الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

الفردة الأولى التي ما عرفناها حتى الآن ولن نعرفها بعد الآن ، فإنما عرفنا أنها كلّها أنوار (نُورٌ عَلى نُورٍ ...)!

والجواهر المائية التي في نقطة واحدة من الماء (٥) أمامها (٢٠) صفرا اي خمسمائة الف الف الف الف الف الف جوهر مائي ، وهذا العدد العظيم من النقط المائية ليس مندمجا كلا ولا مصمتا ، فهناك أبعاد شاسعة بينها كالتي بين الكواكب والشمس والأرض بالنسبة لأحجامها ...

إذن فقطرة الماء هي نقط من النور تدور بعضها حول بعض ، وهكذا جميع العناصر في الكون ـ إذا فالسماوات والأرض كلها (نُورٌ عَلى نُورٍ)! (١).

اجل وليست الذرات باجزائها المعروفة حتى الآن إلّا كهارب سلبية وإيجابية وخنثى ، فالعالم كله كهارب وكله نور ، مهما خفي عنا نوره إلّا على ضوء نور العقل والعلم والوحي (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ...)!

نحن الآن في الشوط الثامن من التعرف إلى نور الكون ، فمن المشاعل إلى مصابيح الزيت ، إلى قناديل الشمع ، إلى زيت البترول ، إلى الغاز الذي هو خلاصة الفحم المحترق الجاري في الأنابيب لإنارة المدن ، إلى خلاصة المادة الكحولية المسماة (اسبيرتو) اي بخارها الذي يغشى عادة بغشاء يحفظ ضوءه ، إلى ضوء الكهرباء الذي عم أقطار الأرض ، وإلى الإشعاعات الذرية وفوق البنفسجية أمّاذا (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ...)!

ثم إن النور المشكاة هي مثل المؤمنين بمراتبهم أعلاهم فيها الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وذووه ثم سائر الخمسة ثم سائر

__________________

(١) تلخيص مع تحوير عما حققه (هنشو) المكتوب عنه في مجلة (هاربر) الامريكية ١٩٣٦ وكما نشرت في مجلات اخرى أيضا.

١٨١

الرسل ثم سائر المؤمنين بمراتبهم وإليكم مثل الكافرين :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠).

بعد مثل النور لأهل النور هنا مثلان لمن لم يجعل الله له من نور : برّي (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ...) وبحري (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ...) مشهد ان رئيسيان من مشاهد الظلمات للذين كفروا.

في المشهد الأول يرسم أعمالهم في واقعها المضاد لما يزعمونها يوم القيامة «كسراب» : مظهر ماء جار (١) «بقيعة» : أرض مكشوفة مستوية على ضوء الشمس ، حيث يبصرها الرائي من بعد كأنها تتلمع ماء مائجا صافيا هائجا ، يحسبه كل راء ماء ، ولا سيما الظمآن : شديد العطش الذي يفتش عن ماء ، فغير الظمآن لا يجيئه إذ لا يحتاجه وقد لا يعرف خطأه ، والعطشان غير الظمآن قد لا يجيئه ، ولكنما الظمآن يجيئه حتما متوقعا ريّه ، فيفاجئ خلاف ما يتوقع ، فالظمآن السائر وراء الشراب يتوقع هناك الشراب ، يصله فلا يجد إلّا السراب ، مفاجأة مذهلة لم تخطر ببال ، وقد تتقطع عندها الأوصال فتورث الخبال : (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) وجده في تخيّله من بعد! (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) : عند السراب الذي هو لا شيء ، وعنده نفسه حيث لم يأت بشيء ، صفر اليد عن كل شيء يصلح

__________________

(١) السراب ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبيه الماء الجاري يقال : سرب الماء يسرب سروبا إذا جرى فهو سارب ك (سارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٣ : ١٠) اي ماش فيه.

١٨٢

لحضور الرب (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) في حسبانه بعمله الحابط (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) دون تباطئ في أصل الحساب ، ليس «فوجد الله عنده» وجدانا له بإدراك حسي فما فوقه ، إنما وجدانا لحضوره حيث لا يجدون موئلا سواه ، وقد كانوا غيّبا عنه يوم الدنيا فهم في غفلة منه وغفوة يعملون ما يشاءون كأن لا إله ، ثم كشف عنهم غطاءهم يوم الأخرى فوجدوا الله عند أعمالهم بسرابها حاضرا حاذرا موفيا حسابهم سريعا دون إمهال!.

فلأن أعمال الذين كفروا لا تهدف إلّا شهوات الحياة الدنيا وزهواتها ، وهم يزعمونها هادفة نافعة رغم أنها حابطة زائفة زاهقة ، فهي إذا كسراب بقيعة الدنيا ، يحسبه ظمآنها ماء الحياة رغم أنها بلاء الممات ، وهو يعيش ذلك الحسبان البعيد البعيد ما دام غارقا في تلكم اللذات وحياة الخيالات ، فهو من «الأخسرين (أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٤)(حَتَّى إِذا جاءَهُ) إذ جاءت سكرة الموت ، فيرى من أعماله غير ما كان يراه إذ كانت على بصيرته غطاء : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢) (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) في واقعه ، رغم ما وجده أصل الحياة في حسبانه (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) : عنده نفسه وعند عمله الحابط الهابط ، فلا يملك هنالك أحد شيئا إلّا الله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ)(فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) خلاف حسبانه (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) رغم ما كان يحسبه ألّا حساب لا بطيئا ولا سريعا!.

فأعمال الذين كفروا حابطة (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٣ : ٢١٧). وهي عليهم حسرة يوم يرونها كما هيه : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) (٢ : ١٦٧) فإن (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ

١٨٣

الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٤ : ١٨).

ولأن الإنسان يوم القيامة ليس إلّا أعماله ، فإنها هو وهو هيه ، فالذين كفروا هم بأعمالهم كرماد اشتدت به الريح ، وكسراب بقيعة هم حابطون كما أعمالهم (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٨ :) ١٠٥).

والحبط ليس إلا في الأعمال الحسنة فإن السيئات باقية ، فآية السراب تجعل حسناتهم كسراب بقيعة يوم القيامة ، وآية الظلمات تجعل سيئاتهم ما تجعل ، فحسناتهم حابطة كسراب وسيئاتهم ثابتة كظلمات!

إن الذين كفروا يسارعون بأعمالهم التي يحسبونها خيرا لهم إلى شر لهم وهم غافلون بقصور التقصير ، يقدّمون أعمالهم التي هي عدو لهم ، بكل سرعة وحماقة ، ثم يقدمون إليها فيرونها عليهم عذابا ما لهم من محيد!

هذا المشهد الاوّل يبرز خيبتهم في اليوم الآخر ، ثم المشهد الثاني يجعلهم في ظلمات متراكمة متراكبة ، فإن كان المؤمن متقلبا في خمسة من النور مدخلا ومخرجا وعلما وكلاما ومصيرا ، فالكافر يتقلب في خمسة من الظّلم!

«أو كظلمات» أو «هذه للتقسيم (١) انقسامة لحالتهم إلى قسمي الآخرة كالأول والدنيا كالثاني ... «كظلمات» متراكمة متراكبة فلا شمس مضيئة ، ولا قمر منيرا ولا أنجم زاهرة ولا سرج ، والليل غاسق ، ظلمة مطلقة لا نور فيها ، فهم أعمالهم كسراب أو كظلمات. (٢)!

__________________

(١) خيّر أبح قسّم بأو وأبهم واشكك واضراب بها ايضا نمي.

(٢) او هذه تعطف إلى سراب : أعمالهم كسراب او كظلمات.

١٨٤

وكما آية النور مثلث بمسبّع النور تخلصا عن الظلمات السبع ، كذلك آية الظلمة هذه تمثيلة بمسبع الظلمة ، ف «كظلمات» تعني غاسق الليل ، بلا قمر ، ولا نجوم ، ثم (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) المتردد أمواجه ظلمة رابعة (يَغْشاهُ مَوْجٌ) خامسة (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) سادسة (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) سابعة «ظلمات» سبع (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ولا تتصور ظلمة فوقها فإنها لا نور فيها ف (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) من هذه الأمواج أو فيها (لَمْ يَكَدْ يَراها) فإن فاصل النور أيا كان هو الذي يسمح للإبصار ، فإذ لا نور فلا إبصار ، حتى يده التي هي أقرب الأشياء إليه ، ليس أنه ـ فقط ـ لا يراها بل (لَمْ يَكَدْ يَراها) فقد لا يراها إذ لا نور ، ولكنه يكاد يراها لنور يأتي ، ولكنما الكافر صد عن نفسه كل نور فليس ليرى حتى يده.

فالذين كفروا هم خارجون ومخرجون عن كافة الأنوار آفاقية وأنفسية ، فلا يرون حتى أنفسهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (٣ : ٢٥٧) (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (٦ : ١٢٢) (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).

في آية الظلمات السبع ثلاثة أنواع من الظلمات : ظلمة البحر اللجي بأمواجه ، وظلمة السحاب ، وظلمة غاسق الليل ، كما للكافر ظلمات ثلاث في القول والعقيدة والعمل خلوا من كل نور ، وحتى في حسناته إذ لا ترتبط بمعدن النور.

ولماذا «يده» دون رجله أماذا من جوارحه؟ لأنها أقرب ما يراه منها ، فإذ لا يراها فهو مسدود عن كل رؤية ، كفر غاسق وظلمة مطلقة منقطعة عن نور الهدى ، وضلال لا يرى فيه الرائي أقرب معالم الهدى! أو لأن اليد تعبير عن أعماله الحسنة على كفره ، فلا يكاد يراها يوم الأخرى لأنها حابطة غامرة!

١٨٥

آيات الله البينات كلها نور ، وحتى آيات الظلمات إذ تبين موقف النور من الظلمات ، ومن مواقف النور في آية الظلمات أنها قد تكون حرزا من حرق أو غرق أو سرق او إفلات دابة من صاحبها ، أو ضالة أو آبق (١) أماذا من حاجيات لا سبيل إليها من أسباب ظاهرة!

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) أترى إذا لم يجعل الله نور الهدى للذين كفروا فما ذنبهم إذ لا يهتدون؟ إن الله جعل لهم نور الفطرة والعقل كآيات أنفسية ، وجعل له نور الرسالة وسائر الآيات الآفاقية ، ولكنهم زاغوا عنها (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٦١ : ٥) فلا يعني سلب الجعل السلب المطلق ، وإنما سلبه بعد إثباته ، فإذ لم يهتدوا به سلبه الله عنهم و (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ...) (٢ : ٧) (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (٣ : ١٧) فنور التكوين من الفطرة والعقل ، ونور التشريع ككل شرعة ، ونور الإيصال إلى هدى التشريع ، كل ذلك ليست إلّا من الله ف (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٣٣ : ٣٤).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦١١ ح ١٩٧ عن الكافي في الأصبغ بن نباتة عن امير المؤمنين (ع) انه قال : والذي بعث محمدا (ص) بالحق وأكرم أهل بيته ما من شيء يطلبونه من حرز من حرق ... إلا وهو في القرآن فمن أراد ذلك فليسألني عنه قال : فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين اخبرني عن الآبق ، فقال : اقرأ «او كظلمات ... إلى قوله (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) فقرأ الرجل فرجع إليه الآبق ، وفيه في من لا يحضره الفقيه عن عبد الله بن يعفور عن أبي عبد الله (ع) قال : اكتب للآبق في ورقة او في طاس بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يد فلان مغلولة إلى عنقه إذا أخرجها لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم لفها واجعلها بين عودين ثم ألقها في كوة بيت مظلم في للوضع الذي كان يأوي فيه.

١٨٦

وقد يشمل (الَّذِينَ كَفَرُوا) في مثله الأول ، المتظاهرين بالإسلام وهم كفار ، والمضلّلين في عقائدهم وأعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، فهم يرونها حسنة وهي كسراب بقيعة ، ثم المثل الثاني يختص بالكفر المطلق.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٤٢).

هنا وفي الأسرى (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ ...) : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ...) (١٧ : ٤٤) وفي سائر القرآن «يسبح أو سبح ما ...» (١) ففرق بينهما ب «من» و «ما» فهذا يعم تسبيح الكون أجمع بما فيه ومن فيه ، تكوينيا حيث يدل بكمال صنعه على كمال صانعه وهو للكون كله ، واختياريا وهو يخص بعض الكون ، ولكن «من» قد تعني ذوي العقول وأضرابهم في شعور التسبيح كالطير أماذا من حيوان سوى الإنسان والملك والجان ، أو أنها تعني كما تعنيه «ما» كما في الأسرى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ ...)؟ ف (سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ...) (٢١ : ٧٩)!

وقد يتأيد عموم «من» هنا مثل «ما» بأنها لو عنت تسبيح الإختيار القاصد من ذوي العقول الخصوص لما شملت إلّا المؤمنين ، وظاهر (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استغراقه للكلّ ، والكافر لا يسبح باختيار وإيمان ، وإضافة الطير قرينة أخرى أنه الكل ، فمؤمنهم العالم (قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ

__________________

(١) سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض ٦١ : ١ و ٥٩ : ١ والأرض ٥٧ : ١ يسبح له ما في السماوات وما في الأرض ٦٢ : ١ و ٦٤ : ١ والأرض ٥٩ : ٢٤.

١٨٧

وتسبيحه ، وغيرهم يسبح كمن يعلم ، ف «كل» ممن في السماوات والأرض والطير أمّن ذا (قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) مهما اختلفت مراتب العلم والصلاة والتسبيح ، فالكون محراب شاسع تصلي فيه الكائنات لربها وتسبح ، ولكنما الإنسان الغافل المتجاهل قد يترك تسبيح المختار وصلاته عن إيمان (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)!

و «ألم تر» قد تعني الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يعنيه من ذويه ، فهم يرون علم اليقين وعينه وحقه أن الكون كله يصلي ويسبح لله ، يرون ما يراه سواهم من تسبيح التكوين تدليلا على المكون ، وما لا يراه سواهم مما (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وكما يرون صنوف الصلاة والتسبيح! ولا تعني الرؤية هنا إلّا بالغ العلم والمعرفة كل حسب مستواه ومقتضاه.

ف (الطَّيْرُ صَافَّاتٍ ...) من ذا الذي يرى تسبيحها وصلاتها الجماعية في صفيفها ودفيفها إلّا من يوحى إليه مثل داود : (سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) (٢١ : ٧٩) ومن ذا الذي يعلمها أنها تعلم صلاته وتسبيحه؟

و «كلّ» هنا تعم من في السماوات والأرض ومنهم الطير ، حيث تذكر كمثال لكل الحيوان ، مهما اختلفت صلاتهم وعلمهم لصلاتهم وتسبيحهم!

أترى (عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) تشمل من يعلمها ولا يصلي كالكفار من الجنة والناس؟! اللهم لا! لمكان «يسبح» فهو إذا علم العمل ويخص الصلاة والتسبيح عن علم ، فلا يعم التسبيح التكويني فإنه ليس عن علم.

تعال معي لننظر إلى الطير صافات في صلوة وتسبيحات بعد ما رأينا

١٨٨

صلواتنا في جماعات ، نحن نعبد ربنا في صلوات ثابتات وأحيانا في تسبيحات وتحميدات بحركات دورانية دورية كالطواف أم بيضوية كالسعي أماذا.

والطير صافات في صفوف متحركة جوية تسبح ربها وتصلي في مختلف السرعة ، أسرعها فيما نعرف حتى الآن حشرة (سفنوميا) وهي في أمريكا الجنوبية والشمالية وبعض أنحاء أوروبا ، فهي تقطع في الساعة ٨١٥ ميلا ، فإن جناحيها يدوران كل ثانية بضع آلاف المرات ... لو أتيح للإنسان يطير مثل هذه الحشرة لحلّق الكرة الأرضية في (١٧) ساعة!(١).

وقد تعني في دلالة بدلية طولية كل من بإمكانه أن يرى كما يسطع وأقله تسبيح التكوين تدليلا على خالق ، ثم تسبيح الشعور بما أوحاه كما في آية الأسرى ، ومن ثم تسبيح التكليف ، وكل تلو الآخر مزيد لنور المعرفة الإلهية ، ولا يحرم أي عاقل مكلف من رؤية مّا لتسبيح مّا للكون الذي يراه قدر ما يراه.

تسبيح الكون كله تدليلا على خالق سبحان هو نور في الكون كله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) وتسبيح الشعور وشعور كل تسبيح هما من نور الوحي : (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ)!

فهنالك رؤية شاملة لتسبيح الكون قبل الوحي ، تشمل كل عاقل ، ورؤية بالوحي كما في آية الإسراء ، ورؤية مع الوحي كما للرسل ، وكذلك كان أوّل العابدين ، إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت قدميه ، ومعه داود ومن معه يرتل مزاميره فتؤوب معه الجبال والطير! ثم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما

__________________

(١) كشفها (تشارلس تونسند) البحاثة الاميركي الشهير كما في تفسير الجواهر ج ١٢ : ٣٤.

١٨٩

يَفْعَلُونَ) قد يخص أفعال العقلاء المختارين من تسبيح وسواه ، أو وأفعال الكافرين الذين هم أعمالهم كسراب أو كظلمات ، أو يعمهما وكل كائن في فعل التسبيح أيا كان أم أي فعل كان.

ولماذا لا يسبح له «من وما» (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «أيا كان وأيان (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) في الختام!

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣).

هنالك نخطو خطوات معرفية إلى بارئ الكون من إزجاء سحاب إلى تأليفه إلى جعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله ، أم بردا ينزل منه ، صورتان تختلفان بسيرة واحدة من مختلف السحاب! «ألم تر» أيها الرسول ثم كل من يرى (أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) فالإزجاء هو الدفع للانسياق ، والقلع شيئا فشيئا (١) كما (يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ) والسحاب فعال من السحب : الجرّ ، فالسحاب المزجى هو أبخرة المياه الأرضية المزجاة إلى جو السماء.

إن حرارة الشمس ـ وأيّة حرارة ـ تبخّر المياه فوق الأرضية ، ولأن الأبخرة خفيفة ، تزجى وتسحب بجاذبية السماء ، وهذه العملية الفزيائية تعني إزجاء السحاب ، ولأن الله هو المحّول في كل تحويل والمحّور في كل تحوير ، فهو الذي يزجي سحابا ، ليس كصدفة عمياء غير قاصدة ، بل هو سحب وإزجاء قاصد!

__________________

(١) إزجاء السير في الإبل هو الرفق بها حتى تسير شيئا فشيئا ، وكذلك أبخرة الماء الصاعدة المزجاة إلى السماء ، ومنه «بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ» قليلة.

١٩٠

أترى أن مجرد إزجاء السحاب من مختلف الأبخرة يكفي لتكوّن سحاب يمطر ودقا أو مطرا أو بردا؟ كلّا! فهناك التأليف بينه لينشئ سحابا ثقالا ، حيث الأبخرة المتفرقة والخفيفة لا تنزل ودقا فضلا عن برد : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (١٣ :) ١٢)

هنالك الرياح تجمع بين كتل البخار المسحبة المزجاة ، فتجعله ركاما : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ...) (٧ : ٥٧).

والسحاب الثقال هي التي تحمل الماء لركامها ، إزجاء ثم تأليفا (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) سحابا ثقالا! وكل هذه عمليات قاصدة هادفة ، ونحن نرى الأفعال ولا نرى الفواعل الطبيعية فضلا عن الفاعل الإلهي أو ملكوتا من فعله.

وهناك ثقل أوّل للسحاب وتحت ضغوط الرياح وبرودة الهواء أماذا من معدات ، ينتج نزول الأمطار : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) كأنها غرابيل تغربل ودق المطر ، كما يترائى لرائي الأرض! والودق هو بداية المطر ، أوّل ما ينزل من غرابيل السحاب كأنه غبار المطر براعة استهلاله ، ثم المطر ، فالودق هو بداية المطر ومناديه ، ثم تنضم أجزاءه فتصبح قطرات بعد الغبرة ، وبسرعة بعد الفترة ، ومن ثم إذ تكاثفت السحاب بركام واندغام أكثر ، وفي برودة أوفر ، أصبحت كجبال البرد : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ...).

إن مشهد السحاب الضخمة الكثيفة التي تغربل ثلجا وبردا هو مشهد الجبال حقا ، فمهما كانت لا تترائى لناظر الأرض جبالا ، فإنها ترى لراكب الطائرة التي تحلق فوقها أو تسير بينها ، ترى جبالا بضخامتها ومساقطها

١٩١

وارتفاعاتها وانخفاضاتها ، صورة هائلة لهذه السحاب لم يكد يراها الناس إلا بعد ركوب الطائرات.

ولكنما الطائر القدسي المحمدي الذي حلّق على الكون كله ليلة المعراج ببصره ، وأحاط به علما ببصيرته ، إنه كان يراها دون طائرة : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ...)!.

إن نازل السماء من هذه السحاب ودق ومطر وثلج وبرد كلّها من الأبخرة المزجاة المسحبة من المياه فوق الأرضية ، وقد يعم البرد الثلج وليس في القرآن بعد الودق والمطر إلّا البرد!

ف ـ (مِنْ جِبالٍ فِيها) هي تلك التي تحمل البرد وهي السحاب الثقال تشبيها بالجبال بكثائف أطوادها ومشارف هضابها ، والضمير في «فيها» عائد إلى السماء دون الجبال ، و «من برد» تتعلق ب ـ «وينزل» (١) أنه ينزل من السماء ـ من جبال فيها هي السحاب البردية ـ ينزل من برد : بعضه لا كله ، فلو نزل كله لكانت الإصابة أخطر والفادحة أكثر ، ولكن (يُنَزِّلُ ... مِنْ بَرَدٍ) جنسه ، ثلجا أماذا ، وبعضه لا كله! «فيصب به» البرد «من يشاء» إصابته عذابا أو تأديبا ، امتهانا أو امتحانا ... (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) صرفه عنه فلا امتهان ولا إمتحان ، فالبرد ـ إذا ـ كعذاب قل أو كثر ، يصيب الأشجار والأثمار والأبنية وأصحابها ، وقد تصبح كرصاص تجرج أو تقتل لكبرها وشدة وقعتها!

(يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) والسنا هو الضوء الساطع ، فساطع

__________________

(١) فليس من برد تعني ـ فقط ـ جنس الجبال ، فانها ليست بردا كما السحاب الممطرة ليست مطرا ثم لا متعلق ـ إذا ـ ل ـ «ينزل» فما ذا ينزل من جبال فيها من برد ، والاولى الجمع بينهما : ان من برد تتعلق ب ـ «ينزل» كما تتعلق بكائن حيث توضح جنس الجبال.

١٩٢

الضوء من برق السحاب (١) الودق ، والمطر والبرد ، يكاد يذهب بالأبصار ، لشدة الالتماع وسرعة الإيقاع!.

أترى (مِنْ جِبالٍ فِيها) هي المستكنة في السماء المختلفة عن سحاب الودق المطر؟ والبرد يتحول في الأرض ماء! وليس نازل السماء إلّا صاعد الأرض دون زيادة أو نقيصة اللهم إلّا في طوفان نوح! (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ...) (١١ : ٤٤) فللأرض ماءها المخصوص بها ، ما يتبخر منها ويرجع وما يتبقى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٢٣ : ١٨) (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (٨٦ : ٩) حيث ترجع أماناتها الأبخرة دون إبقاء ودقا ومطرا وبردا! (٢).

وصيغة الإصابة والصرف في البرد دليل أنه نقمة دون رحمة ، ولكنما الثلج الرخو في الأكثر رحمة إذ لا إصابة فيه وقعا ولا واقعا إلا سترة على أشجار ومخازن فوق الأرضية للمياه ، فمهما يشمله البرد في أصله ليس ليشمله في إصابته وفصله أو أنه لا يشمل الثلج الرخو أصلا.

ويا للبرد : ـ بندقية العذاب ـ من أشكال هندسية عجيبة شتى تحير العقول ، يرتفع البخار في الجو فيصبح كالهباء ثم تتجمع أجزاءه لما فيه من

__________________

(١) الضمير الغائب في برقه لا يصلح رجوعا الا إلى محور الكلام (السحاب) واما الودق والبرد أما ذا فلا ، والسحاب اسم جنس جمعي واحده سحابة فقد يرجع إليه ـ كما هنا ـ ضمير الواحد باعتبار اللفظ ، او الجمع باعتبار المعنى كالسحاب الثقال.

(٢) لم يأت الودق والبرد في القرآن الا هنا ، والمطر في (٨) مواضع والذي يعني مطر الماء في موضعين «إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ» ٤ : ١٠٤ «قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» (٤٦ : ٢٧) ولم يكن ممطرا! وإنزال الماء من السماء نجده في آيات كثيرة وهو يشمل الثلاثة.

١٩٣

نداوة فينزل كالعهن المنفوش أحيانا ، او تتجمع باندغام أكثر في ضغط الرياح فينزل بردا أخرى إذ تروج أجزاءه بمصاكة الرياح ، أو ينزل ماء ثالثة حيث البرودة في الجو أقل من هذه وتلك ، والرطوبة أكثر ، أو عمود النزول أطول ، فهذه إضبارة مثلث نازل السماء حسب مختلف الظروف ، والأصل واحد هو البخار دون أن تكون هناك في السماء مياه غير هذه الأبخرة الأرضية ، تمطر ، أم جبال من برد تهطر!.

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(٤٤).

آية التقليب هذه يتيمة لا مثيل لها في القرآن ، ففي آيات الليل والنهار قد ياتي اختلافهما (٢ : ١٦٤) وأخرى خلّفتهما (٢٥ : ٦٢) وثالثة إيلاج كلّ في الآخر (٣ : ٢٧) (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) (٧ :) ٥٤) وخامسة (اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (٣٦ : ٣٧) (اللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) (٧٣ : ٢٠) ثم لا نجد تقليبا لهما إلّا هنا فما ذا يعني تقليبهما؟

قلب الشيء هو صرفه عن وجه إلى وجه زمانا أو مكانا ، صوريا أو ماهويّا أما ماذا من وجه ، فتقليبه هو كثرة قلبه عدّة وعدّة بمختلف الوجوه ، من تقليب في مكان حيث الليل يسلخ منه النهار كما النهار يسلخ منه الليل ، فكل ياتي مكان الآخر خلفة واختلافا ، وهذا من خلفيات تقليب الكرة الأرضية ، ومن تقليب زمني إذ (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) تقصيرا من أحدهما فتطويلا في صاحبه ، وهو من خلفيات الحركة البيضوية للأرض فتحصل منها الفصول الأربعة حيث يقتضى مختلف الودق والإمطار ، وفي الشتاء الثلج والبرد ، فكلّ من هذه الأربع فصل فالأخيران شتويان ، ومهما عم الأولان كل الفصول ، ولكنهما في الصيف قليل ، ثم يكثر ان خريفا ثم ربيعا وفي الشتاء غزير كثير ، وهذا مما يربط آية التقليب بآية الودق والبرد! فآية التقليب تعني ما تعنيه سائر الآيات وزيادة تعم كل

١٩٤

تغيير وتحوير في الليل والنهار بما يحملهما من أرضهما ، تقليب مقدّر قاصد دون هرج ومرج وفوضى (إِنَّ فِي ذلِكَ) التقليب الحكيم الهادف «لعبرة» يعبر بها إلى القدرة الحكيمة لمقلبهما (لِأُولِي الْأَبْصارِ) الذين يبصرون بهما فيبصّرانهم ، لا إليهما فيعميانهم كما الدنيا كلها : «من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته»!

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤٥).

هنا خلق كل دابة من ماء ولا تشمل كل حي ، وفي الأنبياء (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (٣٠) شاملة غير الدواب ، من سابح البحر وطائر الجو طيرا ، وطائر السماء ملائكة امّن ذا من كائن حيّ ، بحياة نباتية أو حيوانية أو إنسانية أو جنية أو ملكية ، وكل حي أيا كان وأيّان ، إلّا الميّت كالجمادات مهما كانت لها حياة التسبيح بحمد ربهم ، ثم وفي هود يعتبر الماء ـ وهو المادة الأم وهي تعم الماء وسواه من كائن ـ يعتبره مادة لخلق الكون أجمع : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ...) (٧) ـ (١) ولا تصريحة في القرآن بخصوص خلق دابة او حيّ من ماء إلّا الإنسان : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً

__________________

(١) انما عبر هنا عن المادة الاولية بالماء إذ لا خبر عن حقيقة هذا الماء فلا اسم موضوعا يعرفه ، فاستعير لفظة الماء إذ تحمل حقيقة تشابه المادة الاولية في مسانخة الاجزاء وهي معروفة لدى الكل ، فمن المعلوم ان ذلك الماء ليس ماء السماوات والأرض لان «كان» يضرب إلى ماض قبل خلق السماوات والأرض ، وكان عرشه يعني وكان بناءه في خلقه السماوات والأرض على الماء ، خلقهما منه.

١٩٥

وصهرا» (٢٥ : ٥٤) ولكنه ـ كما الماء المادة الأولى ـ ليس الماء المعروف ، بل (ماءٍ دافِقٍ) (٨٦ : ٦) و (ماءٍ مَهِينٍ) (٣٢ : ٨).

فماء الكون أجمع يشمل ماء كل حي وسواه ، وماء الحياة يشمل كل دابة وسواها من حي ، مياه ثلاثة أولاها المادة الامّ ، وثانيتها مادة الحياة ، وثالثتها مادة الدواب ، أترى أن الأخيرين واحد هو الماء ، فلما ذا خصت هنا كل دابة دون كل حي كما هناك؟ علّه لأن ماء الدواب هو المني مهما كان أصله الماء ، وأما الملائكة فلا مني في خلقهم إذ لا تناسل بينهم ، وأما الطير فهي وإن كانت من ماء المنى ، ولكنها ـ إلّا ما شذ ـ تخلق من بيض مهما حصلت من مني ، وأما الدواب فلا بيض في خلقها إلا توالدا من مني يمنى!

فأحياء الكون من دابة وسواها مخلوقة من ماء ككلّ ، ولكنما الدواب تخلق من ماء المني مهما كان أصله الماء ، دون غير الدواب إلّا نذرا.

وقد تلمح التنكر في «من ماء» أنه غير الماء الذي جعل منه كل حيّ أو يعمه ، كما التعريف في «من الماء» لمحة إلى أنه الماء المعروف ، أن جعل كل حي منه كما أن بقاءه به!

ثم «خلق» هنا و «جعلنا» هناك لمحة ثانية إلى الفرق بين المائين ، فالخلق هو التقدير ، والجعل البسيط كما هنا هو الإيجاد ، فقد قدر كل دابة ولادة من ماء ، كما جعل كل حيّ ـ تكوينا يعم الولادة ـ من الماء!

فالأحياء ذات أصل واحد هو الماء ، والدواب ذات أصل واحد من ماء ، والكل مع سائر الكون ذو أصل واحد سمي ماء هو المادة الأم ، فلا أصل للكون أيا كان إلّا مثلث الماء ، فلا مجرد عن المادة إلّا خالق الكون! والكون بروحه وجسمه ينتهي إلى الماء إذ (كانَ عَرْشُهُ) في خلق السماوات والأرض بما هما الكون المخلوق أجمع ، كان (عَلَى الْماءِ) : المادة

١٩٦

الأم ، فكل شيء سوى الله ، من جماد ونبات وحيوان وإنسان وجان وملائكة أمّن ذا وماذا ، إنها مخلوقة من «الماء» دونما استثناء ، فأين التجرد في روح وسواه والكل من مواليد الماء.

إذا فآيات الخلق والجعل من الماء هي من دلالات المادية الشاملة لما سوى الله من جسم وروح ، وكما آيات أخرى وروايات وأدلة عقلية تدلنا على مادية الروح أيا كان ، وبحثه الفصل تجده في آية الروح (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(١).

ولماذا «منهم» هنا ثلاث مرات راجعا إلى (كُلَّ دَابَّةٍ) و «هم» يعني ذوي العقول؟ إنه لتغليب ذوي العقول من إنس وجن أمّن ذا؟ تشملهم (كُلَّ دَابَّةٍ).

تذكر هنا من صنوف الدواب أقسام ثلاثة «على بطنه ـ على رجلين ـ على أربع» ثم يشار إلى سائرها الزائد على أربع ب (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) معللا بالقدرة المطلقة الإلهية (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ابتداء ب (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالزواحف ، لأنها أعجب مشيا إذ تمشي دون أرجل ثم (مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) وسطا في العجاب مع أنه أمتن المشي ثم (مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) وهو أمكنه وأركنه ، وكلما ازدادت الأرجل نقص العجاب من ناحية وازداد من أخرى ، كالتي تمشي على ألوف الأرجل!.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٤٦).

هذه الآيات المبينات هي المنزلة هنا وفي ساير القرآن ، فإن آياته كلها مبينات تبين الحق كما يحق ، فمن شاء اهتدى بها (وَاللهُ يَهْدِي) إيصالا إلى الحق بعد اهتداء الدلالة «من يشاء» وهو من يشاء الهدى بآياته البينات (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

__________________

(١) وكما في آية الزوجين والأزواج وأمثالهما وآية الإنشاء في سورة الحج.

١٩٧

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ

١٩٨

إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٥٧)

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)(٤٧).

ليس الإيمان لعبة يتلهى بها في مقال ، إنما هو تكيّف في النفس انطباعا في القلب ، حالا واقعية تظهر في مقال وفي أعمال ، فأما القول ـ آمنا ـ فقط فهو لفظ الإيمان دون واقعه ، وأما عقد القلب دون ظهور في عمل فهو حال الإيمان ولما يستكن في القلب ، وإلّا فأين عمل الإيمان؟ فإن له صورة الظاهر كما له سيرة الباطن.

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ) وحده لا شريك له «وبالرسول» الذي أرسله (١) «وأطعنا» الله في محكم كتابه «وأطعنا» الرسول فيما أرسل به من سنته

__________________

(١) وانما فصل الرسول بالباء للفصل بين الايمانين أصالة ورسالة ، ولكي لا يظن انهما في درجة واحدة ام هما واحد ، رغم الوحدة في الاتجاه.

١٩٩

الجامعة غير المفرقة ، فهم يدعون مثلث الإيمان المستخلص في ثالث أضلاعه : «وأطعنا» ولكن «ثم يتولى» بعد تلك المقالة (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الدعوى (وَما أُولئِكَ) المتولون «بالمؤمنين» حيث التولي عن طاعة الله والرسول يكذب دعوى الإيمان ، فإنما الإيمان هو الطاعة على درجاتها فدرجاته ، ثم لا يكون إلّا دعوى الإيمان! بنفاق ، أم ارتياب بعد إيمان ، أم ضعف في إيمان! ومهما كان ضعيف الإيمان مؤمنا ولكن (ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) على حد قولهم (... وَأَطَعْنا) حيث عصوا ، فلم يقل «بمؤمنين» إذ فيهم قليلو الإيمان! وإنما «بالمؤمنين» الخصوص في «أطعنا» ومن توليهم عن طاعة الله ورسوله:

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)(٤٩).

الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الحاكم بينهم بما أراه الله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٤ : ١٠٥) وقد أراه الله حكمه بوحي القرآن والسنة ، ف ـ «ليحكم» المفرد مع سابق ذكر الله ورسوله ، يعني حكم الرسول ، بالدعوة إلى الله دعوة إلى كتابه ، والدعوة إلى الرسول دعوة إلى سنته ، والحاكم بالكتاب والسنة بينهم هو الرسول إذ الله لا يوحي إليهم ، ف ـ (إِذا دُعُوا ... إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) عن حكم الله والرسول الذي يحكم به الرسول ، هم معرضون عن حكم الرسول إذ يرون الحق عليهم في ميزان الحق ، ثم هم أولاء (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ) في قضيتهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ) الرسول «مذعنين» بطاعة الله وصدق والرسول ، مذعنين بحكمه ، وفي الحق لا يأتون إلى الرسول إذ لا يأتون إلّا إذا وافق حكمه هو أهم! فهم إذا يأتون هواهم ، دون هداهم.

وقد أنزل الله هذه الآيات تنديدا بهؤلاء المتولين العصاة فقال الرسول

٢٠٠