الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

فمن المضحك المبكي اعتذار بعض المتفقهين عن الآية ـ بعد الإذعان بدلالتها ـ على انها خلاف الشهرة العظيمة او الاطباق ، وخلاف الرواية المشترطة الراحلة في استطاعة الحج ، فلا يعمل بها!

وترى ما هو شأن الشهرة او الرواية امام تصريح الآية ، وهي غير منسوخة بل مؤيدة مبيّنة بآية الاستطاعة ، فمن استطاع مشيا او على كل ضامر دون حرج او مشقة لا تستطاع ، فهو ممن استطاع اليه سبيلا ، ومن لا يستطيع لا راجلا ولا راكبا فهو ممن لا يستطيع اليه سبيلا.

والرواية المفسرة للاستطاعة بالزاد والراحلة تقول «فإذا كان صحيحا في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة فهو ممن يستطيع الحج» (١) لا هو المستطيع للحج ، سلبا لاستطاعة من لا يحتاج إلى زاد وراحلة.

واشتراط الزاد والراحلة في الاستطاعة هو طبيعة الحال في الاكثرية الساحقة الساكنين في كل فج عميق ، واما القريبين إلى مكة المكرمة ، غير المحتاجين إلى راحلة ، فهم ممن يستطيعون الحج دون راحلة ، كما المحترفين في سفر الحج يستطيعونه دون زاد حاضر ، فانما الاستطاعة ـ دون حرج او مشقة زائدة غير متحمّلة ـ هي فقط شرط الوجوب ، إلا ان الاكثرية الساحقة او المطلقة لا يستطيعونه إلا بزاد وراحلة.

__________________

(١) في الكافي ٤ : ٢٦٧ والتهذيب ١ : ٤٤٧ والاستبصار ٢ : ١٢٩ سأل حفص في الصحيح أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحا في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة فهو ممن يستطيع الحج.

أقول : والرواية المطلقة في ذلك محمولة على الأكثر إذ ليست لتعارض نص آية الأذان كما رواه الصدوق في التوحيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحا في بدنه مخلا سربه له زاد وراحلة.

٦١

لذلك ترى آية الأذان تطلق «رجالا» ثم تقيّد (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) ب (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) وطبعا لا يركب الضامر إلّا من يحتاج إلى ركوبه لعمق فجه أم ضمور قوته.

فالأصل في أذان الحج هم «رجالا» وهم ـ في الأكثر ـ الذين يأتون من كل فج قريب ، ثم (عَلى كُلِّ ضامِرٍ) وهم ـ في الأكثر ـ الآتون من كل فج بعيد ، ومن ثم على كل مركوب مستطاع ، قويا في جسمه ، سريعا في مشيه ، حيوانا ام سفينة ام سيارة ام طائرة.

وقد يتعاكس الأمر ، فمن ساكن في فج قريب لا يستطيع المشي فهو ـ إذا ـ غير مستطيع دون راحلة ، وآية الاستطاعة لا تشترط إلّا اصل الاستطاعة ، بزاد وراحلة ام دون زاد وراحلة ، راحلة ضامرة ام عامرة ، وقد استفاضت السنة في افضلية الحج ماشيا على الركوب لمن يستطيعه وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):: ان الملائكة لتصافح ركاب الحجاج وتعتنق المشاة» (١) وذلك خاص بطبيعة الحال بمن لا يحشره امر أهم كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث القيادة الرسالية لا تسمح له ان يصرف شطرا بعيدا من أوقاته في أداء ندب كالحج ماشيا واما الائمة الذين حجوا مشاة لمرات ومرات فلم يكونوا بمنصب القيادة الحاضرة حيث اغتصب عنهم.

وعلى اية حال فهنا في تقديم «رجالا» دليل تفضيل الحج ماشيا ، وتفضيل المشاة الذين لا يملكون راحلة ضامرة ، ثم تفضيل الركب الضامرة على الركب العامرة ، مما يوضح تماما ان ليست الاستطاعة بادية من المال على اية حال ، فليس المستطيعون هم الأغنياء بالركب الفاخرة ، بل هم غير مذكورين في عديد المستطيعين حتى في المرحلة الآخرة ، لولا آية الاستطاعة

__________________

(١) الدر المنثور : ٤ : ٣٥٥ ـ اخرج البيهقي عن عائشة قالت قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

٦٢

الشاملة لهم في اطلاقتها الظاهرة ، وليست الاستطاعة الا القوة (١) دون حاضر الزاد والراحلة ، فقد لا يقوى رغم حضورهما وقد يقوى دونهما ، فان كان له بعض الزاد وبامكانه تحصيل البعض الآخر في الطريق فهو ممن له زاد ، «فان كان يطيق ان يمشي بعضا ويركب بعضا فليحج (٢) حيث المدار على اصل الاستطاعة وهي تختلف حسب مختلف الظروف والامكانيات ، ومن الناس من يمكنه المشي كلا وتحصيل الزاد في الطريق او المقصد ، فهو ممن استطاع اليه سبيلا ، وتفصيل الاستطاعة يختص بآيتها الثانية.

إذا ف «حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين ولقد كان اكثر من حج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مشاة (٣).

__________________

(١) جامع الأحاديث ١٠ : ٢٤٦ ح ٧٤٦ عن المحاسن عن عبد الرحيم القصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سأله حفص الأعور وانا اسمع فقال جعلني الله فداك ما قول الله : ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا؟ قال : ذلك القوة في المال واليسار.

(٢) المصدر ٢٤٩ ح ٧٥٤ عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في آية الاستطاعة ما السبيل؟ قال : ان يكون له ما يحج به ، قال قلت : من عرض عليه ما يحج به فاستحى من ذلك اهو ممن يستطيع اليه سبيلا؟ قال : نعم ما شأنه يستحي ولو يحج على حمار ابتر فان كان يطيق ان يمشي بعضا ويركب بعضا فليحج ، أقول وقد وردت بذلك روايات مستفيضة.

(٣) المصدر ٢٥١ ج ٧٦٣ باب ٤٤٩ ص ١٤٠ الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن فقيه ١٧٤ معاوية ١ ـ بن عمار قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل عليه دين أعليه ان يحج؟ قال : نعم ان حجة الإسلام .. شاة ولقد مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكراع الغميم فشكوا اليه الجهد (والطاقة ـ في فقيه) والعن فقال : شدوا أزركم واستبطنوا ففعلوا ذلك فذهب عنهم ، أقول ورواه مثله في بعض نسخ فقه الرضوى وفي ج ٧٦٥ بإسناد متصلة عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله عز وجل ولله على الناس ... قال (عليه السلام) يمشي ان لم يكن عنده قلت لا يقدر على ـ

٦٣

ولان «الحج» هو قصد البيت لزيارته ، فهو يعم طواف الحج والعمرة ، وهما كالظرف والمجرور إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، فمثل (أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) مكان افتراقهما ، واما آية الأذان واستطاعة الحج فهما في اجتماعهما.

ذلك الأذان الاعلام الإعلان لحج البيت منذ ابراهيم حتى الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فما يزال وعد الله يتحقق منذ ابراهيم إلى اليوم والغد ، وما تزال افئدة من الناس تهوي إلى البيت الحرام ، وترف اليه ، يتقاطرون إلى ذلك البيت العتيق من كل فج عميق من فقراء وأغنياء من استطاع اليه سبيلا.

ولماذا تلك الفريضة الجماهيرية العالمية ، وهنا لك فرائض اخرى لا تضم ذلك الحشد الكبير؟ :

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) ٢٨.

ذلك لان الحج مشهد المنافع العامة لعموم المسلمين ، ومسرح الفوائد والعوائد الجماهيرية التي تكفل كيان الإسلام وشوكة المسلمين ، وقد قدمت هنا على ذكر اسم الله وهو خالص العبادة التي يؤتى بها إعلانا وإسرارا ، أفرادا وجماعات ، ولكنها في ذلك المسرح كمشهد المنافع جماعية جماهيرية ، مما يدل على أن هنا لك منافع تختلف صوريا عن ذكر اسم الله ، هي التي تتبنى قوائم شرعة الله في بلاد الله.

__________________

ـ المشي قال يمشي ويركب قلت لا يقدر على ذلك قال يخدم القوم ويخرج معهم ، وفيه (٧٦٦) عن عبد الرحمن بن الحجاج قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الحج على الغني والفقير؟ فقال : الحج على الناس جميعا كبارهم وصغارهم فمن كان له عذر عذره الله.

٦٤

فهي (مَنافِعَ لَهُمْ) كمجموعة من الكتلة المؤمنة ، لأنها مسرح ومصرح للشرعة الإلهية كلها كشعائر ، بين تطبيق لقسم منها وتدريب لأخرى في تأشيرات عشيرات لمناسكها رميا للشيطان وطوفا حول بيت الرحمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

اجل «واذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق «يأتوك» ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله.

وتنكير «منافع» هو تنكير تعظيم لما يجهل من منافع ، فلم يقل «منافعهم» او «المنافع» لكيلا يخيّل إليهم أنها المنافع المعروفة لديهم ، الحاصلة في غير ذلك المؤتمر العالمي ، وانما (مَنافِعَ لَهُمْ) مجهولة لمن لم يأتوا ذلك المشهد المسرح ، وهي «لهم» جميعا ، دون المنافع الفردية الحاصلة في كل مطرح!

وهل هي ـ فقط ـ منافع الدنيا لذكرها قبال ذكر اسم الله ، ام منافع الآخرة (١) سوى ذكر اسم الله؟ إنها «الكل» (٢) دونما اختصاص ، منافع طليقة تحلّق على حاجيات الدنيا والآخرة ككل ودون إبقاء.

اجل «وعلة الحج الوفادة إلى الله عز وجل ، وطلب الزيادة ، والخروج من كل ما اقترف ، وليكون تائبا مما مضى ، مستأنفا لما يستقبل ، وما فيه

__________________

(١) المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : هي العفو والرحمة.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤٨٨ في الكافي بسند متصل عن الربيع بن خثيم قال شهدت أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يطاف به حول الكعبة في محمل وهو شديد المرض فكان كلما بلغ الركن اليماني أمرهم فوضعوه بالأرض فاخرج يده من كوة المحمل حتى يجرها على الأرض ثم يقول : ارفعوني فلما فعل ذلك مرارا في كل شوط قلت له جعلت فداك يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان هذا منافع الدنيا او منافع الآخرة؟ فقال : الكل.

٦٥

من استخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد وخطر الأنفس شاخصا في الحر والبرد ثابتا عليه دائما مع الخضوع والاستكانة والتذلل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع والرغبة والرهبة إلى الله تعالى ، ومنه ترك قساوة القلب وجساوة الأنفس ونسيان الذكر ، وانقطاع الرجاء والأمل ، وتجديد الحقوق ، وحظر النفس عن الفساد ، ومنفعة من في شرق الأرض وغربها ، ومن في البر والبحر ممن يحج ومن لا يحج من تاجر وجالب وبايع ومشتر وكاسب ومسكين ، وقضاء حوائج اهل الأطراف والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها ، كذلك (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ)(١).

وقد ذكر الله تعالى من (مَنافِعَ لَهُمْ) ما ذكر في آي أخرى لفريضة الحج : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (٥ : ٩٧) ـ (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) (٢ : ١٢٥) ـ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٣ : ١٦).

اجل «قياما للناس ومثابة للناس وهدى للعالمين» لا فقط الذين يأتونه ، مهما كانوا هم الركن الركين لتلك المنافع ، و «لهم» يعمهم كلهم

__________________

(١) المصدر في عيون الاخبار باب ما كتب به الرضا (عليه السلام) الى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل : ...

وفي باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان في آخرها انه سمعها من الرضا مرة بعد مرة وشيئا بعد شيء : فان قال : فلم امر بالحج؟ قيل : لعلة الرفادة إلى الله تعالى وطلب الزيادة ... وزاد بعد قوله : في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها : مع ما فيه من التفقه ونقل اخبار الأئمة (عليهم السلام) الى كل صقع وناحية كما قال الله عز وجل (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ.) أقول وقد نقلنا في المتن بعض المواضيع مما في العيون.

٦٦

ممن شهد مواقفه ومن لم يشهد ، ممن يحج ومن لا يحج ، فان في ذلك المؤتمر الاسلامي السامي إذا طبّق بشروطها ، منافع للمسلمين بل وللعالمين ككل.

ذلك و «ليتعارفوا .. ولو كان كل قوم انما يتكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقط الجلب والأرباح وعميت الاخبار ولم يقفوا على ذلك فذلك علة الحج» (١).

ومن (مَنافِعَ لَهُمْ) في مدرسة الحجج اسرار المناسك (٢) التي تتضمن صناعة الإنسان وصياغته بقمة الانسانية السامية كما أرادها الله تعالى من هذه الفريضة التدريبية ، الجامعة لكافة الفرائض والنوافل الفردية والجماعية ، دنيوية واخروية.

فمهما كانت البلوى بالحج عظيمة ، فالمنافع الناتجة عنها أعظم ، وكل أبعاد هذه الفريضة منقطعة النظير في شرعة البشير النذير ، مما يطرح

__________________

(١) البحار ٩٦ : ٣٣ ـ ٩ بسند متصل عن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) فقلت له : ما العلة التي من أجلها كلف الله العباد الحج والطواف بالبيت؟ فقال : ان الله عز وجل خلق الخلق لا لعلة الا انه شاء ففعل ، فخلقهم الى وقت مؤجل وأمرهم ونهاهم ما يكون من امر الطاعة في الدين ومصلحتهم من امر دنياهم فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب ليتعارفوا ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد ، ولينتفع بذلك المكاري والجمال ولتعرف آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعرف اخباره ويذكر ولا ينسى ولو كان كل قوم انما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقط الجلب والأرباح وعميت الاخبار ولم يقفوا على ذلك فذلك علة الحج.

(٢) قد أفردنا لها كتابنا ـ اسرار ـ مناسك وادلة الحج ـ باللغة الفارسية ، الفناه خلال السنتين اللتين كنا بمكة المكرمة ضمن سني الهجرة السبعة عشر من شر الطاغية الشاه.

٦٧

السؤال الكثير ، واجابة عن بلواها في مكانها نقتطف حكما ناصعة عن الخطبة القاصعة عن الإمام علي امير المؤمنين (عليه السلام): ـ

«وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل ، ألا ترون ان الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما ، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا ، واقل نتائق (١) الدنيا مدرا ، وأضيق بطون الاودية قطرا ، بين جبال خشنة ورمال دمثة (٢) وعيون وشلة (٣) وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خف ولا حافر ولا ظلف ، ثم امر سبحانه آدم وولده ان يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع (٤) أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم ، تهوي اليه ثمار الافئدة من مفاوز قفار سحيقة ، ومهاوي فجاج عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، حتى يهزوا مناكبهم ذللا لله حوله ، ويرملون (٥) على اقدامهم شعثا غبرا ، قد نبذوا السراويل وراء ظهورهم ، وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم ، ابتلاء عظيما وامتحانا شديدا واختبارا مبينا وتمحيصا بليغا ، جعله الله تعالى سببا لرحمته ، ووصله إلى جنته ـ

ولو أراد الله سبحانه ان يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وانهار ، وسهل وقرار ، جم الأشجار ، داني الثمار ، ملتف البنى ، متصل القرى ، بين برة سمراء وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص

__________________

(١) جمع نتيقة وهي البقاع المرتفعة

(٢) هي اللينة التي يصعب عليها السير.

(٣) قليلة الماء.

(٤) محل الفائدة.

(٥) الرمل ضرب من السير فوق المشي ودون الجري وهو الهرولة.

٦٨

معذقة ، وزروع ناضرة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف لبلاء ـ

ولو كان الأساس المحمول عليها ، والأحجار المرفوع بها ، بين زمردة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفي معتلج (١) الريب من الناس ، ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبدهم بألوان المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجا للتكبر من قلوبهم ، وإسكانا للتذلل في نفوسهم ، وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله ، وأسبابا ذللا لعفوه» (٢).

ف (مَنافِعَ لَهُمْ) هي كل المنافع الروحية والزمنية في كافة الحيويات الاسلامية السامية ، فالحج مؤتسم ومؤتمر ، موسم عبادة شعائرية جاهرة ، ومؤتمر عبادة سياسية ، فريضة تلتقي فيها الدنيا والآخرة ، مسرح تشاور وتعاون بين الكتل المؤمنة في كافة المسائل العويصة الإسلامية.

مجالة عالية غالية لتذوب فيها الفوارق من مختلف الجنسيات والعنصريات والقوميات والطائفيات ولا تبقى في صعيدها إلا اخوة اسلامية خالصة تتبناها كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ، بوحدة الأرواح وتقارب الأشباح حيث يصبحون الأشباه حول كلمة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

عبادة تصفو فيها الأرواح مشروحة لكافة الذكريات الصالحة في ذلك المشهد الحافل ، حيث ترف كالأطياف حول البيت العتيق طائفين حول مركز واحد ، يحوّلهم عن مختلف التطوافات حول سائر المطافات.

__________________

(١) الاعتلاج هو الالتطام.

(٢) نهج البلاغة للسيد الشريف الرضي ٢ : ١٧٠ ـ ١٧٣ محمد عبده.

٦٩

هنا يجد المسلمون رايتهم المطلّة عليهم ككلّ حيث تتوارى الرايات ومختلف السلطات ، وتتوارى في الراية الإسلامية الموحّدة كافة الفوارق.

هنا مملكة الحج ، في بيت عتيق طليق عن كل ملكة ، لا يقودها إلّا الله ، ولا يرأسها من قبل الله إلّا رسول الله ، ولا يحكمها إلا كتاب الله ، حيث تتوحد القيادة الروحية والزمنية في هذه الرسالة السامية ، دون سماح لأية سلطة ، إلا لمن يطبق هذه الرسالة الموحدة بين جماهير المسلمين.

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ...).

وترى ما هي (أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) نحن نجهلها؟ أهي أشهر الحج كلها حيث (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (٢ : ١٩٧) فمن أهلّ فيهن بالحج فليذكر اسم الله حتى تتم مناسكها ، ذكرا خاصا لله ليس معه ذكر لسواه ، فانه قضية تلبية الإحرام «لبيك اللهم لبيك» لك لبيك لا لسواك ، فانما أذكرك لا سواك؟

و (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) قد تعممه إلى كل الأيام! ثم (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) قد تخصصه بأيام الذبح ، وان ذكر اسم الله هو على الذبائح عند ذبحها كشرط من شروط التذكية!

ولكن ذكر اسم الله على الذبائح يعم كل ذبح في اي زمان او مكان دون ايام معلومات للذبح في منى!

وذلك الشرط مذكور في آيته التالية (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ) وذلك في يوم الأضحى كيوم معلوم ، دون ايام معلومات ، ثم الأضحى إلى آخر ذي الحجة حيث يجوز فيها تقديم الاضحية ، ذلك مخصوص

٧٠

بالأعذار وهي مقدرة بأقدارها ، فليست هذه العشرين هي الأيام المعلومات.

واما تعميم (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) فلا شاهد له هنا الا عليه ، حيث الذكر هنا ذكر خاص كما (مَنافِعَ لَهُمْ) ف (عَلى ما رَزَقَهُمْ) يقتضي في ذلك المسرح الحاشر ذكرا خاصا لله على رؤوس الاشهاد.

ف (أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) علها هي ايام الحج والعمرة كلها ، ثم ايام الحج ثم عشرة ذي الحجة (١) ايام التشريق الاربعة وكلها ايام معلومات ، فلم يقل «الأيام المعلومات» لكي لا تختص ببعض دون اخرى ، بل في كل هذه الأيام بدرجاتها ، بذكر التلبيات والصلاة والتسمية عند الذبح وعند الرمي ، ذكر القال والحال والأفعال ،

وليصبح الحاج في أيامه ذكرا بكل كيانه ، بعد ان لبى دعوة ربه ، وترك اهله وماله وشغله وكافة ما كان يشغله عن ذكر ربه ، والآية تتحملها كلها حيث المسرح كله مسرح ذكر الله كما هو مسرح (مَنافِعَ لَهُمْ)

ومن (أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) هي (أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ)(٢) ايام التشريق

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٩٠ في كتاب معاني الاخبار بسند متصل عن حماد بن عيسى في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول قال علي (عليه السلام) في قول الله عز وجل (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) قال : ايام العشر ومثله في التهذيب عن حماد عنه قال أبي (عليه السلام) ... وايام معدودات قال : ايام التشريق وفي الخلاف والأيام المعلومات عشرة ايام من ذي الحجة آخرها غروب الشمس من يوم النحر ذهب اليه علماءنا اجمع.

(٢) المصدر عن معاني الاخبار عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هي ايام التشريق ، وفيه عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : المعلومات والمعدودات واحدة وهن ايام التشريق.

وفي الدر المنثور ٤ : ٣٥٦ ـ اخرج ابن المنذر عن علي (عليه السلام) قال : الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة ايام بعده.

٧١

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى ..) (٢ : ٢٠٣) وكشاهد آخر لها ان يوم الذبح هو يوم الأضحى ثم من بعده قضاء التفث كما في الآية التالية ، وهذه الأيام كانت معلومة لدى الكل شاخصة بين كل ايام الحج والعمرة دون تقدم عن مواضعها او تأخر خلاف سائر ايام الحج حيث تتقدم او تتأخر اللهم الا يوم عرفة والمشعر الحرام فعلّه من تلك الأيام المعلومات ، والمجموعة هي الخمسة من التاسع إلى الثالث عشر ، والقدر المعلوم من (أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) هي اربعة التشريق فانها ايام الذبح المقررة له في الحالات العادية غير الاستثنائية وقد يتلمح من (وَيَذْكُرُوا ... عَلى ما رَزَقَهُمْ) وهو التسمية على الذبائح ، ولكنه لا يختص ذكر اسم الله بها ، فان «على» كما تعني ذلك ، كذلك تعني على انه تعالى رزقهم ، وذلك مهما كان عاما يحلّق على كل حياة التكليف ، ولكن لذكر الله في ذلك المسرح الحاشر موقعه الخاص ، سواء على الأضاحي ام على أية حال في ايام الحج.

ذلك وكما منها يوم عرفة والمشعر الحرام (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) (٣ : ١٩٨)

ذلك وكما منها يوم عرفة والمشعر الحرام (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) (٢ : ١٩٨) فقد يضاف إلى ايام التشريق ، كما تضاف بقية العشرة وسواها إليها.

بل ومنها بعد ما قضيت المناسك : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (٢ : ٢٠٠) فضلا عن ايام الحج بعمومها وخصوصها ، فانها ايام ذكر الله ، كلما كانت الشعائر أهم فالذكر أتم ، فهي ـ إذا ـ كلها ايام معلومات مهما اختلفت الدرجات حسب الدرجات.

ومختلف الحديث عن ايام معلومات ومعدودات مما يبرهن على انها كلها

٧٢

معنية وانما الاختلاف في الدرجات

وترى (بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) خاصة بالبدن كما في الآية التالية : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)؟ وهي من أبرز مصاديق الأنعام العائشة في البلد الحرام فلا تخص بها الأنعام!

ام هي فقط الانعام الثلاثة : الإبل والبقر والغنم؟ وقد عممت أحيانا إلى ما يصطاد ، ولا يصطاد شيء من هذه الثلاث وانما الظبي وحمار الوحش واضرابهما من ذوات القوائم الأربع فقد (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فليكن الصيد من الانعام حتى يصح الاستثناء!

ولكنه صيد ـ مهما كان من الانعام ـ ولا يحل الصيد في المنسك ونحن حرم ، بل وفي غير حالة الإحرام أيضا ، إذا فالأنعام هنا هي الثلاثة لا سواها.

(.. فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ).

من هذه والتي تليها : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) نتأكد ان التقسيم ثنائي وليس ثلاثيا خلاف ما يقوله جمهور الفقهاء ، وان لحوم الاضاحي هي في الأصل للفقراء لا للإحراق والدفن وسائر الهدر والغدر كما هو المتعود بين الحجاج ، والقول الفصل فيها عند الآية الاخرى.

ثم (فَكُلُوا مِنْها) هنا وهناك كأنه امر أدبي رخصة لا عزيمة فانه عقيب حظر مظنون حيث كان المشركون لا يأكلون من ذبائح نسائكم (١) فانزل

__________________

(١) آيات الأحكام للجصاص ص ٣ : ٢٩٠ روى يونس بن بكير عن أبي بكر الهذلي ـ

٧٣

الله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) فرخص للمسلمين فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل ، والاكل أفضل كما فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هدما لسنة جاهلية ومشاركة مع البائس الفقير ، فيها تسوية بينهم وبينهم كيلا يظنوا انها خاصة بهم ـ فقط ـ لفقرهم ، بل هي هدية إلهية يشارك فيها المفدي ، وقد نحر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ من كل جزور بضعة فجعلت في قدر فأكل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليّ من اللحم وحسوا من المرق (١).

وقد يكون الاكل منها ـ كما الإطعام واجبا ـ ادبيا فان تركه ترفّع على الفقراء كما كان عند اهل الجاهلية ، فليس الأمر ـ فقط ـ تجويزا لسابق الخطر ومظنته ، بل وإيجابا لكسر هذه السنة ، ففي تركه إبقاء لهذه السنة ومسايرة عملية مع أهلها.

ذلك واما اطعام البائس الفقير فهو الواجب الركني الأصيل في ذلك الهدي ، فأمره للإيجاب دونما ارتياب ، وليس الأمر الأوّل إلا هامشيا

__________________

ـ عن الحسن قال : كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدم وجه الكعبة وشرحوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا : لا يحل لنا ان نأكل شيئا جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير فلما جاء الإسلام جاء الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا : شيئا كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فانما هو لله فانزل الله تعالى (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). لا تفعلوا فان ذلك ليس لله.

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٥٦ ، اخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال نحر رسول الله (ص) ومثله في التهذيب ٥ : ٢٢٣ صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال : إذا ذبحت أو نحرت فكل واطعم كما قال الله تعالى ... وفيه ايضا الصحيح عن الباقرين عليهما السلام انهما قالا إن رسول الله (ص) امر أن يؤخذ من كل بدنة بضعة فأمر بها رسول الله (ص) فطبخت فأكل هو وعلي وحسوا المرق.

٧٤

تعبيدا لطريق ذلك الإطعام ادبيا فائقا. والبائس الفقير ، هو أفقر من الفقير وأبأس من البائس فقد يكون «هو الزمن الذي لا يستطيع ان يخرج لزمانته» (١) وكما الفقير هو المكسور الفقار من شده المسكنة ، فذلك كسر في المال وكسر في الحال ، فانه اجهد من المسكين والفقير (٢).

فهذه اللحوم مما رزقهم الله وهي من (مَنافِعَ لَهُمْ) وقد جعلناها نحن رزقا للديدان والمحرقات والجرافات ، وبديل ان يكون ذلك الرزق من (مَنافِعَ لَهُمْ) أصبح عمليا من أضر المضار ماليا وادبيا وسياسيا حيث يضحك علينا العالمون كيف نبذر ذلك التبذير الرذيل وأمامنا في العالم الإسلامي فقراء لا يشمون ريح اللحم وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : انما جعل الله هذا الأضحى لتشبع مساكينكم من اللحم فأطعموهم منها» وسيأتيكم التفصيل بكل بيان فيه تحصيل عند تفسير الآية الثانية ان شاء الله تعالى.

واطلاق الذبح هنا وان كان يعم كل الحجيج حتى المفرد ، ولكنه مخصوص بحج التمتع (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ... ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٢ : ١٩٦) ثم

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٩١ عن تفسير القمي عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (ع) قال هو ...

(٢) المصدر عن الكافي بسند متصل عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله (ع) قول الله عز وجل : انما الصدقات للفقراء والمساكين؟ قال الفقير الذي لا يسأل الناس والمسكين أجهد منه والبائس أجهدهم.

أقول : تقديم الفقراء على المساكين عند الجمع ، وتخصيص الفقير بالذكر عند الإفراد كما هنا يساعدان المعنى اللغوي الذي ذكرناه.

٧٥

القران واسمه معه ، دون الإفراد حيث اسمه معه ، إفرادا عن الهدي أو قرانا بالهدي ، فلا يجب الذبح في الإفراد ، ولا يجوز الاكل من غير الهدي ، كالذبيح للجريمة حالة الإحرام ، حيث النص خاص بالهدي الواجب على أية حال ، لا والواجب عند الجريمة حالة الإحرام ، فانه خاص بالفقراء دونما استثناء ، ذلك فرض ثان في منى بعد الرمي وبعدهما الحلق والتقصير :

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٢٩).

القضاء متعديا بنفسه كما هنا هو الإتمام بالنسبة لأمر ابتدأه ، والتفث علّها مأخوذة من اصل عبراني وهو «تافس» (؟؟؟) او «تافش» (؟؟؟) وكلاهما بمعنى امسك وقبض ، فقضاء التفث هو إتمام القبض والإمساك الذي ابتدئ فيه بالإحرام قبل عرفة ، وقضاء التفث هنا بعد الذبح هو بالحلق والتقصير فيحلّ عن الإحرام (١) إلّا عن الطيب والنساء حيث يحللهما طواف الزيارة والنساء (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) إشارة إلى الطوافين ، تكملة لذلك التفث فيحل عن كل محرمات الإحرام مهما بقي عليه بيتوتة مني ليلتين أو ثلاث ورمي الجمار في أنهارها.

وما أجمله تعبيرا منقطع النظير عن الإحلال عن الإحرام «التفث» كما التعبير عن بداية الإحرام «الرفث» : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ..) (٢ : ١٩٧).

وقد تعني قضاء التفث ضمن ما عنت «تعليم الأظفار وطرح الوسخ

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٥٧ ـ اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : يعني بالتفث وضع إحرامهم من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ونحو ذلك.

٧٦

وطرح الإحرام» (١).

وعلّ كل ما ذكر في الأحاديث من تفسير للتفث اعتبارا بأنها من لوازم إتمام الإحرام وإنهائه ومن ذلك «هو ما يكون من الرجل في إحرامه» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٩٢ ـ احمد بن محمد بن أبي نصر قال قلت لأبي الحسن (عليه السلام) إنا حين نفرنا من منى أقمنا أياما ثم حلقت رأسي طلب التلذذ فدخلني من ذلك شيء فقال : كان ابو الحسن صلوات الله عليه إذا خرج من مكة نأتي بثيابه حلق رأسه وقال في قول الله تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) قال : التفث ... وفيه في صحيحته البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال : التفث تقليم الأظفار وطرح الوسخ وطرح الإحرام عنه ، وفي قرب الاسناد للحميري احمد بن محمد عن احمد بن محمد بن أبي نصر قال سألت الرضا (عليه السلام) عن الآية قال : تقليم الأظفار وطرح الوسخ عنك والخروج من الإحرام ، واقتصار أبي جعفر (عليه السلام) في صحيحه محمد بن مسلم عنه بقص الشارب والأظفار تفسير ببعض لوازم الخروج عن الإحرام.

وفيه عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هو الحلق وما في جلد الإنسان ، وعن ذريح المحاربي في الصحيح قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ان الله امرني في كتابه بأمر فأحب ان أعمله قال : وما ذاك قلت : قول الله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم قال : ليقضوا تفثهم لقاء الامام وليوفوا نذورهم تلك المناسك ، قال عبد الله بن سنان فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فقلت جعلت فداك قول الله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم ، قال : أخذ الشارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك ، قال قلت جعلت فداك ان ذريح المحاربي حدثني عنك بأنك قلت : ثم ليقضوا تفثهم «لقاء الإمام» وليوفوا نذورهم «تلك المناسك»؟ فقال : صدق وصدقت ان للقرآن ظاهرا وباطنا ومن يحتمل ما يتحمل ذريح.

(٢) المصدر حميد بن زياد عن ابن سماعة عن غير واحد عن ابان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية هو ما يكون من الرجل في إحرامه فإذا دخل مكة فتكلم بكلام طيب كان ذلك كفارة لذلك الذي كان منه.

٧٧

وعلى الجملة فقضاء التفث هو قضاء الإحرام بالخروج عنه تاما وافيا ، ولزامه بعد ما قضى إلى الذبح ، الحلق او التقصير ، والخروج عن تقصير كان له في إحرامه بفدية وسواها ، ثم طوافي البيت زيارة ونساء ، ثم ومن أكمله تتميم مناسك منى من بيتوتتها ورمياتها.

ولان قضاء التفث ثنّي بطواف البيت ، إذا فهو الإحلال الاول الا عن الطيب حيث يحل بطواف الزيارة ، والنساء حيث يحل بطواف النساء ، وانما عبّر عن الإحلال الاول بقضاء التفث لأنه أهمه ، ام ان قضاء التفث يعم الآخرين ، وذكر الطواف ـ إذا ـ من باب ذكر الخاص بعد العام.

وقد يعرف واجب الترتيب بين هذه المذكورات من ترتيبها في هذه الآيات ، ذبحا ثم حلقا او تقصيرا ثم طوافا ، اللهم إلا للمعذور عن تقديم الذبح كمن نبحث عنهم بعد.

(وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ).

وترى ما هي النذور التي يؤمر الحاج بإيفائها بين هذه المناسك وقبل ان «يطوفوا (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)؟ وهي الوحيدة الآمرة بايفاء النذور بين آياتها الخمس الذاكرة له دون امر ، اللهم إلا تبجيلا لمن يوفي (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (٧٦ : ٧).

النذر ـ وهو إيجاب ما لم يجب على نفسك ـ قد ينشأ وافيا ، ثم ليوف تطبيقا ، وعلّ الإيفاء هنا يشملهما ، فما فرض الحاج على نفسه بتقصير في إحرام ، ام فرضه على نفسه دون تقصير وبدون تحديد لوقف الإيفاء ، فليوفه تطبيقا هنا وقد تخلص عن حصر الإحرام ، ولكي يتخلص عن سائر الحصر فيصبح طليقا من الأخفّاء حتى يطوف دون أثقال بالبيت العتيق ، وذلك آخر المطاف في تخلّصه عن حصر المحرمات الخاصة بالإحرام.

٧٨

وما يعنيه من نذر لأمر يتقاضاه ، فلينذر هنا إيفاء له كما يصح ويحق ، وان ناسب وقت إيفاء التطبيق قبل الطواف فليوف.

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)

وذلك آخر طواف وآخر المطاف في أهم مناسك الحج ، وترى ماذا تعني (وَلْيَطَّوَّفُوا) في تشديد التأكيد ، دون (وَلْيَطَّوَّفُوا)؟ بلا تشديد ، وهي الآية الوحيدة الآمرة بالطواف؟

قد تعني طوافا بعد طواف ، فلو كان الواجب هنا مرة واحدة لكان (وَلْيَطَّوَّفُوا) بتخفيف ، فليكن اكثر من مرة حيث هذه الصيغة تتطلب المزيد على طواف وأقله مرة أخرى.

فلا هو ـ فقط ـ طواف الزيارة ، ولا هو ـ فقط ـ طواف النساء ، وعلّ الرواية القائلة انه طواف النساء ، تعني بيان الخفي من واجب الطواف المختلف فيه بين المسلمين ، دون خصوصه ، رغم ان الواجب الأصيل من الطواف هنا هو طواف الزيارة ، كما القائلة انه طواف الفريضة تعني بيان الجلي.

إذا فهو الطوافان : طواف الفريضة وطواف النساء (١) ومن المضحك المبكي تخصيص الآية بخصوص طواف النساء ، وطواف الزيارة وهي ركن

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٥٢ الرقم ٨٥٤ والكافي ١ : ٣٠٥ باب طواف النساء قال ابو الحسن (عليه السلام) في الآية : طواف الفريضة طواف النساء ، أقول علّ العاطف سقط عن قلم الناسخ ، ام ترك اشارة إلى اندغام الطوافين مع بعض استدلالا بتأكيد الصيغة في الآية ولكنه في المرآة ٣ : ٣٤٦ والفقيه ٢ : ٢٩١ هو طواف النساء ، والنقل الاول أصح ، وليئول الثاني بما ذكرناه في المتن ، وفي نور الثقلين ٣ : ٤٩٣ عن الصادق (عليه السلام) قال هو طواف النساء. ـ

٧٩

لا يعني منها (١) والآية هي الوحيدة في القرآن! فالأحاديث الثلاثة ، انه طواف الفريضة او النساء او الطوافان مرجوعة إلى كتاب الله ، فهو الطوافان دون ريب لمكان (وَلْيَطَّوَّفُوا).

ولأن ظاهر الأمر هو فور العمل به فليكن طواف الزيارة يوم النحر بعد قضاء التفث ، اللهم الا للمفرد (٢) حيث لا تشمله الآية لمكان الأضحية غير الواجبة عليه ، والصحيحان المتعارضان (٣) في القارن يرجعان إلى القرآن ، فعلى القارن كما على المتمتع طواف الزيارة والنساء يوم النحر إلا لعذر ، والصحيحان المجوزان للتأخير (٤) محمولان على موارد العذر ،

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٩٣ في قرب الاسناد عن الرضا (عليه السلام) في حديث (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) طواف الفريضة ، أقول هو طواف الزيارة وعله (عليه السلام) اكتفى به هنا لأنه الأصل ، وكما اختص طواف النساء بالذكر في حديث سالف في بعض النقل انه طواف النساء إلحاقا به ، والأوضح هو حديث الطوافين.

(٢) في الكافي ٤ : ٥١١ والتهذيب ١ : ٥١٨ والاستبصار ٢ : ٢٩٤ صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في زيارة البيت يوم النحر قال : زره فان اشتغلت فلا تضرك ان تزور البيت من الغد ولا تؤخر ان تزور من يومك فانه يكره للمتمتع ان يؤخر وموسع للمفرد ان يؤخره.

(٣) وهما صحيحة هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) لا بأس ان أخرت زيارة البيت الى ان يذهب ايام التشريق الا انك لا تقرب النساء ولا الطيب ، ومثلها صحيحة الحلبي سأل الصادق (عليه السلام) عن رجل أخر الزيارة إلى يوم النفر قال لا بأس (السرائر ٤٤٤) أقول وهي مقيدة بالمفرد ، او محمولة في غيره بالمعذور.

(٤) قد مضت الاولى في رقم (١) والثانية في التهذيب ١ : ٥١٧ والاستبصار ٢ : ٢٩٢ صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) سألته عن المتمتع متى يزور البيت؟ قال : يوم النحر او من الغد ولا يؤخر والمفرد والقارن ليسا بسواء موسع عليهما ، وفي خبر عمر بن يزيد ثم احلق رأسك واغتسل وقلم أظفارك وخذ من شاربك وزر البيت فطف به أسبوعا وفي صحيح معاوية عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال : فإذا أتيت البيت يوم النحر فقمت على باب المسجد قلت ...

٨٠