الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

الاضطرار فمحدودة بما يرفع الحاجة الضرورية من النظرة ، دون تعد عنها إلى غيرها تفننا او تلذذا! (١).

ثم اللهم إلّا أزواج بناتهن أو أمهاتهن ، وأعمامهن وأخوالهن لمكان النص في آية التحريم: (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ ... وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) (٤ : ٢٣) فإنه ينقض صرح الاستثناء الحاصر في الظاهر من آية النور (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ...).

أترى لماذا لم يذكر أزواج البنات ، أو الأمهات والأعمام والأخوال هنا وهم أقرب إليهن فأحرى بالذكر من (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) أمّن ذا من بعض المذكورين في آية النور؟ علّه اعتمادا على آية النساء وهي أشمل ، فليس القرآن ليذكر الأحكام إلّا تدريجيا ، لا جمعيا ، او علّهم أحلّوا بعد آية النور ، أم لأن الحكم فيهم حائر محور الرجال ، وفي النور على محور النساء ، ام هم معنيون بطيات المذكورين هنا كما يأتي.

وهل يجوز النظر إلى النساء غير المؤمنات؟ نعم حيث الأدلة كتابا وسنة لا تشملهن ، ومن السنة ما تدل على الجواز (٢) ام هل يجوز النظر إلى غير المتحجبات من المسلمات؟ علّه نعم «لأنهن إذا نهين لا ينتهين» (٣) اللهم

__________________

(١) وإذا احتاج إلى النظر إلى عورة ام مثلها مما هي قريبة إليها فلتنظر امرأة موثوق بها نيابة عنه فيما يقبل الثيابة.

(٢) كرواية السكوني لا حرمة لنساء اهل الذمة ان ينظر إلى شعورهن وأيديهن ، ومرسلة الفقيه «انما كره النظر إلى عورة المسلم واما النظر إلى عورة الذمي ومن ليس بمسلم فهو كالنظر إلى عورة الحمار ، ومثلها مرسلة ابن أبي عمير «النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل نظرك إلى عورة الحمار» وابن أبي عمير ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه.

(٣) هي رواية ابن صهيب «لا باس بالنظر إلى اهل تهامة والاعراب واهل البوادي من اهل الذمة والعلوج لأنهن إذا نهين لا ينتهين.

١٢١

إلّا نظرة الشهوة ، ولا سيما الناحية منحى الزنا أمّاذا من محرمات.

وإليكم الطوائف الاثنى عشر :

١ ـ (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أترى هم الأزواج بنكاح دائم او منقطع ، فلا تشمل الحلائل بغير الزواج ، كالملك والتحليل؟ ام هم كل الحلائل أيا كانوا؟ ظاهر البعولة هو الثاني! وإلّا فلما ذا لم تذكر الأزواج ، والبعل في اصل اللغة هو المستعلي (١) وهو من الرجال بالنسبة للنساء المستعلي عليهن كنساء ، وهو الاستعلاء في متع الجنس ، إذا فهم كل الحلائل من أزواج ومالكين والمحلّل لهم من الإماء!

وزينتهن لبعولتهن لا تعني ـ فقط ـ ما تعنيه لسائر الاثنى عشر ، بل كل البدن بما عليها من زينة دونما استثناء!

٢ ـ (أَوْ آبائِهِنَ) : الوالد ووالده او والد الوالدة وإن علوا ، فالجدود من طريق الآباء والأمهات تشملهم «آبائهن» كذلك والآباء من الرضاعة لمكان الحرمة الدائبة بها ، وصدق البنت بالرضاعة ، وقد تشمل «الآباء» أزواج الأمهات إذ يطلق عليهم الآباء ولا سيما بمقتضى النص في النساء (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) فهل يعقل الحجاب لمن في حجرك؟ وهذا أبلغ صيغة في التعبير عن المحرمية وحرمة النكاح ، إذا فالآباء ثلاثة : صلبي ورضاعي والربيب ، تشملهم «آبائهن».

__________________

(١) ولان المشركين كانوا يعتقدون في بعل علوا عليهم سموه بعلا ، وبعل الدابة هو المستعلي عليها ، وبعل الأرض هي المستعلية على غيرها وبعل النحل هو فحلها وبني من لفظ البعل المباعلة والبعال كناية عن الجماع (المفردات للراغب الاصبهاني).

١٢٢

فلان القرآن أنكر على سنة الأدعياء ثم أبقى سنة الرضاعة بشروط ، وسنة الأبوة للربائب شرط الدخول ، إذا فهن بناتهم وهم آبائهن إلّا في الميراث وكما لا ميراث في صلة الرضاعة.

ثم الأعمام والأخوال كذلك لم يذكروا ، وعلّ ذكرهم فيمن حرّم عليهم نكاحهن في النساء كاف ، فأصبح المحارم ستة عشر أربعة منهم في «النساء».

٣ ـ (أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَ) تعني الوالد والجد ما على ، لمكان الآباء دون الوالدين ، حيث الوالد نص فيمن ولدك دون واسطة ، وأما أن يعنيه ومن ولّدك بوسائط فبحاجة إلى قرينة ، او يعبّر بالآباء فمطلق أم عام!.

وهل تعم الآباء من الرضاعة؟ علّها نعم للإطلاق ، ولكنها لا حيث النص (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)

(٤) (أَوْ أَبْنائِهِنَ) بلا واسطة أم بواسطة ، أبناء الأبناء أم أبناء البنات مهما نزلوا ، وسواء كانوا أبنائهن أو من الرضاعة بدليل قوله تعالى (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ).

(٥) (أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ) وهكذا الأمر فيهم مهما نزلوا ، أو من الرضاعة.

(٦) (أَوْ إِخْوانِهِنَ) من أب أو أم ام الأبوين ، أترى تشمل «إخوانهن» الأخوة من الرضاعة؟

علّه لا تحلل الحلائل من أبناء الرضاعة ، فهن إذا غير ذوات محرم لآباء أزواجهن من الرضاعة ، ولا نصّ في القرآن يحمل حكم الآباء من الرضاعة إلّا هذا ، وحديث «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» لا إطلاق

١٢٣

فيه يشمل مورد المصاهرة ، وحرمة الحلائل ليست إلّا للمصاهرة (١) ولو كان مطلقا لم يعارض نص الكتاب المحلل للحلائل من غير الأصلاب!

والقول أن «من أصلابكم» لإخراج الأدعياء قول دعيّ ، فان صيغته «من غير أدعيائكم» و «من أصلابكم» تخرج غير الصلبي من الدعي والرضاعي ، وليس من الفصيح ولا الصحيح ذكر الخاص لإخراج الأعم من الخارج به.

إذا فكما تحل حلائل الأبناء من الرضاعة ، فتحرم ـ كذلك ـ عليهن إبداء زينتهن لآباء بعولتهن من الرضاعة ، فالحرمة المؤبدة هي التي تجعل المرأة من المحارم في جواز إبداء الزينة ، اللهم إلّا في المفضاة المطلّقة ، والملاعنة التي ردت لعان زوجها الرامي لها بالزنا ، فإنها تنفصل دون طلاق في حرمة أبدية وليست إذا من المحارم!

وعله نعم حيث حرمت الأخوات من الرضاعة أبديا ولزامها أنهن من المحارم (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ).

(٧) (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ) بينهم مهما نزلوا ولكن من النسب ، وأما بنوهم من الرضاعة فلعلهم لا ، فإن آية التحريم إنما حرمت الأخوات من الرضاعة ، وأما بناتهن فلا ، ولكنه نعم لصدق الأخوات فبناتهن بنات الأخوات ولعموم التنزيل في السنة «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

(٨) (أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) كذلك الأمر من نسب او رضاع ، دون فصل أم بفصل ، أبناء بنيهم أو أبناء بناتهم.

(٩) (أَوْ نِسائِهِنَ) تعني النساء المسلمات قريبات او غريبات ما دمن مسلمات ، وأما غير المسلمات فلا تبدي المسلمة زينتها لها إلّا ما ظهر

__________________

(١) قد يقال انه مطلق لان هذه المصاهرة ليست إلّا من الرضاع و «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». يشمله.

١٢٤

منها ، كما الرجال غير المحارم «فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن» (١) وحتى إذا لم يصفن ، حيث الآية مطلقة غير معللة ، فغير نسائهن من النساء داخلة في النهي ، وقد تكون الحكمة احتشامهن عن إبداء زينتهن لغير من يؤهل لرؤيتهن عليها حتى إذا لم تكن هناك نظرة سوء ناقلة ، وكما لا يجوز لأجنبي مسلم أن يرى منهن (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) وإن كانت نظرة مؤمنة أمينة ، فبأحرى عدم الجواز لغير نساءهن!

(١٠) (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) ترى أنه كل مملوك لهن عبدا او أمة لظاهر الإطلاق؟ والعبد أحرى بالحجاب عنه من النساء الأغارب ، ولا سيما غير المؤمن! وقد وردت فيه روايات متهافتة (٢) والرجوع إلى كتاب الله

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٩٣ ح ١٢٣ في من لا يحضره الفقيه روى حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لا ينبغي للمرأة ان تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن.

(٢) الدر المنثور اخرج ابو داود وابن مردويه والبيهقي عن انس ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما تلقى قال : انه ليس عليك بأس انما هو أبوك وغلامك» أقول يعني انه من غير اولى الاربة من الرجال فلا اطلاق ، ويؤيده ما أخرجه عبد الرزاق واحمد عن ام سلمة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إذا كان لاحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي فليحتجب عنه ، وعن مجاهد «لا ينظر المملوك لشعر سيدته ، وعن عطاء سئل هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ قال ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسرا فاما رجل ذو لحية فلا ، وعن سعيد بن المسيب قال لا تغرنكم هذه الآية (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) انما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد ، وعن ابراهيم قال تستتر المرأة من غلامها ، وما اخرج عن مجاهد كان العبيد يدخلون على ازواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعارض رواية النهي عنه «لا ينظر المملوك ...» وانه خلاف نص الآية في اختصاصها بما ملكت ايمانهن ، والعبيد هنا أعم منهم ، وفي المجمع قيل معناه العبيد والإماء وروى ذلك عن أبي عبد الله ، وهو مطروح بضعف السند ومخالفة المتن للكتاب والسنة.

١٢٥

كما تفهمناه (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) تقيد الإطلاق إن كان بغير اولي الأربة من العبيد كسواهم! واختصاص الإماء بالذكر بعد نسائهن يعني شمولهن لغير المسلمات! وقد تكون (مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) مطلقة كما هي في نفسها وان كانت مقيدة بالإماء فلتكن إمائهن وهي أخصر مما ملكت ايمانهن! وتتقيد في حل العبيد برؤية الشعر كما في متظافر الروايات (١) فالعبيد غير أولي الأربة أو في النظر إلى الوجه والشعر ، حل لهن وهو أشبه بالكتاب والسنة والفتوى ، إذا فلعبدها منها بعض ما للمحارم كالشعر وليس إلّا ، اللهم (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) حيث يحل لغير المحارم ككل.

وهل يتقيد هذا الحل بعبد مؤمن؟ ظاهر الإطلاق كتابا وسنة : لا ، إلّا يكون مأمونا فحرام وإن كان مسلما!.

(١١) (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ)

الإربة فعلة من الأرب : فرط الحاجة المقتضي للاحتيال في دفعه ، فهي هيئة خاصة من الأرب ، فكل أرب حاجة وليست كل حاجة أربا ، كما أن كل إربة حاجة مفرطة ، وليست كل مفرطة إربة ، فهي هنا الحاجة المفرطة إلى الجنس ، الدافعة إلى النظر الهادف المحدق إلى ذوات الجنس.

فليست الرجولة بنفسها منعة عن النظر إلى زينتهن ، بل مع الإربة غير

__________________

(١) ففي رواية البصري وابن عمار والهاشمي ومرسلة الكافي ورواية الفضل وأكثرها صحيحة عن أحدهما عن المملوك يرى شعر مولاته قال : لا بأس ، والأخرى لا بأس ان يرى المملوك الشعر والساق ، والثالثة المملوك يرى شعر مولاته وساقها قال لا بأس والرابعة في المملوك لا بأس ان ينظر إلى شعرها إذا كان مأمونا ، والمروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قصة مملوك فاطمة لا يدل على اكثر من ذلك بل وهو ادل على اختصاص الحل بالشعر ، قضية الضرورة الدائمة ، وكمل في صحيحة ابني عمار ويعقوب يحل للمرأة ان ينظر عبدها إلى شيء من جسدها غير متعمد لذلك.

١٢٦

التابعة ، ف (التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) هم الرجال الذين لا أصالة لهم في المجتمع ، وإنما يعيشون حياة التبعية ، أم لا أصالة لهم في جوّ خاص فيه نساء : تبعية خاصة هنا وان كانوا أصلاء في غيره ، ثم لا حاجة لهم مفرطة إلى الجنس تقتضي احتيالهم في دفعه ، بنظرة مريبة او لمسة وقبلة او وطئة كغاية ، إما لفقد الشهوة ، أو قلتها ، أو احتشام فيها عن نساء قضية التبعية ، فليس إذا ليشتهي المرأة المتبوعة ، ولا يرى لنفسه منها إربته ، ولا يخطر بخلده أن ينالها بشيء ، تبعية آيسة عن مس كرامة من المتبوعة!

إما لفقد المعرفة من بلاهة أو جنون تتناسى فيهما الشهوة أم أنوثية المرأة ، أم لخصاء أو عنن أمّاذا مما تصدق فيه حياة التبعية دون إربة من حاجة مفرطة إلى الاحتيال لدفعها.

فإذا لم يكن الرجل من التابعين وليست له إربة ، أو كان ولكن له إربة ، فهل هو بعد محرم؟

الأصل هنا عدم الإربة ، والتبعية كمقدمة لعدم الإربة ، فإن لم تكن له حاجة إلى النساء أبدا فهو محرم إذ ليست له رجولة الجنس كالخنثى والعنّين وأمثالهما ، وأما إن كانت له حاجة غير مفرطة وليس من التابعين حتى تمنعه عنهن التبعية فما هو بمحرم ، والأصل هنا عدم المكنة من الغلبة الجنسية مهما كانت له شهوة أم لم تكن ، وإن كان في محرمّية من له شهوة ممنوعة بالتعبية تردد ، حيث الأصل في عدم الأربة استقلاله أمام التبعية ، دون الإربة المنفية بالتبعية ، إذ لا تمنع حينئذ عن نظرة الشهوة (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٤٣ ـ اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ومسلم وابو داود والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت كان رجل يدخل على ازواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مخنث فكانوا يعدونه من غير اولي الإربة فدخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما وهو عند بعض نساءه وهو ينعت امرأة قال : إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ـ

١٢٧

فالشيخ الكبير الذي ليست له رغبة إلى النساء ، او الذي لا يقوم زبه ، والخنثى والعنين ، والأحمق والمجنون الذي لا يعرف امر النساء وأمثالهم هم من مصاديق هذه الآية.

واما الذي له حاجة إلى النساء ولكنه تمنعه مانع التبعية أمّاذا تمنعه من حاجته ، فقد لا يكون هو من مصاديق الآية ، حيث الإربة لعلّها اصل الحاجة ١ المنفية ، لا شدتها او بروزها في ظروفها المقتضية ، وان كان بينه وبين ذي الإربة الفعلية الفعّالة بون بين!

فلأن الإربة بين معان خمسة : حاجة ، وتوفر الحاجة ، والفرج ، والعضو الكامل ، والعقل ، لا يؤخذ من الثاني المتزايد إلا اصل

__________________

ـ أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلن عليكم فحجبوه ، وفي نقل آخر فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لا اسمع هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكم فأخرجه فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم ، وفي الكافي عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه (ع) قال : كان بالمدينة رجلان يسمى أحدهما هيت والآخر مانغ فقال الرجل ورسول الله (ص) يسمع إذا فتحتم الطائف إنشاء الله فعليكم بابنة غيلان الثقفية ، فانها شموع بخلاء مبتلة هيفاء شنباء إذا جلست تثنت وإذا تكلمت غنت ، تقبل بأربع وتدبر بثمان بين رجليها مثل القدح فقال النبي (ص) : أراكما من اولي الاربة من الرجال ، فأمرهما رسول الله (ص) فغرب بهما إلى مكان يقال له العرايا فكانا يتسوقان في كل جمعة.

أقول : الشموع المزاح والمبتلة الجميلة القامة الخلق والهيف ضمر البطن ورقة الخاصرة ، والشنب عذوبة في الأسنان ، والثنى رد بعض الشيء على بعض ، والأربع اليدان والرجلان ، والثمان هي مع الكتفين والأليتين ، وإقبالها بأربع كناية عن سرعتها في الإتيان وقبولها الدعوة ، وادبارها بثمان كناية عن بطوئها ويأسها من حاجتها فيها.

وفي الكافي عن الباقر (ع) في تفسير غير اولي الاربة قال الأحمق الذي لا ياتي النساء ، وعن الصادق (ع) الأحمق المولى عليه الذي لا يأتي النساء ، والقمي هو الشيخ الفاني الذي لا حاجة له في النساء وفي صحيحة ابن بزيغ عن قناع الحرائر من الخصيان فقال : كانوا يدخلون على بنات أبي الحسن ولا يتقنعن قلت فكانوا أحرارا قال : لا ، قلت فالأحرار يتقنع منهم؟ قال : لا.

١٢٨

الحاجة وتتايد بالآية (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) ثم سائر الخمسة ، تعم كل إربة معنية : الحاجة الجنسية إلى النساء في أية مرتبة فالشيخ الفاني والعاجز الذي لا يستطيع الوطي هما من غير أولى الإربة ، والفرج : فمقطوع الذكر والخنثى ، هما من غير اولي الإربة ، والعضو الكامل : فالذي لا يقوم زبّه لعنن ام لأية علة دائبة او مؤقتة هو من غير أولى الاربة ، والعقل : فالمجنون والأبله الذي لا يعرف النساء هما من غير اولى الاربة ، وفي ذلك تجاوب متين بين الكتاب والسنة!

ثم (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) قد تعم من لا إربة له فيها وإن كانت له اربة في سواها ، كما تعم من لا إربة له إطلاقا ، وزوج البنت قد يكون ممن لا إربة له في أم الزوجة وهو من التابعين ، ف (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) عنوان عام يشمل كل من لا حاجة له في النساء ، إما لنقص في شهوة او آلة ، ام لاحتشام بالنسبة لمرأة ، فالأعمام والأخوال وأزواج الأمهات وأزواج البنات قد تشملهم (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) إضافة إلى ثبوت عدم الحجاب عنهم بدليل تحريم زواجهم.

(١٢) (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ).

إنه لا تختص حرمة إبداء الزينة بما هو أمام البالغين ، حتى يحل للطفل الظاهرين على عورات النساء كغير الظاهرين ، أترى ما هو الظهور على العورات ، أهو الاطلاع ـ فقط ـ عليها ، دونما شهوة أو إمكانية عملية جنسية؟ وهذا يعم الأطفال منذ يميزون ذكورتهم والأنوثة ، من خمس سنين أو ستة فما فوقها!

أم هو القدرة على العملية الجنسية؟ فلما ذا (لَمْ يَظْهَرُوا) بدل «لم يقدروا»! وقد يقدر الطفل بشهوة أو دونها على الوطي ، وهو بعد لم يميز ما عند النساء عما عند الرجال!

١٢٩

الظهور هو الغلبة في العلم والعمل (١) فالطفل العارفون عورات النساء لماذا هيه ، القادرون على ان يفعلوا فيهن ، هم من أولي الإربة مهما لم يصلوا حد البلوغ والرجولة ، فإنما يعنى من الرجولة ـ في حرمة إبداء الزينة ـ الظهور على عورات النساء ، لذلك يستثنى من الرجال غير أولي الإربة ، ويلحق بالرجال الطفل الظاهرون على عورات النساء ، وهم الطفل أولوا الإربة ، فالإربة هي الأصل الذي يتبنى الحرمة وسلب المحرمية ، في الرجال أم الطفل ، وفي سلبها ـ في أيّ كان ـ محرمية ، وهو في الطفل الذين لا يثير جسم المرأة وزينتها فيهم الشعور بالجنس ، كما في الرجال مهما اختلفت مراتب الإثارة!.

والزينة التي يجوز إبداءها لهولاء ثلاث ، ١ كل البدن بملابسه وهو خاص بالبعولة ، ٢ ما دون العورة وجيرانها وأقاربها وهي للمحارم نسبيا أم سببيا أم رضاعيا ٣ شعر الرأس اضافة إلى الزينة الظاهرة أو وشيء من جيرانها وهي لسائر الطوائف الثمان ، اللهم إلّا الطفل غير الظاهرين ، والإماء ولا سيما المسلمات منهن وبعض التابعين غير أولي الإربة ، فلعلهم كالثانية أو يتلونهم ، بما في كلّ من الطائفة الثانية والثالثة من مراتب قربا وبعدا وأمنا وسواه ، فإبداء الزينة في كلّ يقدّر بقدره ، و (لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ...) لا تعني كل زينة في كلّ من الاثنى عشر!

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ

__________________

(١) «إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ» فانه لا يعني فقط الاطلاع فرب مطلع لا يقدر على الرجم ، ولا العمل فرب قادر لا يعمل إذا لا يعلم موضعه. «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ...» «٩ : ٨» اي يغلبوا حيث يعنيهما «وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ» (٤٢ : ٣٣) اي يتكئون قادرين ، لا فقط يعلمون «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» (٩ : ٣٢) أي ليغلبه فالأصل في الظهور الغلبة عمليا وهي بحاجة إلى غلبة علمية. فلا العلم فقط ولا الغلبة فقط يكتفى به لايفاء معنى الظهور.

١٣٠

جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣١).

... الضرب بالأرجل هو قوة المشي وشدته بحيث تسمع قعقعة خلخالها ، أو ترى من زينتها الخفية بجلبابها ف «يعلم» يعم علم السمع والبصر ، وهو منفذ لإثارة الشهوة وإحضار الريبة ، وأمّا صرف العلم بأن لها زينة خفية فغير محظور ، وإنما إظهار زينة خفية سمعا لها وإبصارا او شما أمّاذا من خفيّة تظهر بالإبداء ، وكضابطة عامة تستفاد من (لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ) كل مثير للشهوات ومجلب للنظرات ، وحتى إذا كانت زينة ظاهرة غير ضرورية ، أم حركات غير عادية تحت الحجاب التام دون إظهار لزينة ، أم رائحة عطرية تجذب ، أم صوت يغنج ، أمّاذا من المثيرات غير الضرورية ، إنها محرمة على النساء أن يبدينها ، ومحرمة على الرجال أن يتعرضوا لها ، إذا كانت مثل النظرة المثيرة ، والنبرة المغيرة ، وأما ما دون ذلك مما لا يتجنب فغير محظور ولا محبور ، فسماع وسوسة الحلي أو شمام شذى العطر (١) قد يثير حواس أناس ، ويهيج أعصابهم ويفتنهم فتنة جازفة جارفة لا يملكون لها ردا ، والقرآن يسد الطريق على كل هذه المثيرات من الجانبين ، لأن منزّله هو الذي خلقهما ، وهو الذي يعلم ما خلق وهو اللطيف الخبير.

(وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وي كأن لجميع المؤمنين نصيبا قلّ أو كثر من هذه الإثارات والتأثرات الشهوانية ، قلّما يخلو منها ذكر أو أنثى لهم الرغبات الجنسية ، من خطوة إلى خطوة ، من نبرة إلى نظرة وإلى شهوة وريبة وإلى ما لا تحمد عقباه ، أعاذ الله جميعا من خطوات الشيطان.

__________________

(١) استفاض عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «أيما امراة خرجت واستعطرت ليوجد ريحها فهي زانية وكل عين زانية.

١٣١

والإفلاح هو شق الطريق إلى النجاح ، ولا بد من توبة إلى الله ليتوب الله علينا في طريقنا الصعبة الملتوية ، المليئة بالشهوات والإثارات ، لعلنا نفلح حيث نفلج الرغبات غير المشروعة ، والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ، ولا متطرق فيها إلّا متزلقا قل أو كثر ، فلا بد من توبة إلى الله وإنابة دائبة إليه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)!

ثم التوبة ليست فقط عن معصية حاصلة (١) بل وعما قد تحصل لولا تسديد او عصمة ربانية ، وذلك للعدول وأولي التقى ، ومن ثم توبة للحفاظ على روح العصمة! وتكاملها إلى القمة ، كما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة» (٢).

إلى هنا قدّمت علاجات وقائية مؤقتة سطحية ليست بالتي تجتث الثورة النفسية الجنسية ، وتحصن المتجاذبين عن أية تخلفات اللّمم أمّاذا ، ولكي يحصل الحصان الجذري تخفيفا لهذه الثورة ، شرع مشروع الزواج ما طاب

__________________

(١) المصدر اخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الايمان عن أبي رافع ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل كم للمؤمنين من ستر؟ قال : هي اكثر من ان يحصى ولكن المؤمن إذا عمل خطيئة هتك منها سترا فإذا تاب رجع إليه ذلك الستر وتسعة معه وإذا لم يتب هتك عنه منها ستر واحد حتى إذا لم يبق عليه منها شيء قال الله تعالى لمن يشاء من ملائكته ان بني آدم يعيرون ولا يغفرون فاخفوه بأجنحتكم فيفعلون به ذلك فان تاب رجعت إليه الأستار كلها وإذا لم يتب عجبت منه الملائكة فيقول الله لهم أسلموه فيسلموه حتى لا يستر منه عورة ، وفيه اخرج ابن المنذر عن عبد الله بن مغفل سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : الندم توبة.

(٢) الدر المنثور ٥ : ٤٤ ـ اخرج احمد والبخاري في الأدب ومسلم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي رافع قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ايها الناس توبوا إلى الله جميعا فاني ... وعن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اني لاستغفر الله في كل يوم مائة مرة وأتوب إليه.

١٣٢

وتيسر دائما أو مؤقتا ، كفريضة بالقدر الذي يحول دون تخلفات محتومة ، وكمندوبة تحول دون احتمالاتها القريبة والغريبة :

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ...)

يأتي النكاح في سائر القرآن في ثلاث وعشرين موضعا بمختلف صيغه ، أمرا ونهيا إنشاء ، وإخبارا ، تعني مطلق النكاح عقدا للزواج إلا بقرينة تدل على معنى الوطي عن عقد ك (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢ : ٢٣٠) فإن نكاح الزوج ليس عقده ، بل وطئه عن عقده ، أم تدل على انقطاع في عقده : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (٤ : ٢٤) أم على دوام كالتي تقرن بطلاق أماذا من اختصاصات الدائم.

ف «أنكحوا» هنا تعم المنقطع كما الدائم ، حيث المنقطع نكاح كما الدائم ، فالأمر يعمهما حسب مختلف الظروف والإمكانيات والمتطلّبات ، فلو لم تكن هناك دلالة خاصة من كتاب وسنة على مشروعية النكاح المنقطع لأفتينا بها سنادا إلى هذه المطلقات ، وكما البيع دائم ومؤقت ، بأحرى أن يكون النكاح دائما ومؤقتا.

ولأن التشريع نسخة متجاوبة مع التكوين ، فلتكن شرعة النكاح كافلة لقضاء وطر الجنس ، ولا يقضيه النكاح الدائم حيث الأكثرية الساحقة من ذوي الإربة وذواتها لا يجدون نكاحا ، فليجبر بالنكاح المؤقت كضرورة جماعية دائبة بين المستضعفين ، فحتى إن لم يكن دليل خاص او عام من كتاب او سنة على سماح هكذا نكاح لكنا نفتي به بحكم الضرورة ، كيف والأدلة متوفرة متواترة على ذلك ، وقولة النسخ خرافة وهراء والله منها براء!.

١٣٣

وهذه الآية من بينها هي اليتيمة في نوعها ، آمرة بالإنكاح في متطلباته واجبة وراجحة ، الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ، دونما تخوّف عن فقرهم حالا أو استقبالا لحمل النكاح (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) وهذا حينما يجدون نكاحا على فقرهم ، ثم يأمر الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ريثما يجدوه ... فالناكحون والمنكوح لهم هم عوان بين الأمرين ، ولكي يحصل لهم أمر بين أمرين ، لا يظلوا عزّبا يعذّبون ، ولا أن ينكحوا فقراء فيتعذبون ويعذّبون!

الأيامى جمع الأيّم وهو من لا زوج له ذكرا أو أنثى ، كان تزوج قبل أم لم يتزوج (١) مهما كان غير المتزوج أولى ، ولقرنهم بالصالحين من عبادكم وإمائكم فهم الأحرار ، من أقارب وهم أحرى بالكفالة الولاية الخاصة ، أم أغارب بولاية الكفالة العامة ، ف «منكم» يعني من المسلمين أجمع إلّا الرقيق ، والمخاطبون بالإنكاح طبعا هم أولياء الأيامى من خاصة وعامة ، وهذه ـ فقط ـ ولاية الإنكاح فلا تشرط فيها سائر الشروط في سائر الولايات ، اللهم إلّا في البنت العزباء التي لم تتزوج قبل ف «أنكحوا» فيها تختص في ولاية الأب والجد ليس إلّا ، على شروطها المذكورة بطيات آياتها.

ولأن الأمر وارد مورد الحاجة الجنسية ، وفيما لا تكفي الوقايات السطحية من إخفاء الزينة وترك النظرة ، فلا يعم كل الأيامى ، وإنما ذووا الإربة اللازمة ففريضة ، أو الراجحة فمندوبة ، فلا فرض هنا مطلقا ،

__________________

(١) لسان العرب : والحرب مأيمة للنساء اي تقتل الرجال فتدع النساء بلا أزواج ، وأمت المرأة إذا مات عنها زوجها او قتل وأقامت لا تتزوج وفي حديث علي (عليه السلام) مات قيمها وطال يأيمها ورجل أيمان عيمان هلكت امرأته ، وفي الحديث ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتعوذ من الأيمة ، والعيمة وهو طول العزبة.

١٣٤

ولا رجاحة مطلقا ، فإنما المتطلبات على اختلافها تقتضي وتتقاضى أمر الفرض أحيانا وندبه أخرى ، أم لا هذا ولا ذاك.

وهل الإعراض عن سنة النكاح في إربه الراجح محرم؟ مهما لم يحرم تركه دون إعراض؟ الظاهر نعم لأنه إعراض عما أمر به الله وعمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يروى عنه «النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني (١).

__________________

(١) في الوسائل ١٤ : ٣ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : تزوجوا فاني مكاثر بكم الأمم غدا في القيامة حتى ان السقط يجيء محبنطأ على باب الجنة فيقال له : ادخل الجنة فيقول : لا حتى يدخل ابواي قبلي ، وفيه ٦ ح ١ قال ابو عبد الله (عليه السلام) ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب ، وعنه (عليه السلام) قال (صلى الله عليه وآله وسلم) رذال موتاكم العزّاب ، و ٨ : ح ٩ علي بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني عن علي (عليه السلام) قال : ان جماعة من الصحابة كانوا حرموا على أنفسهم النساء والإفطار بالنهار والنوم بالليل فأخبرت ام سلمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج الى أصحابه فقال : أترغبون عن النساء؟! إني آتي النساء وآكل بالنهار وأنام بالليل فمن رغب عن سنتي فليس مني وأنزل الله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ، فقالوا : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انا قد حلفنا على ذلك فانزل الله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ... ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ ...).

وفي صحيح البخاري باب الترغيب في النكاح ، عن انس بن مالك يقول : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت ازواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألون عن عبادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما أخبروا كأنهم تقالّوها فقالوا : وأين نحن من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم : أما أنا فأنا اصلي الليل ابدا وقال آخر : انا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج ابدا فجاء إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ اما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر واصلي وارقد وأتزوج ـ

١٣٥

أترى ماذا تعني (وَالصَّالِحِينَ ...)؟ هل هم المتقون؟ وليس فرض النكاح او رجاحته بشرط التقوى ، وهي لم تذكر للأيامى ، بل وغير التقي أحرى بالنكاح لكيلا يطغى!

ام هم الصالحون للزواج كفوا رجالا ونساء؟ والصلوح له كما يجب شرط في كل نكاح دون اختصاص بغير الأحرار! أم هم المسلمون منهم؟ ولغير المسلمين نكاح كما لهم نكاح!

لأن (الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أمر بإنكاحهم للأحرار لأنفسهم ، وفيهم مسلمون كما فيهم غيرهم ، لذلك تذكر من شريطة صلاح النكاح : الإسلام ، فلا يصلح كافر لمسلمة ولا كافرة لمسلم ، مهما صلح التناكح بين مسلم ومسلمة وكافر وكافرة ، وإنكاح (عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) يشمل هذا المثلث ، وقيد «الصالحين» يخرج ـ فيما يخرج ـ غير المسلمين (مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) في إنكاحهم للمسلمين منهم ومن الأحرار منكم ، اللهم إلّا كتابية لمسلم لآية المائدة : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

وأما (الْأَيامى مِنْكُمْ) فشريطة صلاح الإسلام واردة في «منكم».

__________________

ـ النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ، وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من استطاع الباءة فليتزوج فانه أغض للبصر وأحصن للفرج ، وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيأتي زمان على امتي لا يسلم لذي دين دينه الا من يفر من شاهق إلى شاهق ومن حجر إلى حجر إذا لم تنل المعيشة الا بمعاصي الله فعند ذلك حلت العزوبة قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اما أمرتنا بالتزويج؟ قال : نعم ولكن إذا كان ذلك الزمان فهلاك الرجل على يدي أبويه فان لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وجيرانه يعيّرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق حتى يوردنه موارد الهلكة.

١٣٦

فإذا صلح عبد أو صلحت أمة فالإنكاح ـ بينهما ، أم هما بحر أو حرة ـ صالح ، وأما الكافر فغير صالح إنكاحه بمسلمة ، وأما بمثله فقد لا يشمله أمر الإنكاح حيث الصلاح هنا شرط الإنكاح كواجب أو راجح ، مهما صح التناكح بينهما دون صلة بالموالي المسلمين ، وإن رقّية الكافر في حساب الإسلام كمدرسة داخلية عسى أن يسلم في جوّ اسلامي يعيشه ليل نهار ، ومما يشوقه إلى الإسلام وعد النكاح ، إن صلح بإسلامه ، فمايز الإسلام «منكم» والكفر (مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) يتطلب شرط الصلاح في أولاء دون هؤلاء!

وترى إذ يعني «الصالحين» المسلمين فلما ذا الصالحين العام بدلا عن نص المسلمين؟ علّه لأنه يعنيهم وصلوح الزواج من عبء تكاليف الزواج ، فإذا لم تكن لهم نفقة مضمونة بتكسّب أماذا فتكفف على أبواب الناس ، وتخجيل لكم او حمل عليكم ، وهذا ليس صالحا من الإنكاح! ومن ثم صلاحيات أخرى تسمح أو ترجح إنكاحهم من شرعية تعرف من كتاب وسنة ، أو عرفية والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

ولماذا يؤمر غير الأيامى أن ينكحوا الأيامى ، والبالغ مبلغ النكاح بإمكانه ذلك ، ولا سيما الذكران ، دونما حاجة إلى الأولياء؟

لأن البالغين والبالغات في أكثريتهم الساحقة لا يستطيعون نكاحا لفقر مالي أم عدم استقلالهم في حياتهم الجماعية ، ولا سيما في النكاح الباكر ، وهم أحيانا بحاجة ضرورية إلى النكاح أم راجحة ، فلا بد لأوليائهم محاولة الإنكاح دونما تخوف من فقرهم الحالي فضلا عن الاستقبالي لحمل النكاح وعبأه ، فنفقة النكاح من الواجب على الأولياء بحق المولّى عليهم ، إلّا إذا كانوا هم أغنياء ، فمن غير جهة المال!

(إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ) بالفعل إذ لا مال لهم وحتى للصداق وسائر متطلبات

١٣٧

النكاح البدائية ، فضلا عن تداوم الإنفاق ، فعليكم أنتم فعلية التكاليف ، ومن ثم (يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) «فالتمسوا الرزق بالنكاح» (١).

ف (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ) بعد (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) لزامه وجوب إنفاق الأولياء قدر الإمكان ، فان لم يتمكنوا منه ولا الأيامى و (لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فعدم وجدان النكاح يعم ما إذا لم يتمكن أحد منهما على الإنفاقات البدائية المفروضة ف (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) منهم ولا من أوليائهم ، أم لا يتمكن أحد منهما للحصول على كفوء «فليستعفف» ...

فمحاولة نكاح الأيامى مشتركة بينهما معا ، فإذ لا سبيل منهما «فليستعففوا» بتصبر أم صوم (٢) وفي محاولة تحصيل المال ابتغاء من فضله (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) كشرط اصيل لبداية النكاح ، ومن ثم كما وعد الله (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ) اتكالا على الله ، وكما كان يأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (٣).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٤٥ ـ اخرج الديلي عن ابن عباس ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : التمسوا واخرجوا عن عائشة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انكحوا النساء فإنهن يأتينكم بالمال ، وعن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشكوا إليه الفاقة فأمره ان يتزوج.

(٢) صحيح البخاري قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء.

(٣) نور الثقلين ٣ : ٥٩٥ ح ١٢٠ عن الكافي عن إسحاق بن عمار قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) الحديث الذي يرويه الناس ان رجلا أتى النبي (صلى الله عليه ـ

١٣٨

ثم (يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ليس وعدا من الله محتوما فقد لا يغنيهم ، وإنما يعدهم ترغيبا لهم وفي الأكثر يغنيهم «من فضله» حيث يسعون أكثر مما كانوا يسعون (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ثم الله يزيدهم من فضله لسدّ ثغرة الأهل في نفقته.

على الأيامى النكاح وعلى أوليائهم إنكاحهم ، فإن اشتدت الحاجة ـ كما يتفق نزرا ـ ولا سبيل إلى البقاء فالفراق جمعا بين الأمرين نكاحا وفراقا (١)

__________________

ـ وآله وسلم) فشكى إليه الحاجة فأمره بالتزويج ففعل ثم أتاه فشكى إليه الحاجة فأمره بالتزويج حتى امره ثلاث مرات فقال ابو عبد الله : هو حق ثم قال : الرزق مع النساء والعيال ، وفيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنه بالله عز وجل ان الله يقول (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وفيه ح ١٣٥ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شاب من الأنصار فشكى إليه الحاجة فقال له : تزوج فقال الشاب اني لأستحي ان أعود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلحقه رجل من الأنصار فقال : ان لي بنتا وسيمة (حسنة الوجه) فزوجه إياه قال : فوسع الله عليه فأتى الشاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا معشر الشباب عليكم بالباه (النكاح).

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٩٥ ح ١٣٠ في الكافي باسناده إلى عاصم بن حميد قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج قال فاشتدت به الحاجة فأتى أبا عبد الله (عليه السلام) فسأله عن حاله فقال له : اشتدت بي الحاجة قال (عليه السلام) ففارق ثم أتاه فسأله عن حاله قال : اثريت وحسن حالي فقال ابو عبد الله (عليه السلام) اني امرتك بأمرين امر الله بهما قال الله عز وجل (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى ...) وقال (إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ).

١٣٩

وقليل ما هو ، وفي النكاح إحراز الدين (١) وفي العزوبة الرذالة (٢) إلّا لغير أولي الإربة ، او الذين لا يخافون الفتنة من العزوبة!

وقد يعني (وَلْيَسْتَعْفِفِ ...) إضافة إلى ترك النكاح ريثما يغنوا فينكحوا ، استعفافهم بفعل النكاح حتى يغنيهم الله من فضله (٣) فمن لا يجد نكاحا حتى الصداق او الكفوء فاستعفاف تركه ، ومن يجد الكفؤ والصداق ويخاف عيلة النكاح وفقره فاستعفاف بفعله حتى يغنيه الله من فضله ، وكما قد يعم «وليستعفف» من ينكح ومن ينكح له بكلا المعنيين ، فمن لا يجد إنكاحا فليطلب عفافا للأيامى إن استطاع بإنكاحهم ، وإن لم يسطع فبحملهم على العفاف بوسائله ، كمن لا يجد لنفسه نكاحا فليطلب عفافا بأحد الوجهين كما يستطيع ، ف (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) يعم عدم وجدانه لأنفسهم وللأيامى سواهم ، وجدانا ماديا أم سواه ، فالمهم في هذا البين هو الاستعفاف للأيامى ، منهم ومن أوليائهم ، بفعل النكاح تحصيلا للعفاف ، ام في تركه تعفيفا للنفس بوسائل أخرى.

فتحصيل وسائل العفاف عن التخلف الجنسي واجب جماعي كما يجب على الأفراد لتطهير الجو الإسلامي من الشذوذات الجنسية ، من عفاف ذاتي بغض النظر المريب ، وبإنكاح ونكاح قدر المستطاع ، ثم بمحاولات أخرى

__________________

(١) المصدر ح ١٣٧ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تزوج فقد احرز نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر.

(٢) المصدر ح ١٣٨ عن أبي عبد الله (ع) قال قال رسول الله (ص) رذال موتاكم العزاب.

(٣) المصدر ح ١٥٤ عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل «وليستعفف قال : يتزوجوا حتى يغنيهم الله من فضله وفيه ١٥٢ في الحاصل باسناده إلى زيد بن ثابت قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا زيد تزوجت؟ قلت : لا ـ قال : تزوج تستعف مع عفتك.

١٤٠