هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٦

المسجد وأضرابه ، فتعرّض الأصحاب لبيعها لا ينافي ما ذكرناه (١).

نعم (٢) ما ذكرناه لا يجري في الجذع المنكسر من جذوع المسجد الّتي (٣) هي من

______________________________________________________

(١) من عدم جواز بيع الموقوف المؤبّد غير المملوك. ووجه عدم المنافاة : أنّ ما لا يجوز بيعه هو نفس الموقوفة كالمسجد ، لكون وقفه تحريرا ، فلا ملك حتى يباع. وما يصحّ بيعه كالحصير ملك للمسلمين لو اشتري بعوائد موقوفة ، ويجوز لمتولّي المسجد بيعه إن كان أصلح بحال المسجد. ومع تعدد الموضوع لا تنافي بين منع بيع أرض المسجد وبين جواز بيع الحصير في بعض الصور.

قال المحقق الثاني قدس‌سره في حكم بيع حصير المسجد إذا خلق ، وجذعه إذا تكسّر ما لفظه : «وهل يفرّق بين ما كان من ذلك وقفا ، وبين ما اشتري من الوقف ، أو قبل المتولّي بيعه حتى يجوز بيع الثاني عند الحاجة؟ فيه احتمال. وذكر في التذكرة : أنّه لا خلاف بين العامة في جواز بيع هذا القسم ، لأنّه ملك. ولم يفت هو بشي‌ء. وجواز البيع في هذا القسم لا يخلو من قوة. فإذا بيع لم يتعيّن شراء مثله ، بل يصرف في مصالح المسجد من غير تعيين» (١).

(٢) استدراك على جواز بيع مثل حصير المسجد لو اشتري بعوائد موقوفة عليه. وهذا إشارة إلى الموضع الثالث ، وهو حكم أجزاء المسجد. يعني : أنّ ما ذكرناه ـ من جواز بيع الآلات كالحصر ونحوها ممّا يتعلق بالأوقاف المؤبّدة غير المملوكة ـ لا يجري في أنقاض المسجد من الأخشاب والجذوع المنكسرة والآجر مما لا ينتفع به فيه.

وجه عدم جريانه في مثل الجذع المنكسر هو كون الجذع وأمثاله أجزاء من الموقوفة ، ومن المعلوم أنّ الحكم الثابت للكلّ ثابت لأجزائه ، لأنّه عينها ، فيلزم الحكم بعدم جواز بيع أجزائه كنفس العرصة ، لكون وقفها فكّا للملك. مع أنّ العلّامة وغيره حكموا بجواز بيع الجذع المنكسر ونحوه ، ولا بدّ من توجيه تجويزهم لمثله بأن يقال : بالفرق بين أرض المسجد وبين أجزاء البناء ، بمنع بيع الأرض ، وجواز بيع الأجزاء ، كما سيأتي.

(٣) وصف للجذوع ، والمسجد هو العرصة وبناؤها ، فالجذوع أجزاء للمسجد ،

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٩ ، ص ١١٧.

٦٠١

أجزاء البنيان. مع (١) أنّ المحكيّ (١) عن العلّامة وولده والشهيدين والمحقّق الثاني : جواز بيعه ، وإن اختلفوا (٢) في تقييد الحكم وإطلاقه كما سيجي‌ء (٣).

إلّا أنّه (٤) [أن] نلتزم بالفرق بين أرض المسجد ، فإنّ وقفها وجعلها مسجدا

______________________________________________________

فلا يجوز بيعها.

(١) متعلق ب «لا يجري» يعني : أنّ مقتضى القاعدة منع بيعها ، ولكن خالف العلامة وجماعة فيه ، وقالوا بجواز بيع الجذع المنكسر.

(٢) يعني : أنّ العلامة ومن تبعه اتفقوا في أصل جواز بيع الجذع المنكسر ، واختلفوا في إطلاقه وتقييده. فقال العلامة في الجذع المنكسر : «الأقرب بيعه وصرف ثمنه في مصالح المسجد» (٢) ووافقه فخر المحققين (٣).

وقيّد الشهيد قدس‌سره جواز البيع بما إذا لم يكن الانتفاع بعينه في مسجد آخر (٤).

وقيّده المحقق الثاني قدس‌سره بتعذر أن يشترى بثمنه بدله ، وفإن تعذّر شراء البدل صرف الثمن في مصالح المسجد (٥).

وقيّده الشهيد الثاني بما إذا لم يكن صرف العين في الوقود لمصالح المسجد كالآجر ، فلو أمكن لم يجز البيع (٦).

(٣) سيأتي أصل جواز بيعه في الصورة الثالثة في حكم النخلة المنقلعة ، ويستفاد من مفهوم قوله في (ص ٦٠٤) : «فبناء على ما تقدم من أنّ الوقف في المسجد وأضرابه فك ملك ، لم يجز بيعه».

(٤) كذا في نسختنا ، والأولى ما في بعض النسخ مجرّدا عن ضمير الشأن.

وكيف كان فهذا توجيه لفتوى الجماعة بجواز بيع مثل الجذع ولو في بعض

__________________

(١) حكاه عنهم في المقابس ، كتاب البيع ، ص ٦٣ ، وكذلك حكاه السيد العاملي عن العلامة والفخر والشهيد والمحقق الثاني ، في ج ٩ ، ص ١٢٧.

(٢) قواعد الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٠١ ، ونحوه في تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٤٤٣.

(٣) إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ٤٠٧.

(٤) الدروس الشرعية ، ج ٢ ، ص ٢٧٩ و ٢٨٠.

(٥) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٩٧ وج ٩ ، ص ١١٦.

(٦) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٧٠ ، الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٥٤.

٦٠٢

فكّ ملك ، بخلاف ما عداها من أجزاء البنيان كالأخشاب والأحجار ، فإنّها تصير ملكا للمسلمين (١) ، فتأمّل (٢).

وكيف كان (٣) ، فالحكم في أرض المسجد مع خروجها عن الانتفاع بها رأسا هو إبقاؤها (٤) مع التصرّف في منافعها ـ كما تقدّم عن بعض الأساطين ـ

______________________________________________________

الحالات ، وقد تقدم توضيحه آنفا.

(١) فيجوز للمتولّي بيعها.

(٢) لعلّه إشارة إلى إشكال التفكيك بين وقف الأرض وبين وقف البنيان مع وحدة إنشاء وقف الجميع بمثل : «وقفت هذا مسجدا» فإنّ صيغة الوقف ترد على مجموع العرصة والبنيان على نهج واحد.

(٣) يعني : سواء تمّ توجيه التفكيك بين المسجد وبين أجزائه بما تقدم من قوله : «إلّا ان نلتزم ..» أم لم يتم كما تأمّل فيه ، فالحكم .. إلخ ، وهذا صفوة الكلام في حكم الانتفاع بأرض المسجد وأجزائه ، ومحصله : أنّ أرض المسجد المنهدم إما أن ينتفع بها بإيجارها كما ذهب إليه الشيخ الكبير ، وإمّا أن تبقى على حالها بدون الانتفاع كما هو المختار.

وأمّا أجزاء المسجد ففيها صور ثلاث :

الاولى : أن يرى المتولّي والناظر المصلحة في صرف أعيان الأجزاء في نفس المسجد ، بأن يستفاد منها في إعمار البناء مرّة أخرى ، فيتعيّن ذلك ، لأنّ مقصود الواقف الانتفاع بالعين الموقوفة مهما أمكن ، والمفروض وجوب العمل بالوقف شرعا على حسب ما أوقفه. فإن توقف إبقاؤها على بذل مال صرف من مال المسجد إن كان له مال ، وإلّا فمن بيت المال ، وإلّا لم يجب على المتولّي صرف شي‌ء من أموال نفسه لإبقاء تلك الأجزاء.

الثانية : أن لا يرى المتولّي المصلحة في ردّ مثل الجذع المنكسر جزءا للمسجد ، وحينئذ فإن قلنا بجواز بيعها كما حكي عن العلّامة وجمع فلا كلام ، وإن قلنا بعدم الجواز ـ كما هو المختار ـ ففيه صورتان :

الأولى : القول بوجوب مراعاة الأقرب إلى مقصود الواقف ، فيجب صرفه في مصالح نفس هذا المسجد ، كإحراقه لطبخ آجره.

الثانية : القول بعدم وجوب مراعاة الأقرب إلى نظر الواقف ، ويجب حينئذ صرفه في سائر مصالح المسلمين.

(٤) أي : أنّ الإبقاء يكون تارة مع التصرف في منافع الأرض كما ذهب إليه

٦٠٣

أو بدونه (١).

وأمّا إجزاؤه ـ كجذوع سقفه وآجره من حائطه المنهدم ـ فمع (٢) المصلحة في صرف عينه (٣) فيه (٤) تعيّن ، لأنّ مقتضى وجوب إبقاء الوقوف وأجزائها [وإجرائها] على حسب (٥) ما يوقفها أهلها وجوب (٦) إبقائه جزءا للمسجد. لكن لا يجب صرف المال من المكلّف لمئونته (٧) ، بل يصرف من مال المسجد أو بيت المال.

وإن لم يكن (٨) مصلحة في ردّه جزءا للمسجد ، فبناء (٩) على ما تقدّم من أنّ الوقف في المسجد وأضرابه فكّ ملك ، لم يجز بيعه ، لفرض عدم الملك.

______________________________________________________

كاشف الغطاء ، ويكون اخرى بدون الانتفاع بأجرة الأرض ، لعدم الدليل على جواز الإجارة.

(١) أي : بدون التصرف في المنافع ، فتبقى العرصة على حالها إلى أن يبعث الله من يجدّد بناء المسجد.

(٢) جواب الشرط في «وأما أجزاؤه» وهذا إشارة إلى الصورة الأولى المتقدمة آنفا.

(٣) كذا في النسخ ، ولا بدّ من التأويل بإرجاع الضمير إلى «جزء» والأولى تأنيث الضمائر الآتية الراجعة إلى «أجزاء».

(٤) أي : تعيّن الانتفاع بذلك الجزء في نفس المسجد المنهدم حسب الفرض.

(٥) متعلق ب «إبقاء» وبناء على ما في بعض النسخ من «إجرائها» فالظرف متعلق به ، و «الإجراء» عطف تفسير للإبقاء.

(٦) خبر «أنّ مقتضى» وضمير «إبقائه» راجع إلى الجذع ونحوه ممّا كان جزءا للمسجد.

(٧) أي : لمئونة الإبقاء ، لأصالة براءة الذمة عن وجوب الصّرف.

(٨) معطوف على «فمع المصلحة» وضمير «ردّه» راجع إلى مثل الجذع ممّا كان جزءا للمسجد.

(٩) وبناء على ما حكي عن جماعة ـ كالعلّامة ومن تبعه ـ جاز بيعه ، ولا يبقى موضوع للصورتين الأخيرتين.

٦٠٤

وحينئذ (١) فإن قلنا بوجوب مراعاة الأقرب إلى مقصود الواقف فالأقرب تعيّن صرفه في مصالح ذلك (٢) ، كإحراقه لآجر المسجد (٣) ، ونحو ذلك كما عن الروضة (٤) ، وإلّا (٥) صرف في مسجد آخر كما في الدروس (١) ، وإلّا صرف في سائر مصالح المسلمين.

قيل (٦) بل لكلّ أحد حيازته وتملّكه.

______________________________________________________

(١) أي : وحين المنع من البيع ووجوب الانتفاع بعين الجذع ، فإن قلنا .. إلخ.

وهذا إشارة إلى الصورة الثانية من الصور الثلاث.

(٢) أي : ذلك المسجد المنهدم ، وقوله : «تعيّن» جواب الشرط في «فإن قلنا».

(٣) مقدمة لتشييد بناء المسجد مرة أخرى.

(٤) قال الشهيد الثاني قدس‌سره في الحصير البالي والجذع المنكسر ـ بحيث لا يمكن صرفهما بأعيانهما في الوقوف لمصالحه ، كآجر المسجد ـ «فيجوز بيعه حينئذ ، وصرفه في مصالحه ، إن لم يمكن الاعتياض عنه بوقف» (٢).

(٥) أي : وإن لم نقل بوجوب مراعاة ما هو أقرب إلى نظر الواقف وجب صرف مثل الجذع والآجر في المماثل إن احتاج مسجد آخر إليه. وإن لم يحتج مسجد إلى هذا الجذع المنكسر أصلا وجب صرفه في سائر مصالح المسلمين.

(٦) أفاده المحقق الشوشتري قدس‌سره ـ في حكم أجزاء الأوقاف العامة وآلاتها ـ بقوله : «وأمّا إذا بلغت حدّا لا ينتفع بها في تلك الجهة أصلا ، فالوجه أنّها تصرف في سائر القرب. بل لكلّ أحد من الموقوف عليهم حيازته وتملكه كأجزاء جلود الكتاب التي لا ينتفع بها في الجلد. وأجزاء الورق الساقطة بعد التصحيف .. وأجزاء الصناديق وشبابيك المشاهد المشرفة بعد الاستغناء عنها .. وذلك لأنّها قد جعلت لله سبحانه ، وإنّما يجب على أرباب الوقف الانتفاع بها في تلك الجهة الخاصة ، وعدم التعدّي عنها مع التمكن ،

__________________

(١) الدروس الشرعية ، ج ٢ ، ص ٢٨٠ ، والحاكي عنه وعن الروضة هو صاحب المقابس ، ص ٦٣

(٢) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٥٤

٦٠٥

وفيه نظر (١).

وقد الحق (٢) بالمساجد المشاهد والمقابر والخانات والمدارس والقناطر الموقوفة على الطريقة المعروفة ، والكتب الموقوفة على المشتغلين ، والعبد المحبوس في خدمة الكعبة ونحوها ، والأشجار الموقوفة لانتفاع المارّة ، والبواري الموضوعة لصلاة المصلّين ، وغير ذلك (٣) ممّا قصد بوقفه الانتفاع العامّ لجميع الناس أو للمسلمين (٤) ونحوهم من غير المحصورين ، لا لتحصيل (٥) المنافع بالإجارة ونحوها وصرفها في مصارفها كما في الحمّامات والدكاكين ونحوها (٦) ،

______________________________________________________

والفرض تعذر ذلك ، فجاز لهم الانتفاع بها مطلقا» (١).

(١) لعلّ وجه النظر أنّ الرجوع إلى الإباحة لا دليل عليه وإن قلنا ببطلان الوقف ، لقوّة احتمال صيرورته ملكا للواقف أو ورثته. ومعه فمقتضى أصالة الفساد عدم ترتب الملكية على الحيازة.

(٢) الملحق هو المحقق الشوشتري قدس‌سره ، والعبارة المنقولة في المتن تغاير ـ يسيرا ـ لما في المقابس ، وقد تقدم كلامه في (ص ٥٧٣).

والوجه في الإلحاق ـ مع عدم كون المنشأ في هذه الأمور فكّ الملك وتحريره هو جعلها من المباحات التي يجب إبقاؤها على حالها.

(٣) فكما لا يصحّ بيع أرض المسجد وإجارتها ، فكذا في ما الحق به. وحكم الأجزاء والآلات أيضا حكم أجزاء بناء المسجد وآلاته.

(٤) فمثل البواري للصلاة عليها موقوفة للمسلمين ، والأشجار الموقوفة لانتفاع المارّة ـ خصوصا في البلاد يكثر فيها أهل الذمة ـ موقوفة لانتفاع الناس سواء أكانوا مسلمين أم من أهل الكتاب.

(٥) فالفرق بين وقف المدارس والحمامات هو : أنّ المدرسة توقف للانتفاع بالسكنى فيها ، والحمّام يوقف ليؤجر ، وتصرف إجارتها في الجهة التي عيّنها الواقف ، ولذا يعبّر عنه في بعض الكلمات بالوقف الصرفي.

(٦) كالمخازن الموقوفة التي تستأجر لإيداع البضائع فيها.

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٦٤.

٦٠٦

لأنّ (١) جميع ذلك صار بالوقف كالمباحات بالأصل ، اللازم إبقاؤها على الإباحة كالطرق العامّة والأسواق (١).

وهذا كلّه (٢) حسن على تقدير كون الوقف فيها فكّ ملك ، لا تمليكا.

ولو أتلف (٣) شيئا من هذه الموقوفات أو أجزائها متلف ، ففي الضمان وجهان :

______________________________________________________

(١) هذا مضمون تعليل صاحب المقابس لإلحاق المشاهد ونحوها بالمساجد حكما.

(٢) أي : وهذا الإلحاق حسن بناء على كون معنى الوقف فيها فكّ الملك ، لا تمليك العين أو المنفعة للموقوف عليه ، وإنّما يملك الانتفاع. وربما يشعر قوله : «على تقدير» بعدم كون وقف الأمور المذكورة فكّ الملك ، فيكون مفاده التأمّل في إلحاق صاحب المقابس.

ولكنه ليس كذلك ، لما تقدم منه من التصريح بالتحرير ، كقوله في (ص ٥٤٠) : «بل هو في غير المساجد وشبهها قسم من التمليك» إذ ليس المراد بشبه المسجد إلّا المقابر والمشاهد ونحوهما.

وكذا قوله في (ص ٥٧٤) في أقسام الوقف : «بل يكون فك ملك نظير التحرير كما في المساجد والمدارس والرّبط بناء على القول بعدم دخولها في ملك المسلمين كما هو مذهب جماعة ، فان الموقوف عليهم إنما يملكون الانتفاع دون المنفعة».

(٣) عنون هذا الفرع صاحب المقابس قدس‌سره بعد إلحاق الأوقاف العامة على الجهات بالمساجد ، فقال : «ولو أتلفها متلف على غير جهة الانتفاع المعلومة أثم قطعا. وفي مطالبته بالقيمة أو المثل إشكال ، من أنّ ما يطلب بقيمة عينه يطلب بمنافعها. ومن المعلوم أنّه لو منع شخص الناس من الانتفاع إلى أن فاتت جملة من منافعها ، أو انتفع بها في غير الجهة الموضوعة له ـ كما لو جعل المسجد مسكنا له ـ أثم ، ولكن لم يطلب بها ، فكذا لو أتلف العين. ولعدم وضوح الدليل على الضمان إلّا في الأملاك المنسوبة إلى الناس ، وهذه صارت ملكا لله ، وإنّما للناس الانتفاع خاصة. ومن عموم : على اليد ما أخذت حتى تؤدّي. وتأدية المثل أو القيمة ـ مع تعذر الأصل ـ معدودة من التأدية» (٢).

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٦٣ و ٦٤.

(٢) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٦٤.

٦٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيح المطلب : أنّ الاعتداء على الوقف تارة يكون بإعدامه كهدم تمام بناء المسجد ، وجعله قاعا صفصفا ، وتغيير تراب أرضه ، وأعدادهما لإحداث بناء آخر ، أو للزرع فيها ، أو هدم بعض بيوت المسجد ، وإبقاء بعضها. وكذا الحال بالنسبة إلى الخان والمدرسة والقنطرة كلّا أو بعضا.

واخرى يكون بالتصرف فيه واستيفاء منفعته في غير الجهة المقصودة للواقف ، كما إذا سكن الظالم بنفسه في المدرسة ، أو أسكن عمّاله فيها بعد إخراج المشتغلين منها. وكذا الحال في التصرف العدواني على غيرها كالمسجد والخان والرباط.

وثالثة يكون بتفويت منافع الوقف ، كما إذا أغلق الظالم باب المسجد ، ومنع المؤمنين من الصلاة والعبادة فيه ، ولم ينتفع هو أيضا به. وكذا لو أخرج الطّلاب من المدرسة ولم يسكن أحدا فيها ، بل سدّ بابها.

ومحلّ البحث هنا في الضمان وعدمه هو الأوّل أي : إتلاف عين الموقوفة كلّا أو بعضا.

وأمّا الثاني ـ وهو استيفاء المنفعة ـ فقد تقدم في (ص ٥٧٥) حكمه ، وهو عدم الضمان ، حيث قال : «فإنّ الموقوف عليهم إنّما يملكون الانتفاع دون المنفعة ، فلو سكنه أحد بغير حقّ فالظاهر أنّه ليس عليه اجرة المثل».

ومنه يظهر عدم الضمان في الفرض الثالث ، وهو تفويت منفعة الموقوفة.

فالكلام فعلا في الإتلاف ، وفي الضمان احتمالان.

أحدهما : ذلك ، لعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» بتقريب : أنّ المناط في الضمان واشتغال الذمة هو كون اليد عدوانية ، والمال محترما ، وهما متحققان في المقام.

أما كون اليد معتدية ، فلعدم جواز تغيير الموقوفة عن الكيفية التي أنشأها الواقف ، وأمضاه الشارع بمثل قوله عليه‌السلام : «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» فضلا عن الهدم والإتلاف.

وأمّا كون المال محترما فواضح ، إذ ليس الوقف من المباحات الأصلية حتى لا يضمن ، بل هو أكثر حرمة من جهة تعلق حقّه تعالى به.

وعليه فعهدة المتلف مشغولة ببدل ما أتلفه ، ويجب عليه أداء قيمته ليصرف

٦٠٨

من (١) عموم «على اليد» فيجب صرف قيمته في بدله. ومن (٢) أنّ ما يطلب (٣) بقيمته يطلب بمنافعه ، والمفروض (٤) عدم المطالبة بأجرة منافع هذه لو استوفاها ظالم ، كما لو جعل المدرسة بيت المسكن ، أو محرزا (٥). وأنّ الظاهر (٦) من التأدية في حديث «اليد» الإيصال إلى المالك (٧) ، فيختصّ بأملاك الناس. والأوّل أحوط (٨) ،

______________________________________________________

في بدله.

ثانيهما : عدم الضمان ، وذلك لمقدمتين.

الاولى : عدم ضمان منافع الوقف العام المستوفاة.

الثانية : الملازمة بين العين والمنفعة في الضمان ، وحيث لا تضمن المنفعة مطلقا ـ استوفيت أو فاتت ـ فلا تضمن العين أيضا.

فإن قلت : حديث «على اليد» مثبت للضمان ، فتنتفي الملازمة بين العين والمنفعة.

قلت : لا موضوع للحديث في الوقف العام ، لاختصاص مفاده بضمان الأملاك ، أي وضع اليد على الأموال المضافة إلى الملّاك ، بقرينة وجوب أداء البدل إليهم. وحيث إنّ الوقف العام كالمسجد فكّ للملك ـ لا تمليك للمصلّين والعابدين ـ كان خارجا عن الحديث موضوعا.

هذا مبنى الوجهين. وقوّى صاحب المقابس الضمان ، وجعله المصنف أحوط.

(١) هذا وجه الضمان ، وقد تقدّم توضيحه آنفا.

(٢) هذا وجه عدم ضمان إتلاف الوقف العام ، وقد تقدم أيضا بقولنا : «ثانيهما : عدم الضمان .. إلخ».

(٣) هذا إشارة إلى الملازمة بين ضمان العين ومنافعها ، وهي المقدمة الثانية.

(٤) هذا إشارة إلى نفي الصغرى ، أي : عدم ضمان منافع الوقف لو استوفاها من لا يستحقّها.

(٥) المراد به مكان خزن الأموال والبضائع فيه.

(٦) هذا ردّ لما استدلّ به للضمان ، وقد تقدّم بقولنا : «فإن قلت .. قلت».

(٧) ولا مالك للعين الموقوفة حتى يؤدّى البدل إليه ، لتحرر هذه الأوقاف العامة عن الإضافة إلى مالك.

(٨) الوجه في كون الضمان أحوط هو احتمال كفاية إضافة مّا في الضمان ، وهذه

٦٠٩

وقوّاه بعض (١).

إذا عرفت جميع ما ذكرناه (٢) ، فاعلم أنّ الكلام في جواز بيع الوقف يقع في صور :

______________________________________________________

الإضافة متحققة في الوقف العام ، لثبوت حق الانتفاع للموقوف عليهم وإن لم يتملّكوا العين ومنافعها.

ولعلّه يمكن الاستشهاد لكفاية إباحة الانتفاع بما ورد من ضمان «من أضرّ بطريق المسلمين» مع عدم كونها ملكا لهم ، وإنّما يباح لهم الانتفاع بالاستطراق فيها. مضافا إلى السيرة القطعية على الضمان.

(١) وهو صاحب المقابس قدس‌سره ، حيث قال بعد بيان مستند الوجهين : «وهذا هو الأصحّ» (١).

صور جواز بيع الوقف

(٢)أي : ما ذكرناه من أوّل مسألة بيع الوقف إلى هنا ، ومحصّله أمور :

الأوّل : الاستدلال على منع البيع بالإجماع والنصوص.

الثاني : انقسام الوقف إلى مؤبّد ومؤقّت ، والمؤبّد إلى ما يكون فكّا للملك وتحريرا له كالمسجد وما الحق به ، وما يكون تمليكا للموقوف عليه ، وأنّ البحث في جواز بيعه بطروء الأسباب مختصّ بالوقف التمليكي ، لا التحريري.

الثالث : نقل كلمات الفقهاء ، وما يستفاد منها من أقوال ثلاثة.

فبعد الفراغ من حرمة بيع الوقف في الجملة تعرّض المصنف قدس‌سره للصور التي قيل بجواز البيع فيها ، وجمعها صاحب المقابس قدس‌سره في ثمان صور (٢) ، وجعلها في المتن عشرة.

واستفاد صاحب الجواهر قدس‌سره من أقوال الفقهاء اثني عشر أمرا ، وإن كان بعضها مختصّا بالوقف المنقطع ، فراجع (٣).

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٦٤.

(٢) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٤٣ ـ ٦٣.

(٣) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٣٦٦ و ٣٦٧.

٦١٠

الاولى : أن يخرب الوقف بحيث لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه (١) ،

______________________________________________________

الصورة الأولى : أن يخرب بحيث لا ينتفع به

(١) ينبغي بيان أمرين قبل توضيح المتن.

الأوّل : أنّ المصنف قدس‌سره خصّ البحث عمّا يتعلق بخراب الوقف في صور أربع من الصور العشر ، وهي الصور الثلاث الأول والصورة الثامنة ، إلّا أنّ المبحوث عنه في الثامنة هو الأداء إلى الخراب لا الخراب الفعلي ، بخلاف الصور الثلاث. والجامع بينها هو عدم الانتفاع أو ندرته بما يلحق بالمعدوم ، وذكر «الخراب» لمقدميته لسقوط الوقف عن قابلية الانتفاع به في الجهة المقصودة.

ويستفاد هذا من الكلمات المنقولة ، كقولهم : «متى حصل له الخراب بحيث لا يجدي نفعا جاز لمن هو وقف عليه بيعه والانتفاع به» (١).

وسيأتي كلام المصنف في الصورة الثانية من أنّ المناط هو عدم النفع حتى لو كان لعارض غير الخراب.

وقال في المقابس : «الصورة الرابعة : أن يباع بعد خرابه ، وما في حكم ذلك ، بأن يصير بحيث لا يجدي نفعا» (٢).

وحيث كان الخراب الفعلي مشتركا بين الصور الثلاث الأول ، فنقول في الفرق بينها : إنّ العين إمّا أن تسقط عن قابلية الانتفاع المقصود كلية ، كما إذا نحرت الناقة الموقوفة ، فلم يبق موضوع للانتفاع منها بالركوب ونحوه ، فالباقي هو اللحم ، والانتفاع بإعدامه بالأكل أو ببيعه ، وإلّا فيفسد وينتن ، فتنتفي قابلية الأكل أيضا. وهذا مورد الكلام في الصورة الاولى.

وإمّا أن تسقط العين عن مقدار معتدّ به من المنفعة ، فما بقي منها كالمعدوم عرفا

__________________

(١) هذا نصّ كلام السيد في الانتصار ، كما تقدم في (ص ٥٦٠) وبمضمونه كلمات جماعة ، فراجع الأقوال المنقولة في المتن ، في ص ٥٥٨ ـ ٥٧٠.

(٢) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٦٢.

٦١١

كالحيوان المذبوح (١) ، والجذع البالي ، والحصير الخلق.

______________________________________________________

لا بالدقة ، مع استعداد البقاء كالدار المنهدمة التي يقلّ الانتفاع بعرصتها. وهذا مورد الصورة الثانية ، وسيأتي فيها التفصيل بين فرضين.

وإمّا أن يكون خراب الوقف بحيث تقلّ منفعته بالنسبة إلى ما كانت عليه قبل عروض الخراب. فما بقي من المنفعة لم يكن في القلّة كالمعدوم ليلحق بالصورة الثانية ، ولم يكن مسلوبا بالمرّة ليلحق بالصورة الأولى.

الأمر الثاني : أنّ سقوط العين عن قابلية الانتفاع ـ في الصورة الأولى ـ يراد به تعذر انتفاع البطون اللاحقة لو ترك الوقف بحاله ، كما مثّل له بالحيوان المذبوح ، فإنّه على شرف الضياع لو لم يبع ، لا سقوطها عن إمكان الانتفاع حتى بالنسبة إلى البطن الموجود ، إذ معه لا مالية لها ، مع أنّ البيع مبادلة مال بمال. فالمراد صيرورة الوقف بحيث لو جاز للبطن الموجود الانتفاع بالعين لكان ذلك بإتلافها.

والشاهد على أن المراد بالخراب هنا ـ بحيث لو انتفع البطن الموجود كان بإتلاف العين ـ هو قوله بعد أسطر : «والحاصل : أنّ الأمر دائر بين تعطيله حتى يتلف بنفسه ، وبين انتفاع البطن الموجود به بالإتلاف ..».

إذا تمهّد هذان الأمران ، فنقول : إنّ المصنف قدس‌سره استدلّ في الصورة الأولى أوّلا على جواز البيع ، وثانيا لما يترتّب عليه من أمور :

منها : حكم الثمن من جهة اختصاصه بالبطن الموجود ، وعدمه.

ومنها : توقف وقفية الثمن على إنشاء الوقف ، وعدمه.

ومنها : وجوب إبدال الثمن بما هو أصلح للبطون.

ومنها : في المتولّي لبيع الموقوفة الخربة.

ومنها : ما لو تعذّر شراء بدل العين. وتعرّض في آخر المسألة لحكم ما لو خرب بعض الوقف ، وبقي بعضه. وسيأتي الكلام في كلّ منها بتبع المتن.

(١) كالناضح الموقوف على المسجد إذا اقتضت المصلحة نحره ، أو الشاة الموقوفة عليه أيضا إذا ذبحت ، بحيث لو لم ينتفع البطن الموجود بلحم الحيوان ببيعه مثلا ، خرج عن

٦١٢

والأقوى جواز بيعه (١) ، وفاقا لمن عرفت ممّن تقدّم نقل كلماتهم (٢) ،

______________________________________________________

حيّز الانتفاع به حقيقة. وكذا الحال في الجذع البالي والحصير الخلق.

(١) هذا شروع في إقامة الدليل على الخروج من عموم منع بيع الوقف ، وقد تقدم أنّ جواز بيع الوقف بنظر المصنف قدس‌سره حكم تعبّدي لا ينافي حقيقته ، ولا يوجب بطلانه. وتقدّم أيضا في جملة الأقوال المنقولة في المتن استثناء صورة خرابه من عموم المنع ، فالقول بجواز البيع في هذه الصورة لا يخالف المشهور ، وإن حكي المنع عن جماعة ، قال في المقابس في عدّ الأقوال : «أحدها : المنع مطلقا ، وهو قول المانعين مطلقا ، والقاضي والشيخ في النهاية وابن سعيد والطوسي» (١).

وأمّا الدليل على جواز البيع ، فالظاهر عدم نهوض ما يجوّزه في خصوص حال الخراب ، فالمقصود النظر في ما تقتضيه القاعدة ، فنقول : اقتصر في المتن هنا على نفي المانع ، أي : قصور ما احتجّوا به على عدم جواز بيع الوقف. وسيأتي تفصيله.

وحيث إنّ إثبات جواز البيع منوط بوجود المقتضي وفقد المانع ، فلا بدّ من بيان المقتضي أوّلا ، ثم إبطال وجوه المنع. ولم يظهر مراد الماتن قدس‌سره من المقتضي لجواز البيع ، وهو لا يخلو من أحد وجهين.

الأوّل : أن يكون مراده هو المقتضي في كلّ من مقام الثبوت والإثبات. أمّا المقتضي الثبوتي فهو الملك ، لفرض كون العين الموقوفة ملكا للموقوف عليهم ، فصغرى «لا بيع إلّا في ملك» محقّقة. وأمّا المقتضي الإثباتي فهو إطلاق حلّ البيع ، والأمر بالوفاء بالعقود ، والتجارة عن تراض.

الثاني : أن يكون مراده خصوص المقتضي الثبوتي ، وهو ما سيأتي في (ص ٦١٩) بقوله : «والحاصل : أن الأمر دائر بين تعطيله .. إلخ».

وكيف كان فالمقصود فعلا عدم شمول الأدلة المانعة ـ وهي ثلاثة ـ للمقام ، كما سيظهر.

(٢) كالمفيد والسيّد والعلّامة في التذكرة قدس‌سرهم ، حيث عبّروا بالخراب ، وكسلّار القائل بأنّه «لو تغيّر الحال في الوقف حتى لا ينتفع به» وكالسيّد أبي المكارم المجوّز للبيع

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٦٢.

٦١٣

لعدم جريان أدلّة المنع.

أمّا الإجماع فواضح (١).

وأمّا قوله عليه‌السلام : «لا يجوز شراء الوقف» (١) فلانصرافه إلى غير هذه الحالة (٢) (*).

______________________________________________________

في لو ما «صار بحيث لا يجدي نفعا» وغيرهم ، فراجع (ص ٥٦١ ـ ٥٦٣ ـ ٥٦٦).

(١) أمّا أوّلا ، فلمنع تحققه على عدم جواز بيع الوقف مطلقا ، مع ذهاب معظم المجمعين إلى جواز بيعه عند الخراب وسلب المنفعة ، وقد تقدمت كلماتهم.

ولا أقلّ من الشك في شمول الإجماع لما إذا خرب الوقف. وحيث إنّه دليل لبّي فالمتعين الاقتصار على المتيقن من مورده ، وهو ما عدا صورة الخراب.

وأمّا ثانيا ، فلاحتمال كونه مدركيا ، فلا عبرة به حينئذ ، لعدم كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام ولا عن دليل معتبر.

(٢) يعني : أنّ النهي عن بيع الوقف في رواية علي بن راشد وإن كان إطلاقه شاملا لما إذا خربت الموقوفة ، إلّا أنّه ينصرف إلى ما ينتفع به البطن الموجود فعلا ، وما يكون قابلا لانتفاع البطن اللاحق. فصيرورته مسلوب المنفعة غير مندرج في منع بيع الوقف.

وقد سبق التنبيه على هذا الانصراف في (ص ٥٢٠) بقوله : «ان هذا الإطلاق نظير الإطلاق المتقدم في رواية ابن راشد في انصرافه إلى البيع لا لعذر» وعدّ من موارد العذر عدم الانتفاع به أصلا ، فراجع.

فإن قلت : لا وجه للانصراف في رواية ابن راشد ، لكون السؤال عن حكم أرض

__________________

(*) لكنّه ليس بمثابة تطمئنّ به النفس ويقيّد الإطلاق ، لعدم كون غلبة الوجود خارجا صارفا للطبيعة إلى فردها الغالب ، وهو الوقف العامر ، ما لم توجب الغلبة التشكيك في الصدق. بل يمكن منع ندرة الوجود هنا ، فإنّ كل عين موقوفة مآلها إلى البوار والخراب عادة ، فليست حالة الخراب قليلة بالقياس إلى حالة العمران.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٠٣ ، الباب ٦ من أبواب الوقوف ، ح ١٠.

٦١٤

وأمّا قوله عليه‌السلام : «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (١) فلا يدلّ (١) على

______________________________________________________

خربة عمّرها المشتري جاهلا بالحال. فالالتزام بجواز بيع الوقف بطروء الخراب ينافي النهي عن الشراء بالنسبة إلى مورد السؤال.

وبعبارة أخرى : لو كان قوله عليه‌السلام : «لا يجوز شراء الوقف» غير مسبوق بالسؤال اتّجه انصراف النهي إلى صورة وجود المنفعة فعلا ، وخروج مورد عدم انتفاع الموقوف عليهم عن إطلاق النهي. لكنّ سبق السؤال ـ وموافقة الجواب له ـ يمنع الانصراف المزبور.

وعليه فالحكم بمنع شراء الوقف إمّا مختص بمورد السؤال وهو الأرض الميتة ، وإمّا هو حكم طبيعي الوقف ، سواء أكان ذا منفعة فعلا أم مسلوب المنفعة كذلك.

قلت : نعم ، وإن كان النهي عن شراء الوقف واردا في الأرض الميتة ، إلّا أنّ المقصود الاستدلال بإطلاق النهي ، والمدّعى الانصراف عمّا إذا سقط عن قابلية الانتفاع رأسا ، وذلك لأنّ غرض الواقف بقاء الموقوفة لتكون صدقة جارية ينتفع بها الموقوف عليه أبدا ، ويمتاز الوقف عن أقسام التصدق بالدوام ، فلا بد من قابلية البقاء ليترتب عليه حكم الوقف ، والمفروض في الصورة الأولى سقوط العين عن الانتفاع.

وعليه فلا مانع من انصراف إطلاق النهي إلى ما إذا كانت المنفعة موجودة بالفعل كالأرض المشغولة بالزرع ، أو أمكن الانتفاع بها كالأرض البائرة فعلا مع إمكان الزرع فيها ، كما هو مورد السؤال. فلو لم تكن مزروعة بالفعل ولم تصلح للزرع ـ كما إذا انقطع الماء عنها ـ فهي ميتة ، ويلحقها حكمها ، هذا.

والحاصل : أنّ النهي عن شراء الوقف ليس مطلقا ، بل ما دام الانتفاع به ممكنا ، والمفروض انتفاء الثمرة رأسا ، فشمول النهي له حينئذ لا يخلو من قصور.

(١) ناقش المصنف قدس‌سره في دلالة مكاتبة الصفار على منع بيع الوقف ـ الساقط عن قابلية الانتفاع به ـ بوجهين :

الأوّل : أنّ قوله عليه الصلاة والسلام : «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» ليس دليلا تعبديا على منع بيع الوقف كي يتمسّك بإطلاقه لحرمة بيعه حتى في مورد سلب المنفعة تماما ، بل هذا الحديث ـ بملاحظة سبق السؤال عن خصوصيات مأخوذة في إنشاء

__________________

(١) تقدمت مصادر الحديث وألفاظه في ص ٥١٠ ، فراجع.

٦١٥

المنع هنا (١) ، لأنّه (٢) مسوق لبيان وجوب مراعاة الكيفيّة المرسومة في إنشاء الوقف ، وليس منها (٣) عدم بيعه ، بل (٤) عدم جواز البيع من أحكام الوقف وإن ذكر في متن العقد ، للاتفاق (٥) على أنّه (٦) لا فرق بين ذكره فيه (٧) وتركه ، وقد تقدّم ذلك (٨) ،

______________________________________________________

الواقفين ـ ناظر إلى إمضاء الوقف على حسب ما رسمه الواقف ، من تعيين الموقوف عليهم عموما وخصوصا ، وكيفية صرف المنفعة فيهم ، وغير ذلك مما قرّره من قيود وشروط. ومن المعلوم أنّ عدم جواز بيع الوقف حكم تعبدي سواء ذكر في الإنشاء ، كما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام : «صدقة لا تباع ولا توهب» أم لم يذكر ، كما لو اقتصر الواقف على قوله : «هذه الدار وقف على أولادي بطنا بعد بطن ، فإن انقرضوا كانت للفقراء مثلا».

وعليه فالإستدلال بإطلاق الحديث الشريف على حرمة بيع الوقف حتى لو سقط عن الانتفاع به ، غير ظاهر ، لعدم كونه متكفّلا لحكم منع أصل البيع فضلا عن إطلاقه لمورد الخراب. هذا توضيح أوّل الوجهين ، وسيأتي الوجه الثاني.

(١) أي : في الصورة الاولى ، وهي خراب الوقف بحيث لا ينتفع بعينه إلّا بالإتلاف أو البيع.

(٢) أي : لأنّ قوله عليه‌السلام : «الوقوف ..» غير ناظر إلى منع بيع الوقف حتى يتشبث بإطلاقه للمقام ، بل هو مسوق لإمضاء ما رسمه الواقف.

(٣) أي : وليس من الكيفية المرسومة عدم بيعه ، ضرورة عدم الفرق في كون منع البيع حكما شرعيا ـ لا مقوّما للوقف ـ بين أخذه في الإنشاء وعدمه.

(٤) ظاهره العطف على قوله : «وليس منها عدم بيعه» وغرضه إثبات أنّ منع بيع الوقف وإن كان مسلّما ، لكنه ليس لأجل لحاظه في الإنشاء ، بل لأجل استفادته من أدلة أخرى حتى لو لم يصرّح الواقف به.

(٥) تعليل لكون منع البيع حكما تعبديا ولا ربط له بجعل الواقف.

(٦) الضمير للشأن ، ويمكن رجوعه إلى عدم البيع.

(٧) أي : في متن العقد ، وضميرا «ذكره ، تركه» راجعان إلى عدم البيع.

(٨) أي : تقدّم في (ص ٥٣٩) كون عدم جواز البيع من أحكام الوقف ، حيث قال في مناقشة الجواهر : «إنّ المنع عن البيع ليس مأخوذا في مفهومه».

٦١٦

وتضعيف (١) قول من قال ببطلان العقد إذا حكم بجواز بيعه (*).

ولو سلّم (٢) أنّ المأخوذ في الوقف إبقاء العين ، فإنّما (٣) هو مأخوذ فيه من حيث كون المقصود انتفاع البطون به (٤) مع بقاء العين ، والمفروض (٥) تعذّره هنا.

______________________________________________________

(١) معطوف على «ذلك» أي : تقدّم تضعيف قول كاشف الغطاء وصاحب الجواهر قدس‌سرهما من منافاة جواز بيع الوقف لماهيته وحقيقته ، حيث قال في (ص ٥٣٨) : «وإن أريد به انتفاء أصل الوقف ـ كما هو ظاهر كلامه ـ حيث جعل المنع من البيع من مقوّمات مفهوم الوقف ، ففيه ..».

(٢) هذا ثاني وجهي المناقشة في المكاتبة ، وتوضيحه : أنّه لو أغمض عن كون منع بيع الوقف حكما تعبديا ـ والتزم بكونه ملحوظا للواقف في مقام الإنشاء ، لأنّ غرضه من حبس الأصل وتسبيل المنفعة إبقاء العين على حالها ، بحيث لا تنتقل من الموقوف عليهم إلى الغير ، والمفروض إمضاء الشارع له ـ قلنا في جوابه : إنّ اعتبار بقاء العين في متن العقد لا يمنع من بيع الوقف لو صار مسلوب المنفعة ، لكون مقصود الواقف انتفاع البطون بالعين ، فمع سقوطها عن قابلية الانتفاع بها لا غرض له في إبقائها. وعليه فلا مانع من بيعها من جهة رعاية نظر الواقف وشرطه في الإنشاء.

(٣) جواب «لو سلّم» وضمير «هو» راجع الى إبقاء العين.

(٤) هذا الضمير وضمير «فيه» راجعان إلى الوقف.

(٥) يعني : ومفروض كلامنا في الصورة الاولى هو تعذّر انتفاع البطون اللّاحقة بالعين الموقوفة ، كالحيوان المذبوح.

__________________

(١) لا يخفى منافاة كلامه هنا لما سبق في أوّل المسألة من الاستدلال بالمكاتبة على عدم جواز بيع الوقف كما نبّه عليها جلّهم ، سواء أكان المنع مدلولا مطابقيا للحديث بجعل الوقف متقوما بالمنع عن البيع ، وهو الّذي نفاه هنا ، لكون حرمة التصرفات الناقلة من الأحكام الشرعية لا مقوّما لحقيقته. أم مدلولا التزاميّا له ، بجعل إبقاء العين على حالها لازما لحبس العين وتسبيل المنفعة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهو ـ كما أفيد ـ مبنى الاستدلال به في صدر المسألة ، لامتياز الوقف ـ عمّا عداه من التصدق ـ بكونه صدقة جارية.

٦١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد يوجّه التنافي المزبور بما في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره من : أنّ كلام المصنف قدس‌سره هنا متضمن لوجهين :

أحدهما : ما أفاده بقوله : «لأنّه مسوق لبيان وجوب مراعاة الكيفية المرسومة في إنشاء الوقف ، وليس منها عدم بيعه» بأن يراد من الجملة الأخيرة أنّ عدم بيعه في حال الخراب ـ بحيث لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ـ ليس من الكيفية المرسومة في إنشاء الوقف ، فلا مانع من ناحية إنشاء الواقف من البيع في حال الخراب. وهذا لا ينافي كون عدم جواز بيعه ـ مع قابلية الانتفاع به ـ مرسوما في العقد.

ثانيهما : ما أفاده بقوله «بل عدم جواز البيع من أحكام الوقف» إذ مقصوده من الإضراب والترقي أنّ أخذ عدم البيع غير دخيل أصلا في المنع ، لكونه حكما تعبديا.

ولا يخفى أن المنافي لما في صدر المسألة هو هذا الوجه الثاني دون الأوّل ، فإنّ مبنى الاستدلال بالحديث على عدم جواز البيع هو أخذه في أصل الوقف وموضوعه ، وإن كان على خلاف مذهب المصنف ، فتأمّل (١).

لكن يمكن أن يقال : إنّ حمل العبارة على إفادة وجهين خلاف الظاهر ، لظهور كلمة «بل» في كون ما بعدها تتمة لما سبقها ، لا أنّها وجه آخر. خصوصا بملاحظة أنّ حمل قول المصنف «وليس منها عدم بيعه» على «عدم بيعه في حال الخراب» ربما ينافي ما سيأتي في الوجه الثاني من قوله : «ولو سلّم أنّ المأخوذ في الوقف إبقاء العين» لظهوره في ابتناء الوجه الأوّل على عدم أخذ بقاء العين في الوقف. ومعه يشكل حمله على أخذ عدم البيع في الصيغة إلّا في حال الخراب. ولعلّ أمره قدس‌سره بالتأمل إشارة إلى ما ذكرناه.

ويشكل كلام المصنف قدس‌سره هنا بأنّ الحديث لو كان إمضاء لما يرسمه الواقف كان مقتضى الإطلاق الحكم بعدم جواز البيع المدلول عليه مطابقة أو التزاما ، ولا موجب لاختصاص الإمضاء بما عدا المنع عن البيع ، هذا.

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٤٥٠.

٦١٨

والحاصل (١) أنّ جواز بيعه هنا (٢) غير مناف لما قصده الواقف في وقفه (٣) ، فهو ملك للبطون (٤) يجوز لهم البيع إذا اجتمع إذن البطن الموجود مع أولياء سائر البطون ، وهو الحاكم ، أو المتولّي (٥).

والحاصل (٦) أنّ الأمر دائر بين تعطيله حتّى يتلف بنفسه ، وبين انتفاع البطن

______________________________________________________

(١) هذا حاصل ما أفاده بقوله : «ولو سلّم» وتوضيحه : أنّ قوله عليه‌السلام : «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» لمّا كان مسوقا لإمضاء ما قرّره الواقف ، وليس ناظرا إلى تأسيس حكم تعبدي كمنع البيع ، وكان غرض الواقف من تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة دوام المنفعة ، ولم يتعلق قصده ببقاء العين التي انقطعت ثمرتها ، فلا مانع من هذه الجهة عن البيع ، إذا تصدّاه المالك ، وهو صنفان : أحدهما : البطن الموجود المالك للموقوفة فعلا ، وثانيهما : البطون اللاحقة المالكة شأنا حسب ما عيّنه الواقف من جعل العين ملكا للبطون بترتيب خاص ، والوليّ عليهم إمّا المتولّي للوقف إن كان ، وإمّا الحاكم الشرعي.

وقد تحصّل إلى هنا : انتفاء المانع عن بيع الوقف في صورة الخراب.

(٢) أي : في الصورة الاولى ، وهي سقوط العين عن حيّز الانتفاع كالحيوان المذبوح.

(٣) حتى يقال بلزوم رعاية الكيفية المرسومة في الوقف ، وعدم جواز بيعه.

والوجه في عدم المنافاة ما تقدم من أن الواقف لم يقصد حبس العين حتى حال خرابها ، ولا إطلاق لإنشائه لهذه الحالة.

(٤) أي : أعم من البطن الموجود والبطون المعدومة ، فالوقف كسائر الأملاك المشتركة يبيعه الملّاك بأنفسهم أو أولياؤهم ، أو الجميع كما في المقام.

(٥) كما سيأتي تفصيله في (ص ٦٦١) بقوله : «ثم إن المتولّي للبيع هو البطن الموجود بضميمة الحاكم ..».

(٦) هذا الحاصل كما نبّه عليه غير واحد ـ منهم المحقّقان الأصفهاني (١)

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٢٦٤.

٦١٩

الموجود به بالإتلاف ، وبين تبديله بما يبقى وينتفع به الكلّ.

______________________________________________________

والإيرواني (١) قدس‌سرهما ـ ليس متحصّلا من كلامه السابق ، لكون ما تقدم متمحّضا في دفع الموانع عن جواز بيع الوقف إذا خرب. مع أنّ المذكور بقوله : «والحاصل» إثبات للمقتضي لجواز البيع أو للزومه.

نعم قال المحقق الايرواني : «إلّا أن يكون غرضه التمسك بعموم أدلة المعاملات ، مثل : أوفوا ، و : أحلّ ، بدفع مزاحماتها» فتأمّل في العبارة حقّه.

وكيف كان فتوضيح ما أفاده قدس‌سره : أنّ المقتضي لجواز البيع ـ من جهة غرض الواقف عند عروض ما يسقطه عن الانتفاع ـ موجود ، وذلك لدوران أمر الوقف بين شقوق ثلاثة :

أوّلها : إبقاؤه معطّلا حتى يتلف بنفسه ، كعدم الانتفاع بلحم الحيوان المذبوح حتى ينتن ، وكترك الحصير الخلق حتى يتلاشى ، وهكذا.

ثانيها : الحكم بجواز انتفاع البطن الموجود به بإتلافه ، كأكل لحم الحيوان المذبوح ، وجعل الحصير والجذع البالي وقودا.

ثالثها : الحكم بجواز البيع وتبديله بما يبقى لينتفع به الكلّ ، سواء البطن الموجود والبطون المتأخرة.

أمّا الشق الأوّل فبطلانه واضح ، لأنّ تعطيل الوقف حتى يتلف تضييع للمال الذي تعلّق به حقوق ثلاثة ، وهي حقّه تبارك وتعالى ، لنهيه عن فساد المال والإسراف والتبذير. وحقّ الموقوف عليه بالانتفاع المادّي ، وحقّ الواقف بأن يثاب معنويّا.

وأمّا الثاني ـ وهو اختصاص البطن الموجود بجواز الانتفاع به وإتلافه ـ فممنوع أيضا ، لأنّه وإن كان مالكا بالفعل له ، إلّا أنّ المنشأ هو الملك الترتيبي لكافّة الطبقات ، فلها حقّ في العين ، ومن المعلوم منافاة جواز الإتلاف لذلك الحقّ. ولو جاز للبطن الموجود إتلافه لجاز بيعه وصرف ثمنه ، لاشتراك البيع والإتلاف في حرمان البطون المتأخرة من الوقف.

وأمّا الثالث ـ وهو جواز تبديله بالبيع ـ فهو المتعيّن ، لما فيه من مراعاة الحقوق الثلاثة ، لينتفع كافة البطون ، فإنّ الواقف وإن قصد حبس العين دائما ، ولذلك قد يقترن

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٧٤.

٦٢٠