الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٢٦)

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٢).

٨١

(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) تلمح كصراحة أن المأمور بايتائهم من (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) كانت عليهم جرائم يحق لأولي الفضل منكم والسعة أن يعفوا عن جرائمهم وينفقوا عليهم ، وبذلك تتصل الآية بما احتفت بها من قصة الإفك.

فقد كان يخيّل إلى البعض أن الآفك والمشارك في الإفك ـ بما كذبه الله ولعنه ـ فعلى المؤمنين أن يقاطعوه ايتلاء : أن يحلفوا بمفاصلتهم ، ويتركوهم على ما هم ، ويقصروا في مساعدتهم (١) فجاءت الآية ناهية عن ايتلائهم آمرة بإيتاء أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله (٢) فلأولي القربى حق القرابة ، وللمساكين حق المسكنة ، وللمهاجرين في سبيل الله حق المهاجرة ، لا يأتليها إفك وسواه ، كما وأن حق الوالدين لا يقطعه حتى كفرهما!

فلا يحق لأولي الفضل ماديا ومعنويا ، ولأولي السعة بذلا لفضل مالا وحالا ، لا يحق لهم ايتلائهم ، ولا سيما المحدودين منهم والتائبين إلى الله ، فالله غافرهم ومتفضل عليهم ، فتخلقوا أنتم بأخلاق الله أن تؤتوهم وتعفوا عنهم وتصفحوا (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)!

إنه «ما نقص مال من صدقة قط ، تصدقوا ، ولا عفا رجل عن

__________________

(١) هذه معان ثلاثة للايتلاء وكلها تناسب موقف الآية.

(٢) الدر المنثور ٥ : ٢٥ ـ اخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كان ناس من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلموا فيها فأقسم ناس من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم ابو بكر الا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يصلوه ، قال لا يقسم اولوا الفضل منكم والسعة ان يصلوا أرحامهم وان يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك فامر الله ان يغفر لهم.

٨٢

مظلمة إلا زاده الله عزا فاعفوا يعزكم الله ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة يسأل الناس إلا فتح الله له باب فقر ، ألا إن العفة خير» (١).

فحتى لا يجوز لمن يجرى عليه الحد ان يهتك زيادة عن أصل الحد لا بلفظه قول أم فظاظة فعل وكما كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (٢) وأهل يبيته الطاهرون ومن يحذو محذاهم يعملون ، وكما علي (عليه السلام) يقول عن قاتله «إن أنا أبق فانا ولي دمي وإن افن فالفناء ميعادي وإن أعف فالعفو لي قربة ولكم حسنة فاعفوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم (٣)(٤) فما دام للغفران مجال ، ألّا يشجّع المجرم على الجريمة ، أم لا يجعله غير نادم بلا توبة ، فلتعفوا ولتصفحوا ولكي يغفر الله لكم ، غفرا عن غفر واين غفر من غفر؟

__________________

(١) المصدر اخرج ابن المنذر عن أبي سلمة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) المصدر اخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا في ذم الغضب والخرائطي في مكارم الأخلاق والحاكم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي وائل قال : رأيت عبد الله أتاه رجل برجل نشوان فأقام عليه الحد ثم قال للرجل الذي جاء به : ما أنت منه؟ قال : عمه قال : ما أحسنت الأدب ولا سترته وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون ان يغفر الله لكم ... ثم قال عبد الله : اني لا ذكر اوّل رجل قطعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى رجل فلما امر لتقطع يده كأنما تأسف وجهه رمادا فقيل يا رسول الله؟ كأن هذا شق عليك؟ قال : لا ينبغي ان تكونوا للشيطان عونا على أخيكم فانه لا ينبغي للحاكم إذا انتهى إليه حد ألا يقيمه وان الله عفو يحب العفو ثم قرأ (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ...).

(٣) نور الثقلين ٣ : ٥٨٣ ح ٧ عن نهج البلاغة من وصية له عليه السلام.

(٤) نور الثقلين ٣ : ٥٨٤ ح ٧١ في كتاب المناقب في مناقب زين العابدين (عليه السلام) «وكان إذا دخل شهر رمضان يكتب على غلمانه ذنوبهم حتى إذا كان آخر ليلة ـ

٨٣

يا لله من غفور رحيم ، يغفر من استغفره ويرحم من استرحمه مهما جاء بإفك وفاحشة ، ثم يأمر المقذوفين بالغفر والرحمة وينهاهم عن الايتلاء والنقمة ، مما يعرفنا بعد الآماد الغالية والآفاق العالية من كرم الأخلاق والسماحة في الأدب الاسلامي السامي ، وبذلك يمسح على الآم الجماعة المؤمنة قاذفا ومقذوفا وعوانا بين ذلك ، ويغسل من أوضار ، ويخفف عن أوزار حمّلت عليهم من خطوات الشيطان!

مع كل ذلك ولكيلا يهون الإفك بعد على الآفكين يكرّر الكرة عليهم إن كرّروا وأصروا دونما توبة نصوح أو بعد توبة :

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٢٣).

أترى المحصنات هنا هن العفيفات كما في (الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ)؟ و «المؤمنات» تكفي دلالة على أنهن العفيفات! فهن إذا ذوات الأزواج ، مما يزيد في خطر الإفك فيهن!

ومن هن الغافلات من المحصنات المؤمنات؟ لعلّهن اللاتي يغفلن عن إفكهن فلا يدافعن عن أنفسهم ، مما يزيد أهل الظنّة ظنة فيهن ، فزيادة ثانية في حظر الإفك فيهن ، محظورات ثلاث في رميهن تتطلب عذابا ذا أبعادا ثلاثة هي : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا ـ وَالْآخِرَةِ ـ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)! لأنهن مظلومات في أبعاد ثلاث فقد يجسم التعبير بشاعة تلك الجريمة الآفكة في

__________________

ـ دعاهم ثم اظهر الكتاب وقال يا فلان فعلت كذا ولم أؤدبك؟ فيقرون اجمع فيقوم وسطهم ويقول لهم : ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين ربك قد احصى عليك ما عملت كما أحصيت علينا ولديه كتاب ينطق بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة فاذكر ذلّ مقامك بين يدي ربك الذي لا يظلم مثقال ذرة وكفى بالله شهيدا فاعف واصفح يعف عنك المليك لقوله تعالى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) ويبكي وينوح.

٨٤

تصويرهن غافلات غير آخذات حذرهن من رمية الإفك ، لأنهن مطمئنات بأنفسهن بريئات الطوايا ، إذ ما أتين بشيء ولا تقارفنه حتى يحذرنه!

ترى أن مثلث العذاب لزام عليهم وإن أتوا بأربعة شهداء؟ طبعا لا! فإن آيات الشهداء شملتهم من ذي قبل! إلّا أن وصفهن بالصفات الثلاث الحسنات في خطاب التنديد بالرامين مما يحيل شهادة الأربعة ، كيف وهي قريبة الاستحالة على غير الشهيرات بالفاحشة ، بل وحتى الشهيرات إلّا اللهيرات اللاتي يأتين الفاحشة متظاهرات على رؤس الأشهاد بحيث يسمح بإمكانية رؤية الشهود كما يجب!

إن مثلث العذاب لزام لمن يعرف المرمية بعفة وإيمان وأنها ذات بعل ، فلا شهود إذا ، وهل من توبة ، والجريمة هي تلك الثقيلة ، وآية الغافلات لم تستثن بالتوبة؟ أجل مهما كانت أصعب مما دونها حيث التوبات تكلّف من الصعوبات حسب دركات الخطيئات ، وإذ تجوز وتجب التوبة عن أنحس الكفر وهي مقبولة بنصوص الآيات ، فبأحرى تلك الجريمة فإنها فسق مهما كبرت ، وآية التوبة عن قذف المحصنات تشمل كل قذف على كل محصنة مهما اختلفت الدرجات!

فلعنهم في الدنيا هو حدّهم وهو توبة عملية مهما عظم عذابه ، ولعنهم في الآخرة هو عذابهم فيها إن لم يتوبوا أو لم تكمل التوبة ، وعلّ عدم الاستثناء في هذه الآية بالتوبة رغم إمكانيتها وقبولها ، لعظم الخطيئة كأن ليس عنها توبة ، أو أن صاحب تلك الجريمة بعيد التوفيق عن التوبة ، أو عن تكملة شرائطها حتى يصبح كأنه لا ذنب له ... وترى ما هو يوم اللعنة الأخيرة بعذابها العظيم؟ إنها : ـ

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)

٨٥

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)(٢٥).

إن بقي ما كانوا يعملون ، بلسان يتكلم بإفك ، ويد بقلم أماذا تمدّ إلى إذاعته ، ورجل تمشي إليه ، أم اي عمل جارح بالجوارح ، فإنها تشهد بما عملوا كل بحسبه ، إذاعة لأصوات الأقوال وصور الأعمال ، وسير الأحوال!

وأما بعد التوبة والإصلاح فلا تبقى حتى تشهد وإنما تمحّى ، وكما الصالحات إذا ضاعت بإحباطها ، وآية الشهادة هذه تشهد أن المعنيّين بسابقتها في رمي الغافلات هم غير التائبين ، فان التائب من الذنب كمن لا ذنب له!

ترى ولماذا تشهد الجوارح؟ والله يعلم ما جرحت! وكيف تشهد ولا ألسنة لها إلا اللسان؟ ولماذا هذه الثلاث؟ ولا تختص بها الجوارح!.

شهادة الجوارح تعني تبكيت العاملين ، وإلجامهم وإلزامهم باعترافهم حين يكذبون كل شاهد (١) فإنها تشهد كما عملت إذ سجلت فيها أقوالها

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٥ ـ اخرج ابو يعلي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقال : هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقال أهلك وعشيرتك فيقول كذبوا فيقال احلفوا فيحلفون ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم ثم يدخلهم النار ، أقول ويشهد له (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وفيه اخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه عن أبي امامة سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول اني لأعلم آخر رجل من امتي يجوز على الصراط رجل يتلوى على الصراط كالغلام حين يضربه أبوه تزل يده مرة فتصيبها النار وتزل رجله فتصيبها النار فتقول له الملائكة أرأيت إن بعثك الله من مقامك هذا فمشيت سويا أتخبرنا بكل عمل عملته فيقول : اي وعزته لا ـ

٨٦

وأعمالها ، فلا يتمكن المجترحون إنكارها : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩) (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠) (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٩٩ : ٨) (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١٨ : ٤٩)!

وأما هذه الثلاث ، فلأنها أهم الجوارح أعمالا ، وهي المناسبة لسالف الإفك ، فإن الجوارح كلها تشهد وتجمعها آية الجلود : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ...) (٤١ :) ٢١) إذ (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤١ : ٢٠).

شهادة عينية لا ترد مهما ردت شهادات أخرى ، فإنها أصوات الأقوال وصور الأفعال كأنه قالها وعملها الساعة ، إذ سجلت كما قيلت وعملت بنفسها ، دون الألفاظ الحاكية عنها ، المخلوقة في هذه الجوارح! وقد أنطق الله كل شيء بما تلقّى من أعمال وأحوال ، من أجواء وأشياء وأعضاء ،

__________________

ـ أكتمكم من عملي شيئا فيقولون له قم فامش سويا فيقوم فيمشي حتى يجاوز الصراط فيقولون له أخبرنا باعمالك التي عملت فيقول في نفسه ان أخبرتهم بما عملت ردوني إلى مكاني فيقول : لا وعزته ما عملت ذنبا قط فيقولون ان لنا عليك بينة فيلتفت يمينا وشمالا هل يرى من الآدميين ممن كان يشهد في الدنيا أحدا فلا يراه فيقول : هاتوا بينتكم فيختم الله على فيه فتنطق يداه ورجلاه وجلده بعمله فيقول : اي وعزتك لقد عملتها وان عندي العظائم المضرات فيقول اذهب فقد غفرتها لك.

٨٧

شهود تحيط بالعاملين لا يقدرون على إنكارها ولا التفلت منها ، سبحان الله العظيم!

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) إذ يعطون جزاءهم حقا عدلا أو فضلا ولا يظلمون فتيلا «ويعلمون» بعد ما جهلوا وتجاهلوا يوم الدنيا (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) إذ يبين كونه حقا بآياته يوم الدنيا ، ويبين حقه بما وعد يوم الأخرى ، فلا خفاء ولا غشاء على حقه ، فإنما غطاء يختلقها المجرمون : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢)!!

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٢٦).

الطيبون والخبيثون هم المؤمنون المحصنون رجالا ونساء ، فإنه الجمع الخاص بذوي العقول ، قد يخص الذكور ، وقد يجمع إليهم الأناث كما هنا.

أترى الطيبات والخبيثات هن النساء غير المؤمنات المحصنات وغيرهن؟ وفي الأطيبين من كانت تحته خبيثة ، كنوح ولوط امّن هو؟ وفي الأطيبات من كانت تحت الأخبثين كامرأة فرعون أمن هي؟

فهل إن نبيا كنوح وامراة مؤمنة كبنت مزاحم ، يتخلفان عن هذه القاعدة الصارمة التي تعم كافة المؤمنين والمؤمنات؟!

أو ترى أن الطيبات والخبيثات هي الكلمات والعقائد والأفعال والافتعالات ، فكل إنسان يعمل على شاكلته ، فلا تكون العقائد ولا تصدر الأقوال والأفعال الطيبات إلا من الطيبين ، ولا الخبيثات إلّا من الخبيثين ، اللهم إلّا لمما وشذرا يتفلت هنا أو هناك؟ وقد تؤيده (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا

٨٨

يَقُولُونَ) تطهيرا لساحة الطيبين رجالا ونساء مما يقال فيهم من فرية وإفك؟ والجمع السالم كما الطيبات مثل الطيبين لا يأتي لغير ذوي العقول!.

أم إنهما معا معنيّان ، فالخبيثات الزانيات وغير المؤمنات لسن إلّا للخبيثين الزانين او المشركين ، والخبيثون الزانون او المشركون ليسوا إلّا للخبيثات الزانيات او المشركات ، وكما دلت عليه آية التحريم : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ...) ويروى التدليل بها لآية الخبيثات عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (١) وقد خصت الآية في هذا الوجه بخبث الزنا كما هنا ، وبخبث الشرك نكاحا وإنكاحا بآية البقرة ، وبخبث الكفر الكتابي إلّا في الزوجة بآية المائدة ، أم واي خبث آخر يسري من خبيث إلى طيب تعليلا لحرمة نكاح المشرك ب (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وقد خصت في خبث الشرك بزوجات مشركات للبعض من أنبياء الله تعالى حيث أحلت لهم مهما حرمت في شرعة الإسلام!

ومن ثم الضابطة في الخبيثات والطيبات غير النساء إلا شذرا :

فالكلمات الطيبات هي للطيبين المؤمنين ، ما قالوه أو قيل فيهم ، والطيبون المؤمنون هم للكلمات الطيبات أن يقولوها او تقال فيهم ، والعقائد والأفعال الطيبات هي للمؤمنين أن يعتقدوها ويفعلوها ، أو تعتقد فيهم ويفعل لهم ، والمؤمنون للعقائد والأفعال الطيبات ، إذا فمثلث الأقوال

__________________

(١) في مجمع البيان الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء عن أبي مسلم والجبائي وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) قالا : هي مثل قوله : الزاني لا ينكح الا زانية او مشركة. الا ان أناسا هموّا ان يتزوجوا منهن فنهاهم الله عن ذلك وكره ذلك لهم.

٨٩

والعقائد والأفعال الطيبات هي للمؤمنين منهم وفيهم وإليهم.

ثم الكلمات والعقائد والأفعال الخبيثات هي لغير المؤمنين ، منهم وفيهم وإليهم ، كما أنهم لهذا المثلث الخبيث ـ إذا ف :

«أولئك» المؤمنون (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) الخبيثون ، من مثلث الخبيثات ، كضابطة عامة في المؤمنين أن ليس ذلك منهم اللهم إلّا شذرا ، ولا تقبل فريتها إليهم ، اللهم إلّا بشهادة ، فالأصل في المؤمنين والمؤمنات البراءة مما يقال عليهم ، وليس كذلك الأصل في غيرهم!

وحتى إذا تفلّتت منهم فالته من خبيثة وإن كانت فاحشة ف (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وكما وعدوا : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١ : ١١٤) وهكذا إيمان من أفضل الحسنات!

ف (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ ...) وإن كانت تدل على معنى ثان للخبيثات ، ولكنها لا تختص الآية به نفيا للاوّل ، حيث اللفظ عام يصلح لهما ، مهما كان شأن نزولها كلمات الإفك الخبيثات!

فهذه الآية تضاحي (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) في وجه ، وتقرر ضابطة تجمع بين إخبار وإنشاء ، أن ساحة الطيبين بريئة من التدنس بخبيثه تقال فيهم ام تفعل ، او يقولون ويفعلون.

وقد تعني الآية تكريسا لكل ما هنالك من سلب وإيجاب حول الروابط الجنسية والعلائق والرباطات الاجتماعية قوليا وعقيديا وتطبيقا في ذلك النطاق في هذه الآيات كلها ، وما أجمله تكريسا من ضابطة صارمة! فالجنس مع الجنس يميل ، حيث الزمالة إمالة لزميل إلى زميل.

٩٠

«فلا تكونن ممن يقول في شيء انه في شيء خاص» وسرّح الآيات تسرح في دلالاتها الواسعة ما وافقت ادب اللفظ وحسن المعنى ، والقرآن حمال ذو وجوه فاحملوه الى احسن الوجوه ، وما أحسنه جمعا بين محاسن الوجوه!.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ

٩١

ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ

٩٢

إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٣٤)

الوقاية الإسلامية تعتمد على التربية كأصل ، توسيعا لمجالات الهداية وتضييقا لفرص الضلالة ، وفيما إذا لزم الأمر يعتمد على العقوبة حسما لمادة الفساد وتنبيها للمفسدين ، وتحريرا للصالحين عن أسرهم بأسرهم في كل عصر ومصر!

فليست العقوبة الدنيوية أصلا تعتمد عليه الشريعة الإسلامية ، وإنما هي سياجات تحافظ على جو الطهارة والحرية الإيمانية دون صدام ، اللهم إلّا وئاما والتحاما بين الجماهير المؤمنة!

فلكل بيت أهله ، ولكل أهل اهله ، دونما تجاوز إلى بيت او أهله حتى نظرة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٢٧).

٩٣

هنا (الَّذِينَ آمَنُوا) لا «المؤمنون» قد تلمح بشمولهم الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، والذين أسلموا منافقين ، ضمن المؤمنين الحقيقيين ، فالتكليف عام يشملهم كلهم ، فهم مأخوذون به كلهم أجمعون!

ولقد جعل الله سكنا وسترا وأمنا على العورات والحرمات ، وليست هكذا إلّا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحها أحد إلّا باستيناس من أهلها وسلام ، فالدخول دون استيناس يسمح لأعين الداخلين أن تقع على عورات ، وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات ، وتهيئ الفرص والمجالات لنظرات طائرة مستطيرة ، فتحوّلها إلى علاقات فلقاءات آثمة ، وهذه خطوات شيطانية أولاها الدخول في البيوت فجأة دون استئناس ، وإلى آثام ومجالات لاتهامات.

ولقد كانوا في الجاهلية على تلك الهمجية ، يدخل الزائر هاجما فناجما وسط العورات في الحالات التي يتأبّى كل إنسان أن يرى عليها ، فمن أجل الحفاظ على حرم البيوت وحرمها وحرمة الداخلين إليها نزلت آية الاستيذان وما يليها تدريبا للذين آمنوا بذلك الأدب الإسلامي السامي.

«بيوتكم» هنا هي البيوت الخاصة بكم ، لا المشتركة بينكم وبين غيركم ولا (بُيُوتِ آبائِكُمْ (١) أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ (٢) أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ) فضلا عن (بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ

__________________

(١ ـ ٢) نور الثقلين ٣ : ٥٨٦ ح ٨٥ باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : يستأذن الرجل إذا دخل على أبيه ولا يستأذن على الأبن قال : ويستأذن الرجل على ابنته وأخته إذا كانا متزوجتين ، وفي التفسير الكبير ٢٣ : ١٩٩ عن عطار بن يسار ان رجلا سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : استأذن على أختي؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نعم أتحب ان تراها عريانة.

٩٤

أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) وفضلا عن (ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) إذ قوبلت كل هذه البيوت في (٦١) النور ببيوتكم! اللهم إلّا بيوت أبنائكم (١).

لذلك فرض الاستئذان على الولدان (الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ... ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) فضلا عما (إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(٥٩)!

وإن بان البون بين استئذانهم هم من سكان البيت ، وبين استئذان الأقارب ثم الأغارب ، فمثلث الاستئذان باختلاف أضلاعه قربا وبعدا موضوع على كل داخل على البيوت ، كما الاستئناس يختلف هنا وهناك وهنالك!

ثم و (غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) تعم بيوت المسلمين وسواهم ، فلا يحق لمسلم أن يدخل بيوت الكفار لأنهم كفار إلا بعد استئناس ، فأما السلام فقد يخص المسلمين وإن كان مسموحا على غيرهم فيمن سوى المشركين ، اللهم إلّا إخبارا بسلام أو دعاء أن يسلمهم الله من نكبة الشرك.

و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كنداء تشمل المؤمنين كافة ، تلحقها خطابات سلبا وإيجابا كلها لزام الإيمان ف «لا تدخلوا» كتصريحه بتحريم الدخول (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها)(٢).

__________________

(١) مجمع البيان وروى ان رجلا قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استأذن على امي؟ فقال : نعم ـ قال : انها ليس لها خادم غيري أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال : أتحب ان تراها عريانة؟ قال الرجل : لا ، قال : فاستأذن عليها.

(٢) الدر المنثور ٥ : ٣٨ ـ اخرج الفريابي وابن جرير من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال قالت امرأة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب ان يراني عليها احد ولا ولد ولا والد فيأتيني الآتي فيدخل ـ

٩٥

ولأن السلام قبل الكلام» (١) ترى ماذا تعني «تستأنسوا» قبل «وتسلموا»؟ طبعا لا تعني كلاما مع أهل البيت ، وإنما (مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) (٢٢ : ٥٣) تسمعونهم تأكدا أن في البيت أهل ثم اخبارا أنك تقصد دخوله (٢).

ثم استيناسا طلب الانس بأهله لكي تعرف رضاهم بدخولك ، وأخيرا استيناسك إياهم لكي يأخذوا أهبتهم لتقبّل الداخل ، سترا لعورات وسدا لثغرات وتحضيرا لضيافة أماذا؟! فليس الاستئناس ـ فقط ـ الاستئذان ، أذن أو لم يؤذن ، وإنما تحصيل الأنس وهو إذن مؤنس ، فإن أذن له تخجلا دون أنس فلا إذن إذا ، وكثير هؤلاء الذين

__________________

ـ علي فكيف أصنع ولفظ ابن جرير وانه لا يزال يدخل علي رجل من اهلي وأنا على تلك الحال فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...).

(١) المصدر ـ اخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «السلام قبل الكلام».

(٢) الدر المنثور ٥ : ٣٨ اخرج ابن أبي شيبة والحكيم الترمذي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردية عن أبي أيوب قال قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرأيت قول الله : حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها هذا التسليم قد عرفناه فما الاستيناس؟ قال : يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة وتنحنح فيؤذن اهل البيت أقول : هذا من مصاديق الاستيناس الإخبار وليس كله فقد يخبر ويسلم ولا يرضون بدخوله! وكما رواه ابو أيوب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الاستيناس ان تدعوا الخادم حتى يستأنس اهل البيت الذين يسلم عليهم ، ومن الاستيناس الإخبار قولك : يا الله ـ سنة دأبة للمؤمنين تحمل ذكرا وإخبارا أن هنالك من يريد الدخول.

وفي التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٣ : ١٩٧ روى ابو هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الاستئذان ثلاث : بالأولى يستنصتون وبالثانية يستصلحون وبالثالثة يأذنون او يردون ، وعن جندب قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : إذا استأذن أحدكم ثلاث فلم يؤذن له فليرجع.

٩٦

يؤذن لهم دونما أنس ورضى! فالإيناس بشيء هو لمسه بوفاق (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٤ : ٦)

فليلمس الداخل بيتا أن فيه أهلا يوافقون دخوله على خبرتهم ، ولمّا استكمل الاستيناس ولمّا يدخل ، فالسلام على أهله ومن ثم الدخول ، ويا لها صيغة مؤنسة «تستأنسوا» بدل «تستأذنوا» تعبيرا يوحي بلطف الاستئذان ولطف الطريقة التي يتطرقها الطارق ، فيحدث في نفوس أهل البيت أنسا فاستعدادا لاستقباله ، كلفته دقيقة لطيفة لرعاية أحوال النفوس ، وتقديرا لظروف الناس في بيوتهم وما يلابسها من ضرورات لا يجوز ان يتحرج أهلوها أمام الطارقين ليل نهار.

وحين لا يسمح بدخول بيوت غير بيوتكم إلّا بعد استيناس وسلام على أهله ، فبأحرى عدم السماح في النظر إلى عورات البيوت بعد دخول ، فضلا عما قبله وقبل الشرطين ، فإنه محظور مؤكد آكد من محظور الدخول دون شرطيه من دون نظر ، لحدّ «إذا دخل البصر فلا إذن له» (١) «فإذا نظر في قعر البيت فقد دخل» (٢) بلا إذن «فإنما الاستئذان من النظر» (٣).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٩ ـ اخرج البخاري في الأدب وابو داود عن أبي هريرة ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... وفيه اخرج ابن مردوية عن عبادة بن صامت ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن الاستئذان في البيوت فقال : من دخلت عينه قبل ان يستأذن ويسلم فقد عصى الله ولا اذن له.

(٢) المصدر اخرج الطبراني عن أبي امامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من كان يشهد اني رسول الله فلا يدخل على اهل بيت حتى يستأنس ويسلم فإذا نظر ...

(٣) المصدر ـ اخرج ابن أبي شيبة وابو داود البيهقي في شعب الايمان عن هذيل قال : جاء سعد فوقف على باب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستأذن فقام على الباب فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا عنك فانما الاستئذان من النظر ، واخرج ـ

٩٧

وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يستأذن ابنته الزهراء (عليها السلام) (١) فضلا عن غيره وبالنسبة لغير الأقربين

__________________

ـ احمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن سهل بن سعد قال : اطلع رجل من حجر في حجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه مدرى يحك به رأسه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لو اعلم انك تنظر لطعنت بها في عينك إنما جعل الاستئذان من اجل البصر ، واخرج الطبراني عن سعد بن عبادة قال : جئت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في بيته فقمت مقابل الباب فاستأذنت فاشار إلى ان تباعد وقال : هل الاستئذان إلّا من اجل النظر.

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٨٧ ح ٨٧ عن الكافي في القوى باسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن جابر بن عبد الله الانصاري قال : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد فاطمة (عليها السلام) وانا معه فلما انتهيت إلى الباب وضع يده فدفعه ثم قال : السلام عليكم فقالت فاطمة (عليها السلام) عليك السلام يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أدخل؟ قالت : ادخل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ادخل ومن معي؟ قالت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس علي قناع فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ففعلت ثم قال : السلام عليكم فقالت : وعليك السلام يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ادخل ، قالت : نعم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : انا ومن معي؟ قالت : ومن معك قال جابر فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخلت فإذا وجه فاطمة (عليه السلام) اصفر كأنه وجه جرادة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مالي ارى وجهك اصفر؟ قالت : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! الجوع فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : اللهم مشبع الجوعة ودافع الضيقة أشبع فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قال جابر : فو الله لنظرت إلى الدم ينحدر من قصصها حتى عاد وجهها احمر فما جاعت بعد ذلك اليوم.

٩٨

أترى الاستيناس الإذن والسلام لزام الداخل في غير بيته وإن كان بيت ولده أو بنته؟ آية البيوت تجعل ذلك البيت كبيت الوالدين إذ لا تذكره بين البيوت ، فلا استئذان إذا لهما اللهم إلّا تحرزا عن عورة غير مستورة! ... وترى ذلك الاستيناس واجب الداخل على بيت فهل يجب بعده السلام؟ إنه أدب للداخل دون وجوب ولكنما الاستيناس الاستئذان واجب الداخل ، والفارق الضرورة القاطعة في عدم وجوب البدو في السلام.

وإذا كان أصل الاستئذان من النظر فهل الذي لا ينظر أو الأعمى يستأذن؟ أجل من أجل الحصول على الرضا والتأهب! فالنظر أصل لا يستأصل سائر ما يجب له الاستئذان ، وكما البيت الخالي عن أهل لا يدخل إلّا بأذن ، ولا عورة فيه حتى ينظر إليها!

أترى إذا كان الاستئناس حاصلا من قبل في زواياه فما على الداخل إذا؟ طبعا ليس عليه إلا غير الحاصل حالة الدخول وهو الإخبار أنه يدخل والسلام ، وإذا كانوا على خبرة فليس عليه بعد إلا السلام كأدب للداخل على بيت كالواجب وإن لم يجب!

«ذلكم» البعيد البعيد عن التعرض لأعراض المؤمنين ونواميسهم ، القريب القريب وقاية لما يتوقون (خَيْرٌ لَكُمْ) جماهيري ، خلقا لجو الأمن والاطمئنان ويقابله : شر لكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) واجب الأدب الجماعي عليكم كسيرة مستمرة تحلّق على كل الحقول وتعقلها كلّ العقول ، سنة العشرة الإيمانية والاخوّة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) المواعظ الربانية المتجاوبة مع الفطرة السليمة فتطبقوها بين جماهيركم!.

ثم ترى إذا دخل بيتا دون إذن أم بمنع من أهله ، فكيف يعامل معه؟ قد يجب أو يجوز إخراجه مهما كلف الأمر ، حيث الدفاع عن المال والعرض واجب حيثما بلغ الأمر.

٩٩

وهل يجوز فقأ عين الناظر إلى عورة في بيت دون إذن الدخول أو نظر؟ اللهم لا! فان (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) ولم يفقأ النظر حتى يقفأ! وعلّه نعم ، فان هذه العين ذهبت حرمتها بهكذا نظر فان فقئت عينه فهي هدر كما في الخبر (١) ولكنما (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) تطارد هذا الخبر ، فيعرض عرض الحائط او يؤول ، ولم يسبق لهكذا حدّ زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة أي أثر ، فالرواية ـ إذا ـ شاذة في بعدي مخالفة الكتاب وواقع الأثر.

وهل يجب الاستيذان أو يجوز إذا عرض على بيت خطر لا يمكن إزالته إلا بسرعة لا تسمح لاستيذان؟ كلا ، فإنه أقل المحظورين الواجب اقترافه تحذرا عن الأخطر الأخطر!.

أو هل يجب إذا علم ان في بيت تبييت خطر على دولة الإسلام إمّا ذا من خطر هو أخطر من الدخول فيه دونما إذن؟ هنا دوران الأمر بين المهم والأهم ، فالأهم واجب ، أم بين المتساويين فمخير!

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٢٨).

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) تفريعة على استئناس بحاصله الاوّل : هل فيه أهل أم هو خال؟ فلأنه بعد غير بيتكم مهما لم تكن فيه عورة أم كانت (فَلا

__________________

(١) الفخر الرازي ٢٣ : ١٩٨ روى ابو هريرة ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه ، ومضى حديث سهل ابن سعد في قصة المدري إذ قال له (صلى الله عليه وآله وسلم) لو علمت انك تنظر الي لطعنت بها في عينك انما الاستئذان قبل النظر ، وفي الصحيحين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : لو ان امرا اطلع عليك بغير اذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح.

١٠٠