الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ

٢٦١

نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ

٢٦٢

ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(٢٠)

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً)(١) انها «سورة الفرقان» حيث هي بازغة بتنزيل الفرقان ، وكل سور القرآن فرقان مهما اختلفت أسماؤها ، فإنها يجمعها أنها كلها فرقان ومن الفرقان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وإن في «الفرقان» لهذا العبد الفقير ذكريات حملتني على تسمية هذا التفسير بالفرقان ، وأن أقيم ردحا من الزمن في منزل وحي الفرقان (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً). (١).

__________________

(١) أخذت خيرة بالقرآن لهذه التسمية المباركة فطلعت «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ» وأخذت خيرة اخرى للمقام في مكة المكرمة في هجرتي إلى الله من بأس الطاغوت ـ

٢٦٣

والفرقان ـ على ما يروى ـ كأنها نزلت سورتها كصورتها الآن وقد نتلمح من قراءة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها كما هي ، ألّا تكفي سورة بعد الفاتحة إلّا بتمامها ، وإن كان نسيان آية منها للرسول خلاف النص : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) فذلك النسيان ـ إذا ـ نذره في بوتقة النسيان (١).

ولا تنافي مكية «الفرقان» بتمامها آية تحريم الزنا فيها ، فإنها من اوّليات المحرمات في التشريع الإسلامي كما الخمر وأضرابهما.

وهل الفرقان هو القرآن المفصل كله كما تلمح له «نزل» المؤشرة للتدريج؟ ولم ينزل بعد القرآن المدني وقسم من المكي! وتقول الروايات أنه الحكم الواجب العمل به دون المتشابه! (٢).

__________________

ـ الايراني «شاه» عليه لعنة الله ، فطلعت ثانية «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ» ويا له وفقا لهذا التوفيق ما أوفقه ، والحمد لله أولا وأخيرا ، وأرجو منه ان يوفقني لإكمال الفرقان كالفضل ما يحبه ويرضاه ـ آمين.

(١) الدر المنثور ٥ : ٦٤ ـ اخرج ابن الانباري في المصاحف عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى الصبح فقرأ سورة الفرقان فاسقط آية فلما سلم قال هل في القوم أبي فقال أبي ها أنا يا رسول الله ، فقال : الم أسقط آية؟ قال : بلى ، قال : فلم لم تفتحها علي؟ قال : حسبتها آية نسخت ، قال : لا ولكني أسقطتها ، أقول ما لهذا الرسول يحتاج فيما ينساه ـ ولا سمح الله ـ الى أبي ، وكأنه احفظ منه ، رغم انه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان احفظ الحفاظ على الإطلاق بما أقرأه الله.

(٢) تفسير البرهان ٣ : ١٥٥ محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن سنان عمن ذكره قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القرآن والفرقان هما شيئان او شيء واحد؟ فقال : القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به.

٢٦٤

«نزل» الماضي تشمل المنزّل من المفصل في المستقبل كما مضى ، حقيقة فيما نزل ، وتحقيقا فيما سوف ينزّل ، حيث المستقبل المتحقق الوقوع يعبر عنه بالماضي ، وهكذا الأمر في سائر التعبير عن تنزله في سائر القرآن (١).

ثم القرآن كله فرقان محكما ومتشابها ، وعلّ اختصاصه في الحديث بالمحكم اختصاص بغير الراسخين في العلم ، الذين لا يفهمون متشابهه في نفسه ، وبإرجاعه إلى محكمه ، وأما الراسخون فالقرآن كله لهم فرقان ، على درجاتهم في تفهم الفرقان.

ولأن الفرقان فعلان من الفرق ، اسم مصدر مبالغ في الفرق ، فهو القرآن البالغ في فرقه بين الحق والباطل.

ولذلك يعبر عنه ككل بالفرقان : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) (٢ : ١٨٥) (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) (٣ : ٤).

كما وهو البالغ في فرقان التنزيل نجوما طائلة : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٧ : ١٠٦).

إذا فالقرآن فرقان كله في البعدين ، وأولهما أولاهما حيث يفرق فرقا واضحا لا ريب فيه بين كل حق وباطل ، طول الزمان وعرض المكان ،

__________________

(١) المصدر ابن بابويه باسناده عن يزيد بن سلام انه سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لم سمي الفرقان فرقانا؟ قال : لأنه متفرق الآيات والسور نزلت في غير الألواح وغيره من الصحف والتورية والإنجيل والزبور أنزلت كلها جملة في الألواح والورق ، أقول : وهذا وجه آخر في كون الفرقان هو القرآن كله.

٢٦٥

ومن فرقه فارق التعبير فصاحة وبلاغة وحتى في موسيقاه عن سائر التعبير ، وأنه الفرقان المعجزة الوافية بنفسه دون سائر الوحي ، والفارق بين حق المروي من السنة وباطله ، فرقان في منهجه ومبلجه فلا يشبه اي منهج إلهيا وسواه ، حيث يمثل عهدا جديدا منقطع النظير عن كل بشير ونذير ، جديدا في المشاعر ، ينتهي به عهد الطفولة ، ويبدأ به عهد الرشد بأشده ، وينتهي به عهد الخوارق المتعوّدة ، ويبدأ به عهد المعجزة العقلية والعلمية أما هيه ، وينتهي به عهود الرسالات الموقوتة.

ولأنه هكذا فرقان ف (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) فرقان الرسول ورسول الفرقان ، فرقانان متجاوبان في كل زمان ومكان ...

(نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) دون رسوله ، لأنه بعبوديته القمة يستأهل ذلك التنزيل ، ثم ويرسل للعالمين نذيرا بذلك التنزيل ، وما أحلاها صيغة العبودية وصبغتها ، بسابقتها للرسالة وسابغتها ، فلا تصوغ الرسالة إلّا بعد صبغها كاملة متكاملة ، كافلة متكافلة ، فمن ثم هي آهلة سائغة للرسالة بالفرقان (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) ، هذا ، وكما هو عبده في إسرائه (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وفي دعائه (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) مثلث من قمة التكريم ، في أهم أدواره الرسالية دعاء وهي مخ العبادة ، وعروجا لمقام التدلي ، وتنزيلا للفرقان!

(لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) دون قومه ـ فقط ـ أم والعرب فحسب ، أم عالمي زمنه ، أم لردح من الزمن ، وإنما «للعالمين» من الجنة والناس ـ أمّن هم ـ أجمعين ، في كل زمان ومكان ، ولأن العالمين جمع لعالم ذوي العقول ، فلأقل تقدير هناك عالم ثالث لا نعرفهم ، وقد تشير إليهم آيات العالمين ، وآية الشورى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ).

٢٦٦

و «للعالمين» حيث تشمل الطول التاريخي والعرض الجغرافي لذوي العقول دونما استثناء ، يصبح دليلا بجنب سائر الأدلة لكون هذه الرسالة السامية هي الشاملة الخاتمة للرسالات الإلهية أجمع ، والجمع المحلى باللّام يستغرق كافة مصاديقه دونما استثناء.

فالعالمين أجمعين سواء أكانوا في السماوات أم في الأرضين تشملهم هذه النذارة الأخيرة ، وكما تلمح له (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) إذا فسعة هذه النذارة هي ملك السماوات والأرض!. وكما (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) في خلق الإنسان في أحسن تقويم ، كذلك (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) حيث الفرقان في أحسن تقويم ، أحسن تقوم في التدوين لأحسن تقويم في التكوين.

وترى (لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) بشخصه وجها بوجه في سنّي دعوته الثلاث والعشرين؟ وذلك غير واقع ولا ميسور! فإنما الهدف في تبنّي هذه الرسالة القرآنية هو النذارة لكل العالمين بمن معه من حملة رسالته وبلاغها إلى يوم الدين.

ولقد أدى هو واجبه الرسالي في عهديه المكي والمدني ، وصنع ـ بأذن الله ـ على ضوئها حملة لها على طول الخط ، والمحور الركين الأمين على مرّ الزمن هو الفرقان والفرقان فقط.

ولماذا ـ فقط ـ «نذيرا» لا «نذيرا وبشيرا» أو «بشيرا»؟ لأن البشارة ليست إلّا لمن يتقبل الدعوة ، فخاصة بالمؤمنين ، والنذارة تعم العالمين أجمعين ، ناكرين ومصدقين ، ولا تجد البشارة في سائر القرآن إلّا خاصة دون النذارة.

(الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ ...) :

٢٦٧

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(٢).

إذا فلتشمل دعوة القرآن ملك السماوات والأرض ، ولتملك السماوات والأرض ، كما سوف تتحقق وتطبّق على العالمين أجمعين زمن القائم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

(وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) منذ الأزل ، قبل الزمان وبعد الزمان ـ إذا ـ فلن يتخذ ولدا حتى الأبد طول الزمان وبعده ، حيث اتخاذ الولد ليس إلّا لحاجة ، فإذ لم تكن قبل فلن تكون بعد.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) لا ذاتا ولا اتخاذا ، فلن يكون ـ إذا ـ له شريك في الملك.

وكيف يتخذ ولدا ام له شريك في الملك (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ما زعمتموه ولدا وسواه ، شريكا وسواه ، ولن يكون المخلوق الفقير الذات إلى خالقه ولدا له أو شريكا ، لا في الخلق إذ هو مخلوق ، ولا في تقدير الخلق فإنه هو الذي قدره تقديرا فهل المخلوق المقدّر يناحر الخالق المقدّر!

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تختص به وتحصر حقيقة ملك الكون ككل دونما استثناء ، حصرا وملكا حقيقيين ، فلا ينتقل عنه إلى ولد يتخذه أو شريك يدّعى له ...

والملك الحقيقي يلازم الملك الحقيقي وهما لزام الملك الحق دون زوال ولا انتقال.

وترى «كل شيء» تشمل أفعال العباد بجوانح أم جوارح؟ وهذا جبر رافع للتكليف! قد يقال : لا ، حيث الأفعال غير الأشياء ، فإنها مواد الخلقة ، والأفعال صادرة عنها كمصادر تسييرا او تخييرا. وقد يؤيده «خلق»

٢٦٨

الماضي ، الضارب إلى بداية الخلق ، ولكن الخلق في مثلث الزمان يخصه و (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) يعم الماضي ، و «كل شيء» يعم كل كائن سواء من ذوات وصفات وأفعال ، وخلقه لشيء الأفعال الاختيارية لا ينافي الإختيار ، حيث الإذن تكوينا في كل فعل ـ كما في سواه من أشياء ـ يخصه تعالى ، طالما للمختار اختيار مقدمات لما يريد ، ف «لا جبر ولا تفويض بل امر بين أمرين».

ثم (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) بعد (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) تفريعا عليه ، تجعل الخلق مقدرا حينه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٥٤ : ٤٩) ومقدرا بعده (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٦٥ : ٣). فالاوّل تفريع في تأخر رتبي ، والثاني في تأخر زمني ، فالخلق مقدر بتقدير العليم الحكيم في بعدية.

إذا فلا فوضى في أصل الخلق ، ولا في تقديره بعد الخلق ، ف (كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (١٣ : ٩).

أجل! «وان تنظيم الخلق بهذه الدقة البارعة الفائقة التصور ، فلو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بضعة أقدام ، لامتص ثاني اكسيد الكربون الأوكسجين ، ولما أمكنت حياة للنبات! ـ

ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو ، فبعض الشهب التي تحترق الآن في الهواء بالملايين ، كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية ، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية ، وكان بإمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق ، ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ، ولكانت العاقبة مروعة ، وأما الإنسان فاصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا

٢٦٩

بمجرد حرارة مروره ...» (١).

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً)(٣).

آلهة قاحلة ، عاجزة ، خاوية زاهلة عن كافة شؤون الألوهة وبدايتها الخلقة وهم (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً)!.

ولا ذبابا : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (٢٢ : ٧٣)(لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ثم (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) مهما يضرون بأنفسهم أو ينفعون ، فإنّ ملك الضر والنفع شيء وواقعه بما يحاولون شيء آخر ، فقد يحاولون في ضر لأنفسهم ولا يضرون ، أم في نفع ولا ينفعون ، فإنهم مسيّرون كما هم مخيرون ، ف (إِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ...) (١٠ : ١٠٧).

هنالك معاكسة في شروطات الألوهة بين الله والذين اتخذوهم من دونه آلهة ، ومنها أن الله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهم (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) فضلا عن أن يملكوا لمن سواهم.

والله (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) وهم (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ).

__________________

(١) العلم يدعو إلى الإيمان ترجمة محمود صالح الفلكي.

٢٧٠

فأين آلهة من إله ، والهة كعابديها أم هي أدنى ، وإله واحد قهار بيده ناصية كل شيء.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) (٤).

أكذب فرية في تأريخ الرسالات : أن القرآن إفك مفترى! فإذا كان الكذب المفترى على الله يفوق كل كتابات الله ، السالفة ، ويفوق كل كتابة من أي كاتب ، فهل الآفك به فوق خلق الله وفوق الله؟!

قالوا (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) فرية عليه (ظُلْماً وَزُوراً) لا تقوم على أساس إلّا العناد والخوف على مراكزهم الاجتماعية المستمدة من سياستهم الدينية ، يجنح بهم إلى هذه المناورات الزور ، يطلقونها في أوساط الجمهور ، الذين قد لا يميزون بين الغث والسمين والخائن والأمين ، ولكنه الفرقان يفرق بين حق الوحي وباطل الزور لمن ألقى السمع وهو شهيد

أترى من هم (قَوْمٌ آخَرُونَ)؟ أهم قوم من العرب العرباء؟ وليس هو بشخصه قوما حتى يكونوا هم قوما آخرين! ام هم قوم غير العرب ، فهو من قوم العرب ، وأعانه على قرآنه قوم آخرون غير العرب؟ وكأنهم هم! كسلمان وأصحابه الفرس : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦ :) ١٠٣).

ذلك الفرقان المبين الذي عجز عن الإتيان بمثله ، أو سورة من مثله ، العرب العرباء ، هل هو من اختلاق أمي أعانه عليه قوم آخرون من الفرس ، سلمان وصحبه ، أم (قَوْمٌ آخَرُونَ) هم أهل الكتاب إذ هم كما

٢٧١

الفرس لم يكونوا من العرب؟ ام هم من العرب ، وعلّ (قَوْمٌ آخَرُونَ) تعنيهما ، وعلى آية حال (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً).

فيا حماقى البهتان ، إن كان هذا القرآن إفكا افتراه محمد بمن أعانه من قوم آخرين ، (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) (١١ : ١٣) بل (... بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (١٠ : ٣٨) لكي تتغلبوا عليه إبطالا لحجته ، وإغراقا في لجته (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) (٣٢ : ٣) فإن ملامح ربوبية الكتاب فيه لائحة ، وحيا من الله لا سواه.

ثم وقولة أخرى من الناكرين يكدرون بها الجو الجاهلي ضد القرآن : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)(٥).

الأساطير هي الأوهام والخرافات المختلقة المتسطرة ، التي تتنقل في نوادي التفكه واللهو ، فمن المشركين من يعتبرون الفرقان من أساطير الاوّلين ، من كتابيين وسواهم ، اكتتبها محمد بمن أعانه ، فأصبحت كتابا تملى عليه بكرة وأصيلا لكيلا ينساه.

وترى كيف يكتب أساطير وغير أساطير من لم يكن يقرأ أو يكتب : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢٩ : ٤٨) ، وهنا الجواب كلمة واحدة :

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٦).

برهان قاطع لا مرد له على وحي القرآن ، دليلا فيه نفسه ، فاستدلالا به نفسه ، فإنه الحجة الوحيدة غير الوهيدة على وحيه الصارم : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حيث الفرقان يتحدث عن سر السماوات والأرض تكوينا وتشريعا ، في تجاوب مكين أمين متين بين كتابي

٢٧٢

التدوين والتكوين ، إذا فالكاتب واحد هو الله الواحد القهار (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

فكما أن رسول الوحي على بينة في أقواله وأفعاله وتصرفاته أنه رسول الوحي : (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) فبأحرى كتاب الوحي المتحدى به على الجن والإنس ، هو بيّنة بنفسه على أنه وحي ، دونما حاجة إلى بينة أخرى.

فأين الكتاب الذي يحوي على سر السماوات والأرض وأين أساطير الاوّلين؟ بل وأين هو وكل سرّ يعلمه العلماء في مشارق الأرض ومغاربها طول الزمان وعرض المكان ، فإن كان كتاب سرّ السماوات والأرض من أساطير الأولين ، فما هو ـ إذا ـ سائر الكتابات التي تعجز عن ظاهر العلن فضلا عن باطن السر.

قضية الفرقان هي من القضايا التي قياساتها معها ، فكل سرّ في الكائنات يظهر على تقدم العقل والعلم في عجلتهما العاجلة والآجلة ، نراه مكشوفا في القرآن باهرا لا ريب فيه ، أفلا يدل ذلك على أنه (أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟

(إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) وترى ما هي الصلة بين هذا التعقيب وذلك التقديم؟ هي أن رحمته الواسعة اقتضت إنزالا لكتاب السر ، إماما لراحلة العالمين في التكشف عن اي سر في السماوات والأرضين ، كما اقتضت الترحم على الناكرين لوحي القرآن ، إمهالا لهم رويدا ، وهم يرتكبون اكبر الخطايا والظلامات الزور بحق القرآن ورسول القرآن ، بتلك الدعوى المتهافتة ، ومن قبل كانوا يصرون على الإشراك بالله ، ولكن باب التوبة ـ مع كل ذلك ـ مفتوحة بمصراعيها ، والرجوع عن الخطيئة مهما كانت كبيرة ، فالذي يعلم السر في السماوات والأرض ، فيعلم ما

٢٧٣

يسرون وما يعلنون «انه كان» منذ خلق الخلق وقبله (غَفُوراً رَحِيماً).

أترى «السر» الكائن في القرآن يعم الأخفى؟ قد يكون! : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٢٠ : ٧) ف (يَعْلَمُ السِّرَّ) هنا يعم السر وأخفى كما هناك أسرّ من السر العادي.

هذه من دعاياتهم الظالمة الزور الغرور على القرآن ، ومن ثم على رسول القرآن :

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً)(٧).

ويكأن رسول الله إلى البشر مستحيل كونه من البشر فيأكل الطعام ويمشي في الأسواق كسائر البشر ، وقضية الحجة القاصمة ان يكون الرسول من جنس المرسل إليهم ، قطعا لأية عاذرة في اختلاف الجنس : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ...) (٦ :) ١٣).

وحتى لو كان رسول البشر ملكا أم نذيرا مع الرسول البشر لما كان يظهر لهم إلّا بصورة البشر : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٦ : ٩).

إن هؤلاء المقلوبة قلوبهم ، المتحللين عن عقولهم ، يعاكسون أمر حجة الله ، فيستبدلون الحجة من رسول البشر ، بغير حجة ام هي ادنى كرسول الملك ، وانه اعتراض كعاذرة لهم ، مكرور على طول خط الرسالات ، كيف يمكن ان يكون فلان ابن فلان الذي عشناه منذ الطفولة عائشا عيشنا ، آكلا أكلتنا وماشيا في الأسواق مشيتنا ، كيف يمكن أن يكون هو رسولا من عند الله إلينا؟!

٢٧٤

وهم في ذلك الاستغراب العجاب ينزّلون من شأن الإنسانية إلى درجة الحيوان ، حيث ينظرون إليه من المنظر المادي ، متغافلين الروح العالية المتعالية التي تطير به إلى أعلى آفاق الكمال ، فلا عجب ـ إذا ـ أن يختار الله رسولا من جنسه ، حجة له عليه ، وهاديا إليه.

وإنه الحكمة البالغة الإلهية ، ان يبعث إلى البشر واحدا منهم يحس ما يحسون ، ويتذوق مواجدهم التي يتذوقون ، ويعاني تجاربهم التي يعانون ، مدركا لآمالهم وآلامهم ، عارفا نوازعهم وأشواقهم ، عالما ضروراتهم وأثقالهم وأشغالهم ، فيسير بهم خطوة خطوة إلى ما صار هو عليه ، ولكي تكون حياته هو البشر ـ بحركاته وأعماله ـ صفحة معروضة لهم ينقلونها سطرا سطرا ، ويحققونها حرفيا ، حيث تهفو إلى تقليدها نفوسهم.

فلو كان ملكا ما فكروا في عمله ، ولا في تقليده ، حيث المفاصلة بينه وبينهم في جنس الطبيعة وطبيعة الجنس ، هذه المفاصلة تعذرهم عن أن يكونوا مثله ، ويمثلوا أمثاله ، وهذه خلاف الرحمة الإلهية ، أنه على قصور الحجة يتطلب منهم سلوك المحجة التي يحملها رسول ليس من جنسهم!.

وعاذرة لهم ثانية لو صدق الرسول البشر ، أنه لا بد له من ميّزة في مال ، حتى يتميز عنا في حال :

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً)(٨).

لقد خلطوا وتخبطوا في الشروط الآهلة للرسالة ، فخيّل إليهم أنها هي شروط الفرعنة ، حاصرين كافة الأهليات في الحيونات والماديات ، ويكأن الله ناظر إلى رغباتهم في شروطات الرسالات ، فهم الذين يقررونها دونه :

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ

٢٧٥

رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٤٣ : ٣٢)(١).

ثم ولأنه بشر ، ولم يلق إليه كنز ، ولا جنة يأكل منها ، وهو يدعى هذه الرسالة ـ إذا ـ فهو مسحور :

(وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) ومن هؤلاء الظالمين بحق هذه الرسالة السامية من فتح بابا في صحيحه : ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سحر (٢).

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٩).

إذ اتهموك بالإفك مرة ، ومثلوك برواة الأساطير أخرى ، وشبهوك بالمسحورين ثالثة أماهيه.

أمثال مضروبة عليه ، ضاربة إلى ظاهر من الحياة الدنيا ، تغافلا عن الأخرى «فضلوا» في الأمثال كما ضلوا عن صاحب الأمثال (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) للقضاء عليه ، ولا التخلص عن حجته القارعة البارعة.

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)(١٠).

«إن شاء» في موقف التشكك يحول هذه القصور والجنات إلى الحياة الدنيا ، وليس ليشاء الله له ذلك حيث موقف الرسالة يختلف عن زخرفات

__________________

(١) البحث الفصل حول ميزات الرسالة في الأسرى على ضوء هذه الآية فراجع.

(٢) لقد أشبعنا البحث حول نكران ذلك النكير في سورة الفلق فراجع.

٢٧٦

الحياة الدنيا وزهراتها ، ثم «إن شاء» في واقع الحق من مشيئته يعم جنات الأخرى وقصورها ، وقد شاءها لعباده الصالحين ، وهو من أصلح الصالحين.

فليست هذه المشيئة الثانية مفروضة عليه الّا بما وعد ، ولا الأولى مرفوضة لديه إلّا بما وعد (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

ذلك الجواب الحاسم عما هرفوه فيما خرفوه ، ولكن المخاطب هنا هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دونهم ، ولا حتى في «قل» تلميحا أن هؤلاء الحماقى لا يستحقون حتى خطابا في جواب!.

ولماذا في جنات «جعل» ماضيا وفي «قصورا» «يجعل» مستقبلا ، وهما معا جزاء الشرط؟ علّه للتصريح بما تلمحناه أن المشيئة الإلهية فيها متحققة يوم الأخرى ، وهي غير محتومة عليه لا في الأولى ولا في الأخرى ، وإنما رحمة منه في الأخرى بما كتب على نفسه الرحمة ، وتزهيد له في الدنيا كما زهد فيها ، وأبدله الله عنها في الأخرى «وإذا منازله فوق منازل الأنبياء فقال رضيت» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٦٣ ـ اخرج الواحدي وابن عساكر من طريق جرير عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما عير المشركون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالفاقة قالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق حزن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك فنزل جبرائيل فقال : ان ربك يقرؤك السلام ويقول وما أرسلنا قبلك من المرسلين الا انهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ثم أتاه خازن الجنان ومعه سفط من نور يتلألأ فقال : هذه مفاتيح خزائن الدنيا فنظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الى جبرائيل كالمستشير له فضرب جبرائيل إلى الأرض أن تواضع فقال يا رضوان لا حاجة لي فيها فنودي أن ارفع بصرك فرفع فإذا السماوات فتحت أبوابها إلى ـ

٢٧٧

ليس نكرانهم لقرآن الرسول ورسول القرآن بحجة لديهم ، او ريبة :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً)(١١).

ذلك التكذيب داؤهم العضال ، وما دوائهم إلّا سعير ، جهنم يصلونها وبئس المصير.

(إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (١٢).

أترى أن لسعير النار عين ترى من مكان قريب فضلا عن بعيد؟ اجل لها عين (١) كما تناسبها ، وهذه هي رؤية المعرفة بين النار وأهليها ، فإنها من حصائل أعمالهم ، وقد برزت بحقائقها سعيرا ، فمهما اختصت صفة الرؤية بمن يشعر وله عين ناظرة ، فالنار ـ التي هي أعمالهم التي قدموها ـ ترى وقودها ، رؤية السر علانيته.

فقبل الرؤية هذه ، علّها ليس لها تغيّظ وزفير ، وإنما إعداد لاستقبال أهليها ، ف (إِذا رَأَتْهُمْ ... سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) فالغيظ هو أعلى منازل

__________________

ـ العرش وبدت جنات عدن فرأى منازل الأنبياء وعرفهم وإذا منازله فوق منازل الأنبياء فقال رضيت ، ويروون ان هذه الآية أنزلها رضوان تبارك الذي ان شاء جعل لك خيرا من تلك الآية ، وفيه اخرج جماعة عن خيثمة قال : قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان شئت أعطيناك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك ولا يعطاه أحد بعدك ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئا وان شئت جمعتها لك في الآخرة؟ قال : اجمعها لي في الآخرة فانزل الله تبارك الذي ...

(١) المصدر اخرج الطبراني وابن مردويه من طريق مكحول عن أبي امامة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كذب علي متعمدا فليتبوء مقعدا من بين عيني جهنم قالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهل لجهنم من عين قال : نعم اما سمعتم الله يقول : إذا رأتهم من مكان بعيد ، فهل تراهم الا بعينين.

٢٧٨

الغضب ، والتغيظ أعلى من الغيظ ، فهو ثالوث من الغضب ، والزفير هو الاضطرام والاهتياج ، فذلك التغيظ والزفير إعلان من بعيد لاجتياح لهم قريب ، كأنها تتحامل عليهم لكي تجذبهم إليها لأقرب وقت ممكن.

فيا لهذا التشخيص الشخيص من علوّ في فن التحضير للحوادث المستقبلة كأنها حاضرة الآن ، ولا سيما بخلع الحياة وتجسيمها على ما ليس من شأنه الحياة ، من الأشياء والمعاني والحالات النفسية ، يرتفع بالصور والمشاهد إلى قمة الإعجاز في التعبير ، بما يبث فيها من عنصر الحياة.

فهنا سعير متسعرة متغيظة متزفرة ، تراهم وتتحدث معهم ، متميزة من النقمة عليهم وهم إليها سائرون ، مشهد رهيب رعيب يزلزل الأقدام وترهب القلوب! وطبعا هم ليسوا ليقدموا إليها بطبيعة الحال ، فإنما اجتذابا منها فإلقاء فيها.

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً)(١٣).

(مَكاناً ضَيِّقاً) في السعير عذابا فوق العذاب ، حيث السجن عذاب ، وضيقه عذاب فوق العذاب ، ومن ثم «مقرنين» بأيديهم وأرجلهم في السلاسل والأغلال (أُلْقُوا مِنْها) مقرّنين (مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) ومع الشياطين «مقرنين» : «وقيضنا لهم قرنا». تقرّنا فيه من قرن العذاب وقرانه ما لا يحسب له حساب ... «والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» (١).

(دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) والثبور هي الويل الهلاك الفساد ، ف «دعوا

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٦٤ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن هذه الآية ، قال : ...

٢٧٩

هنالك» في مقرّن العذاب «ثبورا» : وا ويلاه ، وا هلاكاه ، وا ثبوراه (١) وا فساداه ، إنفلاتا عن اي اصطبار : (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) (٥٢ : ١٦) (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (١٤ : ٢١).

دعوا ثبورا متحسبين أن هناك سامعا لدعائهم ولات حين مناص ، وقد فات يوم خلاص ، بل يسمعون في تهتك ساخر مرير سافر :

(لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)(١٤)

حيث العذاب ليس واحدا ، بل هو كثير ، فليعيشوا ثبورا كثيرا ، وتصبرا مريرا.

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)(١٦).

(جَنَّةُ الْخُلْدِ) هي الجنة الخالدة الأبدية (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) دون خلود النار المختلف باختلاف أهل النار ، فإن له نهاية أبدا وغير أبد قضية العدل ، وتلك الجنة ليست لها نهاية قضية الفضل (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً) بفضل الله كما وعد ، «ومصيرا» تلو مسيرهم.

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) كما يصح ويصلح ، حيث الكل هناك يعرف قدره وقدره ، فلا يشاء فوق قدره «خالدين» فيها وفيما يشاءون «كان» الخلود

__________________

(١) المصدر بسند صحيح عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان اوّل من يكسي حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم حتى يقف على النار فيقول يا ثبوراه ...

٢٨٠