هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٦

.................................................................................................

__________________

بكون إذن الأب نافذا هو نفوذ الإذن في مطلق تصرفات الأب في مال الابن ، وإن كان مضرّا ، فضلا عن عدم كونه مصلحة. فمن هذه الطائفة يستفاد إطلاق تصرفات الأب والجدّ في مال الصغير.

ومن طوائف الأخبار ما تدل على تقيد التصرف بالضرورة والاحتياج ، كرواية الحسين بن أبي العلاء المتقدم في (ص ٩٣) وصحيحة أبي حمزة الثمالي المذكورة في (ص ٩٤). والظاهر أنّهما ليستا من أدلة ولاية الأب والجد على مال الصغير ، بل هما في مقام بيان جواز أخذ النفقة من مال الطفل ، إذ نفقة الأب الفقير على ولده الغني. فموردهما التصرف الخارجي ، لا الاعتباري ، حتى يثبت لهما ولاية التصرف في المعاملات المتعلقة بأموال الطفل. هذا.

ومن تلك الطوائف ما تدل على اعتبار مراعاة عدم الضرر في التصرف في مال الطفل ، كصحيحة الكناني المتقدمة في (ص ٨٠) الدالة على تقويم الجارية قيمة عدل.

ويستفاد منها اعتبار عدم الضرر في تصرف الأب في مال الطفل ، وعدم النقص المالي في ماله.

وبتقييد الإطلاقات بمثل هذه الصحيحة يستفاد اعتبار عدم لزوم الضرر في تصرفات الأب ، وكفاية عدم المفسدة في نفوذ تصرفاته في مال الطفل.

لكن رفع اليد عن ظاهر الآية الشريفة ـ وهو مراعاة الأحسن ـ مشكل.

التنبيه الثالث : في ولاية الجد ، والكلام فيها يقع في جهات. وقبل التعرض لها ينبغي التكلم فيما يقتضيه الأصل العملي إن فقد الدليل الاجتهادي ، ووصلت النوبة إلى الأصل ، فنقول :

إنّ مقتضى الأصل العملي عدم ولاية الجد الأعلى إذ المتيقن من الجدّ هو أبو الأب ، فولاية الجدّ العالي خالية عن الدليل. إلّا إذا ثبت إجماع على مساواة الأب مع آبائه في الولاية على الطفل كما ادّعي.

لكنه غير ثابت ، لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض الروايات ، فلا بدّ حينئذ من الرجوع إليها ، لسقوط الإجماع عن الاعتبار.

١٢١

.................................................................................................

__________________

نعم أصل ثبوت ولاية الجدّ مشهور بين الأصحاب كما قيل.

ويمكن الاستدلال على ولايته بصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : «سألته عن رجل أتاه رجلان يخطبان ابنته ، فهوي أن يزوّج أحدهما ، وهوى أبوه الآخر ، أيّهما أحقّ أن ينكح؟ قال : الذي هوى الجد أحقّ بالجارية ، لأنّها وأباها للجد» (١).

لكنه مختص بالنكاح ، ويشكل التعدي عنه الى التصرفات المالية ، لمنع الأولوية لولاية الأب والجدّ على نكاح البكر البالغة الرشيدة مع عدم ولايتهما على التصرف في مالها.

وأمّا ذكر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية عبيد بن زرارة فهو في مقام إلزام من حضر في مجلس بعض الأمراء ، لا في مقام إثبات ولاية الجد حتى تثبت ولايته في المال والنكاح معا.

لكن هنا روايات سبع تدل على ولاية الجد للأب على تزويج الصغيرة (٢).

الّا أنّ موردها النكاح الذي هو أخصّ من المدّعى ، إذ المقصود إثبات الولاية للجد في التصرفات المالية أيضا.

نعم يمكن إثباتها بالسيرة ، كما يمكن إثباتها بقوله عليه‌السلام في صحيحة ابن جعفر المتقدمة آنفا : «لأنّها وأباها للجد» بتقريب : أنّه تعليل لثبوت ولايته في النكاح وفي غيره ، فإنّ هذا التعليل صالح لأن يكون علّة لجعل الولاية المطلقة للجدّ ، فليتأمّل.

وبالجملة : فلا ينبغي الإشكال في ولاية الجد ، فإن لم يمكن إثباتها بنحو الإطلاق من الروايات ، فلا مانع من إثبات إطلاقها بالسيرة القطعية الثابتة ، لولاية الجد في جميع شؤون الطفل من النكاح والتصرفات المالية من صدر الإسلام من غير نكير إلى زماننا هذا.

وأمّا الجهات المتعلقة بهذا التنبيه :

فمنها : أنّ ولاية الجدّ هل هي عرضية أم طولية؟ المحكي عن كثير من القدماء إناطة ولاية الجد بحياة الأب في عقد النكاح ، استنادا إلى رواية الفضل بن عبد الملك عن

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٢١٩ ، الباب ١١ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح ٨.

(٢) المصدر ، ص ٢١٨ ـ ٢١٩.

١٢٢

.................................................................................................

__________________

أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الجد إذا زوّج ابنة ابنه وكان أبوها حيّا وكان الجد مرضيا جاز ، قلنا : فإن هوي أبو الجارية هوى ، وهوى الجد هوى ، وهما سواء في العدل والرضا؟ قال : أحبّ إليّ أن ترضى بقول الجد» (١).

ولكن لا مفهوم لهذه القضية الشرطية ، بل هي سيقت لتحقيق الموضوع.

مضافا إلى ضعف سندها وإعراض الأصحاب عنها ، لما تقدّم عن العلّامة من دعوى الإجماع على ولاية الفاسق في التزويج.

فإن قلت : نصوص ولاية الجد على نكاح الطفل دلّت على ولايته في حال حياة أبي الطفل ، ولا دليل على ولايته بعد موته ، فيرجع إلى أصالة عدم الولاية. فما عن كثير من القدماء من اختصاص ولاية الجد بحال حياة ابنه متين.

قلت : لا مانع من استصحاب ولايته الثابتة حال حياة ابنه ، ولا مجال لأصالة عدم الولاية ، لأنّ الشك ليس في حدوثها ، بل الشك في بقائها ، وهو مجرى الاستصحاب ، والشك هنا من مصاديق الشك في رافعية الموجود ، وهو الموت.

نعم تجري أصالة عدم الولاية إن لم تثبت ولايته سابقا ، كما إذا كان الولد نطفة حين موت والده ، فإنّ الجدّ ليس وليّا على الطفل الذي هو نطفة حين وفاة أبيه. وهذا شك في حدوث الولاية ، فالجاري فيه أصالة عدم الولاية.

هذا مع الغضّ عن السيرة ، وإلّا فلا تصل النوبة الى الأصل العملي.

فتلخص : أنّ ولاية الجد عرضيّة ومستقلة ، ولا تناط بحياة ابنه ولا بموته.

ومن تلك الجهات : أنّ مقتضى الروايات الثمانية الدالة على ولاية الأب والجدّ في تزويج الطفل هو كون ولاية الجد في عرض ولاية الأب.

لكن ظاهر العلّامة في وصايا التذكرة خلاف ذلك ، حيث قال : «ولاية الأب مقدّمة على ولاية الجد ، وولاية الجدّ مقدّمة على ولاية الوصي للأب ، والوصي للأب أو الجد أولى

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٢١٨ ، الباب ١١ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح ٤.

١٢٣

.................................................................................................

__________________

من الحاكم» (١). فإن ظاهره طولية ولاية الجد وتأخرها رتبة عن ولاية الأب. وهو خلاف ظهور تلك الروايات في عرضيّة ولاية الجد للأب ، لا طوليتها.

ومن تلك الجهات : أنّ الجدّ إذا تعدّد ، فهل الولاية تثبت للجميع أم تختص بالجد القريب؟ فإن كان المستند في ولاية الجد الأخبار ثبتت الولاية لجميعهم ، وإن كان هو السيرة فالمتيقن هو أقرب الأجداد.

ومن تلك الجهات : أنّ الظاهر اختصاص الولاية بالأب والجدّ النسبيين دون الرضاعيين ، لأنّهما ـ على فرض صدق الأب والجد عليهما حقيقة ـ تنصرف الأدلة عنهما ، ولم نقف على تعرض أحد للحوق الرضاعيين بالنسبيين. ودليل تنزيل الرضاع منزلة النسب ناظر إلى الأوصاف والأحكام الظاهرة. وعلى فرض الشك في شمول دليل الولاية لهما فمقتضى الأصل عدمها.

وأمّا ولاية الأب والجدّ على من ولد منهما بالزنا ، فالظاهر ثبوتها لهما ، لصدق الأب والجد عليهما حقيقة بالنسبة إلى هذا الولد. وهذه المعاني الحقيقيّة العرفية موضوعات للأحكام الشرعية.

وأولى بثبوت الولاية للأب والجد ما إذا كان تولد الولد منهما على الوجه المحرّم غير الزنا ، كالتولد من وطي محرّم بالعرض كالوطي في حال الحيض والإحرام والصوم ، أو من تلقيح ماء أجنبي في جوف المرأة ، فإنّ الولد في جميع هذه الصور لصاحب الماء ، ومقتضى موضوعية المعاني العرفية للأحكام الشرعية ثبوت الولاية وغيرها من الأحكام الشرعية للأب والجدّ إلّا ما خرج كالإرث ، فإنّ الزنا مانع عنه.

وهل للولي من الأب والجدّ ولاية على الطلاق ، وهبة مدة المتعة ، وفسخ عقد النكاح بأحد موجباته أم لا؟ المسألة مبنية على وجود الإطلاق أو العموم في أدلة الولاية وعدمه.

فعلى الأوّل تثبت ولايته في جميع أمور الطفل. وعلى الثاني لا تثبت لأنّ السيرة دليل لبّيّ لا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقن منه.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥١٠ ، السطر ٢٢.

١٢٤

مسألة (١)

من جملة أولياء التصرّف في مال من (٢) لا يستقلّ [١] بالتصرّف في ماله الحاكم (٣) ،

______________________________________________________

٢ ـ ولاية الفقيه

(١) ذكرنا في (ص ٧٩) أن المأذون شرعا في التصرف في مال القاصر هو الأب والجدّ ، والحاكم الشرعي والعدول ، وتقدّم الكلام في ولاية الأب والجدّ ولم يتعرض المصنف لحكم الوصي من قبل أحدهما لكونه موكولا إلى باب الوصية ، وشرع في حكم ولاية الفقيه ، وبسط الكلام فيه بعد تحديد الموضوع ، وهو المجتهد الجامع لشرائط التقليد والفتوى.

(٢) يعني : أنّ للحاكم الشرعي التصرف في مال من لا يكون أهلا شرعا للتصرّف في ماله مستقلّا ، كاليتيم الذي لا جدّ له ، ولم يعيّن أبوه أو جدّه وصيّا عليه. وكذا السفيه والمجنون في الجملة ، والمفلّس.

(٣) مبتدء لقوله : «من جملة» والمراد بالتصرف أعم من الخارجي والاعتباري.

__________________

(*) لعلّ إبداله ب «من لا سلطنة له على التصرف في ماله» أولى ، لكونه أشمل ، لشموله لمن ليس له اقتضاء التصرف في ماله أصلا حتى مع الإذن أو الإجازة من ولي الأمر كالمجنون والصبي غير المميز. بخلاف عنوان المتن ، فإنّ ظاهره خصوص من لا ينفذ تصرفه بالاستقلال ، ويكون شرط نفوذه إذن الولي ، ولا يشمل من لا ينفذ تصرفه حتى مع الإذن أو الإجازة ، فتدبّر.

١٢٥

والمراد منه : الفقيه الجامع لشرائط الفتوى (١).

وقد رأينا هنا (٢) ذكر مناصب الفقيه امتثالا لأمر أكثر حضّار مجلس المذاكرة ، فنقول مستعينا بالله :

للفقيه الجامع للشرائط مناصب ثلاثة :

أحدها : الإفتاء (*) فيما يحتاج إليه العاميّ (٣) في عمله. ومورده (٤) المسائل الفرعيّة (٥) والموضوعات الاستنباطيّة (٦) من حيث ترتّب حكم فرعيّ عليها.

ولا إشكال ولا خلاف في ثبوت هذا المنصب (٧) للفقيه ، إلّا ممّن (٨) لا يرى

______________________________________________________

(١) التي عمدتها الاجتهاد والعدالة ، وأكثر ما عداهما من الشرائط مبني على الاحتياط كما قرّر في محلّه.

(٢) أي : مبحث ولاية الفقيه الذي هو من مباحث أولياء التصرف.

(٣) وهو من لم يبلغ رتبة الاجتهاد وإن كان له حظّ من العلم.

(٤) أي : ومورد الإفتاء ـ الذي هو أحد المناصب الثلاثة للفقيه ـ المسائل الفرعية.

(٥) وهي الأحكام الخمسة التكليفية ، وكذا الأحكام الوضعية.

(٦) كالغناء والآنية والمفازة ، فإنّها ـ لترتب الأحكام الفرعية عليها ـ تكون موردا لإفتاء الحاكم الشرعي. وأمّا الماهيات المخترعة الشرعية كالصلاة والصوم ونحوهما فهي بأنفسها مورد للإفتاء كنفس الأحكام الشرعية ، لأنّ ماهياتها مأخوذة من الشارع كأحكامها.

(٧) وهو الإفتاء ، حيث إنّ الفقيه هو العالم بالأحكام ، فهو المرجع فيها.

(٨) وهو بعض الأخباريين المانع عن التقليد ، وبعض الأصوليين القائل بوجوب الاجتهاد عينا (١).

__________________

(*) ليس نفس الإفتاء والإخبار عمّا اعتقده من الفتوى ـ كما هو ظاهر العنوان «الأحكام» ـ مرادا ، بل المقصود حجية الفتوى ، وجواز أو وجوب العمل بها.

__________________

(١) نقلنا بعض كلماتهم في شرحنا على الكفاية ، فراجع منتهى الدراية ، ج ٨ ، ص ٥٢٦.

١٢٦

جواز التقليد للعامي.

وتفصيل الكلام في هذا المقام (١) موكول إلى مباحث الاجتهاد والتقليد.

الثاني : (٢) الحكومة ، فله الحكم بما يراه حقّا في المرافعات وغيرها في الجملة (٣). وهذا المنصب (٤) أيضا ثابت له بلا خلاف فتوى ونصّا. وتفصيل الكلام فيه (٥) من حيث شرائط الحاكم والمحكوم به والمحكوم عليه موكول إلى كتاب القضاء.

الثالث (٦) ولاية (٧) التصرّف في الأموال والأنفس ، وهو (٨) المقصود بالتفصيل هنا ، فنقول : الولاية تتصوّر على وجهين :

الأوّل : استقلال (٩) الولي بالتصرّف

______________________________________________________

(١) أي : مقام إفتاء المجتهد ، أي : جواز العمل بفتواه ، لا مجرّد جواز الإفتاء وإظهار فتواه ، فإنّه ليس منصبا ، ولا يتوقف جوازه على جواز تقليده.

(٢) أي : المنصب الثاني. والمراد بالحكومة هو الحكم بين الناس بالحقّ والعدل.

سواء أكان في الخصومات والمرافعات أم غيرها كثبوت الهلال والحجر للفلس.

(٣) إشارة إلى الخلاف الواقع في بعض الموارد كحكم الحاكم بثبوت الهلال.

(٤) أي : منصب الحكومة كمنصب الإفتاء ثابت للفقيه بلا خلاف نصّا وفتوى.

(٥) أي : في منصب الحكومة من حيث شرائط الحاكم كالعدالة والفقاهة وغيرهما ، ومن حيث شرائط المحكوم به كالزوجيّة والملكيّة والرقيّة وغيرها ، ومن حيث شرائط المحكوم عليه من كون حكمه نافذا على الكلّ حتى على مجتهد آخر ، أو نافذا على خصوص المتخاصمين.

(٦) أي : المنصب الثالث للفقيه ـ الذي هو المقصود الأصلي من البحث هنا ـ هو ولاية التصرف في النفوس والأموال بحيث يكون الفقيه أولى من الناس بالتصرف في أموالهم وأنفسهم.

(٧) خبر قوله : «الثالث».

(٨) أي : والمنصب الثالث هو المقصود بالتفصيل هنا أي مبحث ولاية الفقيه.

(٩) بمعنى عدم توقف نفوذ تصرفه على إذن الغير أو إجازته ، بل هو تامّ الاختيار

١٢٧

مع قطع النظر (١) عن كون تصرّف غيره منوطا بإذنه أو غير منوط به ، ومرجع هذا (٢) إلى كون نظره سببا في جواز تصرّفه.

الثاني (٣) عدم استقلال غيره بالتصرّف ، وكون (٤) تصرّف الغير منوطا بإذنه وإن لم يكن هو (٥) مستقلّا بالتصرّف. ومرجع هذا (٦) إلى كون نظره شرطا في جواز

______________________________________________________

في تصرّفه ، كولايته على الأوقاف التي لا وليّ لها ، وعلى القصّر كالصبيان والمجانين ، فإنّ الفقيه وليّ في هذه الموارد ، فله التصدّي لها مطلقا ، سواء أكان مباشرة أم تسبيبا بالإذن لغيره ، أو بنصبه وليّا.

وليس لازم هذا الاستقلال إناطة جواز تصرف الغير بإذن الفقيه. فليس كل مورد يستقل الفقيه فيه بالتصرف لا يجوز تصرف غيره ، إلّا بالإذن ، بل يجوز لغيره التصرف بدون إذنه ، كالزكاة ، حيث إنّ للمالك تزكية ماله بدون إذن الفقيه ، فهو كالحاكم مستقل في إخراج الزكاة ، وليس جواز فعله منوطا بنظر الحاكم.

(١) وجه عدم النظر هو اجتماع استقلال الحاكم بالتصرف مع كون تصرف الغير منوطا بإذنه ، ومع عدم إناطة تصرفه بإذن الحاكم ، كما إذا كان له أيضا ولاية التصرف بالاستقلال كالزكاة على ما مرّ آنفا.

(٢) أي : الوجه الأوّل من وجهي الولاية ، ومحصله : أنّ نظر الفقيه سبب تام لجواز تصرفه ، وليس لشي‌ء آخر دخل في سببيّة نظره.

وببيان آخر : ليس جواز تصرفه مشروطا بشي‌ء آخر غير إرادته ، فهي علّة تامة لجوازه.

(٣) أي : الوجه الثاني من وجهي الولاية عدم استقلال غير الفقيه بالتصرف ، بأن يكون جواز تصرّفه منوطا بإذن الفقيه وإن لم يكن الفقيه مستقلّا بالتصرّف ، كالتّقاصّ ، فإنّه على ما قيل : يجوز لغير الحاكم بإذنه وإن لم يجز ذلك للحاكم بالاستقلال.

(٤) معطوف على «عدم» عطفا تفسيريا ، ومرجع ضمير «بإذنه» هو الفقيه.

(٥) أي : وإن لم يكن الفقيه مستقلّا بالتصرف كالتقاص على قول كما مرّ آنفا.

(٦) أي : الوجه الثاني ، وهو عدم استقلال غير الفقيه بالتصرف ، وحاصله : أنّ نظر

١٢٨

تصرّف غيره (١).

وبين موارد الوجهين (٢) عموم من وجه.

ثمّ إذنه (٣) المعتبر في تصرّف الغير : إمّا أن يكون على وجه الاستنابة ، كوكيل الحاكم.

______________________________________________________

الفقيه شرط في صحة تصرف غيره كصلاة الميت الذي لا وليّ له ، فإن صحة صلاة غيره منوطة بإذنه ، دون وجوبها ، لأنّها واجبة كفائيّا على الجميع.

(١) هذا الضمير وضمير «نظره» راجعان إلى الفقيه.

(٢) وهما وجها ولاية الفقيه من استقلاله بالتصرف ، ومن عدم استقلال غيره بالتصرف. والأولى إسقاط كلمة «موارد» بأن يقال : «وبين الوجهين عموم من وجه».

وكيف كان فمادة اجتماعهما هي التصرف في سهم الإمام عليه‌السلام ، فإنّ الفقيه مستقل في التصرف فيه على الأظهر ، وتصرف غيره فيه منوط بإذنه. وكذا التصرف في مجهول المالك على الأقوى.

ومادة الوجه الأوّل استقلال الحاكم في التصرف في الزكاة ، وعدم اشتراط تصرف غيره بإذنه.

ومادة الوجه الثاني هي التقاص ، فإنّ تصرف غير الفقيه فيه منوط بإذنه ، مع عدم استقلال الحاكم بالتصرف فيه على ما قيل.

(٣) مبتدء ، وخبره جملة «إما أن يكون ..» وغرضه بيان كيفية إذن الحاكم لغيره في التصرف على كلا الوجهين : من استقلال الفقيه في التصرّف ، ومن إناطة تصرف الغير بإذنه. توضيحه : أنّ استقلال الحاكم بالتصرّف يقتضي أن يكون هو المتصرّف سواء أكان تصرفه بالمباشرة كتصدّيه بنفسه لأمور الأوقاف ، أم بالتسبيب كتوكيل غيره في التصدي لها ، فإنّ التوكيل تفويض سلطنة الموكّل ، ففعل الوكيل يضاف إلى الموكّل. وكنصبه متولّيا على الوقف.

والفرق بين الوكيل والمتولّي هو : أنّ الوكيل ينعزل بموت الموكل ، لأنّه مقتضى العقود الإذنية التي منها الوكالة. والمتولّي ينعزل بموت من نصبه على ما قيل ،

١٢٩

وإمّا (١) أن يكون على وجه التفويض والتولية ، كمتولّي الأوقاف من قبل الحاكم.

وإمّا (٢) أن يكون على وجه الرضا ، كإذن الحاكم لغيره في الصلاة على ميّت لا وليّ له.

إذا عرفت هذا فنقول : مقتضى الأصل (٣) عدم ثبوت الولاية لأحد بشي‌ء من

______________________________________________________

لكنه لا يخلو من تأمل.

وكيف كان ففعل المتولّي والوكيل يضاف إلى الحاكم نحو إضافة في مقابل فعله المباشري.

والحاصل : أنّ التولية والتوكيل من شؤون استقلال الحاكم بالتصرف ، بخلاف كون الإذن على وجه الرضا ، فإنّ مورده فعل الغير المشروط صحته بإذن الحاكم. ومن المعلوم أنّ مجرد الإذن لا يجعل الفعل من أفعال الآذن ، كصلاة الميت الفاقد للولي ، فإنّ الصلاة فعل المصلّي ، ولا تصير فعل الحاكم بمجرد إذنه له فيها. نعم صحتها منوطة بإذنه.

(١) معطوف على «إمّا» وهذا وما قبله من شؤون استقلال الفقيه بالتصرف ، لا من شؤون توقف تصرف الغير على إذن الحاكم كما مرّ مفصّلا.

(٢) معطوف على «إمّا» وهذا هو الشق الثالث الذي يكون من شؤون إناطة صحة فعل الغير بإذن الفقيه ، فإذن الحاكم على وجه الرضا يكون في صورة اشتراط جواز تصرف الغير بإذنه.

(٣) غرضه بيان الأصل في مسألة الشك في ثبوت الولاية للفقيه مع قطع النظر عن الأدلة الاجتهادية ، أو فرض قصورها ووصول النوبة إلى الأصول العملية.

والمصنف قدس‌سره أجرى الأصل الموضوعي ، وهو أصل عدم ثبوت الولاية لأحد في شي‌ء من الأمور المذكورة ، حيث إنّ الولاية على الغير نحو استيلاء عليه ، والأصل عدمه. ومقتضاه عدم نفوذ شي‌ء من التصرفات العقدية والإيقاعية المترتبة على الولاية. ولو لم يجر هذا الأصل الموضوعي لجرى الأصل الحكمي ، وهو أصالة الفساد أي عدم ترتب الأثر.

١٣٠

الوجوه المذكورة ، خرجنا عن هذا الأصل (١) في خصوص النبيّ والأئمّة «صلوات الله عليهم أجمعين» بالأدلّة الأربعة ، قال الله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١) ، و (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ

______________________________________________________

الكلام في ثبوت الولاية للنبي والأئمة عليهم‌السلام

(١) أي : خرجنا عن أصل عدم ثبوت الولاية في خصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومين «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» بالأدلة الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

ثم إنّ المصنّف قدس‌سره جعل البحث في مقامين :

أحدهما : الولاية بمعنى الاستقلال بالتصرف ، والآخر : الولاية بمعنى توقف تصرف الغير على إذن الفقيه.

أمّا المقام الأوّل ، فقد استدل عليه بالأدلة الأربعة :

الأوّل : الكتاب ، وقد ذكر جملة من الآيات في المتن.

والانصاف أنّ أكثرها تدلّ على المطلوب ، ودعوى «أنّ الأولوية من الأنفس لا تدلّ على الأولوية من الأموال» مدفوعة أوّلا : بالأولوية ، لأنّ الولاية في الأموال أهون من الولاية في النفوس.

وثانيا : أنّ الامتنان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقتضي إرادة العموم.

وكذا إطلاق نفي الاختيار في الآية الثانية يقتضي العموم للتصرفات المالية.

وكذا إطلاق «أمره» في الآية الثالثة ـ الذي هو مفرد مضاف ـ يقتضي العموم للأمور المتعلقة بالأموال.

والاشكال عليها وعلى مثلها ممّا يدل على لزوم الإطاعة «بأنّ دلالتها على المدّعى

__________________

(١) الأحزاب ، الآية ٦.

١٣١

أَمْرِهِمْ) (١) ، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (١) أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢) ، و (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) ، و (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) .. (٤) الآية ،

______________________________________________________

منوطة بدعوى الملازمة بين وجوب الإطاعة والولاية. وهي ممنوعة ، لانفكاكهما كما في وجوب إطاعة الامّ على الولد ، مع وضوح عدم ولايتها عليه. وكذا وجوب إطاعة الولد الكبير الرشيد لوالده ، مع عدم ولايته عليه» مندفع بأنّ ذلك في غير أمره سبحانه وتعالى والنبي وآله المعصومين «عليهم الصلاة والسلام» الّذين هم علل التكوين ، ومبدأ الموجودات الإمكانية ، ومجاري الفيض على جميع ما اكتسى ثوب الوجود.

فالملازمة بين إطاعة الله عزوجل والنبي والأئمّة الطاهرين عليهم أفضل صلوات المصلين وبين ولايتهم عليهم‌السلام في غاية الوضوح ، فلا ينبغي أن يقال : إنّ ما دلّ على وجوب إطاعتهم عليهم‌السلام أجنبي عن مسألة الولاية.

(١) بناء على رجوع الضمير إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال في المجمع : «حذّرهم سبحانه وتعالى عن مخالفة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٥) ونقل في البحار عن تفسير فرات : «قيل : يا با جعفر حدّثني في من نزلت؟ قال : نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجرى مثلها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأوصياء في طاعتهم» (٦).

وأمّا بناء على رجوع الضمير في «أمره» إليه تعالى كان الخطاب للمعرضين عن أوامره ونواهيه عزوجل ، ولا تكون الآية حينئذ دليلا على لزوم إطاعة أولياءه في غير جهة التبليغ.

__________________

(١) الأحزاب ، الآية ٣٦.

(٢) النور ، الآية ٦٣.

(٣) النساء ، الآية : ٥٩.

(٤) المائدة ، الآية : ٥٥.

(٥) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٤٩.

(٦) بحار الأنوار ، ج ٢٤ ، ص ٣٠١ و ٣٠٢ ، الحديث : ٥٨.

١٣٢

وغير ذلك (١) (*).

______________________________________________________

(١) مثل ما استدلّ به في برهان الفقه على ذلك بقوله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) وقوله تعالى (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١).

ويدل عليه أيضا قوله تعالى (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٢) بضميمة ما ورد في تفسير الملك العظيم بفرض الطاعة وأنّ «من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله فهو الملك العظيم» (٣).

وقوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) (٤) وغير ذلك من الآيات الكثيرة

__________________

(*) لا يخفى أنّ غرض المصنف قدس‌سره الخروج عن أصل عدم الولاية بكلا معنييها ـ وهما الاستقلال بالتصرف وتوقف تصرف الغير على إذنه ـ في خصوص النبي والأئمة المعصومين «صلى الله عليه وعليهم أجمعين». وعلى هذا فالأولى كما في بعض الحواشي سوق العبارة هكذا : «خرجنا عن هذا الأصل في الولاية بكلا معنييها في خصوص النبي وآله أوصيائه المعصومين «صلوات الله عليهم أجمعين إلى يوم الدين». أمّا بالمعنى الأوّل فبالأدلة الأربعة .. وأمّا بالمعنى الثاني فبأخبار خاصة تدلّ على وجوب الرجوع إليهم .. إلخ».

وكيف كان فالداعي إلى البحث عن ولايتهم «عليهم الصلاة والسلام» مع خروج ذلك عن وظيفتنا ، ووضوح نفوذ كل تصرف يصدر منهم «عليهم الصلاة والسلام» في الأموال والأنفس ، كما إذا باع احد منهم «صلوات الله عليهم» مال زيد من عمرو ، فإنّه نافذ سواء رضي

__________________

(١) برهان الفقه ، كتاب الصوم ، بحث ثبوت الهلال بحكم الحاكم ، والآيتان في سورة النساء : ٦٥ و ٥٩.

(٢) النساء ، الآية ٥٤.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ٢٩٠ ، ح ١٧ ، وص ٢٨٥ ، ح ١ ، وص ٢٨٧ ، ح ٧ ـ ١١ وص ٢٩١ ـ ٢٩٢ ح ٢١ الى ٢٥ ، وص ٣٠١ ، ح ٥٧.

(٤) آل عمران ، الآية ١٠٣.

١٣٣

وقال النبي (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في رواية أيّوب بن عطية (٢) «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه». وقال في يوم غدير خم : «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» (١).

والأخبار في افتراض طاعتهم وكون معصيتهم كمعصية الله كثيرة ، يكفي في ذلك (٣) منها مقبولة (٤) عمر بن حنظلة

______________________________________________________

والأخبار المتواترة الدالة على وجوب إطاعتهم ومتابعتهم ، والمحذّرة عن مخالفتهم ، فراجع غاية المرام والبحار.

(١) هذا شروع في الاستدلال بالسّنة.

(٢) وهو الحذّاء ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

أنا أولى .. إلخ» (٢).

(٣) أي : في ولايتهم عليهم‌السلام وافتراض طاعتهم ، وضمير «منها» راجع إلى الأخبار.

(٤) فاعل «يكفي» أي : يكفي في ثبوت ولايتهم عليهم‌السلام من الأخبار مقبولة عمر بن حنظلة ، التي ورد فيها ـ بعد بيان صفات القاضي الإمامي ـ : «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله ، وعلينا ردّ ، والرّادّ علينا الرّاد على الله» (٣).

__________________

زيد بذلك أم لا. وكما إذا زوّج هو «سلام الله عليه» بنت زيد ، فإنّ تزويجه عليه‌السلام نافذ ، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة ، مع البناء على ولاية أبيها عليها ، وسواء رضي الأب أم لا ، فإنّ نفس تصرفهم كاشف عن ولايتهم مع عصمتهم «عليهم أفضل الصلاة والسلام» وعدم صدور مثل

__________________

(١) الحديث من المتواترات بين الفريقين ، انظر كتاب الغدير للوقوف على مصادره ج ١ ، ص ١٤ ـ ١٥٨.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٥٥١ ، الباب ٣ من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة ، ح ٤.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩٨ ـ ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ١.

١٣٤

ومشهورة أبي خديجة (١) ، والتوقيع الآتي (١) (*) ، حيث علّل فيها حكومة الفقيه وتسلّطه على الناس «بأنّي (٢) قد جعلته كذلك (٣) وأنّه (٤) حجتي عليكم» (**).

وأمّا الإجماع (٥) فغير خفيّ.

______________________________________________________

(١) وفيها : «فإنّي قد جعلته عليكم قاضيا» (٢).

(٢) متعلّق بقوله : «علّل» وقوله : «حيث» تقريب لولايتهم عليهم‌السلام ، حيث إنّ الفقيه جعل حاكما من قبله عليه‌السلام ، وأنّه حجة عنه عليه‌السلام ، ولا يمكن هذا الجعل إلّا مع كونه عليه‌السلام واجدا لهذا المنصب العظيم الشامخ.

(٣) أي : مسلّطا على الناس.

(٤) معطوف على «انّي» والضمير راجع إلى الفقيه.

(٥) بل هو من الضروريات ، لكن لا مسرح للاستدلال بالإجماع هنا ، لعدم كونه دليلا مستقلّا حينئذ.

__________________

هذه الأفعال منهم «صلوات الله عليهم» لا يدلّ على عدم ولايتهم على الأموال والأنفس هو إثبات ولايتهم عليهم‌السلام لإثباتها للفقيه لو دلّ دليل على ولايته.

(*) لم يظهر وجه المناسبة لذكر هذه الروايات الثلاث هنا ، إذ المبحوث عنه هو إثبات الولاية المطلقة للمعصومين «عليهم الصلاة والسلام». وهذه الروايات قد استدلّ بها على ولاية الفقيه. إلّا أن يراد بها إثبات ولايتهم عليهم‌السلام بالبرهان الإنّي ، حيث إنّ ولاية الفقيه تدلّ على ولايتهم عليهم‌السلام إنّا ، لأنّ الفاقد لا يعطي. ولعلّه أشار إليه بقوله : «حيث علّل فيها حكومة الفقيه .. إلخ».

(**) لكن الظاهر أنّ هذه الروايات الثلاث في مقام جعل منصبي القضاء والإفتاء للفقيه ، دون الولاية المطلقة. نعم تثبت الولاية الثابتة لقضاة العامة في زمان صدور

__________________

(١) الآتي في ص ١٧٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ١٠٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٦.

١٣٥

وأمّا العقل القطعي ، فالمستقلّ (١) منه حكمه بوجوب شكر المنعم (*) بعد معرفة أنّهم أولياء النّعم ، والغير المستقلّ حكمه بأنّ الأبوّة إذا اقتضت وجوب إطاعة

______________________________________________________

(١) المراد بالعقل المستقلّ هو حكمه مع الغضّ عن حكم الشرع. بخلاف العقل غير المستقلّ ، فإنّه تابع لحكم الشرع ، فإنّ وجوب إطاعة الأب شرعا على الابن اقتضى وجوب إطاعة الإمام عليه‌السلام على الرّعيّة بالأولوية.

وتقريب حكم العقل المستقل بإطاعتهم والانقياد لهم هو : أنّه لا ريب في كون ذواتهم المقدّسة وسائط الفيض الإلهي ، فهم أولياء النعم ، كما لا ريب في أنّهم عليهم‌السلام أمناء الله على حلاله وحرامه. والعقل مستقلّ بلزوم شكر المنعم ، ولا يتحقق إلّا بإطاعتهم والتسليم لهم ، هذا.

__________________

الروايات لقضاتنا ، دون الولاية المطلقة. فهذه الروايات لا تدلّ إلّا على إعطاء هذين المنصبين للفقيه ، ولا تدلّ على ولاية الإمام عليه‌السلام كما هو مقصود المصنف قدس‌سره فضلا عن ولاية الفقيه ، فتدبّر.

(*) لم يظهر معنى لكون ولايتهم «صلوات الله عليهم» ـ بمعنى نفوذ تصرفاتهم ـ مصداقا للشكر الواجب عقلا على المكلف ، بل مصداقه أعني فعل المكلف هو إطاعته لهم عليهم‌السلام ، لا فعلهم وهو تصرفهم عليهم‌السلام.

إلّا أن يقال : إنّ الشكر الواجب عقلا على المكلف هو تنفيذ تصرفاتهم عليهم‌السلام ، وعدمه كفران النعمة القبيح عقلا.

مضافا إلى : أنّه إن أريد بالشكر الواجب عقلا إطاعة المنعم بما هو منعم اختصّ ذلك بإطاعة الأوامر والنواهي الإلزامية التكليفية ، لأنّ في ترك إطاعتها خطر العقاب ، ومن المعلوم أنّ همّ العقل تحصيل المؤمّن منه. ولا يشمل حينئذ الوضعيات ، كالعقود والإيقاعات الصادرة منهم عليهم‌السلام في أموال الناس وغيرها ، فإنّ نفوذها خارج عن حكم العقل بلزوم الإطاعة.

١٣٦

الأب على الابن في الجملة ، كانت (١) الإمامة مقتضية لوجوب طاعة الإمام على الرعيّة بطريق أولى ، لأنّ (٢) الحقّ

______________________________________________________

(١) جواب الشرط في «إذا اقتضت».

(٢) تعليل لحكم العقل غير المستقل ، ومحصله : أنّ حقّ الأب على الابن ـ وهو مجرد كونه مقدّمة إعدادية لوجود الابن وتكونه ـ إذا كان مقتضيا لوجوب إطاعة أوامره الشخصية شرعا ، كان اقتضاؤه لوجوب إطاعتهم عليهم‌السلام شرعا لأوامرهم الشخصية بالأولوية ، لأقوائيّة مقدّميّتهم في مجاري الفيض التكويني والتشريعي من الأب ، كما يتضح ذلك بملاحظة بعض الأدعية المأثورة (*).

__________________

وإن أريد بالشكر الخضوع التام للمنعم في جميع الأمور ، فلا بأس بشموله للوضعيات أيضا. لكن لا يعهد هذا الحكم من العقل.

فالاستدلال بوجوب شكر المنعم على الولاية المطلقة للمعصومين عليهم‌السلام حتى تثبت للفقيه بأدلة الولاية مشكل ، وإن كان في غيره من سائر الأدلة غنى وكفاية.

(*) الظاهر أنّ مراد المصنف قدس‌سره بالأولوية ما ذكرناه من كون أقوائية مقدمية الإمام عليه‌السلام في علل التكوين من مقدّمية الأب للولد في التكوّن والوجود ـ التي هي بنحو الإعداد ـ موجبة لأولوية وجوب إطاعة الإمام عليه‌السلام في أوامره الشخصية من وجوب إطاعة الولد لأبيه. ويشهد لإرادة المصنف لما ذكرناه قوله قبيل ذلك : «بعد معرفة أنّهم أولياء النعم» فإنّ حكم العقل المستقل وغير المستقل مبني على كونهم أولياء النعم ووسائط الفيض على الخلق كله.

فكأنّه قال : «كانت الإمامة مقتضية لوجوب طاعة الإمام الذي هو من أولياء النعم على الرعية بطريق أولى».

وبالجملة : فظاهر عبارة المتن كون مناط الأولوية هو أقوائية مقدمية الإمام عليه‌السلام في مرحلة التكوين من مقدمية الأب في تكوين الولد ، والتعبير عن الخلق بالرّعيّة للتنبيه على تفوقهم على جميع الخلق ، وسلطنتهم على جميع شؤونهم.

١٣٧

هنا (١) أعظم (٢) بمراتب ، فتأمّل (٣).

والمقصود من جميع ذلك (٤)

______________________________________________________

(١) أي : في مسألة النبوة والإمامة.

(٢) إذ ليس الأب إلّا كونه معدّا من معدّات وجود الابن وتكوّنه كما عرفت ، بخلافهم «صلوات الله عليهم» ، فإنّهم علل التكوين ومجاري الفيوضات والنعم بأسرها. فلا بد أن تكون إطاعتهم عليهم‌السلام أولى من إطاعة الابن لأبيه ، وبيمنه عليه‌السلام رزق الورى وبوجوده عليه‌السلام ثبتت الأرض والسماء.

(٣) لعله إشارة إلى : أنّ لزوم الإطاعة ـ الذي هو مفاد الأدلة ـ لا يثبت الولاية المقتضية لنفوذ التصرف في الأنفس والأموال ، لعدم التلازم بينهما.

أو إشارة إلى : أنّ وجوب إطاعة الأب على الابن لعلّه تعبد محض ، وليس بمناط ثبوت حقّ له حتى يتعدّى منه إلى الامام عليه‌السلام بالأولوية. نظير وجوب إطاعة المملوك لمالكه مع عدم ثبوت حقّ له عليه في تكونه أو غيره.

أو إشارة إلى : عدم صحة قياس لزوم إطاعة الإمام عليه‌السلام بإطاعة الأب ، لعدم الدليل على وجوب إطاعته حتى يقاس عليه وجوب طاعة الإمام عليه‌السلام بالأولوية ، إذ الثابت هناك هو حرمة الإيذاء ، فلا مانع من ترك إطاعة الأب إن لم يكن تركها إيذاء له.

(٤) أي : والمقصود من الاستدلال بالأدلة الأربعة دفع توهّم اختصاص وجوب

__________________

لا أنّ مناط الأولوية كون حقّ الامام على الرعية أعظم ، كما استظهره من المتن بعض مدققي المحشين قدس‌سره بقوله : «وهذا التقريب أولى ممّا ذكره قدس‌سره من كون حق الامام على الرعية أعظم ، فإنّ حيثية الإمامة والرّعية حيثية التربية الرّوحانية بإخراجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، فهو ملاك آخر غير ملاك الأبوّة والمقدمية للتكوين. فاقتضاء حقّ لوجوب الإطاعة لا يلازم اقتضاء حقّ آخر لوجوب الإطاعة شرعا بالمساواة فضلا عن الأولوية» (١) قوله : «فاقتضاء حق ـ وهو الأبوّة مثلا ـ لوجوب الإطاعة لا يلازم اقتضاء حق آخر ـ وهو حق الإمامة والرعية ـ لوجوب الإطاعة شرعا بالمساواة فضلا عن الأولوية» فلاحظ وتدبّر.

__________________

(١) حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني ، ج ١ ، ص ٢١٣.

١٣٨

دفع ما يتوهّم من (١) أنّ وجوب إطاعة الإمام مختصّ بالأوامر الشرعية ، وأنّه (٢) لا دليل على وجوب إطاعته في أوامره العرفية أو سلطنته (٣) على الأموال والأنفس.

وبالجملة (٤) فالمستفاد من الأدلّة الأربعة بعد التتبّع والتأمّل أنّ للإمام سلطنة مطلقة على الرعيّة من قبل الله تعالى ، وأنّ تصرّفهم نافذ على الرّعية ماض مطلقا (٥) (*).

هذا كلّه في ولايتهم (٦) بالمعنى الأوّل (٧).

______________________________________________________

إطاعة الإمام عليه‌السلام بالأوامر الشرعية ، وعدم الدليل على وجوب إطاعته في الأوامر العرفية أو سلطنته على الأموال والأنفس.

وبالجملة : الغرض من الاستدلال بالأدلة الأربعة إثبات الولاية المطلقة للإمام عليه‌السلام على الرعية من الله سبحانه وتعالى ، وأنّ كل تصرف منهم عليهم‌السلام نافذ في الأموال والأنفس.

(١) بيان ل «ما» الموصول في «ما يتوهم».

(٢) معطوف على «ان» والضمير (أنّه) للشأن.

(٣) معطوف على «وجوب» وضمائر «طاعته ، أوامره ، سلطنته» راجعة الى الإمام.

(٤) يعني : وحاصل كلام المصنف قدس‌سره هو : أنّ المستفاد من الأدلة الأربعة المتقدمة ـ بعد التتبع والتأمل ـ الولاية العامة والسلطنة المطلقة للإمام على الرّعية من قبل الله سبحانه وتعالى ، ونفوذ تصرفاته في الأموال والأنفس ، وينبغي أن يكون ذلك من الواضحات وإن كان استظهاره من بعض الأدلة مشكلا ومخدوشا.

(٥) أي : في الأنفس والأموال. وقوله : «وأنّ» معطوف على «أنّ».

(٦) أي : ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

(٧) وهو : استقلال المولى بالتصرف.

__________________

(*) قد عرفت في التعليقة عدم تمامية دلالة بعض تلك الأدلة على مدعاه قدس‌سره ، والعمدة ما دلّ على أولوية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمؤمنين من أنفسهم ، ويتمّ في الأئمة عليهم‌السلام بعدم الفصل ، وفي الأموال بالأولوية وعدم الفصل.

١٣٩

وأمّا بالمعنى الثاني ـ أعني اشتراط تصرّف الغير بإذنهم (١) ـ فهو (٢) وإن كان مخالفا للأصل (٣) ، إلّا أنّه قد ورد أخبار (٤) خاصّة بوجوب الرجوع إليهم ، وعدم جواز الاستقلال لغيرهم بالنسبة إلى المصالح المطلوبة للشارع غير المأخوذة على شخص معيّن (*) من الرّعية ، كالحدود والتعزيرات ، والتصرّف في أموال

______________________________________________________

(١) أي : بإذن المعصومين عليهم‌السلام.

هذا تمام الكلام في المقام الأول ، أما المقام الثاني ـ وهو إثبات ولايتهم بمعنى دخل إذنهم في فعل الغير ـ فسيأتي.

(٢) أي : المعنى الثاني من الولاية وهو اشتراط تصرف الغير بإذنهم.

(٣) وهو أصل عدم اشتراط تصرف الغير بإذنهم «صلوات الله عليهم» والأولى أن يقال : «وان كان مخالفا للأصل أيضا».

(٤) وهي بين ما يدلّ على وجوب طاعة الأئمة «عليهم الصلاة والسلام» مثل ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى : الطاعة للإمام بعد معرفته ، ثم قال : إنّ الله تبارك وتعالى يقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (١)» (٢) وغير ذلك ممّا ورد بهذا المضمون (٣).

__________________

(*) بل المأخوذة أيضا على أشخاص معيّنين ، كصلاة الميت التي هي واجبة كفاية على جميع المكلّفين ، غاية الأمر أنّها تسقط بفعل بعضهم ، فلا تختص الولاية بمعناها الثاني بالمصالح المطلوبة للشارع غير المأخوذة على شخص معيّن. وليس هذا جامعا لما يشترط صحته بإذنهم عليهم‌السلام.

ولعلّ مراد المصنف قدس‌سره بقوله : «غير المأخوذة على شخص معيّن» ما يشمل الواجب الكفائي ، لصدقه على عدم أخذه على شخص معيّن ، في مقابل أخذه على الجميع ، فتدبّر.

__________________

(١) النساء ، الآية ٨.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ١٨٥ و ١٨٦ باب فرض طاعة الأئمة عليهم‌السلام ، ح ١.

(٣) المصدر ، ح ٣.

١٤٠