هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٦

مع احتمال (١) علم الإمام عليه‌السلام بعدم طروء هذه الأمور المبيحة (٢). وحينئذ (٣) يصحّ أن يستغني بذلك عن التقييد ، على (٤) تقدير كون الصفة شرطا. بخلاف

______________________________________________________

(١) هذا ثالث وجوه المناقشة ، وغرضه أنّه يمكن ترجيح الإطلاق ، وكون القيد قيدا للشخص ، وعدم لزوم مخالفة الإطلاق للمشروع حتى يقال بفساد الشرط ، بل ومفسديّته.

وبيانه : أنّه من المحتمل بقاء الصدقة المزبورة على حالها ، وعدم طروء مسوّغ عليها يجوّز بيعها ، مع علم الامام عليه‌السلام بذلك ، لعلمه الواسع ـ بإذن الله ـ بما كان وبما يكون إلى يوم القيامة ، فمن جهة علمه عليه‌السلام بالغيب لم يقيّد عدم بيع هذه الدار الموقوفة بعدم عروض مجوّز البيع.

وعليه فإطلاق عدم جواز البيع حينئذ لا محذور فيه ، لعدم كونه مخالفا للمشروع. بخلاف ما إذا كان قيدا للنوع ، فإنّ مجرد العلم بعدم طروء مسوّغ البيع في شخص هذا الوقف لا يصحّح الإطلاق ، لكون حكم نوع الوقف جواز بيعه بطروء المجوّز له ، هذا (*).

(٢) أي : المبيحة لبيع الوقف ، كالخراب وندرة المنفعة ، وتشاجر الموقوف عليهم ، ونحوها.

(٣) أي : وحين احتملنا اتّكاله عليه‌السلام ـ في إبقاء «لا تباع» على إطلاقه ـ على علمه بعدم عروض ما يبيح بيع الدار الواقعة في بني زريق ، صحّ أن يستغني الإمام بذلك العلم عن التقييد.

(٤) متعلق ب «يصح» أي : صحة الاستغناء عن التقييد بناء على كون «لا تباع» خارجا عن حقيقة الوقف ، ومأخوذا في شخص هذا الإنشاء من باب الشرط الذي هو التزام ضمن التزام آخر.

__________________

(*) أقول : بل الإطلاق في صورة كون الشرط قيدا للشخص مع العلم بعدم طروء المسوّغ للبيع غير متجه أيضا ، لأنّ الإطلاق عبارة عن عدم القيد. فالمعنى حينئذ يصير هكذا : لا يجوز بيع هذا الوقف مطلقا أي سواء عرض مسوغ للبيع أم لا ، ومن المعلوم عدم صحة هذا المعنى. نعم بناء على كون الإطلاق هو الدوام والاستمرار لا بأس به.

٥٢١

ما لو جعل (١) وصفا داخلا في النوع ، فإنّ (٢) العلم بعدم طروء مسوّغات البيع في الشخص لا يغني عن تقييد إطلاق الوصف في النوع ، كما لا يخفى.

فظهر (٣) أنّ التمسّك بإطلاق المنع عن البيع على (٤) كون الوصف داخلا في أصل الوقف ـ كما صدر عن بعض من عاصرناه ـ لا يخلو (٥) عن نظر. وإن كان (٦) الإنصاف ما ذكرنا : من ظهور سياق (٧) الأوصاف في كونها أوصافا للنوع (*).

______________________________________________________

(١) أي : جعل الوصف وصفا مميّزا للوقف عمّا عداه من الصدقات ، فإنّه لا يصحّ الاستغناء عن التقييد.

(٢) تعليل ل «لا يصحّ» المستفاد من قوله : «بخلاف ما لو جعل ..» يعني : لو كان عليه‌السلام في مقام بيان حكم الأوقاف من حرمة بيعها وشرائها ، كان المناسب أن يجعل بطلان البيع مختصا بما إذا لم يتحقق المسوّغ ، ولم يكن علمه عليه‌السلام بعدم طروئه في وقف خصوص الدار المعيّنة كافيا في بيان الحكم بنحو الإطلاق.

(٣) هذا نتيجة ما أفاده بقوله : «الا أن يقال» من وجوه الخدشة في الوجه الثالث المتقدم عن صاحب المقابس ، وهو ما ذكره المصنف بقوله : «مع أنه لو جاز البيع في بعض الأحيان ..». فغرضه قدس‌سره الاعتماد على الوجهين الأوّلين في تثبيت كون عدم بيع الوقف فصلا مقوّما لطبيعي الوقف ، لا أمرا خارجا عنه مأخوذا شرطا في خصوص إنشائه عليه‌السلام.

(٤) متعلق ب «التمسك» والمراد بالدخول في أصل الوقف هو الفصل المنوّع كما عبّر به قبل أسطر بقوله : «كون الصفة فصلا للنوع».

(٥) خبر قوله : «انّ التمسك» والمراد بالبعض كما عرفت هو المحقق الشوشتري في مقابسه.

(٦) استدراك على قوله : «ان التمسك لا يخلو عن نظر» يعني : أنّ الإنصاف صحة المدّعى ، لكن لا من ناحية الإطلاق ، بل لظهور سياق الأوصاف.

(٧) هذه الكلمة قرينة على أن مراده من قوله في (ص ٥١٥) : «فإن الظاهر من الوصف» هو الظهور الإطلاقي الناشئ من سوق الإنشاء.

__________________

(١) وأمّا الوجه الثاني ـ وهو اقتضاء سياق الاشتراط تأخر الشرط عن الموقوف.

٥٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه ـ فيمكن منعه ، بقرينة ورود الوصف بعد ذكر الموقوف عليه مع كونه مقوّما لطبيعي الوقف لا للشخص ، ففي رواية أيوب بن عطية عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حكاية وقف أمير المؤمنين «عليه أفضل صلوات المصلّين» لعين ينبع : «هي صدقة بتّا بتلا في حجيج بيت الله وعابر سبيله لا تباع ولا توهب ولا تورث» (١) الحديث. حيث إنّ ذكر وصف عدم كونها مبيعة ولا موروثة متأخر عن الموقوف عليهم ، مع أنه ليس شرطا بمعنى الالتزام الخارج عن حقيقة الوقف.

وعليه فسبق الوصف على الموقوف عليه لا يقتضي التنويع ، كما أنّ تأخيره عنه لا يساوق الاشتراط.

فالمهمّ في جعل الوصف دخيلا في النوع هو الوجه الأوّل أعني به ظهور التوصيف.

نعم تعبير المصنف قدس‌سره تارة «بأنّ الصفة فصل للنوع» ، واخرى بأنّ «المنع من البيع تعبد شرعي خارج عن حقيقته» لا يخلو من تهافت ، لوضوح كون الفصل مقوّما لماهية المتفصّل ، بخلاف التعبد الشرعي الذي هو حكم محمول على موضوع محقّق.

وقد يوجّه بأنّ المراد بوصف النوع هو الخارج عن حقيقة الوقف ، ولكنه لازم لها ، ويصحّ الترديد بين كون وصف عدم المبيعية لازما للوقف ، وأنّ المتسبّب إليه بإنشاء الوقف هو حصة من طبيعي التمليك الملزوم شرعا للمنع عن أنحاء الانتقالات ، وبين كونه شرطا التزم به الواقف في ضمن عقد التصدق بماله على البطون. وعلى هذا ينبغي حمل كلام المصنف لدفع التنافي. هذا ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره (٢).

فإن أمكن حمل صريح المتن من «فصل النوع» على الخارج الملازم كالعرض الخاصّ فهو. وإلّا فالتهافت بين التعبيرين باق ، كما هو الظاهر. وليس أحد الكلامين مجملا حتى يمكن رفع إجماله بقرينة غيره ، بل كل منهما ظاهر ـ أو صريح ـ في مؤداه ، وبه يشكل الأمر.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٠٣ ، الباب ٦ من أبواب أحكام الوقوف ، ح ٢.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٢٥٤.

٥٢٣

وممّا (١) ذكرنا ظهر : أنّ المانع عن بيع الوقف أمور ثلاثة :

______________________________________________________

(١) الظاهر أنّ المراد بالموصول رواية ربعي الحاكية لوقف أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين ، وإلّا لم يتقدم من المصنف قدس‌سره سوى عدم جواز بيع الوقف ، ولم يذكر منشأ هذا المنع ، وأنه تعلّق حقّ الله تعالى وحقّ الآدمي بالعين الموقوفة.

وعلى كلّ فيستفاد الحقوق الثلاثة المذكورة في المتن من رواية ربعي.

أمّا حق الواقف فلأنّه عليه‌السلام جعل ماله صدقة جارية ينتفع بها دائما ، وبيعه ينافي هذا الحق.

وأمّا حق البطون اللّاحقة ، فلقوله عليه الصلاة والسلام : «وعاش عقبه» فإنّه يدلّ على ثبوت الحق للبطون اللاحقة.

وأمّا كونه متعلق حق الله تعالى فلاعتبار القربة إنّ الوقف صدقة ، والصدقة يعتبر فيها قصد القربة. فهذه الحقوق الثلاثة تمنع عن البيع فيه.

ثم إنّ المحقق صاحب المقابس قدس‌سره نبّه على مانعيّة هذه الحقوق الثلاثة بقوله : «قد اجتمع في الوقف حق الواقف لدوام ثوابه بدوام الانتفاع بالعين ، وحقّ الله ، لأن الصدقات لله ، وحق الموجودين وباقي الطبقات .. إلخ» (١).

وتوضيح تعلق هذه الحقوق بالوقف هو : أمّا حقّه تعالى فيمكن أن يراد به أنّ له تعالى حقّ أن يعبد ، فكما أنّ جعل أرض مسجدا أو مكانا للعبادة يوجب حقّا للموقوف عليه بالعبادة فيه ، فكذا يوجب حقّا له بأن يعبد فيه. وهذا واضح في وقف مشاعر العبادة.

وكذا الحال في الوقف على الذرية ، فإنّ غرض الواقف التصدق على الذرية بنحو الاستمرار ، وهذه الصدقة عبادة مستمرة من الواقف ، فله تعالى حقّ أن يعبد به مستمرّا ويثاب به الواقف.

وأن يراد به أنّ الآخذ للصدقات ـ ومنها الوقف بأقسامه ـ هو تعالى ، بشهادة قوله عزّ من قائل (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) وما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تقع صدقة المؤمن في يد السائل حتى تقع في يد الله. ثم تلا هذه الآية : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ)» (٢). والمستفاد منه أنّ الصدقة تكون له تعالى أوّلا ، ثم

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٦٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٠٣ ، الباب ٢٩ من أبواب الصدقة ، ح ٣.

٥٢٤

حقّ الواقف ، حيث جعلها (١) بمقتضى صيغة الوقف صدقة جارية ينتفع بها. وحقّ البطون المتأخّرة عن بطن (٢) البائع. والتعبّد (٣) الشرعي المكشوف عنه بالروايات ، فإنّ الوقف متعلّق لحقّ الله ، حيث يعتبر فيه (٤) التقرّب ، ويكون لله تعالى عمله

______________________________________________________

للمتصدق عليه ثانيا.

وعليه فالتصرف في الوقف تصرف في ما للغير ، وهو ممنوع.

وأن يراد به ما ورد في بعض النصوص من قوله عليه‌السلام : «إنما الصدقة لله عزوجل ، فما جعل لله عزوجل فلا رجعة له فيه» (١) إذ المستفاد منه أنّ له تعالى حقّا في الصدقات ، فما كان صدقة حدوثا فهي صدقة بقاء ، ولا رجوع فيها. وكما لا معنى لرجوع المتصدق فكذا لا يجوز بيعها ولا هبتها ، لمنافاة ذلك كله لتعلق حقّ الخالق به.

وأما حقّ الواقف فلأنّ غرضه من الوقف بقاء العين الموقوفة لينتفع بها الموقوف عليه مادّيّا لينتفع هو بالمثوبة المعنوية. ومن المعلوم أنّ بيع الوقف يوجب انقطاع الفيض الإلهي بانتفاء موضوعه.

وأمّا حق الموقوف عليه فلأنّ العين حبست لتدرّ على البطن الموجود والبطون اللاحقة على السواء ، فلو باعها البطن الموجود كان إزالة لحقّ الطبقات المتأخرة ، وهو غير جائز.

(١) أي : جعل العين الموقوفة صدقة جارية ، فمرجع الضمير حكمي ، أو معنوي باعتبار ذكر «الوقف».

(٢) كذا في نسختنا وجملة من النسخ ، والأولى تعريف «بطن» ليكون «البائع» صفة له ، أي البطن الموجود البائع ، فإنّ بيعه تضييع لحقّ البطون المعدومة فعلا.

(٣) يعني : أنّ التعبد الشرعي يدلّ على تعلق حقّ الخالق بالعين الموقوفة ـ مع الغضّ عن حقّ المخلوق من الواقف والموقوف عليه ـ وهذا حقّ ثالث ينشأ من دلالة النص على اعتبار القربة في الوقف ، لكونه من الصدقة المتقومة بابتغاء وجهه تعالى ، ففي معتبرة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : لا صدقة ولا عتق إلّا ما أريد به وجه الله عزوجل» (٢).

(٤) أي : يعتبر في الوقف التقرب ، لكونه مندرجا في عنوان «الصدقة» المتقومة

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣١٦ ، الباب ١١ من أحكام الوقوف والصدقات ، ح ١.

(٢) المصدر ، ص ٣١٩ ، الباب ١٣ ، ح ٢.

٥٢٥

وعليه (١) عوضه.

وقد يرتفع بعض هذه الموانع (٢) فيبقى الباقي ، وقد يرتفع كلّها ، وسيجي‌ء التفصيل (*).

______________________________________________________

بالقربة.

(١) أي : على الله تعالى ، وضميرا «عمله ، عوضه» راجعان إلى الوقف.

(٢) كارتفاع حقّ الموقوف عليهم عن العين في موارد طروء المسوّغ للبيع ، وسيأتي التفصيل في صور جوازه.

__________________

(*) حاصله : مانعية الحقوق الثلاثة عن البيع. لكن للمناقشة فيها مجال ، كما نبّه عليه غير واحد من الأعلام من عدم ثبوت أصل الحق ، أو عدم صلاحية شي‌ء من هذه الحقوق عن البيع.

أمّا انتفاء حق الواقف ، فلأنّ الوقف يوجب انقطاعه عن العين الموقوفة ، وصيرورته أجنبيا عنها كغيره ، وإنّما يستحق الأجر والثواب. وكونها صدقة جارية لا يقتضي تعلق حقّ له بها حتى يكون مانعا عن بيعها. غاية الأمر انتفاعه بها ما دامت باقية لأجل خصوصية عمله ، مثل «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» (١).

وأمّا قصد التقرّب المعتبر في الوقف فغير مانع عن البيع أيضا ، لعدم اقتضاء إضافة الوقف إليه تعالى تعلق حقّ له بالعين مانع عن التصرف فيها ، فإنّ الصدقة الواجبة والمستحبة تمليك للغير بداع إلهي ، مع أنّه يجوز للمتصدق عليه التصرّف فيها بالبيع والهبة كسائر أمواله. وليس الوقف كالخمس والزكاة ممّا يتعلّق حقّه تعالى بالعين أو بماليّتها.

نعم التعبّد الشرعيّ أي النهي عن بيع الوقف أمر مسلّم ، لكنه ليس بمعنى الحقّ القابل للإسقاط ـ المقابل للحكم ـ ومقتضاه وجوب صرف الوقف في ما عيّنه الواقف ، فالتعبير عنه بالحق لا يخلو من مسامحة.

وأمّا حقّ الموقوف عليه ـ أي البطون اللاحقة ـ فلو سلّم كون العين فعلا متعلّقة

__________________

(١) عوالي اللئالى ، ج ١ ، ص ٢٦٥ ، ح ١٣٦ ، وبمضمونه في البحار ، ج ٧١ ، ص ٢٥٨ ، ح ٥ و ٦.

٥٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لحقّها ، فإنّما يكون مانعا عن بيعها على أن يكون الثمن ملكا طلقا للبطن الموجود ، لا على أن يتعلّق حقّهم بالبدل كتعلقه بالمبدل ، كما إذا كان البيع صلاحا للوقف.

وعليه فالمانع عن بيع الوقف هو الإجماع والأخبار ومنافاته لمقتضاه ، لكونه حبسا للأصل ، الذي لا معنى له إلّا الممنوعيّة من التصرّفات الناقلة أو المتلفة له. هذا ما أفاده المحقق الخراساني قدس‌سره (١) بتوضيح منّا.

وهو كذلك بالنسبة إلى حق الخالق والواقف. وأمّا بالنسبة إلى حقّ البطون فيمكن أن يقال : إنّ انتقال الحق إلى البدل منوط بعدم تعلّق حقّهم بنفس العين الموقوفة بما لها من الخصوصيّة ، وقيامه بماليّتها التي لا فرق فيها بين بقاء العين وبين بدلها. ولا تبعد دعوى تعلّق حقّ البطون بالعين بما لها من الخصوصية ، ومن المعلوم منافاة هذا الحقّ للبيع الذي يوجب انتقال الحقّ إلى ماليّتها وهو الثمن.

ولعلّه لهذا ذهب المحقق النائيني إلى تسلّم حق الموقوف عليه ، وصلاحيته في نفسه للمنع عن البيع ، لكنه قدس‌سره قال بعدم وصول النوبة إلى مانعيّة هذا الحق ، وذلك لقصور المقتضي. ومعه لا مجال للتمسّك بوجود المانع ، لما تقرر في محله من أنّ عدم المعلول يستند إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع.

والوجه في قصور المقتضي أنّ الملك في الوقف على الطبقات محبوس عن الحركة في وعاء الاعتبار ، فهو كمن قطعت رجلاه عاجز عن التحرك خارجا. ولذلك يختلف الوقف ـ في موارد إفادته الملك كالوقف الخاص ـ عن الرهن وأمّ الولد ممّا يستند عدم جواز البيع إلى وجود المانع. هذا (٢).

وسيأتي في (ص ٦٣٥) تقرير قدس‌سره قصور المقتضي بوجه آخر ، حاصله : أنّ الملكية المنشئة بالبيع ملكية مرسلة غير محدودة بزمان أو زماني ، لا موقتة ، لعدم معهودية بيع مال الى وقت معيّن ، والمفروض في المقام انتفاء إطلاق الملك وإرساله ، فإنّ الطبقة الموجودة من الموقوف عليهم وإن كانت مالكة للعين فعلا ، وليست هي مشاعة بينها وبين البطون

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ١٠٧.

(٢) المكاسب والبيع ، ج ٢ ، ص ٣٧٦ ـ ٣٧٧.

٥٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المتأخرة ، إلّا أنّ ملكيتها لها محدودة وموقتة بالحياة ، لفرض انتقال الوقف إلى الطبقة اللاحقة بانقراض السابقة. وحينئذ فإن نهض الدليل على كفاية إنشاء الملكية المحدودة قلنا بصحة البيع ، وإلّا فمقتضى اعتبار الملك المرسل بطلان بيع الوقف ، هذا.

وقد يقال : إنّه لا مانع من صحة البيع بناء على صحة البيع المحدود إلى انقراض الطبقة الحاضرة ، بأن يقال : كما يصحّ التمليك المحدود في الوقف ، كذلك يصح بيع الوقف وإن كان الملك مقيّدا.

ولو سلّم بطلان البيع ، لكون الملك محدودا غير مرسل ، أو للغرر ، للجهل بأمد البطن البائع ، أمكن نقل الوقف بمثل الصلح أو البيع غير محدود ، لكن بشرط الانفساخ عند انقراض الطبقة الموجودة ، بأن ينشأ النقل هكذا : «بعت العين الموقوفة على أن ينفسخ العقد عند انقراض هذه الطبقة» فالمنشأ تمليك مرسل ، ولكنّه مشروط بشرط الانفساخ.

ولو سلّم بطلان هذا النقل لأدائه إلى الغرر ، أمكن البيع مطلقا مجرّدا عن شرط الانفساخ ، غايته أنّ صحّته فعليّة ما دام البطن البائع موجودا ، وتأهلية بالنسبة إلى البطون المتأخّرة ، فإن أجازته صحّ بالفعل ، وإلّا بطل كما هو شأن البيع الفضولي مطلقا. هذا ما أفيد.

لكنه غير ظاهر. أمّا الأوّل فلعدم كون المحذور ثبوتيا حتى يقاس البيع بالوقف في كونه تمليكا للبطن الموجود محدودا بالانقراض ، بل هو إثباتي ، والمفروض وفاء الدليل بصحة التمليك المقيّد في الوقف على الطبقات ، وقصوره في البيع ، مع أنّ البائع للوقف يملّك ما ليس له وهو الملكية المرسلة.

وأما الثاني ـ فمع الغضّ عن إمكان اختصاص دليل نفوذ الشرط ووجوب الوفاء به بشرط الفعل ـ يشكل بأنّ نفوذ شرط النتيجة منوط بأخذه في عقد صحيح شرعا حتى يجب الوفاء بالشرط تبعا للوفاء بالعقد ، والمفروض في المقام عدم إحراز صحة بيع الوقف كي ينفسخ عند انقراض البطن البائع.

مع أنّ هذا الوجه مبتن على التنزل عن الوجه السابق ، وتسليم عدم الدليل على صحة البيع ، ولذا أريد تصحيحه من جهة شرط الانفساخ. وهو لا يخلو من شبهة الدور ، لتوقف جواز البيع على صحة شرط الانفساخ ، وتوقف الشرط على المشروط به.

٥٢٨

ثمّ (١) إنّ جواز البيع لا ينافي بقاء الوقف إلى أن يباع ،

______________________________________________________

عدم التنافي بين الوقف وجواز بيعه

(١) بعد الفراغ من الأدلّة المانعة عن بيع الوقف تصل النوبة إلى ذكر الأقوال في المسألة ، وأنّ عموم دليل المنع مخصّص ببعض الصور ـ على ما سيأتي تفصيله ـ أم لا. ولا ريب في جواز البيع في الجملة.

ويتجه حينئذ البحث عن أمر قبل التعرّض للأقوال والصور المستثناة من إطلاق دليل المنع ، وهو : أنّه بعد التسالم على أمرين ـ وهما حرمة البيع قبل عروض المجوّز ، وجواز البيع بعد عروضه ـ هل يبطل الوقف بمجرّد طروء أسباب خاصة مجوّزة للبيع ، أم أنّ صفة الوقفية تستمرّ إلى تحقق البيع خارجا ، ولا يزول عنوان «الوقف» بعروض المسوّغ؟ فيه قولان ، ذهب الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره وصاحب الجواهر إلى الأوّل ، وسيأتي تقريب كلاميهما.

واختار المصنف قدس‌سره الثاني مستدلّا عليه بما توضيحه : أنّ في الوقف ـ كسائر الأمور الإنشائية من العقود والإيقاعات ـ مرحلتين :

الاولى : إنشاء الواقف ، ومفاده اعتبار محبوسية العين عن التصرفات الناقلة أبدا.

__________________

وأمّا الثالث فلأنّ صحة العقد الفضولي بالإجازة منوطة بكون المجيز أهلا لإمضاء ما أنشأه الفضول ، كما هو الحال في البيوع الفضولية المتعارفة. وهذا غير متحقق في المقام ، ضرورة أنّ البطن اللاحق المجيز لذلك البيع لم يكن مالكا بالملكية المرسلة حتى تتعلّق إجازته بنفس ما أنشأه البطن السابق المفروض كونه فضوليا بالنسبة إلى البطون المتأخرة.

نعم لو قلنا بعدم اعتبار مطابقة الإجازة للمجاز في الخصوصيات كما تقدم في محلّه حتى مثل إرسال الملك ومحدوديته ، اتّجه صحة بيع الوقف بالإجازة.

وعلى هذا فالمحذور في بيع الوقف قصور المقتضي ، ولا مانع من ناحية قصد القربة والواقف والموقوف عليه ، وإن كان في الأخير تأمّل كما سبق ذيل كلام المحقق الخراساني قدس‌سره.

٥٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الثانية : إمضاء الشارع له بمثل «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» كإمضاء ما أنشأه المتبايعان بمثل آية حلّ البيع. فدليل إمضاء الوقف ـ لولا المنافي ـ يقتضي لزومه وعدم جواز فسخه أصلا بطروء الأسباب والعوارض.

لكن لا ريب في تجويز بيع الوقف شرعا ، وهذا الجواز ينافي بقاء العين على صفة الوقفية ، لتضادّ ذلك المنع المالكي ـ الممضى شرعا ـ لجواز البيع.

وهذا التضادّ يوجب تخصيص دليل لزوم الوقف ، ونتيجته الحكم ببقاء عنوان الوقف بعد عروض المجوّز ، وإنّما يبطل بالبيع خارجا.

وهذا نظير تقييد سلطنة المتهب على ما انتقل إليه ـ المقتضية لحرمة انتزاع العين من يده إلّا بإذنه ـ بما دلّ على جواز رجوع الواهب ، فكما أنّ هذا الدليل غير مناف لحقيقة الهبة ، فكذا دليل جواز بيع الوقف لا يضادّ صحّته.

فإن قلت : مقتضى تضادّ جواز البيع والحبس ـ عن النقل والانتقال ـ بطلان الوقف بنفس عروض المسوّغ ، لا بقاؤه على الوقفيّة حتى يبطل بإيجاد البيع ، لكون التنافي بين اعتبارين ، وهما اعتبار محبوسية العين عن النقل وبين اعتبار جوازه.

قلت : نعم ، لا ريب في التضادّ المزبور ، إلّا أنّه موقوف على كون المجعول الشرعي عند طروء المسوّغ هو جواز البيع بنفسه وبعنوان أنّه بيع مشروع حتى يبطل الوقف بمجرّد ترخيص النقل. مع أنّ الأمر ليس كذلك ، لكون المقصود من جواز البيع جواز إبطال الوقف إمّا إلى بدل بأن يتصف ذلك البدل بالوقفية ويحلّ محلّ المبدل ، وإمّا لا إلى بدل كما في مورد شدّة الحاجة إلى صرف الثمن وإتلافه. ومن المعلوم أنّ جواز الإبطال ليس مبطلا ، بل المبطل هو ذلك التصرف والنقل الخارجي.

إلّا أن يقال : إن إبطال الوقف يكون من جملة التصرفات التي حبس العين عنها حين إنشاء الوقف وأمضاه الشارع ، فتجويز الإبطال ينافي حقيقة الوقف الذي هو حبس العين عن الحركة الاعتبارية.

لكنه يندفع بامتناع دخول الإبطال في جملة التصرفات المحبوسة عنها العين ، ووجه

٥٣٠

فالوقف يبطل بنفس البيع ، لا بجوازه (١). فمعنى جواز بيع العين الموقوفة جواز (٢) إبطال وقفها إلى بدل (٣) أو لا إليه ، فإنّ (٤) (*) مدلول صيغة الوقف وإن أخذ فيه

______________________________________________________

الامتناع : تأخّر الإبطال عن المحبوسية ، لعروضه على عنوان الحبس ، ومن المعلوم تأخر العرض عن معروضه ، ويستحيل أخذ ما هو متأخر رتبة فيما هو متقدم رتبة.

ونتيجة هذا البيان : الحكم ببقاء الوقف في مورد عروض المسوّغ ، وإناطة بطلانه بتحقق البيع خارجا ، هذا.

(١) كما اختاره الفقيهان كاشف الغطاء وصاحب الجواهر عليهما‌السلام من بطلان الوقف بمجرد عروض المجوّز للبيع.

(٢) هذا مختار المصنف قدس‌سره من بقاء الوقف على ما كان عليه إلى أن يتحقق نقله خارجا.

(٣) بطلان الوقف وزوال صفة الوقفية عن العين تارة يكون في الجملة : أي بقيام بدل العين مقام المبدل ، كما إذا سقطت العين عن حيّز الانتفاع ، واخرى بالجملة أي انتفاء الوقف رأسا ، كما إذا احتاج الموقوف عليه إلى ثمنها. وسيأتي التفصيل في مطاوي الصور المسوّغة للبيع.

(٤) تعليل لتحقق التنافي بين الوقف ـ وهو الحبس المالكي الممضى شرعا ـ وبين البيع خارجا ، لا بين الحكمين ، وهما حبس العين والترخيص في بيعها ، وقد تقدّم توضيحه

__________________

(*) هذا التعليل ربما ينافي قوله : «ان جواز البيع لا ينافي بقاء الوقف ..» الظاهر في أنّ عدم جواز البيع ليس مقوّما لمفهوم الوقف ، بل من أحكامه الشرعيّة. وقوله هنا : «فإنّ مدلول ..» ظاهر في كون عدم جواز البيع مقوّما لمفهوم الوقف ، فكيف التوفيق بينهما؟

ولكن يمكن دفع التنافي بأنّ قوله : «فانّ مدلول» ناظر إلى المنع المالكي ، مع الغضّ عن إمضاء الشارع ، ومن المعلوم أنّ دخل ذلك بنظر الواقف ـ إمّا بكونه مقوّما لإنشائه أو ملازما له ـ لا يجدي ما لم يمضه الشارع بذلك النحو. ولا فرق في هذا بين التصريح بالتأبيد ، وبين كونه مقتضى إطلاق الإنشاء.

٥٣١

الدوام والمنع عن المعاوضة عليه (١) ، إلّا أنّه (٢) قد يعرض ما يجوّز مخالفة هذا الإنشاء. كما أنّ مقتضى العقد الجائز كالهبة (٣) تمليك المتّهب المقتضي

______________________________________________________

آنفا بقولنا : «إنّ في الوقف كسائر الأمور الإنشائية».

(١) يعني : بلحاظ إنشاء الواقف. وغرض المصنف قدس‌سره تثبيت مختاره ـ من أنّ جواز البيع لا يبطل الوقف ـ حتى بملاحظة مبنى صاحب الجواهر من كون مفهوم الوقف «تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة» سواء أخذ قيد الدوام فيه مقام الإنشاء ، بأن يقول : «هذه الدار موقوفة دائما وأبدا» أم لم يؤخذ فيه ذلك. فعلى كلّ منهما يكون المنع من البيع ملحوظا في إنشاء الواقف. وأمّا إمضاء الشارع فقد يكون مماثلا له ، وقد يكون مغايرا له.

(٢) خبر «فإنّ مدلول» والضمير للشأن ، وهذا متعلّق ب «وإن أخذ» يعني : لا يلزم أن يكون المنع الشرعي عن التصرّف مماثلا للمنع المالكي ، بل يغايره عند طروء الحالة المجوّزة للبيع.

(٣) غرضه بيان نظير للوقف الذي يجوز إبطاله بعروض بعض الأسباب ، يعني : أنّ عقد الهبة لا يقتضي إلّا مجرّد التمليك الذي حكمه الشرعي التسلّط على العين الموهوبة. كما أنّ حكمه شرعا جواز انتزاع الموهوبة عن يد المتّهب. فكما أنّ جواز الرجوع في الهبة حكم شرعيّ ، فكذلك عدم جواز البيع في الوقف ، فإنّه حكم شرعي للوقف لا مقوّم لمفهومه.

__________________

وهذا بخلاف قوله في صدر العبارة : «لا ينافي بقاء» فإنّه ناظر إلى الحكم الشرعي ، وأنّ تجويز البيع مخصّص لدليل لزوم الوقف ، وعليه فلا تهافت بين العبارتين.

هذا مضافا إلى أنّ قوله : «فإنّ مدلول صيغة الوقف» ناظر إلى مبنى القائل بأنّ حقيقة الوقف هي الحبس عن التصرفات الاعتباريّة أبدا. وسيأتي من المصنف أنّ الوقف الخاص قسم من التمليك. وبناء عليه ليس المنع من البيع ملحوظا في الوقف أصلا ، هذا. ويبقى الجمع بينه وبين ما تقدّم من كون الصفة فصلا للنوع.

٥٣٢

لتسلّطه المنافي (١) لجواز انتزاعه (٢) من يده ، ومع ذلك يجوز مخالفته وقطع سلطنته عنه ، فتأمّل (٣).

إلّا أنّه (٤) ذكر بعض في هذا المقام : «أنّ الّذي يقوى في النظر ـ بعد إمعانه ـ أنّ

______________________________________________________

(١) صفة للتسلط ، وقوله : «المقتضي» صفة ل «تمليك المتهب».

(٢) أي : انتزاع الموهوب من يد المتّهب.

(٣) لعلّه إشارة إلى الفرق بين الوقف والهبة ، بأنّ حقيقة الوقف هي الحبس عن التصرّفات الاعتباريّة من البيع وغيره ، وعن الحركة من ملك إلى ملك ، إلّا الحركة في ملك البطون على حسب ما أنشأه الواقف. وهذا بخلاف الهبة. فإنّ مفهومها كمفهوم البيع هو أصل التمليك ، ويكون اللزوم والجواز حكمين شرعيّين مترتبين عليهما ، كما تقدّم في مسألة لزوم المعاطاة بقوله : «فجواز الرجوع وعدمه من الأحكام الشرعيّة للسبب ، لا من الخصوصيات المأخوذة في المسبب ..» فراجع (١).

وعليه فليست الهبة ـ من حيث اللزوم والجواز ـ نظيرا للوقف.

وأمّا ما أفاده المصنف في ما يقتضيه الوقف ـ بناء على كونه تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة ـ وعدم بطلانه بطروء المجوّز ، فهو تامّ لا شبهة فيه.

(٤) استدراك على قوله : «إنّ جواز البيع لا ينافي الوقف إلى أن يباع» والضمير للشأن. وغرضه نقل كلام صاحب الجواهر تبعا لشيخه كاشف الغطاء ثم المناقشة فيه ، وينبغي الإشارة إلى أمور لتوضيح ما في الجواهر.

الأمر الأوّل : أنّ الوقف ـ كما في النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تحبيس الأصل. وحيث إنّ «الحبس» من المعاني ذات التعلّق والإضافة ، فالمحبوس عنه هو التصرفات الناقلة ، والحركة من ملك شخص إلى ملك شخص آخر ، إلّا بالنسبة إلى البطون التي جعل الواقف حركة العين فيها. فالمنشأ بصيغة الوقف منع النقل والمعاوضة بالبيع والصلح ونحوهما. وبما أنّ الشارع أمضى إنشاء الواقف كان إمضاؤه له منعا اعتباريا عن

__________________

(١) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٤٩٢.

٥٣٣

الوقف ما دام وقفا لا يجوز بيعه (١) ، بل لعلّ جواز بيعه مع كونه وقفا من التضادّ (٢). نعم (٣) إذا بطل الوقف اتّجه حينئذ جواز بيعه».

______________________________________________________

المعاوضات.

الأمر الثاني : أنّ الأحكام الشرعية وإن كانت أمورا اعتبارية ، وليست من سنخ الجواهر والأعراض ، ولكن يمتنع اجتماع اثنين منها في فعل واحد ، كالوجوب والحرمة ، والجواز المنع ، ومن المعلوم أنّ استحالة اجتماع الضدين لا تختص بالموجودات التكوينية ، فيمتنع اعتبار الرخصة في فعل وممنوعيته أيضا.

الأمر الثالث : أنّ من شروط العوضين تماميّة الملك ، فما ليس طلقا لم يكن قابلا للمعاوضة عليه.

وبناء على هذه الأمور الثلاثة يقال في تقريب كلام صاحب الجواهر قدس‌سره : إنّ تجويز الشارع ـ عند طروء أسباب خاصّة ـ بيع العين الموقوفة يكشف عن بطلان الوقف ، ليتحقق شرط صحة البيع ، وهو كونه طلقا. فلو قيل ببقاء الوقف إلى أن يتحقق البيع خارجا لزم اجتماع الضدين الفعليّين ، وهما : إمضاء الشارع لما أنشأه الواقف من الحبس عن البيع ، وجواز البيع. ولا مناص من هذا المحذور إلّا استكشاف زوال ذلك المنع بتجويزه للبيع في مورد طروء المسوّغ (*).

وبهذا يظهر أنّ المتنافيين هنا هما الاعتباران الشرعيّان ، لا الحكم بالمنع والبيع خارجا حتى يقال ببقاء صفة الوقفية بعد عروض المجوّز وقبل تحقق النقل خارجا.

(١) لانتفاء شرط «الطّلق» لكون الوقف محبوسا عن التصرّفات الناقلة.

(٢) خبر «لعلّ جواز».

(٣) استدراك على «لا يجوز بيعه» ومقصوده إناطة جواز البيع يبطلان الوقف.

__________________

(*) هذا ما قيل في تقريب كلام الجواهر ، ويستظهر منه بدوا.

والأولى ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من أن عبارة الجواهر ـ بقرينة كلمة «بل» الدالة على الترقّي ـ تتضمّن وجهين ، وإن كانت الجهة المشتركة بينهما التنافي بين جواز البيع

٥٣٤

ثمّ ذكر (١) بعض مبطلات الوقف المسوّغة لبيعه.

______________________________________________________

(١) يعني : ذكر صاحب الجواهر بعض المبطلات ، فمنها : ما لو اعتبر المنفعة في الوقف حدوثا وبقاء ، وقد زالت المنفعة ، فتنتفي حقيقة الوقف ، لانتفاء شرط الصحة ، كالحصير ـ الموقوف على مسجد ـ والجذع البالي مما لا منفعة معتدّا بها إلّا بالإحراق مثلا. وكالحيوان بعد ذبحه.

ومنها : ما لو انعدم العنوان المأخوذ في الوقف ، كما لو وقف بستانا ملاحظا فيه عنوان البستانية ، فخرب البستان ، فإنّه وإن لم تبطل منفعتها أصلا ، لإمكان الانتفاع بها دارا ، لكن عنوان الوقف ـ وهو البستان ـ قد زال.

ومنها : ما لو أدّى بقاء الوقف بحاله إلى الخراب ، فراجع (١).

وسيتعرض المصنف لكلامه في الصورة الثانية ، فانتظر.

__________________

والوقف.

الأوّل : أن موضوع جواز البيع مغاير لموضوع المنع ، إذ لمّا كانت حقيقة الوقف حبس العين عن التصرفات الناقلة ، فلا بدّ من حمل دليل جواز بيع الوقف على غير ظاهره ، وهو ما ليس وقفا ، بأن يكون دليل الجواز كاشفا عن بطلان الوقف بمجرّد وجود أحد المسوّغات ، ليتحقق شرط صحة البيع وهو كونه ملكا طلقا.

وبناء على هذا يكون دليل جواز البيع مخصّصا لدليل نفوذ الوقف من كونه حبسا أبدا ، وليس مخصّصا لدليل المنع عن البيع ، لفرض انتفاء الموضوع بنفس عروض المسوّغ ، ومع تعدد الموضوع لا مورد للتعارض حتى ينتهي الأمر إلى التخصيص.

الثاني : أنّ بيع الوقف ـ بعنوان أنّه بيع الوقف ـ محال ، لأنّ حقيقته محبوسية العين عن التصرفات ، وهي لا تجتمع مع جواز التصرفات ، لوضوح تضاد الممنوعية والترخيص (٢).

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٣٥٨ و ٣٥٩.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٢٥٨.

٥٣٥

وقد سبقه إلى ذلك (١) بعض الأساطين في شرحه على القواعد ، حيث استدلّ على المنع عن بيع الوقف ـ بعد النصّ والإجماع ، بل الضرورة ـ بأنّ (٢) البيع وأضرابه ينافي حقيقة الوقف ، لأخذ الدوام فيه ، وأنّ نفي المعاوضات مأخوذ فيه ابتداء (١) (*).

______________________________________________________

(١) أي : إلى أنّ الوقف ما دام وقفا لا يجوز بيعه. وضمير المفعول في «سبقه» راجع إلى «بعض» المراد به صاحب الجواهر ، فالمراد بالسابق هو الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره. حيث استدلّ بوجوه أربعة على منع بيع الوقف ، وهي النصّ كرواية ابن راشد ، والإجماع المتكرر في الكلمات ، والضرورة الفقهية ، ورابعها منافاة البيع للحبس الذي هو مفهوم الوقف وحقيقته.

(٢) متعلق ب «استدل» ومحصله : أنّ البيع والوقف متنافيان ، والدليل على أحد المتنافيين دليل على عدم الآخر ، ولذلك تصحّ دعوى : أنّ صحة البيع تلازم بطلان الوقف. كما تصحّ دعوى : أنّ صحة الوقف تلازم بطلان البيع.

__________________

(*) وقيل بترتب الثمرة على القولين ، وهي : أنه لو لم ينقل الوقف بعد طروء المجوّز إلى أن ارتفع ، كما إذا عرضت حاجة شديدة إلى ثمن الوقف ، فارتفعت قبل البيع ، فبناء على بطلان الوقف بعروض المسوّغ لا مانع من البيع ، لزوال عنوان الوقف سابقا.

وبناء على مختار المصنف قدس‌سره يحتمل منع البيع ، لكون المقام من موارد عموم الدليل المانع عن بيع الوقف في غير المتيقن خروجه منه ، وهو إبطال الوقف بالبيع خارجا.

ويحتمل الجواز استصحابا لحكم المخصص ، لليقين بصحة البيع بطروء المسوّغ ، والشك في زواله وهو من الشك في رافعية الموجود أو وجود الرافع ، فيستصحب الجواز.

وعموم «الوقوف على حسب ..» غير مانع ، لكون المجعول حكما واحدا مستمرا ، ولم تتكثر الأفراد بحسب الأزمنة والحالات ، وبما أنّه جاز البيع فقد انقطع الدليل المانع ، فيستصحب الجواز.

__________________

(١) شرح القواعد (مخطوط) الورقة ٨٥.

٥٣٦

وفيه (١) أنّه إن أريد من بطلانه انتفاء بعض (٢) آثاره ـ وهو جواز البيع المسبّب (٣) عن سقوط حقّ الموقوف عليهم عن (٤) شخص العين ، أو عنها وعن بدلها ،

______________________________________________________

(١) أي : وفيما ذكره بعض. ناقش المصنف قدس‌سره في كلامي العلمين بتحليل ما أراداه ـ من التضاد بين الوقف وجواز بيعه ، وأن فعلية الجواز مبطل للوقف ـ وأنّه لا يخلو من وجهين :

الأوّل : أن يكون المراد من بطلان الوقف بطروء مجوّز البيع ارتفاع بعض أحكام الوقف ، وهو منع نقل العين الموقوفة إلى الغير ، فيجوز البيع مع كونها باقية على صفة الوقف.

والوجه في حكم الشارع بجواز البيع انتفاء حقّ الموقوف عليهم ، إمّا عن شخص العين الموقوفة ، وانتقال حقّ البطون إلى البدل ، وإمّا سقوط الحقّ عن العين وبدلها ، بأن صار الثمن ملكا طلقا للبطن الموجود ، كما في الحاجة الشديدة إلى صرف الثمن.

فبناء على هذا الاحتمال يكون معنى بطلان الوقف بطروء المسوّغ : ارتفاع منع البيع بجواز البيع ، مع بقاء العين على الوقفية. وهذا أمر صحيح ومسلّم ، لكنه لا يحتاج إلى الدقة فضلا عن إمعان النظر ، ضرورة أنّ وجود أحد المتنافيين رافع للآخر بداهة. ولا ينبغي أن يكون هذا الاحتمال مرادا لهما ، مع بعده عن ظاهر عبارة الجواهر.

الوجه الثاني : أن يكون المراد من بطلان الوقف ما ظاهره من انتفاء صفة الوقف وعنوانه ، لا مجرّد ارتفاع حكم تعبدي من أحكام الوقف كما كان في الاحتمال الأوّل.

والشاهد على إرادة هذا الوجه جعل المنع من البيع من مقوّمات مفهوم الوقف الذي هو الحبس عن التصرفات الناقلة ، فجواز البيع مبطل له ، لانتفاء الحقيقة بانتفاء الفصل المقوّم. فبناء عليه يرد على بطلان الوقف بطروء المسوّغ أمران ، وسيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

(٢) المراد به حرمة البيع ، وضمير «هو» راجع إلى الانتفاء باعتبار تأويله بالمنفي ، يعني : أنّ المنتفي هو جواز البيع.

(٣) صفة ل «جواز» يعني : أنّ منشأ انتفاء الوقف وجواز البيع هو سقوط بعض الحقوق المانعة عن التصرفات الاعتبارية.

(٤) متعلق ب «سقوط» يعني : أنّ سقوط حق الموقوف عليهم يختلف بحسب

٥٣٧

حيث (١) قلنا بكون الثمن للبطن الذي يبيع ـ فهذا (٢) لا محصّل له ، فضلا عن أن يحتاج إلى نظر ، فضلا عن إمعانه.

وإن أريد به (٣) انتفاء أصل الوقف كما هو ظاهر كلامه ، حيث (٤) جعل المنع من البيع من مقوّمات مفهوم الوقف ، ففيه (٥) ـ مع كونه (٦) خلاف الإجماع ، إذ

______________________________________________________

الطواري ، فقد يسقط عن شخص العين دون ماليّتها كما في تبديل الموقوفة بمثلها ، وقد يسقط رأسا كما في الحاجة إلى البيع ، وصرف الثمن في الطبقة الموجودة.

(١) متعلق بسقوط الحق عن العين والبدل ، يعني بناء على كون الثمن للبطن الموجود ، وعدم تعلق حق البطون المتأخرة به.

(٢) جواب الشرط في «إن أريد» والوجه في عدم المحصّل له كون معناه حينئذ : أنّه متى جاز بيع الوقف جاز بيعه.

(٣) أي : ببطلان الوقف.

(٤) تعليل لكون ظاهر كلام الجواهر هو زوال عنوان الوقف بمجرّد عروض المسوّغ ، ومنشأ الاستظهار أنّ صاحب الجواهر قدس‌سره جعل المنع من البيع مقوّما لمفهوم الوقف. وهو مقتضى تفسير الحبس بالمنع عن النقل كما تقدم في (ص ٥٠٦) عن السيّدين صاحبي الرياض والمفتاح أيضا.

(٥) جزاء الشرط في «وإن أريد». وقوله : «فيه» خبر مقدّم ، والمبتدأ هو «أن المنع ..».

ثم إنّ المصنف أورد على القول ببطلان الوقف بطروء مجوّز البيع بوجهين ، أحدهما : ناظر إلى مخالفته للإجماع بعد تسليم المبنى من كون الوقف حبسا ومنعا عن المعاوضة. وثانيهما : ناظر إلى منع المبنى ، وأنّ الوقف الخاص تمليك لا حبس.

(٦) أي : كون انتفاء أصل الوقف مخالفا للإجماع. توضيح هذا الوجه الأول : أنّ القول بزوال عنوان الوقف بنفس عروض المجوّز ـ وإن لم تتحقق المعاوضة خارجا ـ لا سبيل للالتزام به ، لكونه مخالفا للإجماع ، بشهادة أنّ القائلين بجواز بيع الوقف في بعض الموارد لم يلتزموا ببطلان الوقف بالترخيص في بيعه ، حتى يعود إلى ملك الواقف إن كان حيّا أو إلى ملك وارثه إن كان ميّتا.

٥٣٨

لم يقل أحد ممّن أجاز بيع الوقف في بعض الموارد ببطلان (١) الوقف وخروج الموقوف عن ملك الموقوف عليه إلى ملك الواقف ـ أنّ (٢) المنع عن البيع ليس

______________________________________________________

مع أنّ مقتضى بطلان الوقف إمّا صيرورة المال من المباحات ، وإمّا عوده إلى ملك الواقف ، وإمّا صيرورته ملكا طلقا للموقوف عليه. والكلّ ممنوع ، للإجماع على بقاء صفة الوقفيّة ما لم يتحقق النقل خارجا ، هذا.

(١) متعلّق ب «لم يقل» يعني : أنّ المجوّزين للبيع لم يقولوا ببطلان الوقف حتى تعود العين الى ملك الواقف أو وارثه. توضيحه : أنّ الوقف ـ بناء على كونه حبسا عن التصرفات ـ يلزمه خروج العين عن ملك الواقف ودخولها في ملك الموقوف عليه ، وهذا الملك يدور مدار الحبس. فلو انتفى الملزوم وهو الحبس بطروء أحد الأسباب ـ كما هو ظاهر الجواهر من بطلان الوقف به ـ انتفى اللازم وهو مالكية الموقوف عليه ، ولا بدّ من دخول العين في ملك الواقف مرّة أخرى ، لأنّ خروجها عن ملكه كان منوطا بالحبس. مع أنّ عودها إلى ملك الواقف مخالف للإجماع ، ويتعيّن حينئذ القول بعدم بطلان الوقف بمجرّد طروء المجوّز.

وهذا بخلاف القول ببطلان الوقف بالبيع وشبهه ، لاستحالة عود الوقف الى الواقف ، وإلّا لزم من وجود البيع عدمه.

كذا علّل المحقق الأصفهاني قدس‌سره فتواهم بأنّ المبطل للوقف هو بيعه خارجا ، لا عروض المسوّغ للبيع ، ثم ناقش فيه ، فراجع (١).

(٢) هذا هو الوجه الثاني الناظر إلى منع المبنى ، وتوضيحه : أنّ كلام الفقيهين كاشف الغطاء وصاحب الجواهر قدس‌سرهما مبني على كون حقيقة الوقف حبس العين عن المعاوضة عليها ، ورتّبا عليه منافاته لترخيص الشارع في البيع ، فيبطل بنفس الترخيص ، للتضاد.

ولكن هذا المبنى ممنوع ، وبيانه : أنّ الوقف ـ كما سيأتي تفصيله في (ص ٥٧٣) ـ على قسمين :

الأوّل : الوقف والعام ، وحقيقته فكّ الملك وتحريره من دون أن يتملّكه شخص أو جهة ، كالمساجد والمشاهد المشرفة والمدارس والرّبط ، فإنّ وقفها نظير العتق الذي هو تحرير رقبة المملوك ، وعدم قابليته لدخوله في ملك أحد.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٢٥٨.

٥٣٩

مأخوذا في مفهومه ، بل هو ـ في غير المساجد وشبهها (١) ـ

______________________________________________________

لكن لا بمعنى صيرورته من المباحات ليتصرف فيه من سبق إليه بما شاء ، بل لا يجوز التصرف المنافي للوقف. وهذا القسم لا معنى لجواز بيعه ، لانتفاء شرطه وهو الملك.

القسم الثاني : الوقف الخاص ، كوقف دار أو بستان على الذّرية أو على جهة معيّنة كعلماء البلد.

ومحلّ البحث والنزاع في منع بيع الوقف ـ لانتفاء شرط الطلق ـ هو هذا القسم ، لكونه ملكا للموقوف عليهم دون القسم الأوّل.

ويقع الكلام في أنّ حقيقته حبس العين عن النقل والانتقال ، فيكون المنع عن البيع مقوّما له ، أم أنه تمليك للبطون أو للجهة؟ ذهب إلى الأوّل صاحب الجواهر ، وبنى عليه بطلان الوقف بنفس الترخيص في المعاوضة بطروء المسوّغ ، ورجّح المصنف قدس‌سره الاحتمال الثاني ، وأنّه تمليك خاصّ ، إذ التمليك على نحوين ، فقد يكون مطلقا كما في البيع والهبة والصلح. وقد يكون مقيّدا ، بأن يستمرّ ويدوم ولا ينقطع. وهذا حقيقة الوقف الخاص ، ولم يؤخذ فيه منع البيع ، وإنّما هو أثره الشرعي.

والشاهد على أنّ الوقف الخاص تمليك ـ لا حبس عن التصرف ـ أمران :

أحدهما : إطلاق «الصدقة» على الوقف في النصوص ، كما تقدم في رواية ربعي الحاكية لوقف الدار التي كانت لأمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين.

ثانيهما : فتوى الأصحاب بجواز إنشاء الوقف ب «تصدّقت» وجه الشهادة : أنّه لا ريب في كون الصدقة من العقود المملّكة كالهبة والهدية ، فإدراج الوقف في عنوان «الصدقة» إنّما هو لإفادة الملك ، لكنه ملك يقتضي بنفسه الاستمرار لو لم يطرء مجوّز البيع. وحيث كان الوقف تمليكا ـ لا حبسا ـ فهو باق على ملك الموقوف عليه إلى أن يبطل الوقف بالبيع. هذا حاصل ما أفاده المصنف في المناقشة الثانية. ولكلامه تتمة في ولاية الموقوف عليه على البيع إلى بدل أو لا إلى بدل ، وستأتي.

(١) كالمشاهد المشرّفة والمدارس والرّبط ، مما يكون الوقف فيها تحريرا ، ومعناه خروج العين عن ملك الواقف ، وعدم دخولها في ملك الغير.

٥٤٠