الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

المنتصر حيث «يظهر الله دين نبيه على يديه على الدين كله ولو كره المشركون» (١) وهل يوجد في ذلك اليوم غير من أسلم؟ آيتا الإلقاء والإغراء (٢) تثبتان تداوم العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى إلى يوم القيامة ، إذا فهم موجودون يوم القائم دون سلطة ، فإنهم ـ إذا ـ تحت

__________________

ـ المنتشر في عهد القائم قال الفضل فقلت يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فان هذه النواصب تزعم ان هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (عليه السلام) فقال : لا يهدي الله قلوب الناصبة متى كان الدين الذي ارتضاه الله ورسوله متمكنا بانتشار الأمر في الامة وذهاب الخوف من قلوبها وارتفاع الشك من صدورها في عهد واحد من هؤلاء وفي عهد علي (عليه السلام) مع ارتداد المسلمين والفتن التي كانت تثور في ايامهم والحروب التي كانت تنسب إليهم بين الكفار وبينهم.

(١) المصدر ح ٢٢١ في كتاب الاحتجاج عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه ... ويقترب الوعد الحق الذي بينه الله في كتابه بقوله (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) وذلك إذا لم يبق من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه وغاب صاحب الأمر بإيضاح العذر له في ذلك لاشتمال الفتنة على القلوب حتى يكون اقرب الناس اليه أشد عداوة له وعند ذلك يؤيده الله بجنود لم تروها ويظهر دين نبيه ...» وفي ملحقات الاحقاق ١٤ : ٤٧٣ عن ابن حيان الاصفهاني في أخلاق النبي ٢٠٧ قال ابو بكر بن مؤمن الشيرازي في رسالة الاعتقاد عن عبد الله بن مسعود قال اختص الولاية في القرآن بثلاث ـ الى قوله ـ وبعلي حيث قال : وعد الله الذين آمنوا ... يعني آدم وداود وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم يعني الإسلام وليبدلنهم من بعد خوفهم امنا يعني اهل مكة امنا في المدينة يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك يعني بولاية علي بن أبي طالب وخلافته فأولئك هم الفاسقون ، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٤١٢ باسناده عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن القاسم بن عوف قال سمعت عبد الله بن محمد يقول : هي لنا اهل البيت.

(٢) هما قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ (٥ : ٦٤) فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٥ : ١٤).

٢٢١

السلطة الإسلامية ، لا دور لهم إلا حالة الذمة والتقية ، وهالة الذلة العارمة.

ولا تدلنا آية الوعد إلّا إلى سلطة عالمية إيمانية ، دون زوال الكفر عن آخره ، وانما زوال سلطته ، فما دام الإختيار باقيا ودوافع الشهوات آفاقية وأنفسية باقية ، ثم لا حمل وتسير على الهدى ، لا يعقل اجتماع الناس جميعا على الهدى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ...) (٦ : ٣٥) استحالة الجمع ، إذ ليس الله ليحملهم على الهدى ، ثم هم لا يهتدون جميعا ما دامت عوامل الضلالة باقية ، مهما شملت عوامل الهداية الباهرة مشارق الأرض ومغاربها.

«اللهم وضاعف صلواتك ورحمتك وبركاتك على عترة نبيك العترة الضائعة الخائفة المستذلة ، بقية الشجرة الطيبة الزاكية المباركة ، وأعل كلمتهم وأفلح حجتهم ، واكشف البلاء واللّأواء وحنادس الأباطيل والغم عنهم وثبت قلوب شيعتهم وحزبك على طاعتهم ونصرتهم وموالاتهم ، وأعنهم وامنحهم الصبر على الأذى فيك ، واجعل لهم أياما مشهودة وأوقاتا محمودة مسعودة توشك منها فرجهم ، توجب فيها تمكينهم ونصرتهم ، كما ضمنت لأوليائك في كتابك المنزل فإنك قلت وقولك الحق : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)(١) وهنالك بشارات في كتابات النبيين بشأن الوعود الأربعة تحقيقا في القائم المهدي (عليه السلام) مذكورة بميّزاته الخاصة ودولته المباركة ، سردناها فى «رسول الإسلام في

__________________

(١) في مصباح شيخ الطائفة من زيارة الحسين المروية عن أبي عبد الله (عليه السلام)

٢٢٢

الكتب السماوية» (١) وإليكم منها نماذج عدة :

في كتاب صفيناه ٣ : ٩ عن الأصل العبراني «كي آز إهبوح إل عميم سافاه برورا ليقروا كولام بشم يهواه لعابدوا شخم احاد»

(٩) «لأني أجعل للشعوب شفة نقية ليدعو جميعهم باسم الرب وليعبدوه بكتف واحد».

ولم يأت حتى الآن هكذا دور تجمع فيه الأمم على عبادة الله ، إلّا في ذلك المستقبل المشرق حيث (أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها)!

ومثله ما في أشعياء ٤٥ : ٢٢ ـ ٢٣ عن الأصل العبراني : «بنو إلى وهيوا شعوكل أفص أرض كي أني إل وإن عودبي نيشعنى يا صايبي صداقاه دابار ولايا شوب كي لي يتجرع كل برخ يتشابع كل لاشون».

«توجهوا الي فأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض فإني أنا الله وليس آخر. بذاتي أقسمت ومن فمي خرج الصدق كلمة لا ترجع : انها ستجثو كل ركبة لي وبي سيقسم كل لسان».

وفي أشعياء ١١ : ١ ـ ١٠ «ويخرج قضيب من جذر يسي وينمو فرع من أصوله ويستقر عليه روح الرب روح الحكمة والفهم وروح المشورة والقوة وروح العلم وتقوى الرب (٣) ويتنعم بمخافة الرب ولا يقضي بحسب رؤية عينيه ولا يحكم بحسب سماع أذنيه (٢) بل يقضي للمساكين بعدل ويحكم لبائسي الأرض بإنصاف ويضرب الأرض بقضيب فيه ويهلك المنافقين بنفس شفتيه (٤) ويكون العدل منطفة حقويه والحق حزام كشحيه (٥) فيسكن الذئب مع الحمل ويربض النمر مع الجدي ويكون العجل

__________________

(١) ص ٢٠٥ ـ ٢٥٨ ، تحوي هذه الصفحات بشارات بمختلف اللغات عن مختلف كتابات السماء فراجع.

٢٢٣

والشبل والمعلوف معا وصبي صغير يسوقها (٦) ترعى البقرة والدب معا ويربض أولادهما معا والأسد يأكل التبن كالثور (٧) ويلعب المرضع على جحر الأفعى ويضع الفطيم يده في نفق الأرقم (٨) لا يسيئون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغمر المياه البحر (٩) وفي ذلك اليوم أصل يسي القائم راية للشعوب إياه تترجى الأمم ويكون مثواه جيدا» (١٠).

وهذه الآيات تحمل اختصاصات للقائم المهدي باسمه ولدولته دون حاجة إلى ايضاحات!

وفي دانيال ١٢ : ١ ـ ١٣ «وفي ذلك الزمان يقوم ميكائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك ويكون وقت ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الزمان وفي ذلك الزمان ينجو شعبك كل من يوجد مكتوبا في الكتاب (١) وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون بعضهم للحياة الأبدية وبعضهم للعار والرذل الأبدي (٢) ويضيء العقلاء كضياء الجلد والذين جعلوا كثيرين أبرارا كالكواكب إلى الدهر والأبد (٣) وأنت يا دانيال أغلق على الأقوال واختم على الكتاب إلى وقت الانقضاء إن كثيرين يتصفحون ويزداد العلم (٤) ... طوبى لمن ينتظر ويبلغ إلى ألف وثلاثمائة وخمسة وثلاثين يوما (١٣) وأنت اذهب إلى الانقضاء وستستريح وتقوم في قرعتك إلى الأبد»

هنا «القائم» يقوم في أضيق الأوقات التي مرت على البشرية منذ تكونها «وينجو من يوجد مكتوبا في الكتاب» من الصالحين. ويرجع عن

__________________

(١) راجع «رسول الإسلام» ٢٣٩ ـ ٢٤٣ تجد تفصيل هذه البشارة بآياتها وتفسيراتها.

٢٢٤

الموت بعضهم للحياة وبعضهم للعار ، وكما في أحاديثنا «من محض الإيمان محضا ومن محض الكفر محضا»

وفي «رؤيا يوحنا اللّاهوتي كما في الأصل السرياني ٢ : ٤٦ ـ ٢٨ «دهاب دكالب وهاب وناطر هل خرتا لبلخني دى بت يبن قثوه هكم هل طايبي (٢٦) وبت مارعي لون بخطرا وأخ من دكوز چي (٢٧) بت طوخطني أخ دأوب أنا قوبلي من ببي وبت يبن قثي لكوكب دمورس» :

«ومن غلب وحفظ أعمالي إلى المنتهى فاني أوتيه سلطانا على الأمم. فيرعاهم بعصا من حديد وكآنية من خزف يتحطمون. كما أوتيته من خالقي وأعطيه كوكب الصبح. من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس». ف «يرعاهم بعصا من حديد» هو قيام صاحب الأمر بالسيف ، اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه واجعلنا من أصحابه وأنصاره.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٧٥).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ

٢٢٥

طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ

٢٢٦

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ

٢٢٧

فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٦٤)

مثلث من الأحكام والآداب الجماعية ، داخل البيت وبيوت الأهلين وبيت الرسالة القدسية ، آداب دائبة تأخذ بها الكتلة المؤمنة وتنتظم بها علاقاتها ، في الحياة البيتية الصغيرة ، ومجالاتها الجماعية الكبيرة في حدّ شاسع مع قائد الأمة ورائدها على حدّ سواء في أصولها مهما اختلفت الدرجات ، فللبيت شانه ولسائر البيوت شئونها ولبيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شانه كقيادة عليا :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٥٨).

هنا في آية سالفة نهي الذين آمنوا عن دخول بيوت غير بيوتهم إلّا باستيناس وسلام ، وهنا يؤمرون باستئذان غيرهم من (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) حيث الأمر أيا كان لا يوجّه ـ فيما يوجه ـ رأسا إلى الذين لم يبلغوا الحلم ، فليؤمر البالغون أن يأمروهم ، ولكن الذين ملكت أيمانهم ـ وهم أعم من البالغين وسواهم ـ يقتسم أمرهم بين أمرهم إن كانوا بالغين ، والأمر بأمرهم إن لم يكونوا بالغين ، فكيف أمروا بأمرهم على سواء؟

علّهم لأن البالغين منهم كغير البالغين من غيرهم ، هم بحاجة

٢٢٨

إلى أمر الأولياء حتى يأتمروا بأمر الله ، فكما غير البالغ منا لا يبلغه أمر الله فيؤثر ، إلا بوسيط الولاية ، كذلك الذين ملكت أيمانهم ، إضافة إلى أن من بالغيهم كافرين لا يحملون أمر القرآن دون وسيط.

ومن ثم لأن الحفاظ على العورات واجب الطرفين ، فعلى صاحب العورة الرقابة عليها تسترا ، كما على الواردين رقابة عليها استئذانا ، فليؤمر الأولياء بالأمر على أية حال ، وكما أمروا للذين بلغوا الحكم «وإذا بلغ الأطفال منكم الحكم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ...»!

تنزل الآية بمناسبات عدة حصلت لرجل من المهاجرين وآخر من الأنصار امّن ذا حفاظا على العورات ، إذ كان الذين ملكت ايمانهم والذين لم يبلغوا الحلم يدخلون في الأوقات كلها بلا استئذان ، لمكان حلّ النظر لآية (لا يُبْدِينَ ... أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ ... أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) وكانت المفاجئة في رؤية العورة لأوقات تكشّفها الخاصة مما تزعج المؤمنين ، فأمروا أن يأمروهم بالاستئذان في أوقات ثلاث هي في الأكثر عورات ثلاث ، كيلا تقع أنظارهم على عوراتهم ، وهذا أدب يغفله أو يتغافله الكثيرون في حياتهم المنزلية ، مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية ، وي كأن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة! وإن مدّت فلا هوادة! أو أن الصغار لا ينتبهون لهذه المناظر ، وعلم النفس اليوم أثبت ، وشرعة الإسلام قبل اليوم أثبتت : أن بعض المشاهد المثيرة المغيرة في الطفولة تؤثر في الحياة كلها ، وقد يصابون عنها بأمراض نفسية يصعب علاجها ، أو اندفاعات جنسية قد تعمل فيهم في حالة الطفولة انحرافات جنسية تظل دائبة إلى ردح من عمر البلوغ قلّ أو كثر!

ولكي يبقى البيت طاهرا ، ويبقى الأطفال والمماليك بسلامة الأعصاب والمشاعر والصدور والقلوب ، ونظافة التصورات والتصرفات ، لذلك تنزل

٢٢٩

الآية آمرة الأولياء أن يأمروا بالاستئذان حفاظا على كرامتهم أنفسهم وإياهم ، أمرا ذا بعدين يتضمن مصلحة ذات بعدين (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ).

أترى من هم (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)؟ أهم العبيد ـ فقط : لمكان «الذين» مذكرا؟ (الَّذِينَ آمَنُوا) ايضا مذكر ولا يختص بالرجال ، بل الدخول دون إذن على النساء أحرج ، فهو إلى الإذن أحوج! والتغليب في «الذين» سيرة دأبته قرآنية إلّا لقرينة ، وهنا القرينة تؤيد فتؤكد العموم ، ف (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) تلمح بموضوعية ملك اليمين ذكرا أم أنثى! وأن دخول الإماء دون إذن علّه أقبح من دخول الرجال أم هما سواء!

وتصدّق من الروايتين المتعارضين الموافقة لعموم القرآن (١) والثالثة القائلة أنهم خصوص الإماء مطروحة لمخالفة القرآن ، ثم (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وان كانت تشمل كل الذين لم يبلغوا الحلم منهم حتى الصغار الذين لا يميزون ، ولكنها مخصصة بالمميزين من صغارهم كما في غير المملوكين!

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٢٢ ح ٢٣٢ ـ الكافي عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قيل : من هم؟ فقال : المملوكون من الرجال والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا ... وفيه عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هي خاصة في الرجال دون النساء ، قلت : فالنساء يستأذن في هذه الثلاث ساعات؟ قال : لا ولكن يدخلن ويخرجن ... وفي الدر المنثور ٥ : ٥٦ عن ابن عمر في الآية قال هو على الذكور دون الأناث ، وفيه عن ابن عمر هو للإناث دون الذكور يدخلون بغير اذن ، ومثله ما عن أبي سلمة عن بعض ازواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نزلت في النساء ان يستأذنّ علينا ، وفيه أخرج الحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب في الآية قال : النساء فان الرجال يستأذنون ، اي على اية حال ، أقول : المرجع هو عموم الآية والثلاثة الاخيرة التي تخصص الاذن بالنساء خلاف نص الآية ، والمخصصة بالرجال خلاف عمومها!

٢٣٠

فهل (الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) تشمل الصغار غير المميزين كما تشمل المميزين ، شمولا لأبناء سنة وبناتها ومقاربي الحلم ومقارباته على حدّ سواء؟ والطفل إلى أربع أو خمس وقبل أن يميز لا حرمة لنظرته! ولا يقال له «لم يبلغ الحلم» كما لا يقال لابن عشرين لم يبلغ الأربعين ، فإنما هو المقارب لبلوغ الحلم من عشر فما فوقها ، أو المميز أيا كان ، فإنه مقارب الحلم ولما يبلغه ، فالتميز مرقاه الحلم ومرآته ، إن في الذكر أو في الأنثى مهما اختلفت سنيّ المقاربة للحلم.

وإنما واجب الاستئذان (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) وهي (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) فذلك الوجوب يتبع موارد العورات ، ولقد كانت ثلاث مذكورات ، فإن تبدلت إلى غيرها أم زادت أو نقصت عدتها تبدلت موارد الوجوب أم زادت أو نقصت ، حيث الحكم معلّل يتبع علته حيثما حلّت.

فإذا لم تكن لكم عورات كما الأعزب والعزباء ، ثم لا عرية لكم تتكشف فيها عورات فلا استئذان ، والحكم بعلته وارد مورد الأغلب فيتبع موارد العورة أو مظنّتها.

ف «إن رجلا قال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استأذن على أمي؟ قال : نعم ـ قال : إني معها في البيت! قال : استأذن عليها ، قال : إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال : أفتحب أن تراها عريانة؟ قال : لا قال : فاستأذن عليها»(١).

١ ـ (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) فإنه من أوقات النومة والاستراحة ، وفيه لمحتان ، إحداهما أنه ينبغي أن تصلي الغداة عند الفجر ، فلم تسمّ

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٥٧ ابن جرير والبيهقي في السنن عن عطاء بن يسار ان رجلا قال يا رسول الله ...

٢٣١

الغداة الشاملة بين الفجر وطلوع الشمس ، وإنما الفجر ، والثانية ألّا نومة بعد صلاة الفجر وإلّا لم تتخصص العورة بما قبلها وتؤيده الروايات.

٢ ـ (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) والظهيرة هي التي يؤتى بها ظهرا وبعدها تعّود النومة ، وفيه لمحة إلى رجاحة النوم من الظهيرة ، وأنها يؤتى بها عند الظهر إلّا عند العذر ، وأن صلاة العصر ليست بعدها دون فصل وإلا كان النص «من العصيرة» دون «الظهيرة» فهي تبين أن الاكثرية الساحقة حين نزولها كانوا يصلون الظهيرة عند الظهر ثم يضعون ثيابهم لنومة ـ وطبعا ـ بعد الغداء ، ثم يصلون العصر ، ولو لا أن هذه فريضة أو سنة مرضية متّبعة لما صدقتها الآية ، إذ تبنّتها ثانية العورات الواجب فيها الاستئذان ، والظهيرة في جماعة على تحسّب لزمن الرجوع إلى بيوتهم قد تتطلب ساعة ثم الغذاء والنومة لا أقل من ساعتين فما زاد ، فلا تصلى العصر ـ إذا ـ إلّا بعد ثلاث ساعات بعد الظهر وما زاد.

ثم الاسمان يدلان على اختصاص كلّ بوقته ظهرا وعصرا ، ـ فهل إن دقائق أم ساعة بعد الظهر عصر حتى تصلى العصر ، أم إن ساعات بعد الظهر ظهر حتى تصلي الظهر؟ فمهما دلت الأدلة على رخصة في تقديم أو تأخير ، ليست هذه إلّا عند العذر من رمضاء أو مطر أو مرض أو سفر أو تعب ، وأما في سواها حيث لا عسر ولا حرج فلما ذا تقديم العصر أو تأخير الظهر؟ فعلى أقل تقدير ليس في تأخير الظهر أو تقديم العصر إلّا ذنب مغفور! وقد جمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الصلاتين أحيانا (١) للتدليل على أصل الجواز.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٢٠٢ ح ٥٥٦ فقيه عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بين الظهر ، والعصر بأذان وإقامتين وجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من غير علة بأذان وإقامتين ، ومثله في ـ

٢٣٢

٣ ـ (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) بعد ما صليتم المغرب وتعشّيتم وتحضّرتم للنومة ، وهذه لمحة لفصل بين المغرب والعشاء ، فلو كانت السنة الجمع بينهما ، أو هو مسموح في غير عسر أو حرج ، لم تكن عورة النومة بعد العشاء ، ثم العشاء لا تصدق بعد المغرب دون فصل ، ولأن (مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لا عورة إلا للنومة ، ولا ينام الأكثرية الساحقة إلّا بعد ساعات مضت من الليل يقضون فيها حاجاتهم الليلية قبل النوم ، إذا فالسنة المتّبعة هي تأخير العشاء إلى ما قبل النوم مهما لم يجب إلّا أصل الفصل قدر ما تصدق العشاء وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل ، إذا فالفصل بين كل صلاتين من الظهرين والعشائين ضابطة ثابتة حسب القرآن والسنة إلّا عند الضرورة أم أية عاذرة أم دون عذر على كراهية ، اللهم إلا في جماعة فإنما فضلها أكثر من الفصل كما في روايات عدة.

ومن حكم الفصل أن الصلوات الخمس هي أركان الذكر ، فلتوزّع على أركان الأوقات المفصولة بعضها عن بعض ، حتى يطم ذكر الله في

__________________

ـ التهذيب الفضيل وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن زرارة عن أبي عبد الله مثله باضافة قوله (عليه السلام) وإنما فعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليتسع الوقت على أمته ، وعن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى الظهر والعصر مكانه من غير علة ولا سبب فقال له عمر وكان أجرء القوم عليه : أحدث في الصلوة شيء؟ قال : لا ولكن أردت أن أوسّع على أمتي ، وعن ابن عباس قال جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الظهر والعصر من غير خوف ولا سفر فقال أراد ألا يحرّج على أحد من أمته ، وفي آخر أراد التوسع لامته ، أقول : وقد تواتر الجمع هكذا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) معللا ودون تعليل ، وكلها تدل على سنة الفصل المتعوّدة زمنه ، وإنما جمع أحيانا تدليلا على أصل الجواز بعلة ودون علة.

٢٣٣

الأوقات كلها ، ويتم أمر الذكر في أمره : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

وكما الحفاظ على الصلوات فرض : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) كذلك الحفاظ على أسمائها : صلاة الفجر والظهر والعشاء ، والعصر والمغرب ، وأما صلاة الغداة بدل الفجر أو العتمة بدل العشاء فلا ، وكما يروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم قال الله ومن بعد صلاة العشاء وإنما العتمة عتمة الإبل (١) ولإن «الاستئذان من أجل النظر» (٢) فلا استئذان لمكفوف البصر ، كما لا يجوز النظر قبل الدخول ، (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) هذه ، ولأجل ذلك فرض الاستئذان على الداخلين ممن ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم ، فضلا عن الذين بلغوا الحلم.

(ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) ففيهن دونما استئذان جناح عليكم وجناح عليهم ، أترى كيف الجناح على الذين لم يبلغوا الحلم وهم غير بالغين؟ علّه يعني الجناح العائلي تخلفا عن أمركم بأمر الله ، وأما جناح البالغين فهو تخلف عن أمر الله!

__________________

(١). الدر المنثور ٥ : ٥٧ ـ اخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن عوف ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ...

وفيه اخرج ابن أبي شيبة وابن مردوية عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنما هي في كتاب الله العشاء وانما يعتم بجلاب الإبل.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٦٢٢ ح ٢٣٣ في امالي شيخ الطائفة باسناده الى الزهري انه سمع سهل بن سعد الساعدي يقول : اطلع رجل في حجرة من حجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه مدري يحك بها رأسه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لو اني اعلم ان تنظر لطعنت به في عينك انما جعل الاستئذان من اجل النظر.

٢٣٤

ولماذا ليس جناح بعدهن وقد تتكشف عورات في غيرهن؟ لأنكم (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) قضية الضرورة والحاجة البيتية ، فالاستئذان على كل حال حرج للطوافين على بعض ، ثم لا حرج للداخلين البيوت أن يستأذنوا على أية حال ، ولذلك أمروا باستيناس وسلام على أية حال : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ...)!

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فلأنه عليم بنياتكم وطوياتكم وحالاتكم ، حكيم فيما يأمركم وينهاكم ، كذلك الواضح الناصح يبين لكم الآيات!

أترى آية الاستئذان يعمل بها؟ قليل ما هم العاملون بها! وقد «ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بها ، آية الاستئذان هذه وآية النساء : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى ...) وآية الحجرات : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(١).

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٦٠).

لقد سبق النهي عن إبداء الزينة للنساء أمام غير المحارم إلّا ما ظهر منها (... وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) منعا لإثارة الشهوات ، وهنا تستثنى من هذا الحكم القواعد من النساء دون تبرج بزينة ، فمن هنّ قواعدهن اللاتي لا يرجون نكاحا؟

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٥٦ ـ اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ترك الناس ...

٢٣٥

كلّ من الرجل والمرأة له قيام في رجولة أو أنوثة وله قعود ، ومن اختصاصات الأنثى الحيض والولادة وجاذبية الجنس ومقدماته الملذّة ، فالقواعد من النساء هي اللاتي يقعدن عما يرغب من النساء في جاذبية الجنس ، قد يئسن من المحيض ورغبات الرجال ، فارغات النفوس عن عشرة الرجال ، وفارغات الأجسام من إثارة الرجال ، قعدة ذات بعدين ، أم قعدة عن بعد الإثارة فلا يرغب فيهن الرجال مهما بقيت رغبتهن في الرجال ، ولكنهن لا يرجون نكاحا إذ لا يرغب فيهن الرجال ، حيث النكاح من فاعلية الرجال والنساء تبع لها!

فقد تكون قاعدة عن ميّزات الأنوثة ولكنها تحب عشرة الرجال وفعلهم فيها ، ولكن الرجال لا يرغبون فيها ، فهي ممن لا يرجون نكاحا ، كالتي لا تحب عشرتهم كما لا يحبونها ، فهما على سواء من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا.

وأما التي لا تحب عشرة الرجال ولكن الرجال يحبونها ، فليست هي من القواعد ما دامت فيها جاذبية الأنوثة إذ هي في حالة رجاء النكاح وإن لم ترغب في الرجال ، فمهما قعدت هي ليست لتقعد قومة الرجال ، والمهم هنا زوال إثارة الجنس ، بخلاف التي تحبهم ولا يحبونها إذ لا إثارة فلا ترجوا نكاحا.

فالركن الركين في هذا الحكم (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لزوال جاذبية الأنوثة ، مهما رغبن في الرجال أم لا يرغبن ، أو رغب فيهن الرجال لمال او منال أمّاذا دون جاذبية جنسية ، أم لم يرغبوا حيث لا مال ولا منال ، وإنما رجاء النكاح فقط من قبلهن عن جاذبية الجنس هو الموضوع للحكم ليس إلّا!

فالراغبة في النكاح ولا راغب إليها ، أو التي يرغب في نكاحها لسبب

٢٣٦

غير الجاذبية ، هما والتي لا ترغب ولا يرغب فيها على حد سواء في أنهن (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) وعلّه سواء في ذلك الشائبة الهرمة الدميمة العرمة أمن هي؟ ما دامت هي من اللاتي لا يرجون نكاحا»!

أترى «لا يرجون» تختص بغير ذوات الأزواج؟ و «نكاحا» هنا الفائدة الجنسية؟ وهي منفية فيهن وإن كن ذوات الأزواج! فهن إذا من لا جاذبية جنسية فيهن من أزواجهن ، أو غيرهم! (١).

(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ ...) تفريع على «لا يرجون» فهي هي العلة للحكم يدور معهما حيثما دارت ، أترى «ثيابهن» هي كل ثيابهن حتى الساترة لعوراتهن؟ والثياب هي الملابس الفوقانية التي تلبس على الدثار ، وهي على الشعار المباشرة للأبدان! ومن الفوقانية الخمر والجلابيب ، وقد أمرت النساء بضرب خمرهن على جيوبهن ، وإدناء جلابيبهن عليهن سترا للصدور والثغور والشعور ، والمسموح لوضعه من ثيابهن ليس أكثر من خمرهن وجلابيبهن شرط أن تكون تحتها ساتر نسائي لا فقط ساتر العورة!. (٢)

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٢٢ ح ٢٣٤ في عيون الاخبار في باب ذكر ما كتب به الرضا (عليه السلام) الى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل «وحرم النظر الى شعور النساء المحجوبات بالأزواج الى غيرهن من النساء لما فيه من تهيج الرجال وما يدعو التهيج اليه من الفساد والدخول فيما لا يحل وكذلك ما أشبه الشعور الا الذي قال الله عز وجل «والقواعد ... ثيابهن» غير الجلباب فلا بأس بالنظر الى شعور مثلهن ، أقول علّه يعنى الجلباب الذي ليس تحته ساتر فان ثيابهن تشمل الثياب الفوقانية وشهد له الحديث الآتي.

(٢) حيث الملابس النسائية ثلاث ، شعار ودثار متعدد للنساء فوق الشعار ، وملابس للحجاب من خمر وجلابيب وچوادر.

٢٣٧

(غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) وليس الوضع هو الإبقاء على الخمر والجلابيب دون ضرب أو إدناء ، ومختلف الأحاديث هنا ترجع إلى الآية فتقبل المطلقة الموافقة لها وتحمل غيرها عليها (١).

فهؤلاء القواعد لا حرج عليهن أن يضعن ثيابهن الخارجية الخاصة بالحجاب المفروض دون تبرّج بزينة وتظاهر بها كالبرج ، فالبراج هو الظهور المعتاد لزينة ، وهو محرم على غير القواعد إلّا ما ظهر منها وحل لّهن ، والتبرج وهو التكلّف لإبراز زينة من محاسن البدن أو ما يتزين به من زينة ، هذا التكلف على القواعد حرام كما على غيرهن. (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) ألّا يضعن ثيابهن ، وأما التبرج فمحرم عليهن على أية حال (وَاللهُ سَمِيعٌ) مقالاتهن ومقالات الرجال والنساء فيهن «عليم» بمصالحهن.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ

__________________

(١). منها السابق المقيد بغير الجلباب ، ومنها المقيد بالجلباب كما رواه القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : تضع الجلباب وحده ، ومثله ما رواه محمد بن مسلم عنه (عليه السلام) في الآية ما الذي يصلح لهن ان يضعن من ثيابهن؟ قال الجلباب أقول : قد يعني ما إذا كان تحت الجلباب ثوب ساتر فلا يجوز وضع الساتر او اي ثوب تحت الجلباب واما الخمار فلا ريب في جواز وضعه بل هو الاولى ويدل على ذلك ما رواه القمي عنه (عليه السلام) انه قرأ (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ) قال الجلباب والخمار إذا كانت المراة مسنة ، وفي اخرى رواه عنه (عليه السلام) قال : الخمار والجلباب قلت بين يدي من كان؟ قال : بين يدي من كان غير متبرجة بزينة فان لم تفعل فهو خير لها والزينة التي يبدين لهن شيء من الآية الأخرى.

٢٣٨

عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا (٢) دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٦١).

الآيات (٥٨ : ٦١) استثناءات عما مضت من واجب الاستيناس لدخول بيوت غير بيوتكم ، وواجب التحجّب للنساء عن غير المحارم وسائر التصرفات المحرمة في بيوت غير بيوتكم.

آية البيوت هذه تنزل بمناسبات عدة تنفي الحرج ـ مطلقا ـ عن الأعمى والمريض والأعرج ، ثم تنفي الحرج في الأكل من بيوت عن غير الثلاثة ، وبأحرى عنهم أيضا ، والحرج ينفى عن هؤلاء في الجهاد في آية الفتح : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً)(١٧) كما ينفى عن (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (٩ : ٩١) ثم ينفى الحرج في الدين على أية حال : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢٢ :) ٧٨)! (١)

والحرج هو حالة ضيق فوق الطاقة ، نفسيا أم سواها ، تستأصل الطاقات كلها لحد يضيق كل مدخل ومخرج : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (٦ : ١٢٥)(٢).

والعسر هو دون الحرج ، وهما منفيان في التكاليف غير الموضوعة على عسر أو حرج ، بل لا عسر أو حرج فيما يتعسر منها أو يتحرج ، فإنها أهم

__________________

(١) وكما نفي في باب الطهارة «ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» (٥ : ٦).

(٢) راجع تفسير آية الفتح ج ٢٦ : ١٨٤ ـ ١٨٧ تجد فيه بحثا فقهيا عن الحرج.

٢٣٩

من مصلحة اليسر في الحياة أو البقاء فيها كقتال من يستطيعه في سبيل الله ، فإنه يقدم على استئصال نفسه ، إبقاء على دين الله ، وليس يرفع العسر عن التكاليف الموضوعة على العسر كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والدفاع والخمس والزكاة إمّا ذا من عسر حالي او مالي أو مقالي ، وإنما العسر المرفوع يخص ما فيه يسر وفيه عسر كالصوم على صحة أو مرض فعسره مرفوع!

وكما لا حرج على الأعمى والمريض والأعرج في الجهاد إذ لا يأتون فيه بشيء أثمن من حياتهم ، كذلك لا حرج عليهم في مواكلة من سواهم ، رغم ما كانوا يتحرجون عنها او يتحرج عنهم ، أو عن مصاحبتهم إلى بيوت أقاربهم ، كما كان من سواهم متحرجين عن الأكل من هذه البيوت إلّا بدعوة او صراح الإذن ولا سيما بعد ما نزلت آية (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ...) فأصبحوا في حساسية مرهفة حذرا أن يقعوا في فخ النهي فيلموا بالمحظور مهما كان بعيدا ، فنزلت آية البيوت نافية لأحراج من ذويها المحتاطين (١).

ومن قضية الرباط بين (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) وبين (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا ...) نتلمح بينا أن «أن تأكلوا» تشملهم مع «أنفسكم» فلا حرج في استصحابهم معكم في هذه البيوت لأنهم فقراء ، ولا في تركه دون

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٢٤ في تفسير القمي في رواية عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية وذلك ان اهل المدينة قبل ان يسلموا كانوا يعزلون الأعمى والأعرج والمريض ان يأكلوا معهم ، كانوا لا يأكلون معهم وكان الأنصار فيهم تيه (تكبر) وتكرّم فقالوا : ان الأعمى لا يبصر الطعام والأعرج لا يستطيع الزحام على الطعام والمريض لا يأكل كما يأكل الصحيح فعزلوا طعامهم على ناحية وكانوا يرون عليهم في مؤاكلتهم جناح وكان الأعمى والأعرج والمريض يقولون لعلنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم فاعتزلوا عن مواكلتهم فلما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سألوه عن ذلك فانزل الله الآية.

٢٤٠