء لمن حضر في خصوص هذا المسجد دون غيره.

وعليه فإذا خرب المسجد ، أو فرش فيه سجاد ـ بحيث لم يحتج إلى هذا الحصير الموقوف ـ لزم نقله إلى مسجد آخر لينتفع به. بل يجوز نقله في الفرض إلى مسجد آخر حتى مع حاجة المسجد السابق ، لعدم تقييد وقف الحصير بوضعه في مسجد خاص.

(٣) أي : الانتفاع بالحصير في غير المسجد الأوّل حتى مع حاجته إليه.

(٤) يعني : ما إذا لم يعلم تقيّد وقف الحصير بمسجد خاصّ ، ولا عدم تقيده به ، بأن

٥٩٩

وضع حبّ ماء فيه ، وإن كان الظاهر في الأوّل (١) الاختصاص ـ وأوضح من ذلك التّرب الموضوعة فيه ـ وفي الثاني (٢) العموم ، فيجوز التوضؤ منه وإن لم يرد الصلاة في المسجد.

والحاصل (٣) أنّ الحصير (٤) وشبهها ـ الموضوعة في المساجد وشبهها (٥) ـ يتصوّر فيها أقسام كثيرة (٦) يكون الملك فيها للمسلمين ، وليست من قبيل نفس

______________________________________________________

كان مقصود الواقف انتفاع المصلّين سواء في هذا المسجد أو غيره.

وكذا لو شكّ ـ في وضع حبّ الماء في مكان خاص ـ أنّه مقيّد بما وضع فيه للشرب والتوضؤ أم أنّه لا خصوصية في موضع دون آخر. ويمكن التمسك بقاعدة الحلّ في المشكوك ، لكونه شبهة موضوعية.

(١) وهو الحصير الموضوع في مسجد ، فإنّ الغلبة توجب الظهور في الاختصاص به. وأوضح منه التّرب الحسينية ـ على مشرّفها أفضل الصلاة والسلام ـ الموضوعة في مسجد ، فلا يجوز نقلها منه إلى غيره وإن احتيج إليها.

(٢) وهو حبّ الماء ، ولو أحرز الاختصاص لم يجز التوضؤ منه ، والصلاة في مسجد آخر.

(٣) هذا حاصل ما أفاده من قوله : «ثم الفرق بين ثوب الكعبة وحصير المسجد .. إلخ».

(٤) كذا في النسخ ، والمناسب «الحصر» بصيغة الجمع.

(٥) كالمشاهد المشرّفة والحسينيات ونحوها من الأوقاف العامة.

(٦) أحدها : أن تكون مشتراة من منافع أوقاف المسجد ، وقد عرفت جواز بيعها اختيارا مع المصلحة التي يراها ناظر الوقف.

ثانيها : أن يشتريها الناس من أموالهم للمسجد ونحوه ، على أن تكون موقوفة على المسلمين في جميع وجوه الانتفاعات التي منها وضعها في المسجد للصلاة عليها.

ثالثها : أن تكون موقوفة على المسلمين في جهة خاصة كالصلاة فقط ، وفي مكان خاص كالمسجد الفلاني.

٦٠٠