الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

التي تجسّم فيما يجشّم لهم مصيرهم المخيف وهم بعد أحياء يرزقون ، وليعلموا أن وعد الله حق.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً)(٣١).

«جعلنا» هذا جعل تكويني في خلق «عدوا» لا تشريعا لعدائه ، ولا خلقا لعداوته ، وإنما عدم التسيير في ترك عدائه حيث الدار دار الإختيار في كل خير وشر ، دون تسيير وإجبار : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (٦ : ١١٣) (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢ : ٥٤).

«كذلك» الذي ترى طول الرسالات «جعلنا» ولكنهم ليسوا ليضروا الله شيئا ، ولا رسل الله ولا المؤمنين بالله (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً) برسوله وكتابه تشريعا ، وبما يوفق المؤمنين به تكوينا «ونصيرا» لهم في معارك الشيطنات (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً).

ان هدايته تعالى لطلابها ونصرته هنا ذات أبعاد : بعد الحفاظ على الإختيار ، إلّا يسيّر أعداء النبوات على ترك عدائهم ، وبعد الحجة البالغة الغالبة على طول خط الرسالات ، غير المغلوبة على أية حال ، ومن ثم حكمة بالغة هي أيضا هدى ونصرة للمؤمنين وضلال للكافرين ، أن لو

٣٠١

كانت الدعوات الرسالية سهلة ميسورة دون منازع ، فهي تسلك طرقا ممهدة دون خصوم ، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة ، مع ما يكسب على ضوئها من منصب عظيم ، ولا اختلطت ـ إذا ـ دعاة الحق بدعاة الباطل أكثر مما هو ، ووقعت البلابل والفتن أكثر مما هي!.

ولكن بروز الخصوم لهذه الدعوات الرسالية ، يضمن كفاحا لانتصارها ، ويجعل آلامها لها وقودا ، فلا يكافح ويحتمل الآلام والبليات ـ في الأكثرية الساحقة ـ إلّا اصحاب الدعوات الحقة ، الذين يؤثرون تحقيق الحق على المتاع والدعة الراحة ، ولا يتصلب على ذلك الكفاح المرير إلّا أصلبهم عودا ، وأقواهم وقودا ، وأكثرهم تطلعا إلى ما عند الله ، وعندئذ تمضي دعوة الحق وتمشي في طريقها برجالها الثابتين عليها ، الأمناء فيها ، المؤدون ضرائبها بكل غال ورخيص ، وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم وإمكانياتهم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ

٣٠٢

يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً)(٤٠)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً)(٣٢).

٣٠٣

قالة ضالة مضللة من الذين كفروا عداء وإجراما بحق القرآن ونبيه ، تأتي مرة واحدة يتيمة بإجابتين اثنتين : و (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا هم بين كتابيين ومشركين ، المتعودين على كتابات سماوية تنزل جملة واحدة ، فالقبيلان قد يعتبران وحي القرآن بدعا من الوحي (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) كما نزلت سائر كتابات السماء جملة واحدة؟

ومختصر الجواب وعلّه محتصره : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً).

والفؤاد هو القلب المتفئد بنور تشتعل فيه فتتصاعد كما القلوب الطاهرة ، أم بنار عاتمة تتسعّر فيه : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (١٠٤ : ٧) نارا على نار ، كما هناك نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

أترى أن فؤاد الرسول ما كان مثبتا ليحتاج إلى تثبيت بتنزيل القرآن مفرّقا؟ ولولاه لما نزل إليه وحي القرآن!.

كما أن الافئدة النيّرة درجات ، كذلك لتثبيتها درجات : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) وكما تثبّت فؤاده المنير بوحي القرآن المحكم جملة واحدة في ليلة القدر ، كذلك يتثبت بوحي القرآن المفصل نجوما عدة معرفيا وعمليا.

وفي ذلك المكث من تنزيله يثبت قلبه المنير على مكث ، وبأحوج إلى ذلك أفئدة المؤمنين : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٧ : ١٠٦).

هنا تثبيت لفؤاد الرسول كما يناسبه إلى قمم الكمال ولتثبت رسالته إلى

٣٠٤

المرسل إليهم كافة ، حيث هنالك تثبيت لأفئدة المؤمنين إيمانا ومزيد إيمان ، ولكيلا يخيّل إلى بسطائهم أن الرسول إنما يحدثهم عن نفسه وعقليته : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦ : ١٠٢).

فإنزال القرآن دفعيا ليلة القدر كان بلا وسيط ، وتنزيله تدريجيا بذلك الوسيط ، تثبيتا للذين آمنوا ، وأصل التدريج في التنزيل (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) لتحور قلوب مؤمنة حول محور فؤاده المنير ، إذاعة قرآنية تذيع ما تستذيع ، دون ظنّة ولا تضييع ، ودون فارق في الاستذاعة بينه وبين المرسل إليهم!

فلكلّ من الرسول والمرسل إليهم فائدة وعائدة في تنزيله مفرقا على نجومه ، كلّ كما يناسب حاجيته وحاله.

فكما في قصص الأنبياء تثبيت لفؤاده ، وعلى ضوئه أفئدة المؤمنين في حمل أعباء هذه الرسالة السامية : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١١ : ١٢).

كذلك في تدرّج نزوله ككل ، أحكاما وأنباء غيبته أما هيه ، تثبيت لفؤاده المنير ، رسولية ورسالية.

فترى قصص الماضين تقص طول العهدين : المكي والمدني ، حسب الحالات والمناسبات الرسالية والرسولية ، تثبيتا لفؤاد الرسول والمؤمنين العائشين عبء هذه الرسالة ، تخفيفا عن كواهلهم هنا وهناك ، فتراها تتكرر في مختلف الصور ، وفي الطول والقصر ، اللهم إلّا قصة يوسف حيث الحكمة اقتضت إفرادها في مجالها المناسب.

٣٠٥

(وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) لفظيا كمفتاح لترتيل معنوي ، تدرجا لنزول أمطار الوحي الغزير على افئدة المؤمنين ، وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا قرأت القرآن فرتله ترتيلا وبينه تبيينا ، لا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هز الشعر ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة» (١).

فلتكون القلوب داعية الحركة بدوام البركة ، فتتفأد بأنوار المعرفة دائبة ، فلا تقف عجلة السير فيها ، لذلك (رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) ونزلناه نجوما.

لقد نزل القرآن لإنشاء أمة في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، وليقيم نظاما دائما قويما ، والتربية بحاجة إلى تدرّج في موادها ، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع المرام ، وليست النفس البشرية لتتحول قفزة من اللّاشيء إلى كل شيء.

لذلك ينزل القرآن منجّما وفق الحاجات الحية للعالمين ، وهي في طريق نشأتها ونموها ، حسب الاستعدادات الموهوبة في ظلال المنهج التربوي الرباني الدقيق العميق.

أوامر ونواهي يومية ، وإنباءات تلو بعض تتجدد فتجدّد الجانب المعرفي والحالة العملية ، يتلقاها المسلمون في أحيانها المطلوبة فيها ، المحتاج إليها ، ليعملوا بها فور تلقيها ، كما يتلقى الجندي في ثكنته او في خط النار ليطبّق واجبة ساعة فساعة ، ويوما فيوما.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ ٢٧٧ ـ أخرجه الديلمي عن ابن عباس مرفوعا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخرجه العسكري في المواعظ عن علي (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

٣٠٦

لقد عاش ذلك القرآن العظيم والمعجز العميم طول زمن الرسول ، وليكون على حجة وبينة دائبة على طول الخط ، ويعلم الناس أنه ليس من عنده ، ولو كان لما انتظر في إجابات عن سؤالات نزول الوحي ، وليزداد هو والمؤمنون علما بعد علم ، فيعيشوا نظرة الرحمة الإلهية دائبين ودونما انقطاع.

وأما أن كتابات الوحي السالفة إنما نزلت جملة واحدة لأنها نزلت على أنبياء يقرؤن ويكتبون ، ولكن محمدا ما كان يكتب او يقرأ فقد ينساه ، فيطارده قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٨٧ : ٦).

ولئن سألت فما هو الفارق بينها وبين القرآن في فرق التنزيل وجمعه؟ أو لم يكن النبيون من قبل بحاجة إلى تثبيت فؤادهم في ترتيل وحيهم ، وهم أحوج منه بكثير؟

فالجواب : أن الفارق الأصيل هو أن القرآن آية معجزة بنفسه دون سائر الوحي ، فليحشر زمن الرسول على طول ، ليعيش آية رسالته ما دام حيا دونما انقطاع ، وكما يعيشها المكلفون بعده حتى القيامة الكبرى ، وأنه كتاب معرفة خالدة زائدة على سائر الوحي ، فليثبت فؤاد الرسول وأفئدة المؤمنين بترتيله ، وسائر الوحي أحكام لا تحمل إنباءات غيبية إلا نذرا قليلا ، وليس فيها نسخ وهو كائن في القرآن ، فهو بميّزته في منازل عدة يمتاز بنجومه ... في تنزيله.

وأن سائر الوحي تحمل احكاما تعبدية بسيطة ، تعبّد الطريق للشرعة الأخيرة الخالدة القرآنية.

وعلى الجملة ف (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) على سند الرسالة في كل سنيّها ، وتثبيت لمزيد العلم والمعرفة له ، وتثبيت فؤاده على الدعوة به ترتيلا ،

٣٠٧

وتثبيت وحيه أنه ليس منه ، ولو كان لما كان ينتظر الوحي دائبا (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) لك وللمرسل إليهم : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً).

لذلك فعلينا نحن العائشين بعد زمن الرسول أن نترتل في القرآن رويدا رويدا ، ونرتله على الناس ترتيلا ، دون أن نترسل في آياته كغزير الهاطل فنغرق في خضمّها ، أو نرسل لطلابها فإذا هم غارقون فيها.

ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشارط من يتعلمون القرآن أن يتقنوه علما وعملا شيئا فشيئا ، دون تسرّع لا في قرائته ولا في تعلّمه ، وإنما ترتلا وترتيلا ليأخذ مواضعه من العقول والقلوب والأفئدة ، فتثبت عليه الأفئدة ، وتتحرك به القلوب ، فيصبح أمة القرآن في حركة دائبة بترتيله.

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)(٣٣).

لهم أمثال الباطل ، ولنا تفسير الحق ، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ـ

فحجة القرآن البالغة محلّقة على أمثالهم الباطلة ، دارجة لها إدراج الرياح ، دونما إبقاء لها إلّا في ارتتاج.

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣٤).

ذلك لأنهم بكل اتجاهاتهم ووجوههم حشروا يوم الدنيا تأجيل نيران الضلال والإضلال ، فيوم القيامة يحشرون على وجوههم بنفس الوجوه جزاء وفاقا ف (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا

٣٠٨

بِآياتِنا) (١٧ : ٩٨) (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (٥٤ : ٤٨).

حشرا على وجوههم في سحب النار ، لأنهم مشوا يوم الدنيا مكبين على وجوههم إخلادا إلى حياتها : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٦٧ : ٢٢).

وتراهم (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) ممن؟ (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ممن هم؟ قد تشير «شر وأضل» هنا ، أنهم قالوا عن الرسول أنه شرّير ضلّيل ، فهنا في مجاراة التهكّم هم (شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) فهما في الحق منسلخان عن التفضيل ، وفي حوار المجاراة ، وتنازل المحاكاة تفضيل ، ويكفيهم ـ إذا كان هناك شر وضلال ، أنهم هنالك (شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)!

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً)(٣٦).

هنا يتقدم إيتاء الكتاب : التوراة ، على الإرسال ، وهو متأخر عنه وعن غرق فرعون بجنوده؟ لأن الكتاب هو محور الرسالة والرسول داعية له!.

وفي (جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) تلميحة لطيفة للمعني من «سبيلا» في (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) أنه وزيره علي (عليه السلام) كما هارون مع موسى ، و

قد يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) متواترا : يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

(فَقُلْنَا اذْهَبا ...) دليل على عدم اختصاص رسالته ببني إسرائيل ، بل والقبط المشركين المستكبرين أيضا (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً).

«وآياتنا» هنا تعم الآيات الموسوية التسع وسائر الآيات آفاقية

٣٠٩

وأنفسية ، ومن الأولى آيتا الرسالة : موسى وهارون.

(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً)(٣٧).

و «آية» هنا للناس كل الناس ، سواء من ركبوا السفينة ونجوا ، أم من بعدهم وإلى يوم الدين ، حيث التناقل التأريخي خلّد ذكراهم ، إضافة إلى آية من السفينة نفسها ، شرحناها في «الحاقة».

(وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً)(٣٨).

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ...) (٢٩ : ٣٨) تبينا جغرافيا إضافة إلى تبين تأريخي (وَأَصْحابَ الرَّسِّ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ) (٥٠ : ١٢).

وعلّ «الرس» البئر التي لم تطو ، أم نهر كانوا على شاطئه ، وهم قوم بعد ثمود نازلين هنا أو هناك ، أرسل الله إليهم رسولا فكذبوه.

(وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ) منذ نوح وأصحاب الرس «كثيرا» (١) ذكر أنحسهم في سائر القرآن بسائر المناسبات :

__________________

(١) القرن مائة سنة وكما في الدر المنثور ٥ : ٧١.

اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق محمد بن القاسم الحمصي عن عبد الله بسر المازني قال : وضع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يده على رأسي وقال : سيعيش هذا الغلام قرنا قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كم القرن؟ قال : مائة سنة ، قال محمد بن القاسم ما زلنا نعد له حتى تمت مائة سنة ثم مات ، واخرج ابن مردويه عن أبي الهيثم بن دهر الأسلمي قال : قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : القرن خمسون سنة.

٣١٠

(وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً)(٣٩).

(ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) التي تبين مواقفهم النكدة من الرسالات (وَكُلًّا تَبَّرْنا) إهلاكا مستأصلا بتكذيبهم «تتبيرا» قاهرا.

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً)(٤٠).

ومن سيرهم جغرافيا (وَلَقَدْ أَتَوْا) هؤلاء المكذبون (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) حجارة من سجيل : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (١١ : ٨٢) فهم أتوا هذه القرية وهي سدوم ، حيث مصرع قوم لوط ، وهم يمرون عليها رحلة الصيف إلى الشام ، (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) في هذه الرحلات المتكررة؟ بلى (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) فيحسبونهم هلكى لا يرجعون!

__________________

ـ أقول : وفي روايات عدة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه أربعون سنة والأولى هي المصدقة بالواقع المعروف لدى الكل.

٣١١

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ

٣١٢

بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ

٣١٣

خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)(٦٢)

(وَإِذا رَأَوْكَ ...) حماقى الطغيان المكذبون للرسل «رأوك» تدعى رسالة الوحي ، وقد رأوك قبله عمرا دون هذه الدعوى ، وكانوا يحترمونك واثقين بك ، ولكنهم الآن (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) دون اي جديد او سناد لهزئهم إلّا عجاب في تباب : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وهو بشر مثلنا بل وادنى ، إذ لم يؤت مثل ما أوتينا من مال ومنال. (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) التي عشناها طول عمرنا وعاشها آباؤنا الاوّلون ، إضلالا عن حيويّتنا وتراثنا (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَ) لكنهم (سَوْفَ يَعْلَمُونَ) منذ الموت (حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) «يعلمون» ـ (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً)؟ أهم المشركون ام رسولنا الصادق الأمين؟

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)(٤٣).

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ

٣١٤

وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٤٥ : ٢٣)(١).

هنا وهناك (إِلهَهُ هَواهُ) دون «هواه إلهه» فإلهه الذي تجب عليه عبادته وطاعته ، وهو الله الذي يعترف به كإله أصل مهما أشرك به ، اتخذ ذلك الإله هواه ، فلا يعبده إلّا كما تأمره هواه ، فهو ـ إذا ـ يؤلّه هواه فيما يعبد من إله ، والشرك بأظافيره هو من مخلفات تأليه الهوى ، غير المعقولة بعقل الهدى ، وإنما هوى النفس الأمارة بالسوء.

أجل! ولأن كل عبادة وطاعة لمن دون الله ، خارجة عن حكم الفطرة والعقل ، وكافة الآيات آفاقية وأنفسية ، اللهم إلّا ما تهوى الأنفس ، فهي كلها من عبادة الهوى ومطاوعتها وطاعتها ، وحين يكذبهم ـ يوم الأخرى ـ شركائهم من دون الله في عبادتهم إياهم ، علّهم يعنون كونهم عبدة أهوائهم ، فعبادتهم إياهم هي من خلفيات تلك العبادة ، فالهوى ـ إذا هي الأصيل المعبود والإله المقصود في كل مسارح الإشراك ، والشركاء فروع غير أصلاء! وكما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع» (٢).

وذلك تعبير منقطع النظير ، يرسم نموذجا عميقا لحالة نفسية بئيسة تعيسة طائشة ، حين تتفلت النفس عن كافة المعايير والمقاييس الفطرية والعقلية ، وكأنما الإنسان في هذه الحالة هو الهوى وهي هو ، فلا عقلية له ولا فطرة ولا أية فكرة ، فإنما السلطة الكاملة والشرعية المطلقة هي لهواه.

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٧٢ ـ اخرج الطبراني عن أبي امامة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

(٢) راجع تفسير الآية في الفرقان ج ٢٥ سورة الجاثية تجد تفصيل البحث حولها هناك.

٣١٥

«أفأنت» بعد هذه الضلالة المعمقة (تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) وقد ضل هكذا (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) فلا وكالة لك في هداه (فَمَنْ يَهْدِيهِ) لو أن له هدى (مِنْ بَعْدِ اللهِ)؟!

هؤلاء الحماقى هم موحدون في تأليه الهوى ، إذ لا يتخذ أحدهم إلها إلّا هواه ، وكما الحصر مستفاد من صيغة التعبير.

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٤).

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ٧٩).

هنا وهناك تعرّض وتجريح منصف لمكان «أكثرهم» او «كثيرا» دون تعميم لكافة المشركين ، فمنهم من يسمع او يعقل فيهتدي ، أم وإذا لا يهتدي ويضل فهو لا يكذّب ولا يضل.

ولأن السمع هو الأكثر فاعلية وقابلية لدرك الحقائق بين الجوارح ، والعقل أكثرها كذلك بين الجوانح ، ترى كلا يحتل هناك رأس الزاوية لهندسة الإدراك في بيئة الإنسان.

ثم وبين السمع والعقل عموم من وجه ، فقد يسمع ولا يعقل ، وقد يعقل دون وسيط السمع ، وقد يعقل فيسمع ، أو يسمع فيعقل ، فالخاوي عن سمع الإنسان وعقله خاو عن ميّزات الإنسان ، فهو كالأنعام ، ف (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) في انعدام عقل الإنسان وسمعه: (... وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (٤٧ : ١٢) «فلما جحدوا ما عرفوا ابتلاهم بذلك فسلبهم روح الإيمان وأسكن أبدانهم ثلاثة

٣١٦

أرواح : روح القوة وروح الشهوة وروح البدن ثم أضافهم إلى الأنعام فقال : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) لأن الدابة إنما تحمل بروح القوة ، وتعتلف بروح الشهوة ، وتسير بروح البدن»(١).

لا فحسب (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) من الأنعام ، حيث فقدان سمع الإنسان وعقله في الأنعام قصور دون تقصير ، وأين ضلال قاصر من ضلال مقصر؟ ثم البهائم في هدى من سمع الحيوان وعقله دون تقصير ، حيث تعرف بهما الرب وتعبده ، ولكن هذا الإنسان الأضل مسامح حتى عن عقلية الحيوان وسمعه كما سامح عنهما كإنسان ، فلا تجد في قلبه نور هدى حتى قدر الأنعام ، فهو ـ إذا ـ أضل من الأنعام في بعدين بعيدين ، ضلالين عن تقصير ، مهما كانت الأنعام ضالة عن قصور!

بل وهو أضل من كل شيء ف (إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤)!

فسبيل هذا الإنسان في حياته أضل من أيّ كائن من جماد ونبات وحيوان ، حيث خان كافة أمانات الإنسانية وهن أبين أن يحملنها : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٣٣ : ٧٢)!

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ١٦٩ محمد بن يعقوب بسنده المتصل عن الأصبغ بن نباتة عن امير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل فاما اصحاب المشأمة فمنهم اليهود والنصارى يقول الله عز وجل (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) يعرفون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) والولاية في التوراة والإنجيل كما يعرفون أبناءهم في منازلهم وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ...

٣١٧

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً)(٤٦).

تعديد لقسم من بدائع الخلقة ورحمات الربوبية البديعة ، التي هي مسارح للكون وكلها مصارح أن ليس هنالك بدع في الخلقة مهما كانت كلها بديعة ، وكذلك وحي الرسالة الأخيرة ورسول الوحي الأخير ، ليس بدعا ، حيث السنة الرسالية هي متصلة الجذور ، موحدة المعاني ، وحيدة المباني ، مهما اختلفت في البعض من صورها أحكاما ودعاية ودعوة وداعية ، في غير جذور.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) رؤية معرفية إلى الرب ، ورؤية بالبصر والبصيرة إلى أعلام الربوبية ، والمخاطب الاوّل هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم الذين معه ، ومن ثم العالمون أجمعون ، حيث هم جميعا مدعوون إلى تلك الرؤية الربانية.

(كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) ظل الشمس وكل ذي ظل : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) (١٦ : ٤٨) (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٣ : ١٥).

والظل هنا هو المتحرك بحراك الشمس وسواها من ذوات الأظلال ، تركيزا على الشمس لأنها الظاهرة بينها للناظرين ، إذا فمدّ الظل هنا هو المدّ الحركي إضافة إلى سائر المد الطولي والعرضي.

«ولو شاء» ولن يشاء «لجعله» : الظل «ساكنا» بسكون الشمس ... (مَدَّ الظِّلَ ... ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) فالشمس

٣١٨

هي دليل الظل وليست هي صاحبة الظل ، بل هي مصاحبة الظل لكل ذي ظل تحت ظل الشمس.

ثم هذا الظل الممدود لا يدوم ، حيث الشمس في إشراقتها في كل أفق لا تدوم ، بل (ثُمَّ قَبَضْناهُ) : الظل (إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) بقبض الشمس الدليل عن كل أفق إلى آخر ، مما يدل على حراك الشمس وكروية الأرض.

الشمس بأظلالها ـ هنا ـ قد تعني شمس الحياة الحقيقية ، حيث أظلت في الحياة الدنيا ظلالا ، ثم تقبض ظلالها قبضا يسيرا ، وهكذا تكون الحياة الدنيا.

ثم ومشهد الظل الوريف الظريف بمختلف المظاهر حسب مختلف الآفاق وذوات الأظلال ، ليوحي إلى النفس بنظرة للشمس الشارقة على الأجسام ، وهي شمس الهداية الربانية ، وهي دين واحد بأظلال عدّة : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ...) (٤٢ : ١٣).

فشمس الهدى واحدة من الرب ، وهي دليل أظلالها في الشرايع الخمس ، كلما قبض ظلّ ظهر ظلّ آخر ، وذلك القبض المتواتر للأظلال سنة دائبة حتى الظل الأخير في الشرعة المحمدية ، وكما للشمس ظل أخير في إشراقتها الأخيرة.

قبض يسير في زمنه ، يسير في القدرة الربانية ، غير عسير في أية مجالة ، فليعتبر ناظر إلى هذه الشمس بأظلالها ، أن شمس الهداية الربانية نظيرتها ، تجاوب كتابي التشريع والتكوين ، رائعا بارعا لكل ناظر بصير.

٣١٩

وان شمس الهداية القرآنية ، الشارقة بأنوارها على قلب رسول الهدى ، هي بظلالها ، الملبس المريح ، والظل الظليل ، والروح المحيي في هاجرة الكفر والعناد والعصيان ، في هجر الصحراء القاحلة الجاهلة المحرقة ، في العهد المكي الوبيء ، والعهد المدني الندي.

فكما لو كانت الشمس ساكنة ، فالأظلال ـ إذا ساكنة ، استحالت الحياة في ظلها الدائب دون حراك ، ولو كانت سرعتها ابطأ أو أسرع مما هي الآن ، لاستحالت أيضا أو صعبت ، كذلك الظل في شمس الهداية الربانية ، حيث يخلّف حياة ميتة دون حراك ، ولكنما الأظلال المتواترة ، حسب الآفاق المعرفية ، والقابليات والفاعليات ، مما تجعل العالمين في حراك دائب ، تقدمة دائبة إلى الكمال اللائق ، وتجربة مكملة لكل الأجيال : (... لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥ : ٤٨).

إذا فتنزيل القرآن جملة واحدة ، وأنه رأس الزاوية في آيات الرسالات ، وما إلى ذلك من ميّزات هذه الرسالة الأخيرة ، إنه الظل الظليل الدائب لشمس الهداية الربانية ، وليس بدعا من الأظلال ، مهما حلّق على كل الأظلال ، استئصالا لكل إضلال ، فإنما هو ظل ممدود منذ بزوغ شمسه ، في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، وكما يروى «القرآن يجري كجري الشمس».

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً)(٤٧).

كأننا حين نتّشح بظلام الليل نلبسه كلباس ، ففيه تنقطع الحركات ، فتغطية ظلام الليل للنشوز والقيعان واشخاص الحيوان ، كما تغطي الملابس

٣٢٠