الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

تقضي على شبق الجنس ، من صوم وابتعاد عن مثيرات للجنس أمّاذا؟

ومن السنن الضرورية للحيلولة عن التخلفات الجنسية النكاح المنقطع ، لو لم يكن فيه نص لحكمنا بحله بمطلقات أدلة النكاح ، كيف وفيه نص الكتاب (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) ومختلف الحديث حول نسخه وبقاءه معروض على نص الكتاب فمرفوض نسخه ، ومنسوخ قولة القائل به أيا كان ، ف (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)! ...

المحور الرئيسي في هذه الأوامر الوقائية هو العفاف عن الشذوذ الجنسي مهما كلف الأمر ، فأولو الإربة من الذكور والأناث ، من الأيامى والصالحين من عبادكم وإمائكم ، عليهم النكاح وعليكم إنكاحهم ما وجدوا ووجدتم إليه سبيلا ، وفي سبيل ذلك العفاف الجنسي عليهم العفاف الاقتصادي ما أمكن (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ) حتى يغنيهم الله من فضله ومنه الكفاف بالنكاح المنقطع ، وهذا استعفاف بالنكاح لم لا يجد نكاحا كما يحب ، ومن ثم استعفاف إذا لم يجد نكاحا قط وإن منقطعا وبعفاف اقتصادي صارم ، وهذا هو الجانب السلبي في طلب العفاف بصوم أمّاذا من كواسر شبق الجنس.

ف «وليستعفف» كما تشمل مع الأيامى من أمروا بإنكاحهم ، كذلك تشمل على هامش العفاف الجنسي ، عفافا اقتصاديا ، كمقدمة ميسّرة للجانب الإيجابي من الاستعفاف ، وكذلك العفاف سلبيا إن لم يجدوا نكاحا قط بأية صورة منه ، ف (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) يشمل مطلق عدم الوجدان في أصله أو كما يناسبه ويجب ، و (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) تعم الفضل في صورة النكاح من انقطاع إلى دوام ، والفضل اقتصاديا أماذا؟

فالواجد المطلق للنكاح من يجده اقتصاديا وجنسيا وشرفيا ، وغير

١٤١

الواجد مطلقا من لا يجده أيا كان ، وبينهما عوان ، يستعفف غير الواجد بصوم أما ذا ، ويستعفف الواجد الناقص بما حضر (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)!

ومن النكاح الذي قد يعتبر غير موجود امرأة صخابة ولّاجة همازة تستقل الكثير ولا تقبل اليسير (١) كرب مقمع وغل قمل (٢) وخضراء الدمن (٣) او شهبرة ـ لهبرة ـ نهبرة ـ هيدرة ـ لفوتا (٤) وان كن فيما سوى الأول قد يصلحن لقضا الحاجة وكسر الشبق!

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٩٨ ح ١٤٦ في حديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) في تعديد النساء وهن ثلاث : فامرأة ولود ودود تعين زوجها على دهره لدنياه وآخرته ولا تعين الدهر عليه وامرأة عقيم لا ذات جمال ولا خلق ولا تعين زوجها على خير وامرأة صخابة ... أقول وهذه الثلاث على الترتيب : شديدة السياح ـ كثيرة الدخول والخروج ـ العيابة الطعانة.

(٢) المصدر ح ١٥٠ عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النساء اربع جامع مجمع وربيع مربع وكرب مقمع وغل قمل ، أقول : وهن على الترتيب : كثيرة الخير مخصبة ـ التي في حجرها ولد وفي بطنها آخر ـ سيئة الخلق مع زوجها ـ هي عنده كالغل القمل وهو غل من جلد يقع فيه القمل فيأكله فلا يتهيأ له ان يحك منه شيء وهو مثل للعرب.

(٣) المصدر ١٤٥ في معاني الاخبار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إياكم وخضراء الدمن قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء.

(٤) المصدر ١٥٤ ـ الخصال باسناده إلى زيد بن ثابت قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث معه لا تتزوجن ... قال زيد يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عرفت مما قلت شيئا واني بأمرهن لجاهل ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألستم عربا؟ اما الشهبرة فالزرقاء البذية ، واما اللهبرة فالطويلة المهزولة واما النهبرة فالقصيرة الذميمة ، واما الهيدرة فالعجوزة المدبرة ، واما اللفوت فذات الولد من غيرك.

١٤٢

(... وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ ...)(٣٣).

هل يعني شرط الخير ـ فقط ـ المال (١) أن تعلموا بإمكانية أدائهم مال الكتاب حسب الكتاب؟ والخير لا يختص بالمال مهما كان من الخير ، فلو أريد منه فقط فليكن «مالا» ثم المال ليس فيهم ، بل لهم ، ف «إن علمتم لهم مالا» حاضرا ام بتكسب! لا (فِيهِمْ خَيْراً).

ثم وما لم يعلم المالك أنه يؤدي مال الكتاب ليس ليكاتبه بطبيعة الحال ، فلا يحتاج إلى شرط! ثم وحتى إذا دفع كل المال نقدا فضلا عن مقدّرة الآجال فلا يجوز تحريرهم ما لم يؤمنوا ، حيث التحرير وجوبا وجوازا مشروط بالإيمان (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) حيث الرقية في حساب الإسلام لا تعني أسر إنسان وحصره عن حريته ظلما وزورا حتى إذا دفع الخير المال يحرّر وإلّا فلا ، فإنما هو ثقافة إجبارية إسلامية وتربيه في مدرسة داخلية ريثما يؤمنوا فيحرّروا بأسبابه : دية أو كفارة ، او دفعا لقيمة كتابة وسواها ـ او من بيت المال زكاة أماذا ، أو أن خيرا هو الإيمان؟ ولا يكفي لوجوب المكاتبة مهما كان شرط جواز العتق ، أو أنه الاطمئنان ألّا يصبح عيبا على مولاه وعبئا على المجتمع ، أن يلقي كلّه على الناس؟ وهذا رغم اشتراطه لا يكفي شرطا ، فليكن «خيرا» خير الحال الإيمان والاطمئنان وخير المال (٢) وفاء بمال الكتابة ، وإلّا فلا مكاتبة ، فإن هذه المدرسة

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٠ ح ١٥٦ في تهذيب الأحكام عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : كاتبوهم ان علمتم لهم مالا ، وعن محمد بن مسلم عن أحدهما مثله.

(٢) المصدر من لا يحضره الفقيه عن أبي عبد الله في الآية قال : الخير ان يشهد ان لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله ويكون بيده عمل يكتسب به او يكون له حرفة وعن الحلبي عنه (عليه السلام) قال : ان علمتم دينا ومالا.

١٤٣

الداخلية التربوية يقصد منها تحول المماليك الكفار إلى مسلمين أبرار حتى يصلحوا للدخول في متن الجماهير المسلمة أحرارا.

فحتى إذا لم يسطعوا على كل المال (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) وأقلّه الزكاة ، فإن من أهلها (وَفِي الرِّقابِ) فان دفعها لغيره أم لا تكفي وفاء بكتابة فمن عنده كما يقدر ويكفي قضية الإطلاق في (مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) حيث الأموال كلها مما آتاه الله دون اختصاص بالضرائب ، وهذا الإيتاء مساعدة لمن خدمكم لزمن وإكرام لمن أسلم عندكم أو هو مسلم ، وترغيب له إلى مبادئ الإسلام ، وتأكيد أن الإسلام لا يشجّع على تعبيد الناس إلّا كمدرسة داخلية لصالحهم ...

وأفضله ما أضمر عليه في كتابه (١) فعلى المولى ان يكاتب مملوكه الذي علم فيه خيرا «وان كان يسأل الناس ولا يمنعه من أجل أن ليس له مال فان الله يرزق العباد بعضهم من بعض والمؤمن معان ويقال : المحسن معان (٢) وطبعا السؤال غير المحرم كأن يسأل من مال الله ضرائب وسواها.

وهل عليه المكاتبة ولا مال عنده ولا هو قادر على تحصيل

__________________

(١) المصدر ح ١٦٢ محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال سألته عن قول الله عز وجل (وَآتُوهُمْ ...) قال : الذي ان تكاتبه عليه لا تقول : أكاتبه بخمسة آلاف واترك له ألفا ولكن انظر إلى الذي أضمر عليه فأعطه ، وفي الفقيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) سمعت أبي (عليه السلام) يقول : لا تكاتبه على الذي أراد ان يكاتبه ثم يزيد عليه ثم يضع عنه ولكنه يضع عنه ما نوى ان يكاتبه عليه ، وفي الدر المنثور ٥ : ٤٧ اخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والديلمي وابن المنذر والبيهقي وابن مردويه من طريق عبد الله بن حبيب عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله : وآتوهم من مال الله ، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) يترك للمكاتب الربع.

(٢) المصدر في الكافي عن سماعة سألته عن العبد يكاتبه مولاه وهو يعلم انه ليس له قليل ولا كثير قال يكاتبه وان كان يسأل ...

١٤٤

المال؟ «فكاتبوهم» لا تشمل من لا مال له فليست المكاتبة إلا لأجل النجوم المقسّطة لدفع مال المكاتبة! (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ) ليست لتعني كل مال المكاتبة ، اللهم إلا بعضا كما يتمكن المكاتب ويكفي للمكاتب له ، اللهم إلا إذا كان مال الله من الضرائب الكافية لثمنه.

ولماذا «آتوهم» بدل ألّا تأخذوا ، أو تنقصوا من حق المكاتبة؟ لأن ذلك أدخل في المحبة ، أن يرى المملوك عليه حقا ، ثم يدفع إليه من هذا الحق ما هو ينتظره ، فيدفع منه ما أخذه!

وهل يكفي من خير الرقيق الإيمان وإمكان دفع حق المكاتبة ، وقد يصبح كلّا على الجماعة المؤمنة ، أو يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش ويكسب ما يقيم أوده ، كوسيلة التكفف على أبواب الناس أو السرقة والخيانة ، ام البغاء في الفتيات! كلا ثم كلّا أن يرضى الإسلام كلّا هكذا وعبئا وعيبا ، فإنما الأمن مع الإيمان ، كيلا تصبح حريته وصمة على كتلة الإيمان.

فكما ليس التخرج ـ فقط ـ من المدرسة والجامعة مرغوبا للجماعة المؤمنة ، إلّا بكفاءة أمينة ثقافية وأدبية ، كذلك وبأحرى للمماليك وهم أبعد من ذلك ، ف (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) يعني الإيمان الأمين والتربية الصالحة لحدّ يصلح أن يلج الجماعة المؤمنة في حرية التصميم والإرادة ماديا ومعنويا! فكما أن عتقه يعني إسلاميا أن يعيش دور التربية الإسلامية ، كذلك تحريره تخرّج لمن يصلح أن يكون من ضمن الجماعة المؤمنة ، ونعم ما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير الآية «إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٤٥ ـ اخرج ابو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي كثير قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) قال : ... وعن ابن عباس وعبيدة السلماني وقتادة وابراهيم وأبي صالح ومجاهد ـ

١٤٥

فان كن فتيات لا تفتكروا أنهن بما يقدرن على البغاء أو بإكراههن عليها ، هن أموال فلا حاجة لهن إلى إيتاء مال ، حيث البغاء ولا سيما في إكراه المؤمنات عليها ليس مالا يصلح لأية معاملة ف :

(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٣).

صحيح ان البغاء محرمة بكل صورها وظروفها من مشركة او مسلمة وعلى أية حال ، ولكن أبشع صورها إكراه الفتاة المؤمنة على البغاء وهي تريد تحصنا.

وقد كانت سنة سيئة لئيمة بين الجاهليين احتراف الإماء للبغاء ، حتى جاء الإسلام المانع من البغاء في الإماء وساير النساء ، ولكنما الجاهلية ما كانت لينسى سراعا ، فناشبة باقية منها أنهم اقتصروا على الاحتراف ببغاء الإماء ، كأنهن لا حرمة لهن لأنهن إماء ، وحتى إذا أسلمن ، وقد كان لعبد الله ابن أبي جارية تدعى معاذة ، فكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة ، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر فشكت ذلك إليه فذكره للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا فنزلت الآية (١).

__________________

ـ وطاوس والحسن قالوا : امانة ووفاء.

(١) الدر المنثور ٥ : ٤٥ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كان لعبد الله ... وفيه اخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن أبي مالك في الآية نزلت في عبد الله بن أبي وكانت له جارية تكسب عليه فأسلمت وحسن إسلامها فأرادها ان تفعل كما كانت تفعل فأبت عليه ، وفيه عن الزهري ان رجلا من قريش أسر يوم بدر وكان عند عبد الله بن أبي أسيرا وكانت لعبد الله جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة فكانت تمتنع منه لاسلامها وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها رجاء ان تحمل للقرشي فيطلب فداء ولده فانزل الله الآية.

١٤٦

ف (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ليست شرطا لحرمة الإكراه ، فإن البغاء لا تحصل عند ارادة التحصّن إلّا بالإكراه ، وإنما تعني تغليظ الحرمة ، ف «لا تكرهوا» نهي خاص في أحرج ظروفه وأعوجه ، فلا يفهم منه إن لم يردن تحصنا فلا بأس بإكراههن إذ لا يحصل فيه إكراه ، فمثلها كمثل قوله تعالى (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) إذ لا تختص الحرمة بالأضعاف ، وإنما تعني إضعاف الحرمة في الأضعاف!

فنفس البغاء محرمة ، وهي من المسلمة أشد ، والإكراه عليها أشدّ من الأشد ، وابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذه الدنية بالغ أشدّه في الحرمة ، حرمة مربعة تعنيها (وَلا تُكْرِهُوا ...) فيما تعني الأمة ، ثم وخامسة إذ تشمل الحرة ، فالفتيات تشملهما.

وهي محرّمة على «من يكرهن» ولكن المكرهة عليها (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمكرهة دون المكره ، مما يدل على أن البغاء دون إكراه محرمة لا غفران بعدها دون شرط من حد وتوبة وإصلاح!

ف (مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ) تعطف بالغفران إلى المكرهات ، وإلا فلتكن «من بعد إكراههم»! ثم البعد يخص الغفران بحالة الإكراه دون الإختيار ، فقد جمعت الآية بين حل البغاء للمكرهة ، وأغلظ الحرمة للمكره ، وأصل الحرمة للبغايا غير المكرهات!

وذلك النهي المغلّظ كان جزء من خطط القرآن في تطهير البيئة الإسلامية ، وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي ، أيا كانت غايته ، والصلة القريبة لهذا النهي بأمر المكاتبة ، علّها الفكرة الخاطئة من بعض الموالي ، من سماح البغاء أو الإكراه عليها توفية لنجوم الكتابة ، حيث المال المحصّل من حرام ـ فضلا عن حرام الإكراه على البغاء ـ لا يفي نجوما للكتابة ولا لأي نجم أمّاذا؟

١٤٧

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٣٤).

(آياتٍ مُبَيِّناتٍ) حسب الحاجيات والمتطلبات طول الزمان وعرض المكان حتى القيامة الكبرى ، ثم (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) من أهل التقوى والطغوى ، ومن ثم (مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) فيما أنزلنا من البينات ومثلا وسواهما من ذكريات في القرآن.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ

١٤٨

يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢)

١٤٩

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٤٦)

الآيات الأربع الأولى مثل للهداية الإلهية على درجاتها ، واثنتان بعدها مثل للضلالة على دركاتها ، ثم الباقية بينات من الهدى أمثالا للهدى العامة الشاملة لعامة الكون طوعا أو كرها ولكن لا يفقهون!

١٥٠

وآية النور هي المحور الأصيل فيها ، ليس لها مثيل بين آياتها التسعة والأربعين بمختلف صيغها : النور ـ نورا ـ نوركم ـ نورنا ـ نوره ـ نورهم ـ المنير ـ منيرا ، عدد أبواب الجنة النور (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ...)!

في هذه الأنوار لا تجد إلّا أربعا تحنّ إلى المحسوس (١) والباقية لا تعني إلّا سواه من نور الهدى والهادي ونور الوحي ، وآية النور هي الوحيدة في وجهات ، منها توصيفه سبحانه ب (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

أجل فيها نور الرب (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) (٣٩ : ٦٩) ونور الله (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) (٦١ : ٨) ونور من الله (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) (٥ : ١٥) و (نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (٣٩ : ٢٢) حيث يجمعها مثلث النور : هدى وهاديا ووحيا!.

وأما (اللهُ نُورُ) فليست إلّا ناصية لهذه اليتيمة المنقطعة النظير ، ولذلك سميت سورتها نورا وكما هي نور بين السور وكلها نور : نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء!

(اللهُ نُورُ) في إطلاقها دون إضافة كما (اللهُ عَلِيمٌ) (اللهُ قَدِيرٌ) «الله حي» : صفات ذاتية ثلاث ، وكما (اللهُ خالِقُ) «الله رازق» أماذا من صفات فعلية ، فذاته نور وفعله نور وصفاته نور (نُورٌ عَلى نُورٍ ...)!

__________________

(١) وهي «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» ٦ : ١ «وَالْقَمَرَ نُوراً» ١٠ : ٥ «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً» (٧١ : ١٦) و «ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ» (٢ : ١٧).

١٥١

أترى أن توصيفة ب «نور» يجعله كسائر النور؟ وتوصيفه بالوجود لا يجعله كسائر الوجود كما توصيفه بأنه شيء لا يجعله كسائر الأشياء! فالله باين الأشياء بينونة ذات وأفعال وصفات (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) مهما تشابها في تحبير اللغات «لا هو في خلقه ولا خلقه فيه ـ لا هو من خلقه ولا خلقه منه» : تباعض الذات أو الصفات! فإنما إبداع وخلق لا من شيء ، أو من شيء خلقه وأبدعه ، لا من شيء ذاته فإنه ولادة ، ولا من غيره إذ لا خالق غيره!

هنالك بون بيّن بين (اللهُ نُورُ) و «النور الله» فالأول يعني حقيقة النور التي لا ظلام فيه ولا حدّ ولا حدود ، أزلي ، أبدي ، سرمدي ، غني ، بينه وبين سائر النور أبعد من البون بين سائر الظلمة والنور!

ولكنما الثاني قد يعني ان كلّ نور هو الله ، وحدة حقيقة النور بمراتبها كوحدة حقيقة الوجود! والآية هي الأول : (اللهُ نُورُ) لا كل نور ، وإنما النور الإلهي الذي لا مثيل له ، مهما كان له مثل في صفات غير ذاتية وأفعال!

ولأن النور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره ، وهو بين مطلق ومحدود ، سرمدي وسواه ، غني وسواه ، ما يناسب الله وما لا يناسب إلّا سواه ، فمما يعنيه (اللهُ نُورُ) : أنه ظاهر بذاته رغم خفاءه ، ومظهر لغيره في أيّ من مراحل الظهور.

أترى بعد أنها صفة ذاتية له سبحانه كمثلث الصفات؟ وهو قبل غيره لم يكن إلّا ظاهرا لذاته لا مظهرا ولا مظهرا لغيره ، فلمن يظهر غيره قبل خلقه؟ ألنفسه؟ وكل شيء ظاهر له في العلم دون إظهار! أم لغيره؟ وقد كان الله ولم يكن معه شيء! فإنما الإظهار بالخلق فظهور له لا بذاته كما

١٥٢

عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «نور إني أراه» (١) رؤية البصيرة معرفيا بعد رؤية البصر لدلالاته الآفاقية والأنفسية! «وقد خرق له في الحجب مثل سم الإبرة فرأى من نور العظمة ما شاء الله أن يرى» (٢) ف (اللهُ نُورُ ...) كذلك الله عز وجل (٣).

هو نور ومثله نور آخر ، ولا مثيل له في نوريته كما في سواها من صفاته تعالى ، إذا فلا يعني (اللهُ نُورُ) ظهوره بذاته وهو مستحيل إلّا لذاته ، وإظهاره لغيره وهو من صفات فعله لا ذاته!

فالنور إذا هي من صفاته الفعلية ، كما تعنيه (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فليس هو قبل السماوات والأرض نورا إلّا ظهورا لذاته دون أي إظهار! إلّا ان يسمّى نورا بمجرد ظهوره لذاته ، وليس إلّا عبارة أخرى عن

__________________

(١) الدر المنثور عن أبي ذر قال : سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هل رأيت ربك؟ قال : نور إني أراه ، ورواه في م ايمان ٣٩١ ت تفسير سورة ٥٣ ، ٧ حم ١٥٧٢٥ ، ١٧١ ، ١٧٥.

وفيه ٥ : ٤٧ ـ اخرج البخاري مسلم والنسائي وابن ماجة والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا تهجد في الليل يدعو : اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن أنت الحق وقولك حق ووعدك حق ولقاءك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا أله إلا أنت.

(٢) القمي بإسناد متصل عن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث.

(٣) فضيل بن يسار عن الصادق (عليه السلام) سألته عن قوله تعالى (اللهُ ... نُورُ ...» قال : كذلك الله عز وجل ثم سألته عن (مَثَلُ نُورِهِ) فقال : محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

١٥٣

علمه الذاتي ، فليست إذا رابعة لصفات الذات! بل صفة فعل حيث يعرفه خلقه بالنورانية ، ولذلك سمى نفسه فيما سمى «نورا» «يا نور يا نور النور يا منور النور ...» «اللهم إني اسألك بنور وجهك الذي أضاء له كل شيء» وأما «نور وجهك الباقي بعد فناء كل شيء» فهو ذاته النورانية حياة وعلما وقدرة ، في ذاته ، وإمكانية الظهور لمن سواه قبل فناء كل شيء.

وقد كانت تدعو فاطمة النور بدعاء النور قائلة : «بسم الله النور بسم الله الذي يقول للشيء كن فيكون بسم الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور بسم الله الذي خلق النور من النور بسم الله الذي هو بالمعروف مذكور بسم الله الذي أنزل النور على الطور بقدر مقدور في كتاب مسطور على نبي محبور (١).

ولأن (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في المصطلح القرآني هي صيغة التعبير عن الكون كلّه بما فيه ومن فيه كما في سائر القرآن ، إذا ف : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني أنه نّور الكون كله ، كصفة فعلية له سبحانه ، لا ذاتية فإنها متحللة عن الكون ، وهذه حلّة الكون : السماوات والأرض!.

أترى ان الظلمات أيضا نور كما النور نور وقد (جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٦ : ١)؟ أجل إنها تحمل من النور نور الوجود ، قبال النور التي تقابلها ، حيث تحمل من الوجود وجود النور!.

فمن (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تكوّنهما بعد مطلق العدم والعدم

__________________

(١) سفينة البحار ٢ : ٦١٧ دعاء النور لفاطمة (عليه السلام) عانو ١٩٣ وعالو ١٢٢ وى ج ٢١ ايضا دعاء النور لها برواية للدلائل للطبري.

١٥٤

المطلق (١) حيث أوجدهما من مادتهما ، كما أوجد لا من شيء ، فالعدم المطلق ظلمات مطلقة لا حظّ لها من الوجود ، فالإيجاد لا من شيء إنارة عن الظلمة المطلقة إلى نور تجمع (الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) حيث الوجود فيهما نور! «اللهم إني أسألك بنور وجهك الذي أضاء له كل شيء» فضوء كل شيء هو ضوء الوجود وتقديره وهدايته التكوينية!

ومن (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الهداية التكوينية لزاما وغير لزام (٢) «الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى» (٣٢ : ٧).

ومن (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أنهما دالتان ببارع الصنع فيهما على خالقهما ومدبرهما ، فهما ظاهرتان ومظهرتان!

ومن (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الهداة إلى الله ، الأدلاء على مرضات الله بوحي من الله ، وحملته الرسل المصطفون : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢٢ : ٧٥) وهي كلها ظاهرات بينات ، مظهرة للخفيات ، وهذه هداية تشريعية وشرعية.

إذا فتكوينهما وتدبيرهما وهدايتهما تكوينية وتشريعية وشرعية ، والتدليل بهما على خالقهما ومدبرهما ، كل ذلك نورهما حيث أنار الله تعالى.

(مَثَلُ نُورِهِ) إضافة النور إليه دليل أنها لا تعني ـ فيما تعني ـ ذاته ، كما دلت إضافتها إلى السماوات والأرض ، فلو أنها من صفات ذاته السرمدية ،

__________________

(١) مطلق العدم قد يناسب وجودا مّا كما السماوات والأرض كانا موجودين في مادتهما الأولية إذ لا سماوات ولا أرض ، والعدم المطلق لا يناسب اي وجود فهو إذا كان الله ولم يكن معه شيء.

(٢) الهداية الاولى هي الضرورية الاضطرارية التي هي لزام كل كائن ، والثانية هي التي قد تتحول باختيار السوء إمّا ذا؟

١٥٥

فلما ذا خصوص الإضافة إلى السماوات والأرض ، فإنما (اللهُ نُورُ) قبل الخلق وبعده ، وإنما هي من صفاته الفعلية ، ـ دون الذاتية ـ كالخالقية والمدبرية وأنه الهادي بمظاهرها الثلاثة (١).

وكما ليس لذاته مثل ، كذلك ليس لأفعاله وصفاته ، فليس ـ إذا ـ لنوره الفعلي مثل فضلا عن ذاته : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فهل ليس له مثل كما ليس له مثل؟ (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٠ : ٢٧) فإن المثل هو الآية ، وفي كل شيء له آية ، من أدنى فأدنى ، ومن أعلى فأعلى ، آية على ألوهيته وربوبيته وهدايته أمّاذا من شئون رحمته الرحمانية والرحيمية.

أترى أن لنورانيته في التكوين والتشريع مثلا كما لسائر إلهيته؟ آية له في التشريع والتكوين مثلا ، وإن لم يكن له مثلا؟ اللهم لا ، إذ لا يتمثل أحد من خلقه فيهما فلا مكوّن سواه ولا مشرّع سواه ، إلّا في هداية شرعية تمثّل هداه ، فكل شيء مثل له آية على ربوبيته ، ولا شيء مثلا في تكوينه وتشريعه ، اللهم إلّا على وحدته فيهما ، إلّا في الهداية الشرعية ، فوحيه تعالى وحملته المعصومون هم مثل نوره فيها ، دون تمثّل في تكوين ولا تشريع: (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) (٣ : ١٤٤) (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٢٨ : ٥٦) (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (٣ : ١٢٨) (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (٤٢ : ٤٨)! ولان المثل هو الآية ، وفي الكون له مثلث الآية تكوينا وتشريعا وشرعة ، فقد يعمها (مَثَلُ نُورِهِ) ولكنه في مثاله «كمشكاة» يعني ثالث ثلاثة وهم حملة الشرعة بوحي الرسالة.

__________________

(١) تكوينية ـ تشريعية ـ شرعية.

١٥٦

و (مَثَلُ نُورِهِ) في هدايته الدلالية «كمشكاة» وليس المثل هو المشكاة! بل هو آية نوره.

ف (اللهُ نُورُ) وجاه (مَثَلُ نُورِهِ) لا يعني إلّا الهداية الشرعية ، فكما الله «هاد لأهل السماوات وهاد لأهل الأرض» (١) كذلك الهداة ـ المعصومون ـ إليه بدلالته هم مثل لنور هدايته ، فقد «ضرب لكم مثلا من نوره» (٢) لا كل الأمثال «فالنبي والأئمة صلوات الله عليهم من دلالات الله وآياته التي يهتدى بها إلى التوحيد ومصالح الدين وشرايع الإسلام والسنن والفرائض ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (٣) فقد «بدء بنور نفسه» (٤) ثم مثّل مثلا من نوره.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٠٢ ج ١٧١ في كتاب التوحيد في آية النور عن الرضا (عليه السلام).

(٢) المصدر ح ١٧٠ عن أبي جعفر (عليه السلام) حديث طويل فيه ان الله تعالى بعث الى اهل البيت (عليهم السلام) بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من يعزيهم فسمعوا صوته ولم يروا شخصه فكان في تعزيته «جعلكم أهل بيت نبيه واستودعكم علمه وأورثكم كتابه وجعلكم تابوت علمه وعصى عزه وضرب لكم مثلا من نوره

(٣) المصدر ح ١٧٢ عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال هو مثل ضربه الله لنا فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

(٤) المصدر ح ١٧٩ عن الباقر (عليه السلام) في الآية قال : بدأ بنور نفسه (مَثَلُ نُورِهِ) مثل هداه في قلب المؤمن.

وفي سفينة البحار ٣ : ٦١٥ القمي عن أبي خالد الكابلي قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا فقال : يا أبا خالد! النور والله الائمة من آل محمد إلى يوم القيامة هم والله نور الله الذي انزل وهم والله نور الله في السماوات والأرض والله يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم والله ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم والله يا أبا خالد لا يحبنا عبد ويتولانا حتى يطهر الله قلبه ولا يطهر الله ـ

١٥٧

وحيث الأنوار الدلالية في هداية الخلق تختلف بين خليطة بظلمة وخليصة عنها هي نور الأنوار ، هنا الله يضرب مثلا من نور هدايته ليس نورا على ظلمة ، بل هو (نُورٌ عَلى نُورٍ) ليس فيها ظلمة ، حجة من الله في الدلالة التامة التي لا قصور فيها ولا نقصان يعتريها!

وكما لله أمثال في الكون ، والكون كله أمثاله وآياته ، دون مثل واحد ، كذلك له أمثال في نور هداه ، وهم الدعاة المعصومون ـ إليه ، فلما ذا (مَثَلُ نُورِهِ) لا أمثال نوره؟

لأنه يعني هنا المثل الأعلى لنوره وهو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فانه يجمع كافة الأمثال النورانية فهو النبيون أجمع ، وكافة الأمثال النورانية الإلهية مندكة في ذلك المثل الأمثل ، فلذلك (مَثَلُ نُورِهِ) لا «أمثال نوره» كما (لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) لا «الأمثال العليا» فالكون كله أمثاله تعالى ولكنما العليا هو الرسول محمد الذي فاق العالمين في حمل الهدى الإلهية كما يمكن ويجب!

(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ...)

و «نوره» في مثلث من الأنوار متتالية متعالية ، فمحمد هو نور الأنوار (١) وعترته المعصومون ويتلوهم النبيون أجمع ، ومن ثم المؤمنون (٢).

__________________

ـ قلب عبد حتى يسلم لنا ويكون سلما لنا فإذا كان سلما لنا سلمه الله من شديد الحساب وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر.

(١) نور الثقلين ٣. ٦٠٣ ح ١٧٣ عن الصادق (عليه السلام) قال : مثل نوره : محمد.

(٢) المصدر ح ١٧٩ عن الباقر (عليه السلام) مثل نوره «مثل هداه في قلب المؤمن ...».

١٥٨

والمشكاة هنا هي مشكاة النبوة : مجمع الأنوار كلها ومصدرها : الرسول الأقدس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)! فإنه النبيون أجمع وهو الهداة والصالحون أجمع ، والمشكاة هي الكوّة الزجاجية غير النافذة التي يوضع فيها المصباح ، لتمنع شعلته عن الرياح ، وتحصر نوره وتجمعه فيبدو قويا متألقا (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) تقيّة الريح ، وتصفية النور ، وزيادة التألق ، لا سيما (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) : عظيم كثير النور ، ثم المصباح داخل الكوكب الدري داخل المشكاة (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) فزيته من (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ)(١) وهي «زيتونة» لا كسائر الزيتونة شرقية وغربية وهي ليست بالتي ترام بل هي (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) فإنما الشرق أوسطية وهي أصلح زيتونة على وجه الأرض وأطيبها ، وهي في صفائها لحد : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) إذا فنورها (نُورٌ عَلى نُورٍ).

أترى لماذا يمثل النور المحمدي وهو نور الأنوار ، بمثل هو أدنى منه بدرجات ، والمثل أمثل ـ دوما ـ من الممثل؟ لأن القصد هنا من المثل تقريب المحتد من النورانية المحمدية إلى أفكار من لا يعرفونه حق المعرفة ، تمثيلا من المحسوس لغير المحسوس ، لأن المحسوس أقرب إلى معرفتهم ، مهما كان غير المحسوس أعلى منه بما لا يعد أو يحد ، فهنا تكفي من الأولوية واجهة الإحساس.

ثم الأولوية المطلقة في المثل ، هي فيما إذا كانا مثلين ، محسوسين أو غير محسوسين ، وهذه سنة الله في تقريب الحقائق إلى الأذهان.

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٥٠ ـ اخرج عبد بن حميد في مسنده والترمذي وابن ماجة عن عمران رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ائتدموا بالزيت وادهنوا به فانه يخرج من شجرة مباركة.

١٥٩

وترى أن المشكاة أحرى من الشمس مثلا في هذه النورية؟ كلّا ولكنما الجهات المعنية من هذه النورية لا تعرف من نور الشمس الواحدة ، بل من «مشكاة (فِيها مِصْباحٌ ...) أنوار سباعية بعضها فوق بعض تقريبا للحالة النورية في روحه وصدره وقلبه أمّاهيه؟

وترى مثال مثل نوره مسبّعا من النور بمثلث المشكاة المصباح الزجاجة ومربع الشجرة المباركة ـ زيتونة ـ لا شرقية ولا غربية ـ يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار! فهو نور على نور ثنائيا وسباعيا ، وهذه السّبع تخترق دركات الظلمات إلى درجات أنوار الجنات.

نور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرف زمن نزول القرآن ، إضافة إلى قدسية شجرته المباركة بالواد المقدس في الطور : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٣ : ٢٠) شجرة معمرة بكل أجزائها : زيتها وخشبها وثمرها ، نورا وإداما وشفاء!

ذلك المثل الأمثل الأعلى لنوره هو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد مثّل له بمثال المشكاة والشجرة الزيتونة ف «إن الله لم يضرب الأمثال للشجر إنما ضرب الأمثال لبني آدم» (١) لكي يعتبروا بها الحق الممثّل.

فالمشكاة هي الروح المقدسة المحمدية ، والزجاجة صدره ، والمصباح قلبه الفؤاد حيث يتفأد بنور المعرفة الربانية ، يوقد مصباح قلبه الفواد المنير من شجرة الرسالة القدسية الإبراهيمية «لا شرقية» : يهودية (وَلا غَرْبِيَّةٍ) :

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٠٥ ح ١٧٦ في الكافي باسناده عن إسحاق بن جرير قال سألتني امرأة ان ادخل على أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت ومعها مولاتها فقالت يا أبا عبد الله! أقول الله «زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» ما عنى بهذا؟ فقال أيتها المرأة ان الله ...

١٦٠