الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

الضافية ، وتستر الجنن الواقية واللباس هي افصح العبارات عن هذا المعنى. ثم وفيه النوم انقطاعا عن حركات النصب فهو سبات ، كلباس آخر على الإنسان ، ثم يتنفس الصبح فيتنفث الروح في حياة البدن كما كان ، وتنبعث الحركات فهو نشور عن هذا الموت القصير اليسير ، أفلا يدل تلاحق الليل والنهار بلباس السبات ونشور النهار ، على امكانية تلاحق الموت والحياة ، وفي واقعه حق العدل وعدل الحق؟

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)(٤٩).

«الرياح» هنا ليست كل الرياح ، حيث البعض منها نذر بين يدي غضبه ، و «رحمته» هنا الماء النازل من السماء ، فمهما كانت الرحمات المادية عدة ولكن الماء هو أمّ الرحمات : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) لذلك ف «رحمته» هنا وكأنها كلها ، تعبير عن ماء السماء.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) في جمعية الصفات «نا» تلميحة أن ماء السماء يحمل جمعية الرحمات ، دلالة ثانية على عظم الرحمة في الماء ، ومن عوائده : «لنحيي ... لنسقي» إحياء لميتات ، واستبقاء لحياة. و «طهورا» في مواصفة الماء تجعله في قمة الطهارة بين الأطهار ، فلو كان طاهرا في نفسه غير مطهر لغيره لكان «طاهرا» لا «طهورا» والفعول مبالغة في الطاهر ، ولا معنى لمبالغة الطهارة إلّا أن تتخطى الطاهر إلى سواه ، تطهيرا لما سواه من قذارات ونجاسات ، وأحداث وأخباث ، فيشمل الطهارتين على غرار التفاصيل المسرودة في السنة المباركة.

وقد فصلت هذه الطهورية وفسّرت في الأنفال : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ

٣٢١

السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) (٨ : ١١) وهو الجنابة ، فبأحرى إذهابا للحدث الأصغر.

وترى ذلك الطهور ماء السماء ، فأين الطهورية لمياه الأرض؟ إنها كلها من نازلة السماء : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٢٣ : ١٨) (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (١٦ : ٦٥) وفي الخبر «التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج» (١) و «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا» (٢) ولولا انه يعني المطهر لم ينتظم معناهما! فسواء أكان الطهور مبالغة ام اسم آلة وهو ما يتطهر به فالمعنى واحد.

فما دام صدق اسم الماء يقينا أو استصحابا ، فحكم الطهور ثابت يقينا أو استصحابا ، وحين لا يصدق عليه اسم الماء ، أو يشك فيه شكا بدائيا أنه ماء أم ليس ماء ، دون علم بحالته السابقة ، فليس ـ إذا ـ طهورا ، اللهم إلّا طاهرا لقاعدة الطهارة ، اللهم إلّا في المعلوم عدم كونه ماء وقد دخل فيه النجس فمحكوم بالتنجس ـ على خلاف ـ أم عدم التطهير به دون خلاف.

وعلى حدّ المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «الماء طهور لا ينجسه شيء» (٣) اللهم إلا إذا أخرجه عن اسمه فليس ـ إذا ـ ماء

__________________

(١ ، ٢). تفسير الفخر الرازي ٢٤ : ٩٠ نقلا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٣) الدر المنثور ٥ : ٧٣ ـ اخرج الشافعي واحمد وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال : ...

٣٢٢

حتى يكون طهورا.

وكما ان ماء السماء الطهور يطهّر الميتات عن نجاسات الموات ، ويستديم الحياة ، ويطهر عن الاخباث والاحداث ، كذلك ـ وباحرى ـ ماء الهدى النازل من سماء الوحي : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) ... فانه يحيي القلوب الميتة المتحرية عن حياة.

فقد يعنيهما معا دون تأويل (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ ...) واين طهور من طهور؟!

وكما نرى عند هذا المقطع من استعراض المشاهد الكونية يلفت أنظار الناظرين إلى مصرّف القرآن النازل من أعمق أعماق سماوات الوحي ، تطهيرا للقلوب والأرواح :

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (٥٠).

والتصريف هو الصرف من هنا إلى هناك وهنالك ، والله يصرف المعارف القرآنية بالمعارض الكونية المعروضة بين أيديهم «ليذكروا» من المحسوس إلى سواه ، حيث الكتابان : تكوينا وتدوينا ـ متجاوبان.

«صرفناه» : الوحي ككلّ في مصارف عدة حسب الحاجيات والقابليات والتطلبات المعقولة ، و «صرفناه» : القرآن في منازل القلوب كما يصرف ماء السماء : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (١٣ : ١٧) والقلوب أوعية فخيرها أوعاها (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) في تاريخ الرسالات ، و (أَكْثَرُ النَّاسِ) في هذه الرسالة الأخيرة «إلا كفورا» كفران نعمة الوحي او كفرا به ، فقليل هؤلاء الذين يؤمنون ، والكافرون كثير.

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ

٣٢٣

بِهِ جِهاداً كَبِيراً)(٥٢).

«لبعثنا» و «نذيرا» مما يختص بالمرسلين دون سائر الدعاة إلى الله «ولو» تحيل تلك المشيئة الفوضى ، أن يبعث في كل قرية نذيرا ، وكأنهم قراء التعازي ومجهزي الأموات ، فتصبح الرسالة رخيصة بخيسة ولعبة بأيدي الناس.

فإنما الرسالة ـ أية رسالة ـ لا بد أن تكون في أمهات القرى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) (٢٨ : ٥٩).

ثم (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٣٥ : ٢٤) إنما تستغرق النذارة لكل أمة ، لا كل قرية ، فكل أمة منبثة في قرى يبعث الله في أمها رسولا.

ذلك في عامة الرسالات ، وأما الخاصة ولا سيما في أولي العزم الذين دارت عليهم الرحى ، فالرسالة الأصيلة في كل قرية مستحيلة في بعد ثان إضافة إلى الاوّل ، وكيف يبعث في كافة القرى في كل أنحاء العالم رسل كمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا سيما في الطول التاريخي ، كلما مات محمدون أتى محمدون آخرون!.

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) في متطلباتهم الهباء الخواء ، ولا تسايرهم ، بل (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) بالقرآن وبعثتك لبثّه (جِهاداً كَبِيراً) مدى كبر هذه الرسالة الخالدة.

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً)(٥٣).

المرج هو الخلط فقد يكون تماما في مزج تام ، ولا برزخ ـ إذا ـ بينهما ،

٣٢٤

أم هو مرج القرن ، ألّا فاصل محسوسا بين بحري العذب الفرات والملح الأجاج ، وهو المعني من مرجهما هنا (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) فاصلا (وَحِجْراً مَحْجُوراً) عبارة أخرى عن الفاصل بينهما ، فقد خلاهما في مذاهبهما ، وأرسلهما في مجاريهما كما تمرج الخيل ، اي تخلى في المروج ، وهي مواضع مراعيها ، ووجه العجاب هنا أنه سبحانه مع التخلية بينهما في تقاطعهما ، والتقائهما في منافعهما ، لا يختلط الملح بالعذب ، ولا يلبس العذب بالملح ، إذ قد مرج بينهما.

ثم هنا من ماء السماء ، إلى ماء الأرض والبحر وإلى ماء النطفة ، فكل منها مادة للحياة :

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)(٥٤).

أترى «الماء» هنا هو مطلق الماء الذي جعل منه كل شيء حيّ ، ف «بشرا» يعم البشر الأول كنسله سواء؟ ولم يخلق آدم من ماء ـ فحسب ـ بل من تراب وطين! (... وَبَدَأَ خَلْقَ (١) الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣٢ : ٨).

ف «الماء» هنا هو خصوص ماء المني ، كما «بشرا» يخص نسل الأبوين الأولين.

ومقابلة «صهرا» ب «نسبا» قد تدلنا أنه السبب التالي للنسب ، فالأوّل من ذلك الماء نسب من بنين وبنات ، وأحفاد ، ثم الثاني سبب في زواج البنين بالبنات الأغارب ، والبنات بالذكور الأغارب ، فالنسب هو الماء الأول ، والصهر السبب هو التالي ، وقد يعني النسب الذكر ، والأنثى هي الصهر لأنها موضع الصهر ، وعلى أية حال فهو السبب قبال النسب ، أيا كان سببه.

٣٢٥

«فجعله» : الماء البشر قسمين (نَسَباً وَصِهْراً) ـ (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) لا يغلب على أمره.

ورغم أن الخلايا الذكورية والأنثوية ، من كروموزمات وجينات تكوّن النويّة الصغيرة ، خلايا وبويضات متشابهة ، نراها تنشئ ذكورا وإناثا بطريقة عجيبة ، ولحد الآن ما اطلعت البشرية على تقدمها العجيب ، على الميّزة التي تجعل واحدة ذكرا وأخرى أنثى (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً).

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً)(٥٥).

(ما لا يَنْفَعُهُمْ) واضح لا مرية فيه ، فكيف «لا يضرهم» وإن الشرك لظلم عظيم؟ إنه ليس مطلق الضر ، وإنما ضر في ترك عبادتهم أن يعاقبوهم هنا أم في الأخرى ، ولكن الله ينفعهم عابدين ، ويضرهم تاركين ، في الأولى وفي الأخرى.

وهذه حماقة كبرى أن تترك عبادة من ينفع ويضر إلى عبادة ما لا ينفع ولا يضر هباء منثورا! (وَكانَ الْكافِرُ) منذ كفره المعمّد (عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) مستظهرا بعباده عليه ، ولن يضروا الله شيئا.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً)(٥٦). وعلّ تقديم «مبشرا» على تأخره في الدعوة عن «نذيرا» لأنه هو الأصل المرام ، وهذا تحضير للمرام.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(٥٧).

إن المودة في القربى التي طرحت بصيغة الأجر : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٤٢ : ٢٣) إنها ليست في الحق أجرا للرسالة فإنها ليست إلا لكم دوني : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ

٣٢٦

إِلَّا عَلَى اللهِ) (٣٤ : ٤٧)(١).

ف (مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) هو المسؤول عن ذلك الأجر ، وهي السبيل مع الرسول إلى الله : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) حيث المودة في هذه القربى تقربكم مع الرسول إلى الله زلفى.

ففي الحق إن المودة في القربى أجر للرسالة حيث تبلّغها كما ترمى ، وليست أجرا للرسول إذ لا يرجع إليه نفعها ، فهو استثناء متصل من جهة ، منفصل من أخرى.

أجل ـ ليس للرسول مطمع ومطمح في أجر لهذه الرسالة الناهضة الباهضة على أعبائها ، فليست هناك إتاوة ولا نذر ولا قربان يقدّمه المسلم لكي يسلم ، فلا كاهن هنا يتقاضى ثمن كهانته ، ولا وسيط يقبض أجر وساطته ولا هنا رسم دخول ، وإنما يدل هذا الدين بكل بساطة ، إقرارا بالشهادتين ، وتقريرا لمعناهما حسب المستطاع : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) وهذا هو وحده الأجر إن صحت صيغة الأجر ، وهي تصح في لطافة التعبير وإناقته ، ثم يا رسول الهدى ، لا عليك في هذه السبيل الشاقة الطويلة من سبيل إلّا :

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً)(٥٨).

لا توكّل لك ولا عليك هنا على دعوتك ولا على المدعوين لك ، وإنما (عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) ف «توكل» (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) تنزيلا له في إيجابية الصفات عما يوجب التحديد والتشبيه ، فسبّحه فيها عن كل تشبيه «وكفى

__________________

(١) راجع لتفصيل البحث إلى الفرقان في سورتي الشورى والسبأ.

٣٢٧

به» لا سواه (بِذُنُوبِ عِبادِهِ) وعقباهم في أعمالهم المستوخمة في أولاهم وعقباهم «خبيرا» لا يعزب عنه من مثقال ذره ، فإنه :

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)(٥٩).

خلقهما في ستة أوقات (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١١ : ٧) قبل أن يخلقهما (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ) برحمة عامة بعد خلقهما ، فهو الذي أحاط بهما قدرة وعلما (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً).

فالرحمن الخالق لهما هو الرحمن المسيطر عليهما المدبر لهما (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) والإستواء على العرش هنا هو السلطة الرحمانية العامة بعد خلقه واقعا ، مهما كانت له السلطة العلمية قبله تقدير الواقع (١).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً)(٦٠).

المشركون رغم ما هم مقرون بالرحمن (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ولكنما التعوّد على عبادة شركائهم جعلهم كأنهم ناكرو الرحمن ، لحدّ (وَمَا الرَّحْمنُ) تعبيرا عنه في نكران ذي بعدين بعيدين عن كافة الآداب ، ف «ما» هي لغير ذوي العقول ، ثم سؤال الاستعجاب به جواب عجاب عن السجود للرحمن «وزادهم» ذلك القيل «نفورا» عن الرحمن.

__________________

(١) البحث الفصل في الأيام الستة تجدها في فصلت ، وعند العرش في الحاقة واضرابهما.

٣٢٨

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)(٦٢).

بروج السماء تطلب من سورة البروج ، وخلفة الليل والنهار هي إتيان كلّ خلف الآخر كخليفة له ، فمن أراد أن يذّكّر التوحيد فهذه الخلفة تفيده أن هناك فاعلا مختارا واحدا لوحدة النظم بألوان النظام ، ومن أراد شكورا أن يذّكر المعاد ، فهما كتواتر الموت والحياة خلفة بعض ، ومن أراد أن يذكر ذكر الليل الفائت بالنهار ، أو ذكر النهار الفائت بالليل فكلّ خلفة بعض (١).

ففي حالة الاضطرار أو النسيان كلّ منهما يخلف الآخر فيما يخصه لحالة الإختيار ، فالفرائض الليلية تقضى نهارا ، والنهارية تقضى ليلا كما تقضى كل في زمنه بعد مضي وقته.

__________________

(١) في الفقيه قال الصادق (عليه السلام) كلما فاتك بالليل فاقضه بالنهار قال الله تبارك وتعالى (وذكر الآية) يعني ان يقضي الرجل ما فاته بالليل وبالنهار وما فاته بالنهار بالليل «أقول : وما الطفه استنباطا من الآية!

٣٢٩

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ

٣٣٠

مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)(٧٧)

هنا مواصفات لعباد الرحمن ، إيجابيات سبع وسلبيات خمس ، عدد الشهور ، كأنها تجمع أعمال السنة :

(١) (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً).

والهون ضما مذموم ، وهو التذلل من جهة متسلّط مستخف به (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) وهو بالفتح تذلّل في قرارة النفس تخضعا لله وتواضعا لعباد الله دون غضاضة ورضاضة ، وهذا من ميّزات عباد الرحمن وذلك لعباد الشيطان.

والمشي على الأرض هو الحياة الأرضية مشيا أم دون مشي ، قياما أو

٣٣١

قعودا ، ولان المشي هو الأصل البارز في حراك الحياة ، لذلك «يمشون» دون سواه ، وكما القيام يعم كل حراك في الحياة.

ويقابلهم عباد الشيطان الذين يسطون ـ وحتى ـ على الرحمن ، في قولتهم الخواء (وَمَا الرَّحْمنُ)؟! هؤلاء الأكارم يتبنّون حياتهم هونا مع الله ومع عباد الله التقاة ، وأما مع الطغاة فلا هون ، وأكثر تقديره «سلاما» دون هون ولا استكبار ، ثم التكبر مع المتكبر عبادة.

فلأنهم عباد الرحمن فهم جبلّتهم التواضع ، فالماشي هونا «هو الرجل يمشي بسجيته التي جبل عليها ولا يتكلف ولا يتبختر» (١).

فلا يعني «هونا» أنهم يمشون متماوتين أذلّاء منكسي الرؤوس ، متهاوي البنيان ، فهذا رسول الله أفضل عباد الرحمن كان أوقر الناس وأحسنهم وأسكنهم مشيا «كأن الشمس تجري في وجهه» و «كأنما الأرض تطوى له» (٢) «إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب» (٣) ارتفاعا من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة.

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ١٧٣ ـ الطبرسي في الآية قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) : ...

(٢) زاد المعاد في هدى خير العباد لشمس الدين أبي عبد الله محمد ابن قيم الجوزية عن أبي هريرة : ما رأيت شيئا احسن من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأن الشمس تجري في وجهه وما رأيت أحدا اسرع في مشيته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنما الأرض تطوى له وانا لنجهد أنفسنا وانه لغير مكترث.

(٣) المصدر عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا مشى ...

٣٣٢

يمشون على الأرض سهلة هينة لينة ، دون مرح او جبروت وخيلاء ولا تنفّج ولا تصعير خد او تخلّع او ترهّل ، فالنفس الزكية السوية المطمئنة تخلع من صفاتها على مشية صاحبها في الحياة الأرضية بكل حركاتها وسكناتها ، بكل وقار وطمأنينة وسكينة.

إنهم هون حتى مع الجاهلين ، دون المتعندين المستكبرين ، فهناك هم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ).

((٢) وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً).

فالمخاطبة الجاهلة لا تبعثهم لحراك في عراك مع الجاهلين ، والاشتباك مع السفهاء والحمقى ، ترفعا عن المهاترة ، لا عن ضعف أو خوف لمقابلة بمثل ، وإنما صيانة للوقت ، واستعلاء على الموقف ، وتزكية لنفوس جاهلة بمقابلة «سلاما» علها ترجع عن غيها.

وليس (قالُوا سَلاماً) ـ فقط ـ قولهم : سلاما ، فقد يرجع ذلك القول إلى تحريض لهم أكثر ، كمن هم عارفون بعض الشيء هذه الآية ، فإذا قلت سلاما انبروا : أنت تعتبرنا من الجاهلين في قولك سلاما؟

وإنما «سلاما» هو قول يجعلهم في سلم عن جهالتهم ، تنازلا عن غلوائهم ، وذلك القول السلام يختلف بمختلف الحالات والطويات.

ومن ناحية الأدب اللفظي ليس سلاما مفعولا ل «قالوا» بل هو وصف لمفعول ك ـ قولا ، قالوا : قولا سلاما ، ومنه السلام عليكم ، ومنه سواه كما يناسب معالجة الموقف الجاهل او المتجاهل.

هذه مشيتهم في وضح النهار ، وأما هم في ظلم الليل :

(٣) (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً)

٣٣٣

إن حراكهم في جنح الليل والناس نيام هي حركات السجدة والقيام ، وهما تعبيران عن التهجّد وسائر القيام في ظلم الليل.

وهنا «لربهم» تزيل وصمة الرئاء ، وكل سمة غير ربانية هي في الحق وصمة البيتوتة ، وإنما هي «لربهم» لربوبيته لهم ، وأن السجود والقيام يربيانهم ويقربانهم إلى ربهم زلفى.

إنهم يقومون عن نومة ملذّة مريحة لألذ منها وأريح روحيا ، فما ألذ ذكراك في ظلم الليل يا رب ، وحين نضع لك خدودنا على التراب يا رب ، وحين نبكي لفراقك بذنوبنا يا رب ، فما ألذّ ذكراك ، وما أعز دعواك؟.

٤ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً).

«يقولون» في قيامهم وسجودهم ليل نهار «ربنا» وما ألذ نداء وما أعزه لنا أن يسمح لنا بالقول الدعاء : «ربنا» وهم على ما هم عليه من عبادة وارتياضة لربهم يتخوفون من عذاب جهنم ، ولا يحتّمون لهم على الله الجنة : (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) هنا في الأولى صرفا عن أقوال وأعمال وأفكار ونيات جهنمية ، وهناك في الأخرى عما نستحقه من عذاب بما اقترفناه بما نتوب إليك في الأولى ، أو يشفع لنا أهلوها.

فمهما تعذبنا في الأولى في أذيّات وحرمانات في سبيلك «ربنا» فهي ملذات في هذه السبيل ، وليست غراما لزاما ، وأما جهنم الغضب العذاب ف (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) : لزاما ، فجحيم الدنيا في أعمالها الجهنمية لزام إن لم تعف عنا «ربنا»! وجحيم الأخرى لزام إن لم تصرفه عنا «ربنا»! فصرفا صرفا «ربنا»! (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)!

٥ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)

٣٣٤

إنهم حياتهم قوام في كل قعود وقيام ، دون إفراط أو تفريط ، وإنما عوان بين ذلك قوام ، ونموذجا لذلك القوام موقفهم في إنفاقهم في سبيل الله ، مالا او حالا ، نفسا أو نفيسا ، اللهم إلّا فيما القوام يتطلب استئصالا كما القتال في سبيل الله.

إن القوام الوسط العفو هو أدب الإنفاق ودأبه الدائب لعباد الرحمن (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢ : ٢١٩) وهو الزائد عن حاجيات الحياة غير المسرفة ولا المبذرة ولا المكتنزة ، اللهم إلا في حالات استثنائية تتطلب إنفاقا أكثر ، كتبصرات على قانون العفو ، ف (لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (١٧ : ٢٩) فلا إسراف في الإنفاق ، أن ينفق حتى من ضروريات حياته المنزلية ، أن يجعل أهله جياعا ام مضيّقين وهو ينفق نفقتهم في سبيل الله! ولا قترا أن يبخل بإنفاق الزائد عن حاجياته (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) وهو ما يقوم به الشيء ، قواما لحياته ، وقواما لحياة المحاويج ، دون تهديم لحياة وإقامة لأخرى.

وذلك الإنفاق يعم الإنفاق على نفسه وأهله وسواهم ، فمثلث الإنفاق لعباد الرحمن قوام خارج عن الإفراط والتفريط (١).

ومثلا لطيفا للقوام ما يخرج من بين الأصابع ويبقى في الراحة منه

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ١٧٣ ـ الكليني عن عدة من أصحابنا عن احمد بن أبي عبد الله عن محمد بن عمر وعن عبد الله بن ابان قال سألت أبا الحسن الاول (عليه السلام) عن النفقة على العيال فقال : «ما بين المكروهين الإسراف والإقتار» أقول : وهو استفادة لطيفة من آية القوام.

٣٣٥

شيء ، (١) فانه راحة لصاحب الراحة ولمن يخرج لهم من بين أصابعه.

٦ ـ (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) وهذا هو التوحيد فكيف تأخر عن لزاماته؟ علّه خالص التوحيد ، تخلّصا عن الرئاء والسمعة في الإنفاق وفي سائر العبادة ، فالتوحيد هو الأساس ل (عِبادُ الرَّحْمنِ) وهو مفرق الطريق بين كل صالح وطالح ، عقيدة وعملا وإيمانا.

٧ ـ (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) وهذا مفرق الطريق بين الحياة الآمنة المطمئنة ، التي تحترم الحق ، والنفوس المحرمة المحترمة ، وحياة الفوضى التي لا أمن فيها ولا فلاح.

٨ ـ (وَلا يَزْنُونَ) ومن عضالة هذه الفاحشة الكبيرة قرنها بقتل النفس وبالإشراك بالله (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً).

و «ذلك» هنا هو المحرمات الرئيسية الثلاث : «الإشراك بالله ـ قتل النفس ـ الزنا» (٢) والأثام هو وبال الأمر ، (يَلْقَ أَثاماً) يوم الدنيا قليلا وفي الأخرى كثيرا ، وبذلك يفسر (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فإنها

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ١٧٣ ـ الكليني بسنده المتصل عن عبد الملك بن عمرو الأحول قال : تلا ابو عبد الله (عليه السلام) هذه الآية «آية القوام» فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ثم قبض قبضة اخرى فأرخى كفه كلها ثم قال : هذا الإسراف ، ثم قبض قبضة اخرى فأرخى بعضها وقال : هذا القوام.

(٢) الدر المنثور ٥ : ٧٨ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اي الأعمال أفضل ... وسألته أي الذنب أعظم عند الله؟ قال : الشرك بالله قلت ثم أي قال : ان تقتل ولدك ان يطعم معك فما لبثنا إلّا يسيرا حتى انزل الله (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ ...).

٣٣٦

ليست مضاعفة على الاستحقاق ، وإنما هي على ما يلقاه يوم الدنيا ، جزاء وفاقا ولا يظلمون نقيرا (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) أبدا وغير أبد حسب دركات العصيان ، مهما تكون عاقبة أمره في النار الموت والبوار ، حيث لا تبقى نار ولا أهل نار ، جزاء العصيان المحدد بعقوبة محددة.

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠). وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً)(٧١).

(إِلَّا مَنْ تابَ) إلى الله مما اقترف مهما كان شركا وسواه «وآمن» بعد ما كفر إيمانا أو عملا صالحا (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) يجبر طالحه (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) لا فحسب أنه يغفر لهم فلا حسنات ولا سيئات ، فكما هم بدلوا سيئاتهم حسنات كذلك الله يبدل سيئاتهم حسنات ، فسيئة إشراكهم بحسنة التوحيد ، وقتلهم النفس بحسنة قتال المشركين ، وزناهم بحسنة حلّ النكاح ، بل وسيئات أخرى هي من اللمم : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً).

فالحسنات الكبيرة كفارة عن الحسنات الصغيرة المتروكة ، والسيآت الكبيرة كفارة عن الصغيرة ، وهكذا تبدّل السيآت بالحسنات ، دون فوضى جزاف ، فهنا سيئاتهم هي الكبائر ، وحسناتهم هي التوبة عن الكبائر بشروطها ، والتبديل هنا أنه تعالى يقبل توحيدهم بعد الشرك فقد بدله به ، وقتلهم النفس التي حرم الله ، فقد بدلهم بقتال المشركين ، وزناهم وقد بدلها الله بنكاح المؤمنات.

ونص الآية (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) لا «بحسنات» فسيئاتهم هي التي تبدل بحسنات مكانها كما بيننا ، لا ان الله يكتب بدل سيئاتهم السابقة حسنات وهم لم يعملوها ، حتى تصدق الرواية المختلقة الزور : «يتمنى العبد

٣٣٧

أن سيئاته كانت أكثر مما هي» (١).

وبصيغة اخرى ، الكفر هو مبدأ السيآت ، والتوحيد هو مبدأ الحسنات ، فلما بدل الشرك توحيدا ، فقد بدل مبدأ السيئة حسنة ، ثم تتواتر الحسنات كأنها اتوماتيكية على اثر الايمان الصالح والتوبة النصوح.

ولماذا (يُبَدِّلُ اللهُ) وصاحب السيئة هو الذي بدل؟ لان الله هو الذي يقبل توبته ، وهو الذي يقر في قلبه التوحيد ، وهو الذي يوفقه لحسنات على غرار التوحيد.

٩ ـ ١٠ (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)(٧٢).

الزور فتحا هو الميل من حق إلى باطل أم من باطل إلى حق ، أم من حق إلى حق ، أم باطل إلى باطل ، ومنه الزيارة والتزاور في هذا المربع ، والزور ضما هو الميل عن حق إلى باطل ، تصويرا للحق بصورة الباطل ، او الباطل بصورة الحق ، فمنه الكذب والبهت والفرية ، ومنه اللهو (٢) ومنه شهادة الزور (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) حضورا له مهما لم يشاركوا

__________________

(١) الدر المنثور : ٥ : ٨٠ ـ اخرج عبد بن حميد عن عمرو بن ميمون في الآية قال : حتى يتمنى. وقد رد عليه ما اخرج عبد بن حميد عن أبي العاليه انه قيل له : ان أناسا يزعمون انهم يتمنون ان يستكثروا من الذنوب قال ولم ذاك قال : يتأولون هذه الآية (يبدل الله سيئاتهم حسنات) ، فقال ابو العالية وكان إذا اخبر بما لا يعلم قال : (آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) ثم تلا هذه الآية : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً).

(٢) تفسير البرهان ٣ : ١٧٦ ـ الكليني بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : الغناء.

٣٣٨

فيه ، وحضورا لشهادة الزور مهما لم يشهدوا ، وحضورا لكي يشهدوا الزور ، كل ذلك منفي ب (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) حيث الكل محرمات ولكنها دون الثلاث السابقة (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) وهو كل ما لا يعنى (مَرُّوا كِراماً) ولا يشهدون ولا يشاركون ، فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر والتبذر ، وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى اللغو الفارغ.

١١ ـ (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً)(٧٣).

فهم عند ذكرى آيات ربهم ، لا يصمون عن قوارع النذر ، ولا يعشون عن مواقع العبر ، متطلعين إلى نور وهدى ، رغم غيرهم حيث يخرون على آيات ربهم صما لا يسمعون ، وعميانا لا يبصرون ، آيات سمعية وبصرية كالقرآن ، أم سمعية او بصرية كسائر الآيات آفاقية وأنفسية ، مسموعة لا تبصر ، ام مبصرة لا تسمع ، أم تسمع وتبصر.

١٢ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)(٧٤).

هنا وبعد ما اكتملت في هذه الأدعية كل شروطات الإيمان بحبل من الله وحبل من الناس ، في رئيسية الإيجابيات والسلبيات ، نرى (عِبادُ الرَّحْمنِ) يطلبون من الرحمن قمة الإيمان وهي الإمامة للمتقين ، وما لم يصل العبد إلى قمة التقوى لا يحق له تطلّب (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً).

أجل ـ ولأن لكل حال مقال ، ولكل دعاء مجال ، فلنختص هذه الدعاء بمن تخطّى كافة درجات الإيمان ، حتى يحتل الإمامة للمتقين ككلّ ،

٣٣٩

كما الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) فانه إمام المتقين على الإطلاق ، من الملائكة والجنة والناس أجمعين ، من نبيين وأئمة طول الزمان وعرض المكان.

ومن ثم الطاهرون المعصومون من عترته ، فاطمة الصديقة والأئمة الاثنى عشر (٢) في مرحلة ثانية من إمامة المتقين ، ثم العلماء الربانيون في كل عصر ومصر ، وبطبيعة الحال «المتقين» في كل مجالة من هذه المجالات تقدر بقدرها سعة وضيقا ، إلّا الإمامة المطلقة غير المحدودة كما للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

وترى هؤلاء الرجال الأتقون لهم إمامة المتقين ، فهل النساء كالصديقة الطاهرة (عليها السلام) لها إمامة المتقين كما لهم؟

لأن الإمامة هنا هي إمامة التقوى ، أن يصبح الإمام أسوة للتقوى ، سواء أكان نبيا أو وصيا أم اي أسوة للتقوى ، فهذا الدعاء ـ إذا ـ

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ١٧٧ محمد بن العباس بسند عن أبي سعيد الخدري في الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لجبرئيل : من أزواجنا؟ قال : خديجة ، قال : ذرياتنا؟ قال : فاطمة ، قال : قرة أعين؟ قال : الحسن والحسين ، (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) قال : امير المؤمنين ، أقول هذه انتقالة لطيفة من امامة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى امامة امير المؤمنين حيث المذكورون دليل على امامة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

(٢) المصدر القمي بسند متصل عن ابان بن تغلب قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الآية قال : هم نحن اهل البيت ، وعن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية ـ اي هداة يهتدى بنا وهذه لآل محمد (عليهم السلام) خاصة ، وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

٣٤٠