الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) ممن بيده أمره أهلا أو وليا أو وكيلا ، حيث البيوت المسكونة لها عورات غير عورات أهلها ، فإن لم تكن فهي بعد ملك لأصحابها لا يجوز دخولها إلّا بأذن (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا) عن أبوابها «فارجعوا» ولمّا تدخلوا أم دخلتم ، فليس الدخول ـ فقط ـ محظورا ، بل والوقوف على أبوابها حين لا يؤذن بدخولها ، كما والدخول بإذن محدد بما لم يؤمر الداخل بالرجوع.

فإن في قصد أبواب الناس حالات ومجالات مختلفة الأحكام ، ففيما تتأكد رضى أهل البيت أن تقصدهم أو تشك ، تقصده باستيناس ، فإما دخول بشرطه أم رجوع عند فقده ، فلا وقوف إلّا استيناسا.

وفيما تتأكد عدم الرضى فلا قصد إليها ولا وقوف ، إذ لا يسمح إلّا الدخول المأذون او الاستيناس ، (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) حيث الوقوف دون مبرّر على أبواب الناس مزرءة على الناس ، ف «هو» عدم الدخول و «هو» الرجوع قبل الدخول او بعده ، بإذن ودون إذن ، «هو» فيهما (أَزْكى لَكُمْ) وفي خلافه خلافها ، فلا يصح لمؤمن أن يقف على باب ليس له دخولها فإنه موضع تهمة له ولأهل البيت! ولا يصح له البقاء في بيت دخله ـ وإن كان بإذن ـ إذا قيل ارجع بعد إذن ، فضلا عن غير إذن!

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من وقفة مسموحة او محظورة إمّا ذا من أعمال «عليم» تواجهونه في أعمالكم دونما خفاء فلا خداع!

وعلّكم تتحرجون تجرّحا من قيلهم «ارجعوا» ولكن لا ، ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة ولا هزازة ، ولا أن تستشعروا من أهل البيت نفرة الإساءة ، فللناس أسرارهم وأعذارهم وظروفهم الخاصة ، لو

١٠١

أنهم اختجلوا من طارق واستقبلوا دون استعداد تضايقوا متحرجين ، وهل أنت كمؤمن ترضى تضييقا على أخيك أن تدخل بيته ، وهل أنت تقبل أن يدخلوا بيتك دون أهبة ، لا ، ـ إذا ـ فارجع شاكرا لأهله كما كنت تدخل شاكرا ، اللهم إلّا إذا كان قيلهم «ارجعوا» مهانة قاصدة دونما عذر ، هنالك فارجع غير راجع إليهم إلّا إذا اعتذروا ، فاقبل عذرهم كريما لكي يقبل الله عذرك (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)!

هذه هي البيوت المسكونة مهما لم يكن فيها أهلها ، وأما غير المسكونة التي لكم فيها متاع؟ ف :

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٢٩).

ماذا تعني (بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ)؟ ومن ثم (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ)؟ هل إنها بيوت لها أصحاب خصوص خربت فلا تسكن؟ وعدم السكن لخرابها لا يخرجها عن ملك أهلها! ولا يجعلها من بيوتكم فهي غير بيوتكم!

أم عامرة لا يحتاج أهلوها أن يسكنوها؟ وليس لزامه عدم الحاجة إلى بيعها أو إيجارها! وليست هي بيوتا غير مسكونة بمجرد خلّوها عن أهلها! فإنها داخلة في الآية التي مضت (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ...)!

أم هي البيوت التي تركها أهلوها إعراضا عنها لخرابها أو الاستغناء عنها؟ قد يجوز ان تعنيها الآية فيما تعنيه ، ولكن العامرة منها ليست غير مسكونة ، مهما تركت لفترة طالت أم قصرت!

أو أنها البيوتات العامة التي لا تسكن ، وإنما تدخل لاستراحة أو

١٠٢

متاع ، كالدكانات والخانات والحمامات والأرحية (١) أمّاذا من بيوتات ليس لها سكان خصوص ، مهما كان لها أهل يملكونها ، أم ليس لها أهل خصوص ، من موقوفات عامة ، أو أملاك خاصة جرت العادة على دخولها دون إذن فإنها كلّها بيوت غير مسكونة لكم فيها متاع : المتعة الاستراحة ، كالفنادق والمثاوي والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن الدائم ، والخانات في الطريق ، أو متعة الاستحمام والتخلي كالحمامات وبيوت الخلاء ، أو متعة البيع والشراء كالدكاكين وبيوت التجارة ، أو أية متعة من المتع المحلّلة فلا استئناس فيها ولا استئذان مهما كان في دخولها أجرة ، أم دفع ثمن للمعاملة أمّاذا؟

ف (مَتاعٌ لَكُمْ) يعم المتعة المجانية كما في الموقوفات العامة ، أو ما فيها أجرة كالحمامات والسيارات ، ويعم وجود متاع لكم من أموال مودوعة فيها أماذا؟ او المتعة المعنوية كالمدارس وأمثالها مما تمتّع علميا كمشروعات عامة ، دون اختصاص بمتاع دون متاع إلّا كونه حلا ، ولا بيوت غير مسكونة دون بيوت ، إلّا أن تكون خاصة بيّنت أحكامها في الآية التي قبلها!

لقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون المخلصون معه (صلى الله عليه وآله وسلم) اوّل من تأدب بهذه الآداب لحدّ ما كان

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٤٠ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن مقابل بن حيان في حديث ... فلما نزلت آية التسليم في البيوت والاستئذان فقال ابو بكر يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان ، فرخص الله في ذلك فانزل الله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) بغير إذن.

وفي نور الثقلين ٣ : ٥٨٧ ح ٩٠ القمي عن الصادق (عليه السلام) هي الحمامات والخانات والأرحية.

١٠٣

يدخل بيت ابنته الزهراء دون استئذان ، وكان لا يتحرّج ان لم يسمع جوابا كما حصل له في قيس بن سعد ابن عبادة قال : زارنا رسول الله (ص) في منزلنا فقال : السلام عليكم ورحمة الله فرد سعد ردا خفيا ، قال قيس فقلت : ألا تأذن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال : دعه يكثر علينا من السلام ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : السلام عليكم ورحمة الله فرد سعد ردا خفيا ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : السلام عليكم ورحمة الله ثم رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واتبعه سعد فقال : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني كنت اسمع تسليمك وأردّ عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام قال : فانصرف معه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامر له سعد بغسل فاغتسل (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران او ورس فاشتمل بها ثم رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يديه وهو يقول : اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة ...!

ترى سعدا خالف الواجب من إسماع الجواب واحترام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ خيّل إليه بديله زيادة رحمة من كثرة سلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه ، فلم يتحرّج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك حيث انصرف معه يدعو لآل سعد ، وعلّه استغفارا له من ترك الواجب واسترحاما له أن كانت نيته صالحة مهما أخطأ في تلك المواجهة!.

فعلينا أن نتأدب بذلك الأدب الإسلامي السامي ، فلا نطرق إخواننا في أية لحظة ، إلّا في الأحوال المناسبة استيناسا من قبل باتصال هاتفي أو

١٠٤

إعلام ، ثم نتقيد بالوقت الذي يقرر لنا دون تقديم ولا تأخير ، وإذا اعتذر منا ونحن وراء الباب فلا نتحرّج فنحرّج أهل البيت ليفتحوا لنا كارهين.

ولكننا ـ مع الأسى ـ لم نتأدب حتى الآن بهذه الآداب ، في الوقت الذي نرى غيرنا متأدبين بها! نطرق إخواننا في الأوقات غير المناسبة ، في غسق الليل وغداء النهار وأوقات الراحة ، فإن لم يفتحوا لنا أو لم يدعونا إلى طعام أو مبيت تحرّجنا دون تقدير لأعذارهم أو تعذير لأقدارهم ، والحق أن نوبخ أنفسنا في ذلك التخلف عن الأدب الجماعي!

وهنا تتجلى لنا الوصية العلوية المباركة : «الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم» وقد سبقنا المتحضرون في قسم من هذه الآداب الجماعية ، منزلية وسواها ، ونحن نعتبرها آدابا إفرنجية فنتحذرها حذرنا من المكروهات او المحرمات ، فإذا قيل لأحدنا : لماذا الدخول دون إذن او استيناس ، قلنا له أتفرنجت بعد إسلامك! و «شر الإخوان من تكلف له» دعنا من هذه التكلفات والسنن الإفرنجية الكافرة!.

وبعد أدب الاستيناس لدخول البيوت كسياج على الحرمات ، نجد سياجا على سياج خارج البيوت أم أيا كان يحافظ على تفلّت النظرات أو تعمدها ، حيث تثير الشهوات ، كإجراء وقائي عن اللفتات والفلتات التي هي خطوة من خطوات الشيطان ، فرب نظرة قصيرة تورث حسرة طويلة! :

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما

١٠٥

مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣١).

يبدو أنها أولى آيات الحجاب نزلت بالمدينة المنورة بعد ما ذاق البعض من المبتلين بالنظر وبال أمرهم (١) واختصاص الأمر بالأمر (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) بالمؤمنين لا يعنى انحصار وجوب الغض بهم وانحساره عن سواهم ، بل لأنهم هم المتأثرون فعلا عن أمر الله حيث آمنوا بالله ، وسواهم مأمورون بالفروع كما هم مأمورون بالأصول ، هنا بالفعل وهناك بالشأن.

(يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ...) فرضان مشتركان بين

__________________

(١) روضة المتقين ٨ : ٣٥٢ روى الكليني في الموثق كالصحيح عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن فنظر إليها وهي مقبلة فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سماه ببني فلان فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط او زجاجة فشق وجهه فلما مضت المرأة فإذا الدماء تسيل على صدره وثوبه فقال والله لآتين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأخبرنه قال : فأتاه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له : ما هذه؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ...)

وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال مر رجل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريق من طرقات المدينة فنظر إلى امرأة ونظرت إليه فوسوس لهما الشيطان انه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلّا إعجابا به فبينا الرجل يمشي إلى جنب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق انفه فقال والله لا اغسل الدم حتى آتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاعلمه امري فأتاه فقص عليه قصته فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا عقوبة ذنبك وأنزل الله هذه الآية.

١٠٦

المؤمنين والمؤمنات ثم عليهن فروض ومحرمات أخرى ليست عليهم ، فما ذا تعني (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... يَغْضُضْنَ ... وَيَحْفَظْنَ)؟

«من» هنا ليس للتعدية حيث الغض متعد بنفسه : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ...) (٤٩ : ٣).

أترى هي زائدة؟ وهي قولة زائدة! إذ لا زائدة في القرآن إلّا كسنة أدبية جميلة ، وهي مطردة كالزائدة في خبر «ليس» وليس الغض كليس!.

أم لابتداء الغاية؟ وهو يتطلب انتهاء لها وأين هي هنا!

أم للجنس غضا لجنس الأبصار؟ والجنس لا يغض اللهم إلّا أفراده! والعموم مستفاد من «المؤمنين وأبصارهم» دون حاجة إلى عنايته من الجنس!.

أم للتبعيض؟ وماذا يعني غض بعض الأبصار! حيث البصر إما مفتوح أو مغضوض ولا عوان بين ذلك!

إن الغض هو الخفض والنقصان ، فقد يكون تمام النقص ك (الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) (٤٩ : ٣) فلا يتكلمون إلّا همسا لا صوت له ، وقد يكون بعضه ك (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) (٣١ : ١٩) لا برفعه عاليا يزعج الآخرين ، والغض من الأبصار كالثاني ، فهل هو بألا يحدق البصر إلى ما لا يحلّ إليه النظر ، فأمّا اللمحة واللمحات فلا بأس؟ وهذا لا يصح بالنسبة للعورات ، حيث اللّمحة إليها ممنوعة كما النظرة! أو بأن يقتسم نظر البصر إلى محظور ومسموح ، فلا يغضه عن كل منظور ، ولا يفتحه إلى كل منظور ، بل غضّ بكامله عن العورات ، ومن ثم غضّ منه عن نظرة الشهوة إلى غير العورات ، ثم لا محظور في الزاوية الثالثة. تنظر إلى وجه امرأة وتنظر هي إلى وجهك دونما تقصّد شهوة ولا ريبة.

١٠٧

ولان البصر هو العين التي تبصر ، فالغض من البصر لا من العين قد يشمل الغضين ، غمضا عن المنظور إطلاقا كالعورات ولواحقها ، وغمضا عن نظرة الريبة والشهوة ، وغضا دون إحداق حيث يرى دون شهوة إلى وجوه النساء ، فهنالك للعين إحداق وغض وإطباق ولكلّ مجال ، واقتسام النظر إلى هذه الثلاث غض لنظراتك ككل ، وكسره عن النظرة المريبة غض ، وغمضه عن العورات غض. ووجه ثان أن مفعول الغض محذوف معروف من «فروجهم وفروجهن» فليغضوا الفروج من أبصارهم غضا كاملا ، ومهما كانت الفروج هي المعلومة من موضوع (يَغُضُّوا ... وَيَحْفَظُوا) فعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يغض من بصره نظرا إلى فروج الآخرين ، وأن يغض فروجهم من بصره ، كما عليه أن يحفظ فرجه عن نظر الآخرين فضلا عن لمسهم وفعلهم ، وأما غض النظر عن غير الفروج فلا دلالة في الغض من الفرج وحفظه عليه.

ولان الآية لا تذكر موارد الغض من الأبصار إلّا فروجهم وفروجهن ، فهي القدر المعلوم من الغض المأمور به هنا وهناك ، أن يغضوا من أبصارهم نظرا إلى عورات الرجال والنساء ، وأن يغضضن من أبصارهن كذلك نظرا إلى عورات الرجال والنساء ، وأن يحفظوا فروجهم ويحفظن فروجهن عن أن ينظر إليها ، سياجا وسترا ذا بعدين عن النظر إلى العورات (١) وقد فسر حفظ الفرج هنا بأنه عن

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٨٩ ح ٩٤ من لا يحضره الفقيه قال امير المؤمنين (عليها السلام) في وصية لابنه محمد ابن الحنفية «وفرض على البصر ان لا ينظر إلى ما حرم الله عز وجل عليه فقال عز من قائل (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ ...) محرم ان ينظر احد إلى فرج غيره ، وفيه ح ٩١ عن اصول الكافي في حديث طويل عن أبي عبد الله (ع) فقال تبارك وتعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) فنهاهم ان ينظروا إلى عوراتهم وان ينظر المرء الى فرج أخيه (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ)

١٠٨

النظر (١) وان كان يعمه والنظر (٢).

فلا إطلاق في فرض الغض من الأبصار فيما سوى العورات ، أم والغض عن نظرة الريبة والشهوة هو بدليل السنة ، فأما النظر دونهما إلى وجه المرأة للرجل او الرجل للمرأة فلا يشمله الغض ، ولولا آية الحجاب لم تكن آية الغض لتدل على حرمة النظر إلى غير العورات من مفاتن النساء ، اللهم إلّا آية (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) فإنها الناظرة إلى ما لا يحل ، والنظرة عن شهوة لا تحل ، وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يمنع عنها (٣).

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ...).

الزينة هي الهيئة الخاصة من الزين والحسن ، من ذاتية كجمال المرأة ، او عرضية تجمّل غير الجميل منها او تزيدها جمالا ، من ملابس جميلة ظاهرة ومستورة ، فحرام على المرأة أن تبدي زينتها وجمالها ذاتيا وسواها لغير من يحل له النظر إليها ، وليس إبداء زينة إلّا المستورة بحجاب مّا.

__________________

ـ في احدا من الى فرج اختها ويحفظ فرجها من ان يُنظر اليها وقال كل شيء ف من حفظ الفرج فهو من الزنا الا هذه الآية فانها من النظر.

(١) وفي متظافر الأحاديث من طريق الفريقين ان «كل آية في القرآن في ذكر الفرج فهي من الزنا الا هذه الآية فانها من النظر».

(٢) فان حفظ الفرج في سائر القرآن هو حفظه عن الزنا ، وهنا الحفظ لا يخصه بل يعمه والنظر ، وتفسير الحفظ بخصوص النظر تفسير بمصداق يختلف عن الحفظ في سائر القرآن.

(٣) في فتح الباري شرح صحيح البخاري ١٣ : ٢٤٥ حدثنا ابو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال : اخبرني سليمان بن يسار اخبرني عبد الله بن عباس قال : اردف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته وكان ـ

١٠٩

وقد كانت لهن خمر قبل تمام الحجاب غير مضروب بها على جيوبهن ، كما كانت لهن جلابيب غير مدنات عليهن ، فكان (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) يشمل جيوبهن الظاهرة كما تشمل وجوههن وأيديهن وزينتها العادية ، ثم و (لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) أخرجت جيوبهن عن الظاهرة حيث أصبحت بذلك الحجاب من الباطنة ، فقيدت (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) بغير الجيوب ، من الظاهرة الذاتية كالوجه واليدين والقدمين (١) والعرضية كالملابس الفوقية والأحذية

__________________

ـ الفضل رجلا وضيئا فوقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للذين يفتيهم وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والفضل ينظر إليها فاخلف بيده فأخذ بذقن فضل فعدل وجهه عن النظر إليها فقالت يا رسول الله! ان فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا تستطيع ان يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه ان أحج عنه؟ قال : نعم».

(١) روضة المتقين ٨ : ٣٥٢ في الصحيح عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : ما يحل للرجل ان يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال : الوجه والكفان والقدمان ، وفي قرب الاسناد للحميري في الصحيح باسناده الى علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل ما يصلح له ان ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له؟ قال : الوجه والكف وموضع السوار ، والكافي باسناده في الصحيح عن الفضيل قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذراعين من المرأة هما من الزينة التي قال الله تعالى ولا يبدين زينتهن؟ قال : نعم وما دون الخمار من الزينة وما دون السوارين ، وفي قرب الاسناد عن الرضا (عليه السلام) قال ان أبا جعفر مرّ بامرأة محرمة وقد استترت بمروحة على وجهها فأحاط المروحة بقضيبه عن وجهها.

وفي الوسائل ١٤ : ١٤٠ ح ١٢ في العلل والعيون بأسانيده عن محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) فيما كتبه اليه من جواب مسائله : وحرّم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وإلى غيرهن من النساء لما فيه من تهييج الرجال وما يدعو إليه ـ

١١٠

والخاتم والسوار إمّا ذا من الظاهرة.

والفرق بين «لا يبدين» الاوّل والثاني ، ان الأوّل يستثني الزينة الظاهرة قبل الحجاب ، ومنها الجيوب ، والثاني يستثني من يجوز إبداء الزينة غير الظاهرة له ، الطوائف الاثنى عشر بعد الحجاب بالضرب على الجيوب.

فالضرب بالخمر على الجيوب هو إسبال الخمر ، وهي المقانع على فرجات الجيوب ، لأنها خصاصات إلى الترائب والصدور ، والثديّ والشعور ، وأصل الضرب من قولهم : ضربت الفسطاط ، إذا أقمته بإقامة أعماده وضرب أوتاده ، فاستعير هنا كناية عن التناهي في إسبال الخمر وإضفاء الأزر ، ونكاية على المسترسلات الخمر ، دون إسبال على فرجات الجيوب!

__________________

ـ التهييج من الفساد والدخول فيما لا يحل ولا يحمل وكذلك ما أشبه الشعور الا الذي قال الله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ.) فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهن.

وفي الدر المنثور ٥ : ٤١ عن عكرمة في الآية قال الوجه وثغرة النحر ، وعن سعيد بن جبير الوجه والكف ، ومثله عن عطاء ، واخرج سنيد وابن جرير عن أبي جريح قال قالت عائشة دخلت على ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة فدخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واعرض فقالت عائشة انها ابنة اخي وجارية فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا عركت المرأة لم يحل لها ان تظهر الا وجهها والا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة اخرى ، وفيه اخرج ابو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة ان أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليها ثياب رقاق فاعرض عنها وقال : يا اسماء ان المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح ان يرى منها الا هذا وأشار إلى وجهه وكفه ، واخرج ابو داود في مراسيله عن قتادة ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ان الجارية إذا حاضت لم يصلح ان يرى منها الا وجهها ويداها إلى المفصل.

١١١

ولأن الحجاب المفروض لا يشمل الوجوه والأيدي وأمثالهما من الظاهرة لمكان الاستثناء ، وأنها ظاهرة لضرورة الحياة العادية الجماعية ، فهي إذا مستثناة عن فرض الستر والحجاب ، وليس لزامه جواز رؤية الرجال على أية حال ، ولا حرمتها إلّا الرؤية المريبة المشهية بدليل السنة ولمحة الكتاب ، وأما الرؤية عن غير شهوة فلا دليل على حرمتها من كتاب ولا سنة إلّا على عدمها (١).

وضرب الخمر على الجيوب لا يعني ضربها عليها وعلى الوجوه والأيدي إذ لم تذكر مع الجيوب حيث الخمر كانت لا تغطي الجيوب فتبدو مثيرة للناظرين ، كما وأنها ليست لتستر على الملابس الفوقية ، فإنها هيه ، فليضرب بها على الجيوب الظاهرة وعنده كمال الحجاب!.

والباء في «بخمرهن» للتبعيض حيث يعني ضرب بعض الخمر على الجيوب ، القدر الذي يستر الجيوب إضافة إلى ما كانت ساترة غيرها ، فلا وجه لإدخال الوجه في الضرب بالخمر إلّا لمن يخيّل إليه ان الوجوه كانت مستورة قبل الحجاب ، ثم الضرب بالخمر على الجيوب حيث يعني قيد البعض منها على الجيوب حفاظا دائبا عليها ، إنه لا يناسب الوجوه حيث لا

__________________

(١) المصدر في الحسن عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله عز وجل (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) قال : الخاتم والمسكة وهي القلب وهما السوار ، وفي القوي كالصحيح عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : الزينة الظاهرة الكحل والخاتم ، وفي تفسير علي بن ابراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية : فهي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكف والسوار ، والزينة ثلاث زينة للناس وزينة للمحرم وزينة للزوج فاما زينة الناس فقد ذكرناها واما زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها والدملج وما دونه والخلخال وما أسفل منه واما زينة الزوج فالجسد كله.

١١٢

يمكن تقييدها بالخمر ، اللهم إلّا بالأغطية ، وليس هنا إلّا طرف من الخمر يضرب بها على الجيوب!

لا نجد في آيات الحجاب إلّا خمرا يضرب بها على الجيوب ، وجلابيب تدنى عليهن منها ، والخمر هي الأغطية التي كانت على رؤوسهن فأضيفت إلى الرؤوس الجيوب ، لا الوجوه فضلا عن الأيدي والأقدام ، والجلابيب هي الأثواب الأوسع من الخمر ودون الأردية ، أم هي الأعم منها ومن الأردية ، ولا يقتضي إدناء الأردية ـ فضلا عما دونها ـ ستر الوجه وصاحبيه ، إلا مفاتن البدن والجيوب ، فضرب الخمر على الجيوب يزيد حجاب الجيوب ، والإدناء من الجلابيب عليهن يزيد حجاب مفاتن البدن ، لا كل البدن حيث يشمل الوجه وصاحبيه لمكان «من» ولو قال «يدنين عليهن جلابيبهن» كانت هي الأردية ما كانت لتشمل الوجوه ، فلأنها لا تغطى بالإدناء بل وبالغطاء المضروب عليها ، ولكنه قال (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) تدليلا على وجوب الستر أكثر مما كان ، وعلّه يعني ما يعنيه (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) فالإدناء من الجلابيب كالضرب بالخمر يعني ستر الجيوب إضافة إلى سائر الستر الذي كان قبل ذلك الحجاب.

فأين تغطية الوجوه من آي الحجاب أو السنة ، إلّا بقياس الأولوية ممن يحتاطون في الحجاب أكثر مما فرضه الله ، وي كأنه تعالى خفيت عليه أولويتهم فخص الحجاب بغير الوجوه ، فبدلا من أن يقول «وليضربن بخمرهن على وجوههن وجيوبهن» أهمل ذكر الوجوه وخص الضرب بالجيوب!

إن هذه إلّا من التطفلات والتكلفات دون حجة من كتاب او سنة ، إلّا قياسا مردودا بالكتاب والسنة ، أم أولوية مطرودة ، فليست جاذبية الوجوه أكثر من سائر أجزاء البدن ولا مثلها ، وحتى إذا كانت مثلها

١١٣

أما ذا؟ فلما ذا التكليف كله على النساء وحتى في التغطية المعسرة او الحرجة ، تلك إذا قسمة ضيزى ، فقد يكفيهن حجاب البدن كله إلّا ما ظهر منها بعد الضرب بالخمر وإدناء الجلابيب ، ثم الباقي على الرجال ألا ينظروا إلى وجوههن عن شهوة وريبة ، فإذا عرفت أن رجلا ينظر إليها عن شهوة تنهاه ، فإن لم ينته غطت وجهها عنه او ابتعدت نهيا عمليا عن المنكر ، وكما في الرجل إذا نظرت إليه امرأة عن شهوة ينهاها ، وإلّا تغطى او ابتعد عنها ، وأما إذا علمت ان في جماعة من الرجال من ينظر إليها عن شهوة ولا تعرفه ، فما عليها ان تغطي وجهها إلا رجحانا دون وجوب ، إذ لا تعرف الآتي بالمنكر حتى تنهاه ثم تغطي في آخر المطاف ، وإنما الإثم على من ينظر ، وكما الرجل إذا يعلم ان امرأة من النساء تنظر إليه ولا يعرفها ، فهل عليه ان يغطي او يخرج من جموع الناس ، إذا فواجب الانعزال عن الناس او التغطية يشمل قبيلي الرجال والنساء ، مهما كان الحكم بالنسبة للنساء أغلظ ، وفرضه عليهن أحرز ، فإن مفاتنهن أحرض.

ومن الحكمة الحكيمة في آية الأحزاب (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) نزداد علما أن ذلك الحجاب رمز للعفاف ، تعرف به صاحبته فلا تؤذى ، فغير المحجوبة تؤذى ، إذ لا تعرف بعفاف حتى لا تؤذى ، والمحجوبة لا تؤذى فإن حجابها دليل عفافها فلا تتبع وتلحق رجاء إجابتها للفحشاء ، ولو لم تكن أدلة أخرى على فرض الحجاب لصحت الفتوى بترك الحجاب لمن هي معروفة بالعفاف ، فإنما فرض الحجاب دليلا على العفاف وسترا لمفاتن المرأة ، كما حرّم النظر المريب إلى المرأة وإلى وجهها ، سياجات ثلاث عن السقوط إلى هوّات الشهوات!

وقد عبر عن النظر المحدق المريب بزنا النظرة ، فإنه خطوة إلى

١١٤

الفحشاء (١) واما النظر دون ريبة ولا شهوة فلا محظور فيه مهما لم يكن مشكورا ، وأحاديث المنع عن اتباع النظرة النظرة غير ظاهرة في النظرة إلى الوجه ، ولا أنها كل نظرة وإن كانت دون ريبة وشهوة والتذاذ (٢).

فالأشبه عدم وجوب ستر المرأة وجهها ويديها عن غير المحارم ، وعدم حرمة النظر إليها إلّا عن ريبة وشهوة! والأحاديث المدّعى دلالتها على وجوب ستر الوجه بين مؤولة وغير ظاهرة الدلالة على الوجوب ، وعلى

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٤١ ـ اخرج احمد والبخاري ومسلم وابو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ان الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين بالنظر وزنا اللسان المنطق وزنا الأذنين الاستماع وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين الخطو والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك او يكذبه ، وفي الوسائل ١٤ : ١٤١ ح ١٦ عن عقاب الأعمال عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من اطلع في بيت جاره فنظر إلى عورة رجل او شعر امرأة او شيء من جسدها كان حقا على الله ان يدخله النار مع المنافقين الذين كانوا يتبعون عورات النساء في الدنيا ولا يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله ويبدي للناس عورته في الآخرة ومن ملأ عينيه من امرأة حراما حشاهما الله يوم القيامة بمسامير من نار وحشاهما نارا حتى يقضي بين الناس ثم يؤمر به الى النار موفيه اشتد غضب الله على امرأة ملأت عينها من غير زوجها او غير ذي محرم معها.

(٢) المصدر ١٣٨ ح ١ عن أبي عبد الله (عليه السلام) النظرة من سهام إبليس مسموم وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة ، ورواه مثله عن عقبة وعن الكاهلي عنه (عليه السلام) النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة ، وعن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال : أول نظرة لك والثانية عليك ولا لك والثالثة فيها الهلاك ، وفي العيون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تتبع النظرة النظرة فليس لك يا علي الا اوّل نظرة أقول : القدر المتيقن من النظرة إلى العورة او إلى سائر الجسد غير الوجه ، او النظرة المثيرة إلى الوجه.

١١٥

فرض الدلالة هي معارضة بأخرى فالرجوع إلى كتاب الله ، ولا دلالة فيه إلّا على جواز إبداء الوجه والكفين (١).

ومهما يكن من شيء ففي إرسال البصر للنظر إلى وجوه النساء الأغارب دون قيد ولا شرط نكبة جماعية ، وكما وفي إبداء النساء زينتهن إلّا

__________________

(١) في البخاري ج ٣ : ٣٤ و ١٠٢ وتاريخ الطبري ٣ : ٦٧ عن عائشة فأصبح صفوان عند منزلي فرأى سواد انسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه قال : اظعينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخمرت وجهي بجلبابي» وفعل عائشة لا يثبت حكما خلاف الكتاب والسنة الا استحبابا في تغطية الوجه.

وفي الطبقات ٨ : ٧٢ رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر دخلت على عائشة وعليها خمار رقيق يشف عن جيبها فشقته عائشة وقالت : اما تعلمين ما انزل الله في سورة النور ثم دعت بخمار فكستها» وكستها هنا لا تعني الا ستر جيبها كما تدل عليه آية النور.

وفي الفائق ٣ : ٢٠ ـ مرط في حديث عائشة انها قالت : لما نزلت هذه الآية انقلب رجال الأنصار إلى نسائهم فتلوها عليهن فقامت كل امرأة تزفر (تحمل) الى مرطها المرحّل (كسائها الملون) فصدعت منه صدعة فاختمرن بها فأصبحن في الصبح على رؤسهن الغربان ولا دلالة فيه على ستر الوجه! بل «على رؤسهن الغربان» لا على وجوههن!

وفي الخصائص للنسائي ص ٢٠ عن جميع بن عمر قال دخلت مع أبي على عائشة يسألها من وراء حجاب عن علي (رضي الله عنه) وسؤال نساء النبي من وراء حجاب كما نص عليه في القرآن (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) قد يختص بنساء النبي ان عنى الحجاب الشامل ، او يعني ب «حجاب» ما فرضته آية الحجاب ولعله أشبه.

وفي طبقات ابن سعد ٣ : ٢٤٠ لما حضرت أبا سلمة الوفاة حضره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبينه وبين النساء ستر مستور فبكين» وهذا الستر علّه لئلا تتكلف النساء الحجاب فلا يدل على وجوب ستر الوجوه!

١١٦

ما ظهر منها ، فالنظرة القاصدة الخائنة تثير ، كما الزينة والنبرة تثير ، ومن هذه الجاذبية من الجانبين سعار حيواني مجنون!

وهنالك قيلة عليلة (١) ممن هوى إلى شهوة الجنس لحد جعلها أصل الحياة بكافة جنباتها في رذيلة أو فضيلة ، تقول : ألا سبيل إلى تنفيس وترويح الجنسين وتقليل الشبق المجنون عما في هذا البين إلّا إباحة النظرة ، وطلاقة المحادثة ، والخلطات الموسعة ، والدعابة المرحة ، والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة ، وقاية من الكبت الجنسي ومن العقد النفسية!

ولكنها بعد ما افتعلت في بلاد الجنس والإباحية ، المتفلتة من كافة القيود ، وجدنا بعد ذلك كله أنه زاد في الطنبور نغمة أخرى ، فقد انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ، وإلى تلهّف وتكالب بين الجنسين ومعهما الشذوذ الجنسي الذي لا يخلد ببال ، كثمرة مباشرة لذلك الاختلاط الكامل!

هنا يتبين لأولى الحجى أن الطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات

__________________

ـ واما ما نقل مستفيضا عن ام سلمة قالت كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده ميمونة فأقبل ابن ام مكتوم وذلك بعد ان امر بالحجاب فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : احتجبا فقلنا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال : أفعميا وان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ فعليه سؤال ان الاحتجاب لا يمنع من الرؤية وإذا كانت الرؤية محظورة فغض البصر يكفيه ، والا فليحتجب الرجال حتى لا يروا النساء ، ومهما يكن من شيء فإبصار المرأة الرجل الأجنبي يحرم بالنسبة لاجزاء خاصة من بدنه ، لا رأسه ووجهه.

(١) فرويد في فصل المشكلة الجنسية.

١١٧

وغض النظرات ، بحيث يبقى الميل الجنسي في حدوده الطبيعية مع تلبية طبيعية ، وهو المنهج الذي يختاره الإسلام لإنشاء مجتمع نظيف شريف ، حيلولة عادلة دون هذه الاستثارات ، وتعديلا عادلا للرغبات ، وإبقاء للدافع الفطري العميق بين الجنسين سليما عن الهرج والمرج!

ليست النظرة عن شهوة محرمة ـ فقط ـ في الإسلام ، ففي إنجيل (متى ٥ : ٢٧ ـ ٢٩) «قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضاءك ولا يلقى جسدك كله في جهنم».

... فيا عجبا للمسيحيين كيف أصبحوا إباحيين في أمور الجنس لحد يستحلون أبشع ألوان التعري والدعارة ، كأنها ليست محرمة في شريعة الناموس!

ثم وحرة النظر إلى غير المحارم تعني أمورا عدة ١ الحفاظ على حرمات المؤمنات ٢ حفاظهن والناظرين عن التأثر الجنسي فالتعسر إلى هوات الزنا وحرمة الشهوات ٣ ألّا يؤذين المؤمنات بملاحقة الذين في قلوبهم مرض من الرجال ، والوسطى من هذه تعم المؤمنات وسواهن من النساء ، فعند عدم الخوف هكذا يجوز النظر إلى غير المؤمنات ، وإذا المؤمنة لا تحترم نفسها حين لا تستر كما يجب ، ولا تنتهي إذا نهيت ، جاز النظر إليها إلا في الوسطى وكما في صحيح الأثر بالنسبة لنساء البوادي حيث يصرح بجواز النظر : «لأنهن إذا نهين لا ينتهين».

غض البصر الحادق من جانب الرجل أدب نفسي ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على مفاتن المرأة إغلاقا وسدا للخطوة الأولى من خطوات الشيطان ، ومحاولة عملية للحيلولة دون إصابة سهم الشيطان ،

١١٨

وحفظ الفرج من النظر ، ثم الحفاظ على سائر الزينة هو محاولة ثانية لسد الطريق على ذلك السهم المسموم ، و «ذلك» الحفاظ في بعدية (أَزْكى لَهُمْ) رجالا ونساء (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ).

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) والزينة في بعديها لزام الأنوثة تكوينا وتشريعا ، فهي محللة للمرأة تلبية لفطرتها في حاجتها إلى التجمل وتجلية للرجال ، ولكن لمن؟ لرجلها كزوجة له ، ولمحارمها كمحارم كل على حده ، لحد لا يثير شهواتهم إلّا رجلها فإنها ممدوحة له ، وممدوحة له ولهم كما يناسبها ويناسبهم ، ممنوعة للأغارب (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) كما بينّا.

(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) فالجيب هو فتحة الصدر حيث كانت بادئة مفتوحة قبل كمال الحجاب ، ولكي لا تفتح صدورهن إلى صدورهم منافذ الشهوة ، أمرن بسدها «بخمرهن» ضربا (عَلى جُيُوبِهِنَّ).

وذلك التحشّم من أفضل الوسائل الوقائية عن تجشّم العلاقة الجنسية الهرجة المرجة ، يفرض في المجالات الخطرة ككل ، ثم يستثنى في المحارم حيث لا تتجه ميولهم ولا تثور شهواتهم.

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ...).

أترى «زينتهن» تشمل كل البدن بما عليها من زينة ظاهرة؟ فكيف يجوز إبدائها كلها حتى العورة لغير البعولة مثلهم على سواء؟ أو أنها تخص غير العورة إذ ليست هي من الزينة ، بل هي سوءة للناظر مهما كانت محور الشهوة للفاعل ، فالعورات كلها خارجة عن الزينة في الرجال وفي النساء ، وسنة إبداء الزينة في الجاهلية لم تكن تشمل عورات النساء وحتى الزانيات منهن ، وإنما سائر البدن ، ف «زينتهن» لا تعني فيما تعني

١١٩

العورات وجيرانها من الأفخاذ إمّا ذا ، وجواز إبداء عوراتهن لبعولتهن مستفاد من أدلة أخرى!(١).

نجد هنا اثنى عشر طائفة داخلة في استثناء الحلّ خارجة عن مستثنى الحرمة رجالا ونساء ، فغيرهم ـ أيا كانوا ـ خارجون عن نص الحلّ إلى نص التحريم ، اللهم إلّا في الضرورات التي تبيح المحظورات كإنجاء الغرقى ، وعلاج المرضى ، حيث تضاف إلى الحل بأدلة الحرج والاضطرار ، وكذلك لمن يريد الزواج فله النظر إلى ما يطمئنه أنها تصلح للزواج (٢) فينظر إلى شعرها ومحاسنها شرط ان تكون مستعدة للزواج به وهو مستعد للزواج بها ، ولم يبق شرط إلّا شرط الحمال المرضي من الطرفين ، فهذه النظرة داخلة في نطاق

__________________

(١) مضت رواية القمي في مراتب الزينة من قوله (عليه السلام) والزينة ثلاث زينة للناس وزينة للمحرم وزينة للزوج فاما زينة الناس فقد ذكرناه «الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكف والسوار» واما زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها والدملج وما دونه والخلخال وما أسفل منه ، واما زينة الزوج فالجسد كله» أقول : وكون الجسد كله زينة لا يعني حقيقة الزينة وانما حكمها في جواز الرؤية زينة وسواها من كل الجسد.

(٢) كموثقة غياث في رجل ينظر إلى محاسن امرأة يريد ان يتزوجها قال لا بأس وصحيحة ابن سنان الرجل يريد ان يتزوج أفينظر إلى شعرها قال نعم ، وفي حسنة هشام وحفص وحماد وحسنة محمد عن الرجل يريد ان يتزوج المرأة أينظر إليها قال نعم ، ومرسلة الفضل أينظر الرجل إلى المرأة يريد تزويجها فينظر إلى شعرها ومحاسنها قال لا بأس بذلك إذا لم يكن متلذذا ، وعن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يريد ان يتزوج المرأة أينظر إليها؟ قال : نعم يشتريها بأغلى الثمن ، وفي الخلاف للطوسي ٣ : ٣٥٧ روى ابو الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : إذا طرح الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس ان يتأمل حسن وجهها.

١٢٠