الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

الدنيا ، اللهم إلّا أن يتوب ويثوب إلى ربه ويصلح حاله.

كذلك وتحريم زواج الزانية والزاني بمسلم ومملمة عزلة ناكبة بئيسة تزيلها التوبة ف (لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٤) وكما هنا وفي (٣٠) إلّا ذيلها.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١).

الإفك هو المصروف عن وجهه عقيدة أو قولا او فعلا عامدا عاندا ، وهنا المقصود إفك القول : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) افتراء على بيت الرسالة القدسية المحمدية والذين معه ، ولا يعني «الإفك» هذا فرية واحدة تختلف فيها كلمة المسلمين بين مارية القبطية (١) وعائشة (١) ، بل هو جنسه الذي

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٨١ ـ القمي باسناده عن زرارة قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول لما هلك ابراهيم ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حزن عليه حزنا شديدا فقالت عائشة : ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلّا ابن جريح! فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) وامره بقتله فذهب علي (عليه السلام) ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط فضرب على باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليا (عليه السلام) عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا ولم يفتح باب البستان فوثب علي (عليه السلام) على الحائط ونزل إلى البستان واتبعه وولى جريح مدبرا فلما خشي ان يرهقه صعد في نخلة وصعد علي في اثره فلما دنى منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدرت عورته فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء فانصرف علي (عليه السلام) الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمي في الوبر ـ

٦١

يشملهما وسواهما من كبيرة وصغيرة ف (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) يجعله أعم منهما ، فكبره مجموع ما يرويه الشيعة والسنة من عائشة ومارية حيث افتري عليهما ، الأمر الذي كلف أطهر النفوس في تاريخ الإنسان آلاما ، كما كلّف الأمة الإسلامية تجربة دراسية من أشق التجارب.

والعصبة جماعة متعصبة متعاضدة ، لو أنها كانت على حق تتعصب له

__________________

ـ ام اثبت؟ قال : لا بل تثبت ـ قال : والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء فقال : الحمد لله الذي صرف عنا السوء اهل البيت!

أقول : اصل الافك في مارية ما عساه يقبل ، الّا ان في حديثه هذا أمورا عدة يجب ان تنزه ساحة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها : كيف يقبل الرسول قول امرأة في هكذا افك ثم يبعث عليا لقتل المقذوف دون المقذوفة ، رغم انه لو ثبتت تلك الفاحشة فالمحصنة هي التي ترجم دون الزاني غير المحصن فانه يجلد؟ وكيف لم يحدّ عائشة بدلا عن جريح لقذفها ان كانت هي الآفكة؟ والآيات التالية لآية الافك تدل بصراحة انها نازلة بعد آيات الشهداء الاربعة وقذف الرامي ولأن سورة النور مترتبة الآيات كما هي نزولا فتلك متقدمة على آية الافك ، ثم وهي تندد كأشد ما يكون بمن يظن شرا إذ يسمعه إفكا بمؤمن او مؤمنة (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) وما ابعد ساحة الرسول عن هذه التخلفات التي هي بعيدة عن المتوسطين في الايمان.

(١) روايات متظافرة من طرق إخواننا السنة ان الافك كان موجها إلى عائشة ، وهي فيما تدل على ارتياب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمرها لما سمع الافك عليها مردودة حيث الآيات تندد بالمرتابين من المؤمنين فيما يسمعونه من افك فضلا عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فاصل الافك إلى عائشة ثابت في السنة ، يقبل منها كما تقول الآية ، ويطرح ما تحيد عنه ساحة الرسالة القدسية.

وقد تولى الافك عليها عبد الله بن سلول ومعه نفر آخرون أصبحوا عصبة متعصبة في اذاعة إفكهم ، وليس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليسكت عن ذلك او يتشكك دونما شهادة ، وقد كان عليه حدّهم فمن طبيعة الحال انه حدّهم قبل نزول الآية إذ سبق الحد في آيات قبلها.

٦٢

عن حجة وتتعاضد فنعما هي ، ولكنها تعصبت على إفك مبين ضد البيت الرسالي الطاهر الأمين ، متعاضدة في إذاعته فإضاعتها فبئسما هي ، ويا لها من خطر عظيم على ذلك الجوّ الطاهر ، يظلم الجوّ الإسلامي الباهر إلى غسق ، ويظلم المسلمين في ذلك الغسق.

الذين جاءوا بالإفك عصبة ، والإفك كبره موجّه إلى بيت الرسالة ، وصغره إلى الذين معه ، فليكن ذلك الإفك ـ على دركاته ـ شرا للمسلمين أجمع ، إذ يدنس ساحة الرسالة القدسية بين الجماهير المؤمنة وسواها ـ ولكن ـ رغم أنه شر ما أشره في نفسه :

(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) فإن الله يدافع عن الذين آمنوا كما دافع عن بيت الرسالة هذه الفضيحة ، أن بيّن إفكهم ووضّح طهارة المفترى عليهما ، وفضح العصبة المفترية.

(بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فإن (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)!

فوزره عليهم وهم مفضحون ، ثم يخفّف عنكم من أوزاركم بما افتري عليكم مظلومين!

إنه خير لكم : «الكتلة المؤمنة» إذ يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأزواجه ، ويكشف لكم عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم! ويبين الخطورة المحدقة بالجماعة المسلمة لو أطلقت فيها ألسنة الإفك والرمي ، إذ تعدم حينئذ كل وقاية وتحرّج وحياء ، وتلفّظ في كل دعاية وتجرّح لعناء.

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) عصبة منكم جاءوا بالإفك (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) حسب دركاته من كبره وصغره وعوان بين ذلك ، والإثم وهو الأثر

٦٣

السيّء ، ولم يكن في هذا العلاج العجال إلا لعصبة الإفك إذ حدّوا (١) وفضحوا وتميزوا عن سائر المؤمنين ، فطهر بذلك جو الإيمان بعد كدره بخائبة النفاق الخائنة!

فالجائي بأصل الإفك ـ ابن سلول ـ هو الذي تولى كبره ، والذين تعصبوا معه من العصبة الملعونة الأولى ، هم تولوا أدنى منه ، حيث سمعوه منه وأصبحوا مثله عصبة الإفك : إذاعة جهنمية في المدنية كلها!.

روي أن عبد الله ابن سلول ابتلي بالعمى ، وهو شيء من عذابه في الدنيا بعد الحدّ ، ثم في الآخرة عذاب عظيم! فانه هو (الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) فهو البادئ في إفكه فانخدع فيه جماعة كأضرابه فأصبحوا عصبة كحمنة بنت جحش وحسان ابن ثابت ومسطح ابن أثاثة أمّن ذا ، فأصبحوا عصبة يرأسهم ابن أبي سلول الغادر الماكر ، تلك العصبة المنافقة التي كانت من أولئك العصبات المعادية للإسلام ، المتربصة به وبأهله ونبيه دوائر السوء خفية ، حيث عجزت عن محاربته جهرة ، فتوارت وراء ستار الإسلام ليكيدوه ويضربوا خناجرهم في قلبه من الوراء ، ولقد أرجفت هذه العصبة المدينة قرابة شهر ، وتداولت الألسنة إفكهم في أطهر بيئة على أطهر بيت من بيوتات الرسالات السامية ، فكان حقا على الله تنزيل هذه الآيات ، تنديدات اكيدات مكررات شديدات!

وإن الإنسان ليدهش من تلكم المعركة الصاخبة التي خاضتها تلك العصبة الملعونة ، كيف تمكنت من هذه الفرية الساقطة على بيت الرسول

__________________

(١) في أحاديث الافك ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاهم بعد ما نزلت آيات الافك فحدهم جميعا ...

٦٤

الطاهر الأمين ، وعلّها أو أنها أضخم المعارك التي واجهها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) طيلة حياته الرسولية.

لو استشار كل مؤمن عن ذلك الإفك لهداه فطرته ، وساقته فكرته أنه إفك مبين!.

فهذا تنديد شديد بالذين جاءوا بالإفك ، ومن ثم الذين سمعوه مندفعين غير دافعين :

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ)(١٢).

فإنها تنديد بالذين سمعوا الإفك من عصبة اللعنة ، وظنوا من وراءه سوء ولم يقولوا إنه إفك مبين!

ترى ذلك الظن السوء يمنع عنه المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم ، فان المفترى عليهم منهم رجالا ونساء ، والأصل في المؤمن أن يظن به الخير ما لم يثبت شره؟ ولكن ماذا ترى في (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) ولم يكن إفكه مبينا ظاهر الكذب للذين سمعوه؟ والله يندد بهم ان لم يقولوا!

لأن الأصل في القذف كذبه إلّا إقرارا من المقذوف ، أم أربعة شهود ولم تكن ، إذا فهو إفك مبين : يبين إفكه إذ لا يملك برهانا ف (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٤).

ولأنه لو لم يكن إفكا فليحدّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المقذوف والمقذوفة وقد نزلت آيته من قبل ، ولم يحدّ ولا ارتاب في أمرها ، إذا فهو افك مبين يبين إفكه بما لم يحدهما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما حدّ القاذف بما قذف!.

ولأن ساحة النبوة السامية وبيتها واجبة الحفاظ على كل مؤمن ،

٦٥

فالجائي بما يكدرها ويقذرها ـ ولو كان صادقا ـ هو آفك عند الله ، وإذا كان الستر على سائر المؤمنين واجبا على سائرهم ، فكيف يكون إذا موقف البيت الرسالي ، إذا فهو إفك مبين يبين إفكه إذ يكدر ساحة الرسالة القدسية!

ولأن النبي ليس ليتزوج من تأتي بفاحشة مبينة أو سواها ف (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) حيث تعم بيت الرسول بأهله وبيت الرسالة بأهلها ، وأقل طهارة في بيت الرسول هو الطهارة عن الفاحشة ، إذا فهو إفك مبين يبين إفكه إذ ينسب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الزواج بفاحشة!

إذا فلما ذا هذا السقوط البعيد في تلكم الحمأة النكدة أن يسمعوا الإفك المبين ثم يظنوا بأنفسهم سوء ، أو لا يظنوا خيرا ، وامرأتا نبيهم الطاهر وصاحباه المفترى عليهم في زوجتيه هم من أنفسهم ف (لَوْ لا ... ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) فسواء أظننت بنفسك أنت شرا ، أم بمؤمن هو نفسك ، حيث تربط بينكما الأخوة الإيمانية!

أتراك مؤمنا ـ أم غير مؤمن ـ تظن بنفسك شرا ، وحتى إذا كنت على شر ، فكيف تظن أنت كمؤمن بمؤمن هو نفسك ـ حيث تربطكما رباط الإيمان ـ تظن به سوء دونما دليل ، أو لا تظن به خيرا ، ولقد اقتسم المسلمون في قصة الإفك إلى أقسام تالية :

١ : ـ الذي تولي كبر الإفك حيث اختلقه بداية ف (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ).

٢ : ـ الذين تسمّعوه منه وأصبحوا معه عصبة الإفك ويشملهم (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) وله عذاب دون ذلك.

٣ : ـ الذين سمعوه منهم ولم يظنوا خيرا ، أو ظنوا سوء فأذاعوه ولم

٦٦

يقولوا هذا إفك مبين ، وتشملهم (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ...) و (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا ...).

٤ : ـ الذين لم يتكلموا به رغم ما سمعوه وظنوا سوء وما ظنوا خيرا فتشملهم (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) حيث تعم من تكلم به منهم ومن لم يتكلم!.

٥ : ـ الذين تسّمعوه وما تأثروا به لا بظن سوء ولا ظنا خيرا «وقالوا (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) فكذلك الأمر.

٦ : ـ هم ولكنهم ظنوا خيرا ولم يقولوا هذا بهتان عظيم ، وكذلك الأمر.

٧ : ـ هم ولكنهم قالوا : هذا بهتان عظيم ، ولا تشملهم آية تندّد إلّا لمحة من (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) ألّا يحق حتى سماعه ، ف (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) من هؤلاء السبع وثامنهم بريء تماما دونما تنديد.

٨ : ـ الذين لم يتسمعوه ولم يسمعوه ، وإذا طرق سمعهم دافعوا عن المفترى عليهم ، قائلين «ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم وإفك مبين وهم خارجون عن أي تنديد ولكنهم قلة قليلة من أهل المدينة.

(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ)(١٣).

ترى أن للمجيء بالشهداء موضوعية لصدق الرمي؟ وقد يكذب الشهداء! أو يصدق الرامي الذي لم يأت بالشهداء ، فكيف يكون الرامي دون شهداء كاذبا عند الله؟ والشهداء صادقون.

في الشهداء وشهادتهم شروط عدة قلمّا تتفق ، وفيما إدا اتفقت فقليل

٦٧

كالعدم ان يتواطئوا على الكذب ، ولا سبيل عاديا لإثبات الفحشاء ـ بحيث يراعى فيها حرمة الكتلة المؤمنة ، منعة عن هكذا هتك للعفاف الجماهيري ، يراه أربعة شهداء ، وحفاظا على الحرمة الجماهيرية ـ لا سبيل هكذا عاديا إلّا شهادة الأربعة ، والقلة القليلة من الكذب فيهم لا تحسب بحساب أمام ذلك السياج القويم على النواميس.

وفيما إذا يقبل كل رمي أو بشهادة أقل منهم ، فلا سياج على كثير من الرمي الكاذب ، ولا على كثير من الفحشاء غير الظاهرة المتهتكة ، فيكثر الظن السوء ، ويكدّر الجوّ الإيماني الظاهر الطاهر ، ويتعرض الكثير إلى عقوبات كثرت عليهم الأكاذيب ، فليكذّب الرامي إلا بشهادة الأربعة وإن كان صادقا في الواقع حفاظا على الأهم ، ومنه الحفاظ على السرائر وستر الخفيات من تخلفاتهم ، والصدق فيما يأتي بالداهية الجماهيرية كذب وأخطر منه ، فضلا عما فيه الصدق قليلا ، كما إذا حرّرت الألسنة في رمي دون شهادة الأربع.

فالمفروض على من يرمي ـ لو صح أن يرمى ـ أن يجيء مع رميه بأربعة شهداء ، فإذ لم يأت بهم ، مهما أتى بأقل منهم عددا او عددا ، أو لم يأت بشيء (١)(فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) يجري عليهم حد القاذف ولا تقبل منهم شهادة أبدا (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) عددا هو الاربعة ، وعددا هي شروط الأربعة وشروط شهادتهم ، فما اختلف الاربعة في زمان او مكان او كيفية الفحشاء حدوا مع القاذف ، وان اتحدوا وهم اقل من الأربع حدوا مع القاذف.

٦٨

فرغم أن قصة الإفك شاعت في المدينة شيوعا بالغا وتقاذفتها الألسنة ولاكتها الأفواه ، فهي عند الله كذب وإن شملت كل المدينة ، إلّا أن يأتوا بأربعة شهداء شهدوا الفاحشة بأمّ أعينهم ، فالشهداء الأربعة فيهم الكفاية ، فعلى المشهود عليه الحدّ ولهم فضلهم ، ثم لا كفائة في الجماهير المحتشدة دون شهود ، فللمفترى عليه الاحترام وعليهم الحدّ الاخترام.

بإمكانية شخص واحد ، كالذي تولى كبره منهم ، أن يشهّر إفكا لحد يشيع بين الجماهير فيكدّر الجوّ على مؤمن بريء كما افتعل ، وليس بالإمكان أو قليل ما هو ، أن يجتمع أربعة شهداء عدول على شهادة الزور ولا سيما على بيت الرسالة الطاهرة!

فكل رام مؤمنا أو مؤمنة بسوء دون شهادة ، سامعا عمن سواه ، أم شاهدا بشخصه دون شهود سواه ، أو شهادات الزوج ، هو عند الله كاذب فليكذب وليحدّ ولا تقبل شهادته إلّا بعد توبة نصوح!

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٤).

ظاهر الخطاب هنا للذين تلقّوه بألسنتهم دونما تثبيت ، لا الذين جاءوا بالإفك ، فهناك (الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) هو ابن أبي سلول ، ثم الذين تأثروا بإفكه فأصبحوا معه عصبة الدعاية ، ثم الذين سمعوه وظنوا شرا ، ثم المؤمنون الصالحون الذين كذّبوا وقالوا هذا إفك مبين.

فالآية (١١) تشمل الثلاثة الأول ، فإن «جاءوا» هم العصبة و «منكم» مجموعة المسلمين و (الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) قائد العصبة ، والآية (١٢)

٦٩

تخص الثالثة و (١٣) خاصة بالعصبة ، وهذه الآية وسائر الخطابات إلى (١٧) مثل (١٢) تعم السامعين المتأثرين ، ثم لا ذكر بين هذه وتلك عن الفرقة الرابعة ، مما يدل على مدى انتشار هذه الوقيعة بين مسلمي المدينة ، اللهم إلّا قليل ذكروا في السنة ، ورغم هذه الشهرة العجيبة بين المؤمنين! نرى هذه التنديدات المتتالية ، وأنهم عند الله هم الكاذبون على مختلف دركاتهم في تناقل إفكهم.

وهذا درس للجماعة المؤمنة ان شيوع الإفك على مؤمن ليس دليلا على اقترافه ، اللهم إلّا باعترافه ، بل هو دليل على كذبهم ما لم يأتوا بأربعة شهداء ، «ولو شهد عليه سبعون قسامة فصدقه وكذبهم» (١) لا يعني إلّا أمثال هذه الشايعات غير الثابتات بالشهادة الشرعية.

لقد أفاض حيث خاض في حديث الإفك جمهرة المؤمنين ، فاقتسموا إلى من افك وقبض عليه قبل التوبة فحد القاذف كما قال الله ، كالذي تولى كبره ونفر من عصبته ، ومن أفك وأخذ بعد التوبة فقد يعفى عنه ، ومن لم يأفك مشارفا له ، ولو بقي الجو هكذا لابتلى في خوضه أن يأفك متأثرا بقولة الإفك أولا ، ثم بنقله عن الآفكين ثانيا ، وإلى أن يأفك هو دون سناد إلى نقل ثالثا ، وهذه من خطوات الشيطان!

ولأن الافك عند الله كذب ، فنقله دون تكذيب كذب وان لم يأفك الناقل فضلا عن أن يأفك ، فقول القائل : يقولون ان فلانا زنى ، دون تكذيب ، كذب ، وهو مع التكذيب صدق محبور عند من شاع لديه

__________________

(١) حديث ثابت عن الامام الصادق (عليه السلام).

٧٠

الخبر ، وصدق محظور عند من لم يخبر ، فانه إشاعة عملية للفاحشة ، إذ من الناس من يصدق الخبر ولا يصدق كذبه وكثير مّا هم ، ومنهم من يعكس وقليل ما هم ، فليس إذا في نقل إفك مع تكذيبه لغير المخبر إلا ضرر.

وقد كان في هذه الآيات المنبهات المنددات فضل من الله ورحمة في الدنيا ، إن لم يصل أمر الخوض في بعضهم إلى عذاب الدنيا «الحد» وعذاب الآخرة ، إضافة إلى الفضل والرحمة في تطهير الجو للجماعة المؤمنة.

(عَذابٌ عَظِيمٌ) هنا يعم في الدنيا والآخرة ، حيث فضل الله ورحمته في الدنيا والآخرة ، فإجراء الحد على القاذف وعلى من ثبتت عليه الفاحشة منعة عن عذاب الآخرة ، وعن شيوع الفاحشة في الدنيا ، وتحديد الرمي بتلكم الشروط الصعبة فضل من الله ورحمة في الدنيا حفاظا على عرض الجماعة المؤمنة ، والتشديد على مقترف الفاحشة رحمة في الدنيا ألا يبتلى بها ثم لا تكون عنه سنة سيئة ، ورحمة في الآخرة ألا يعذب بها إذ تركها ، أم حدّ عليها!

لقد شملكم فضل من الله ورحمة في الدنيا والآخرة بما أنزل آيات القذف والفاحشة ، شملتكم : إذ تلقونه ... تلقيا في تنقّل كان يسوقكم إلى شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم في الدنيا والآخرة ف (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ولعنة الدارين عذاب عظيم حيث الإفك يؤذي قلب النبي الطاهر ، ومن لعنة الدنيا حدّها ومن لعنة الآخرة عذابها : ـ

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)(١٥).

٧١

تلقي الإفك بالألسن ـ دون شهادة علم او حضور ـ محظور ، أن يسمع إفكا من أيّ كان ، فما يلبث إلّا أن يتلقى ما سمعه بلسانه ليسمع الآخرين كما سمع ، وهذا هو القول بالأفواه حيث لا يتجاوزها إلى علم ، ولا يصدر عن قلب ، وإنما تنقّلا عن ألسن الآفكين إلى أفواه المؤتفكين دون تثبّت ، ومن ثم إلى أسماع الآخرين تكثيرا للقائلين ، وتكديرا للجو على المؤمنين البريئين! (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)! وكما يقوله النبي الكريم «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوى بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض» (١).

ليس لك أن تقول كل ما لك به علم قذفا إلّا بشهود ، فضلا عما ليس لك به علم تلقيا كالبغبغاء بالألسن ، فهل أنت إذا إنسان؟ كلا! ف «لا تدع اليقين بالشك والمكشوف بالخفي ولا تحكم على ما لم تره بما يروى لك عنه ، وقد عظم الله عز وجل أمر الغيبة وسوء الظن بإخوانك المؤمنين ، فكيف بالجرأة على إطلاق قول واعتقاد بزور وبهتان في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (٢) وزوجاته.

اوّل ما يتلقى القول ليس إلّا بالأسماع ، ثم قد ينتقل إلى الألسن ، فكيف (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ...)؟ إنه ما ألطفه تعبيرا عن لقلقة اللسان

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٥ ـ اخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه اخرج الطبراني عن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة.

(٢) مصباح الشريعة عن الامام الصادق (عليه السلام) مستشهدا بالآية «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ...».

٧٢

بالأقاويل دون أية حجة ، حتى كأنها ما وصلت إلى الآذان ، فتملأها العقول ، وتتقبلها القلوب فتنتقل إلى الألسن أم لا تنتقل! فيقولون بأفواههم لا عن علم بعقل أم حسّ أمّاذا من أسباب العلم و «لسان العاقل وراء قلبه وقلب الجاهل وراء لسانه» (١).

لسان الإنسان آلة إذاعة له عما يعتقده ، فإذ لا يتكلم إلّا تلقيا عن الألسن كأن لا وسيط هنالك حتى السمع ، ليس هو إذا لسان الإنسان ، وإنما مسجلة تذيع كلما سجل فيه!

تلقونه بألسنتكم فتقولونه بأفواهكم وليس لكم به علم ، كفى به حماقة وجهالة ، وأكثر بها وأفضح إذ (تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) ان تمسوا عرض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) ما أعظمه! فان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الله عظيم ، فكرامته عند الله عظيمة ، فالمس من كرامته دون علم عظيم على عظيم!

لقد حقت للقلوب أن تتقلب ، وللأكباد أن تتفتّت ، وللعيون أن تذرف دماء بدل الدموع ، وللأسماع ان تصّم حين تسمع أقاويل الإفك ملاءت جو المدينة المنورة هاتكة بيت الرسول الطاهر الأمين!

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ)(١٦).

لم يكن لكم ان تسمعوا الإفك فضلا عن الخوض فيه ، وثم إذا ابتليتم بسمعه لم يكن لكم أن تتكلموا إلّا (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

فقد اقترفتم إثما إذ سمعتموه ، ثم إذ تلقونه بألسنتكم ، وتركتم واجب

__________________

(١) حديث شريف عن الامام الصادق (عليه السلام).

٧٣

القول (ما يَكُونُ لَنا ... سُبْحانَكَ) سبحانك اللهم! بعيد ساحتك أن تبعث رسولا يتدنس بيته بالفاحشة ، بعيد عنك ألا تدافع عن هذا البيت الطاهر إفك الفاحشة ، فإن (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ)!

وترى أن هذا الإفك بخصوصه بهتان عظيم لأنه مس من كرامة الرسول العظيم؟ كلّا! فإن كل إفك بهتان عظيم مهما اختلفت دركاته حسب مختلف الظروف والدرجات لمن يوجه إليه :

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٨).

حكم أبدي صارم على إفك عارم من أيّ كان على ايّ كان وأيان دونما استثناء ، والإفك في مفهوم واسع هو كل فرية بكل إثم أماذا ، دون علم أو سلطان مبين ، تقوله فتتناقله الألسن ، فحتى إن كنت صادقا فيما تقول دون أن تأتي باربعة شهداء أم أية شهادة مقبولة ، فأنت من «أولئك (عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) فكيف إذا كنت لا تدري أم أنت كاذب ، فتطيّر هذه الوقيعة في مؤمن ، فتحلّق على جوّ الإيمان الطاهر فتكدره.

فلأن الله عليم بما يخلّفه الإفك من تكدّر العيش وسلب الطمانينة عن المؤمنين ، ولأنه حكيم يحكم ويربط الانفصالات والانعزالات السوء ، لذلك (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ) هذه «الآيات» لكي تهتدوا إلى صراط مستقيم ، وتنضبطوا بضابط الأمن والإيمان الخلقي الجماهيري لتبنيّ مجتمع طاهر (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

وكضابطة عامة هي سياج على كل التخلفات واللّاأخلاقيات في الكتلة المؤمنة :

٧٤

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١٩).

الفاحشة هي المعصية المتجاوزة إلى غير العاصي كالانحرافات الجنسية ، او المتجاوزة حدها ، او الكلمة الفاحشة كالإفك ، أم أية فاحشة قولية او عملية ام عقيدية!! ولشيوع الفاحشة في الذين آمنوا عوامل عدة ، منها اقترافها جهارا ، يراها من يرى فيجسر على اقترافها وتتناقلها الألسن إلى من لم يرها فيجسر كمن رآها ،! وهي أنحس المصاديق ل (أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ).

ومنها أن تنقل فاحشة تراها إلى غير من رآها ، وهي خفية متسترة ، فتهتك بذلك فاحشة سترها الله ، وتشجّع عليها من لم يطلع عليها و «العامل الفاحشة والذي يشيع بها في الإثم سواء» (١) وقد يكون آثم منه ، و «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» (٢) ف «من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله» (٣).

ومنها أن تنقل فاحشة متجاهرة رايتها ، إلى غير من رآها فيتشجع عليها ، دون أن يؤثر علمه في منعها ، فغيبة المتجاهر جائزة فيما يتجاهر إذا أثرت في تركها أو لم تكن إشاعة لها في نقلها!

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٤ ـ اخرج البخاري في الآداب والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

(٢) الدر المنثور ٥ : ٢٤ ـ اخرج احمد عن ثوبان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

(٣) نور الثقلين ٣ : ٥٨٣ ح ٦٣ عن اصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

٧٥

ومنها أن تنقل فاحشة لم تعلمها ، فإنه فرية على بريء وإشاعة عليه ما يسقطه عن العيون ، وتشجيع لمن يسمعها على اقترافها ، ولا سيما إذا كان المفترى عليه عظيما ذا مكانة بين المؤمنين ف «كذب سمعك وبصرك عن أخيك وان شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدّقه وكذّبهم ولا تذيعن عليه شيئا تشينه به وتهدم مروءته فتكون من الذين قال الله ... (١) و «من بهت مؤمنا أو مؤمنة بما ليس فيه بعثه الله في طينة خبال حتى يخرج مما قال ، ... وهي صديد يخرج من فروج المومسات» (٢).

ترى هذه إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا قولة أو فعلة ام عقيدة فيما هو المحظور؟ فما على من يحبها ولا يشيعها؟ والنص : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ...)!

علّ الجواب أن إشاعة الفاحشة ، ليست إلا عن حب كامن قل او

__________________

(١) المصدر ح ٦٢ في كتاب ثواب الأعمال باسناده إلى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال قلت له : جعلت فداك الرجل من إخواني بلغني عنه الشيء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال لي : يا محمد! كذب سمعك وبصرك عن أخيك ... ثم استشهد (عليه السلام) بالآية وفيه ح ٦٥ عن أبي عبد الله (عليه السلام) من قال في مؤمن ما لا رأته عيناه ولا سمعت أذناه كان من الذين قال الله ...» وفي تفسير البرهان ٣ : ١٢٨ ـ عن الكافي باسناده عن الصادق (عليه السلام) قال : ان من الغيبة ان تقول في أخيك ما ستره الله عليك وان البهتان ان تقول في أخيك ما ليس فيه ، وفيه عن المفيد في اختصاصه قال الباقر (عليه السلام) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال على المنبر والله الذي لا اله إلّا هو ما أعطي مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلّا بحسن ظنه بالله عز وجل والكف عن اغتياب المؤمن والله الذي لا اله إلّا هو لا يعذب الله عز وجل مؤمنا بعذاب بعد التوبة والاستغفار الا بسوء ظنه بالله عز وجل واغتيابه للمؤمنين.

(٢) البرهان : ٣ : ١٢٨ ـ الكافي عن أبي يعفور ... قلت وما طينة خبالة قال : صديد ...

٧٦

كثر ، يدفع صاحبه إلى بثّها ، وإشاعة الفاحشة محظورة لحد يحظر عن حبها وحتى إذا لم تشع! فأية وسيلة تشيع بها الفاحشة في الذين آمنوا ، إن فيها العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، اللهم إلّا من جاهل قاصر ، ومن يعمل عملا أو يقول قولا يشيع به الفاحشة وإن لم يحبها أو يحب إشاعتها ، فهو ممن يحب أن تشيع الفاحشة إلا قاصرا مطلقا.

فإشاعة الفاحشة من المحرمات المغلّظة في الشريعة ، سواء أكانت بفعل الفاحشة جهرة ، أم بنقلها على علم بها أم جهل ، وسواء أثرت في عملية الفاحشة بين المؤمنين فشيوعا لمثل الفاحشة ، أم لم تؤثر إلا تناقل الألسن بالفاحشة ، فإنها لفظة فاحشة ، أم تؤثر في سوء ظن او علم بالفاحشة فهذه عقيدة فاحشة ، فيا لها من ضابطة صارمة عامة هي سياج مرصوص على شيوع الفاحشة في كتلة الإيمان ، وحتى تناقلها عمن اقترفها فضلا عن الأبرياء! وأقل من الكل حبها دون إظهارها وإشاعتها!

فالفاحشة خطوات : من فعلها جهارا إلى اتّباعها ، أو من اشاعة نقلها بين الجماهير ، حتى تهون في النفوس ، ومن ثم الهون في الواقع ، أو من إفكها اختلاقا على الأبرياء ولا سيما العظماء ذووا المكانة الإيمانية في النفوس ، حتى تهون وتهون ومن ثم الواقع الجماهيري للنفوس.

والفاحشة هي القولة الفاحشة من اغتياب أو إفك أو فرية ، والظنة الفاحشة ، والعقيدة الفاحشة والفعلة الفاحشة دون اختصاص بالأخيرة.

و (عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) لا يخص الحد فإن الحب وبعض الإشاعة لا حدّ فيه ، فقد يعمه والتعزير ، وقد يحد او يعزر دون إشاعة ، وإذا حدّ أو عزّر أو تاب فلا عذاب في الآخرة!

إذا ف (عَذابٌ أَلِيمٌ) يعم ذلك وغيره من نكبة تشملهم في عرضهم حين يشيعون الفاحشة على الآخرين ، أماذا من نكبات حاضرة العذاب

٧٧

في الدنيا ، ثم وفي الآخرة عذاب أليم.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢٠).

(وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠) لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٤) لكان لكم (عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١٩)!

هذه خطوات شيطانية يتبعها ضعفاء الإيمان فتوردهم أجيج النيران ف :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢١).

للشيطان خطوات إلى الدرك الأسفل ، يخطوها رويدا خطوة خطوة ، ويجّر ويمشّي فيها كل مستغفل قدر الحاجة من تمشية إلى ما يهواه من هوّات الضلالة ، خطوات متخلفة مختلفة بمختلف جنبات الحياة ، من اقتصادية يجعلها إلى إفراط رأسمالية وتفريط سوسيالية بلشوية تنحية عن الطريقة الوسطى المثلى التي تتطرقها الشرايع الإلهية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) (٢ : ١٦٨).

ثم خطوات أخرى لحمل المؤمنين على الفحشاء ، من سيئة إلى أسوء وإلى فاحشة ، من نقل لها صدقا او كذبا إلى الألسن ، النفوس ، ومن ثم الواقع الخارجي وكما في آية النور.

وبصورة عامة له خطوات من قصيرة إلى طويلة وإلى أطول هي الدرك الأسفل في كل كارثة تخرج الجماهير عن كل سلم وصلاحية من هذه أو تلك ، أم وعقائدية أو سياسية او ثقافية أمّاذا؟ :

٧٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢ : ٣٠٨).

إذن فدخول المؤمنين كافة في السلم كافة يتطلب ترك المتابعة لخطوات الشيطان ، ولكي تسلم الجماعة المؤمنة عن اللّاأمن والزعزعة في كافة الحقول الحيوية الفردية والجماعية ، أمنا اقتصاديا وفي أعراضهم وعقائدهم وسياساتهم وثقافاتهم أمّاذا؟

هنا من خطوات الشيطان التسمّع إلى كل قوّال غير مبال بما قال او قيل فيه ، أم إلى كل مقال دون نظرة إلى صالحه وطالحه (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) (٨ : ٢٤) ومنه ما يسمعه ، أهو زقوم للروح أم شفاء؟ ومن ثم خطوة إلى تقبّلها وإن كان الظن السوء بمن قيل فيه أماذا؟ وخطوة ثالثة إلى تنقلها إشاعة بين الجماهير ، حتى إذا أخذت موقفها فيهم وتمكنت ـ كأنها حق ـ بينهم ، استهانوا في واقعها فاقترفوها وهو منهم ، وهذه هي الرابعة من خطواته ، حيث يمشي بأتباعه ولا يرضى منها إلّا هيه ، أم إلى ثالثة او ثانية ولا أقل من الأولى فإنها مدقّة باب الفحشاء والمنكر (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) مهما كانت خطواته الأولى سيئة صغيرة لا تحذر.

قد يركّز الشيطان خطواته على إنسان يستعد أن يخطوها فإلى الفحشاء والمنكر ، وقد يقتسمها بين أناسيّ ، ليس كل ليخطوها كلّا ، فيحمّل على إنسان أوّل ليتسمع إلى قولة ، ويحمل على ثان ليأخذ عنه تلك القولة الآفكة ، ويحمّل على ثالث أن يذيعها ، ويحمّل على رابع ليقترفها تدليلا على مهانتها وإلى سائر الخطوات.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) تأييدا للمؤمنين وتنديدا بالآفكين ، وتشديدا في شرعته بتهديد وتحديد القاذفين أمّن ذا (ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) فمن مقترف للفحشاء والمنكر ، أم مساعد لهما بإشاعة الفاحشة ، ومن بريء كأول العابدين تتناقل الألسن الإفك على بيته الطاهر ، إذا فما

٧٩

وقف حجر على حجر في حرية الإفك والقذف حيث لا تبقي عرضا ولا تذر!

ولأن الفحشاء والمنكر لا يختصان بالأمور الجنسية وأضرابها ، فلتشملا كل فحشاء ومنكر ومن أنكرها وأفحشها هي العقائدية ، التي يخطوها الشيطان ليورد متبعيه موارد الضلالة خروجا عن ولاية الله ورسوله وولاية الائمة (١).

فالسّلم المأمور بالدخول فيه كافة التسليم لله بتوحيده طاعة وعبادة ، والتسليم لرسوله رسالة ثم التسليم لأولي الأمر من بعده وهم عترته المعصومون إمرة وإمامة ، وهذا المثلث من السلم ـ ومرجعه واحد ـ هو المتكفل للوحدة العريقة بين الذين آمنوا ، ف (لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) التي يخطوها في تقدم ولاية الله أو ولاية رسول الله أو ولاية أولي الأمر منكم ، يخطو في انتقاصها او انتقاضها.

ولا تظنوا أنكم تزكون أنفسكم دونما فضل من الله ورحمة مهما حاولتم في زكاتكم وإلى الذروة (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) بولاية تكوينية وتشريعية ، حيث يشرّع ما يشرّع من سياجات صارمة على كل فاحشة ، ثم يؤيد المتقين في تجنبها ، وقطع ألسنة القذف والإفك عنها! (وَاللهُ سَمِيعٌ) كل مقال «عليم» بكل حال على أية حال.

__________________

(١) كفاية الخصام ٥٣٦ ـ الاصبهاني الاموي روي عن علي (عليه السلام) بعدة طرق ان السّلم ولايتنا أهل البيت ، ومن طريق الخاصة ينقل اثني عشر حديثا تماثله معنويا.

٨٠