الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

١ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) ٢.

فالصلاة فيها هي البداية بعد الايمان خشوعا فيها ، وهي النهاية حفاظا عليها ، وبينهما متوسطات ، وهكذا تكون الصلاة قاعدة الايمان وعموده ، وزائدة لسائر شروط الايمان.

وهنا عنصر الخشوع هو القلب لقالب الصلاة ، كما هو قلب لسائر العبادات والطاعات : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٢ : ٤٥) (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٢١ : ٩٠) (خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (٣ : ١٩٩).

والخاشع في صلاته وهي قلب العبادات ، هو بطبيعة الحال خاشع لله في سائر الحالات ، فحياته إذا حياة الخشوع لله في كافة التصرفات ، فلا يخشع لما سواه ، ولا يترك الخشوع لله.

والخشوع هو ضراعة القلب كما الخضوع هو ضراعة القالب ، وإذا ضرع القلب ضرع سائر جوانح الإنسان وجوارحه فان «القلوب أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء» فخشوع إمام الأئمة خشوع وخضوع لسائر الائمة والمأمومين ، وقد رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال : «اما انه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه» (١).

ثم وخشوع المؤمن هو خشوع الايمان تسوية فيه بين القلب والجسد

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣ وفي نور الثقلين ٣ : ٥٢٨ في المجمع روي ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى رجلا .. وفيه عن الخصال عن امير المؤمنين (عليه السلام) ليخشع الرجل في صلاته فانه من خشع قلبه لله عز وجل خشعت جوارحه فلا يعبث بشيء.

٢٠١

دون نفاق ، ف «ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق» (١) واما إذا زاد خشوع القلب على الجسد فما هو بنفاق مهما كانت التسوية اولى ، اللهم الا في مظان الرئاء او مرجح سواه هو قضية خشوع القلب.

ف «إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود فان سكون الأطراف من تمام الصلاة» (٢) والالتفات في الصلاة «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» (٣) ف «لا يلتفت أحدكم في صلاته فان كان لا بد فاعلا ففي غير ما افترض الله عليه» (٤).

فالى من تلتفت في صلاتك وأنت أمام ربك وهو خير لك ممن تلتفت اليه وما يلفتك اليه! اللهم إلا لفتة غير قاصدة فيما تضطر اليه.

ولان الخشوع هو في الأصل فعل القلب ، فله النصيب الأوفر بالنسبة

__________________

(١) المصدر في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... وفي الدر المنثور ٥ : ٣ اخرج الحكيم الترمذي والبيهقي في شعب الايمان عن أبي بكر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تعوذوا بالله من خشوع النفاق قالوا يا رسول الله وما خشوع النفاق قال خشوع البدن ونفاق القلب.

(٢) الدر المنثور ٥ : ٣ ـ اخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن اسماء بنت أبي بكر عن ام رومان والدة عائشة ، قالت رآني ابو بكر أتميل في صلاتي فزجرني زجرة كدت انصرف من صلاتي قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : إذا قام ..

(٣) المصدر اخرج ابن أبي شيبة والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الالتفات في الصلاة فقال : هو اختلاس ...

(٤) المصدر ـ اخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة انه قال في مرضه اقعدوني اقعدوني فان عندي وديعة او أودعنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا يلتفت ..

٢٠٢

للقالب ، والصلاة تنقسم حسب درجات الخشوع وكما يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) ف «انما الخشوع لمن تمكن وتواضع» (٢) فالصلاة الخاشعة لله هي قطع كافة الصلات عما سوى الله ، فيصبح المصلي موصول القلب وبكليته الى الله ، بإعظام المقام وجمع الاهتمام ، عارفا ذلّه أمام العز المطلق الذي لا يرام ، (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ).

فخشوعك في صلاتك هو على قدر معرفتك بالله وعقلك عن الله (٣) وحضورك بمحضره ، فمن المصلين من هن غيّب في صلاتهم فما صلاتهم هذه ـ إذا ـ بصلاة ، ولولا امر الله لكانت مزرئة ومسخطة ، وعليهم ان يستغفروا من هذه الصلاة الغائبة غير الخاشعة.

والمصلون هم الذين تستشعر قلوبهم رهبة الموقف بين يدي الله بلقاء الله ، فتسكن وتخشع لله ، فيسري خشوعهم إلى الجوارح والملامح ، ويغشى أرواحهم جلال الله في حضرته ، ويتوارى عن مشاعرهم وحواسهم كل ما سوى الله ، فلا يشهدون الا الله ، ولا يتذوقون الا حظوة لقاء الله ، وعندئذ تتصل هذه الذرة التائهة بمصدرها ، وتجد الروح الحائرة طريقها ، ويعرف القلب المتقلب مثواه ومأواه ، وتتضاءل كل القيم والأقدار الا قدر الله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)! والصلاة معراج المؤمن ، والمصلي يناجي ربه (٤) فكيف تكون نجوى ومعراجا الصلاة الفاضية عن الخشوع ، الخاوية عن الخنوع لله؟ وافحش الفحشاء وأنكر المنكر لمن لا تنهاه صلاته

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٤ ـ اخرج احمد عن أبي اليسر ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : منكم من يصلي الصلاة كاملة ومنكم من يصلي النصف والثلث والربع حتى بلغ العشر.

(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٣ : ٧٧ قوله (عليه السلام) : ....

(٣ ، ٤) المصدر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس للعبد من صلاته الا ما عقل»

٢٠٣

عن التفكك ، والتلفّت إلى من سوى الله. (١)

ف (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٢٩ : ٤٥) (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٢٠ : ١٤) و «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله الا بعدا» (٢).

ف «كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب» (٣).

فما ذا تفيدك صلاتك في ألفاظ وافعال خاوية والقلب لاه ، وليس هذه المظاهر إلا بيانات عما في القلب ، إذاعة صوتية وصورية عن خشوع القلب وبخوعه.

ولان الخشوع في الصلاة معدود في عداد مواصفات الايمان فتركه ـ إذا ـ خلاف الايمان حيث الايمان المستكن في القلب يتطلّب خشوع القلب في معراجه.

فهو واجب من واجبات الصلاة قدر الإمكان ، والمتهاون عنه متهاون بالصلاة ، فمهما صحت صلاته قالبيا لم تكن لتصح قلبيا ، وأركن أركان الصلاة هي صلاة القلب ، البارز في صلاة القالب ، و «ان العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وانما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها» (٤).

٢ (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)(٣).

إعراضا عن لغوهم واللغو من غيرهم (٥) فإعراضا شاملا عن اللغو

__________________

(١ ، ٢ ، ٣). المصدر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٤) تفسير الفخر الرازي ٢٣ : ٧٩ وروى ايضا مسندا قال عليه السلام : ...

(٥) نور الثقلين ٣ : ٥٢٩ عن المجمع روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ـ

٢٠٤

كله أيا كان ومن أيّ كان قالة او فعالة ام حالة (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٢٥ : ٧٢) (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (٢٨ : ٥٥).

واللغو ـ ككل ـ هو ما لا يعتد به ولا يعنى حيث يورد لا عن رويّة ولا فكرة فيجري مجرى اللّغا وهو صوت العصافير حيث لا نفهم منه شيئا وإن تفهم هي وتعني ما تعنيه ، ولكنه لا يخص الصوت ، بل يعم كل حركة وسكون في مثلث الأحوال والأقوال والأفعال ، منك وممن سواك ، فتعيش حياة تعني الحيويّة الإنسانية الإيمانية ، دون الحيوانية اللاغية اللاهية مما لا يعنيه الايمان.

والإعراض هو حالة نفسانية ، فهو يعم الترك ، والمؤمن أيا كان يعترضه أحيانا اللمم وما فوقه فضلا عن اللغو ، فلم يقل هنا «تاركون» كيلا يخرج هكذا مؤمنين عن (أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وانما «معرضون» مهما يعتريهم بطبيعة الحال لغو وما فوقه.

ومن حق الإيمان أن يتطلب الإعراض عن اللغو الذي يرفضه الإيمان ، ترفّعا لنفس المؤمن النفيسة عن خسيسة الأعمال وخسة الأحوال والأقوال ، واعتلاء عن الإشتغال بما يمس من كرامته وشرافته ، وتعلقا بجلائل الأمور وعظائم المقاصد.

لست اعني ان المؤمن لا يتفرج ولا يمزح إذا كانا في سبيل التفريج عن التضايق ، والتخريج عن المضايق ، وانما اللغو هو ما لا يعنى لا في نفسه وفي لا غايته ، وأما ما يفيده تفريجا عن كربته وتفريحا عن كآبته ، مزاحا او لعبا اما إذا في هذه السبيل فهي سبيل الايمان وقضيته.

__________________

ـ في الآية ـ ان يتقول الرجل عليك بالباطل او يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله.

٢٠٥

فالاستماع إلى القصّاص لغو (١) كما الغناء واللهو ـ ككل ـ من ألغى اللغو (٢) وكضابطة عامة «كل قول ليس فيه لله ذكر فهو لغو» (٣) والذكر أعم من ذكر القال والحال والفعال : ألّا يخلو المؤمن على اية حال عن ذكر الله ، اعراضا عما يلهيه ويغفله عن الله ، سواء أكان لغو القول او لغو الفعل او لغو الاهتمام.

٣ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) ٤.

هنا (لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) وفي سواها من آيات الزكاة (يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أتراهما على سواء؟ كلا! حيث العبارة الصحيحة والأخصر عنها «والمزكون» وليس القرآن مما يفدي المعنى رعاية اللفظ ، فلا تعني (لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) سجعا ووزنا اللهم على ميزان خاص للمعنى.

وحقا ان (لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) تحلّق على كافة الاهتمامات في سبيل الزكاة ، من سعي ينتج مال الزكاة ثم إيتاءها ، ودعاية للآخرين سعيا ينتج الزكاة ودعاية لإيتاء الزكاة ، ودعوة لجبايتها بنفسه ومن سواه.

ثم «الزكاة» لا تنحصر في زكاة المال ، انحسارا عن زكاة الحال من عقل وعلم وأية طاقة بالإمكان إنفاقها في سبيل الله ، فالمؤمن حركة دائبة لتحصيل الزائد عما يلزمه في حياته ، لكي يزكيه لمن ينقصه مالا وحالا ،

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٢٩ في اعتقادات الامامية للصدوق وسئل عليه السلام عن القصاص ايحل الاستماع لهم؟ فقال : لا.

(٢) المصدر في عيون الاخبار باسناده إلى محمد بن أبي عباد وكان مشتهرا بالسماع وشرب النبيذ قال : سألت الرضا (عليه السلام) عن السماع؟ فقال : لأهل الحجار رأي فيه وهو في حيز الباطل واللهو اما سمعت الله عز وجل يقول : وإذا مروا باللغو مروا كراما ، وفي المجمع في رواية انه الغناء والملاهي.

(٣) المصدر في ارشاد المفيد كلام طويل لأمير المؤمنين (عليه السلام) : ...

٢٠٦

عقلا وفكرا وعلما وقوة ، وكما في الحديث زكاة العلم تعليمه ...

ذلك ، ومن الزكاة هنا تزكية النفس فقد تكون مصدرا تشملها وسائر الزكاة ، فهي ـ إذا ـ زكاة ذات بعدين نفسي وغيري والأخير يعم كل إنفاق حالي ومالي.

اجل انهم فاعلون للزكاتين ، تطهيرا للقلب من كل شح واستعلاء على حب الذات ، وانتصارا على وساوس الشيطان ، ثم وتطهيرا للمال وسائر الحال إنفاقا لهما في سبيل الله ، صيانة جماعية بعد الفردية عن التفكك والخلل الذي ينشئه العوز في ناحية ، والترف في أخرى.

والزكاة كما الصلاة هي مما شرعت منذ العهد المكي كما تدل على ذلك آيات منها (١) مهما كانت الاكثرية الساحقة من آياتها مدنيات ، وعلّ تلك القلة هي قضية جو الضيق في العهد المكي ، وهذه الثلّة قضية السعة في الجو المدني ، فليس ـ إذا ـ «فاعلون» لأن الزكاة ما كانت مشرّعة بعد في مكة المكرمة.

بل و «فاعلون» في مكة تتبنى مختلف ألوان الزكاة في الطول التاريخي والعرض الجغرافي الاسلامي ، فحتى لو لم تكن مشرّعة في مكة فلا بد من ذكرها فيها لأنها بداية العهد من هذه الشرعة ، وكما تشير بعض آياتها إلى القتال ولم يؤذن فيه بعد حتى الهجرة إلى المدينة المنورة.

٤ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) ٥

كل من الذكور والإناث يحفظ فرجه عن النظر واللمس وعمل الجنس أم إفراغ النطفة ، وكل ما يخص الفرج من المشتهيات الجنسية ، كل

__________________

(١) كالاية ٧ : ١٥٦ ـ ٢١ : ٧٣ ـ ٢٧ : ٣ ـ ٣٠ : ٣٩ ـ ٣١ : ٤ ـ ٤١ : ٧.

٢٠٧

بالنسبة لجنسه وسواه ، فهذه ضابطة عامة ان الفرج محفوظ بعامة الحفظ وخاصته في ذلك المربع وأضرابه من مرتقبات الجنس.

إذا فلا تحل أية محاولة شهوانية جنسية بالفروج ، ذكرانا مع ذكران وأنحسه اللواط ، ام إناثا مع إناث وأنحسه المساحقة ، ام كل مع الآخر على أية حال ، اللهم :

(إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) ٦.

«أزواجهم» تعم الزوجين دائما ومنقطعا ، كما البيع يعم القاطع الدائم والمشروط المؤقت ، اللهم الا بقرينة قاطعة كالأزواج في أحكام الميراث والنفقات وأضرابها من اختصاصات النكاح الدائم.

وقولة القائل ان الزواج المنقطع ليس بزواج ، قولة قاحلة جاهلة ، حيث الوطيء إما نكاح أو سفاح ولا ثالث بينهما ، فهل الزواج المنقطع سفاح إذ ليس نكاحا ، والضرورة القاطعة الإسلامية حاكمة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سمح في النكاح المنقطع ، مهما اختلف المسلمون في نسخه واستمراره ، فهل انه سمح في السفاح ردحا من زمن رسالته ثم نسخ السفاح ، وهو محرم على أية حال وإنه كان فاحشة وساء سبيلا!.

هذا ولا ينافيه اشتراط العفاف في النكاح والزواج فان «أزواجهم» لا تعني إلا الزواج الصحيح بشروطه المسرودة في الكتاب والسنة (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٣١ في الكافي عن احمد بن محمد عن العباس بن موسى عن إسحاق بن أبي أبي سارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عنها يعني المتعة فقال لي حلال فلا تتزوج الا عفيفة ان الله عز وجل يقول (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك.

٢٠٨

ولا حرمة الوقاع في حالات خاصة فانها مستثناة عن قاعدة الحل.

وعلى الجملة فكل آيات الزواج والنكاح باطلاقاتها او عموماتها تشمل القسمين القسيمين ، الا بقرينة تخصها بأحد الزواجين ، ولولا آية النساء (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (٣٤) ولا سماح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنكاح المنقطع ، لكانت الآيات بعموماتها وإطلاقاتها حجة السماح فيه ، والروايات المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نسخه واستمراره متناقضة من جهات عدة ، فترد إلى كتاب الله ، حيث يسمح له بخصوصه وعمومه ، ونهي عمر عنه مردود اليه لأنه خلاف الكتاب والسنة ، فتحريمه بدعة كما ان تحليل السفاح بدعة.

ومن أسخف الهراء قولة القائل إنه سفاح سمح فيه لضرورة وقتية اقتضته ، فإذا كانت الضرورة تبيحه وهو سفاح ، فلما ذا سمي في ذلك الوقت نكاحا ، وقرر فيه ما قرر من شروطات النكاح ، ثم وتلك الضرورة دائبة على طول الخط للذين لا يجدون نكاحا دائما فلما ذا التحريم إذا منذ الخلافة الثانية إلى يوم القيامة ، والضرورة فيه ـ أحيانا ـ هي أقوى مما هيه.

وكذلك القول بنسخ آيات السفاح بآية النساء والروايات ، وتلك الآيات لا تتحمل نسخا ولا تخصيصا على أية حال ، فانه فيها فاحشة وسبيل سوء ، وان فاعله يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا.

إذا ف «أزواجهم» تعم الزواجين دون ريب ، اللهم الا وطئا في حالات خاصة ، ومع ما دونه في أخرى كالإحرام.

ومن حفظ الفرج ـ الا على أزواجهم او ... ـ حفظه عن إفراغ نطفة دون جماع ، فلا يحل الا في هذين الموردين. فإقرار نطفة غير الزوج في

٢٠٩

رحم امرأة ، قريبة او غريبة ، لا سيما المحارم ، ذلك محظور بعموم الآية (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) حيث الإطلاق يعم مربع الأعمال المترقبة جنسيا من الفروج ، بل وأهمها الاستيلاد وكما في آية التحريم (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ...).

والمورد الثاني ، وهو على هامش الأول (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) وهنا مربع من الصور لا يحل الا في بعضها :

فقد يملك رجل امرأة غير مزوجة ولا ممنوعة من ناحية أخرى ، او تملك امرأة رجلا أيا كان ، او يملك رجل رجلا او امرأة امرأة ، قد تشمل كلها (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في بادئ الأمر.

ولكنما المتجانسين ذكرا أو أنثى خارجان قطعا ، حيث الأول لواط والثاني مساحقة وهما محرّمان ضرورة بالكتاب والسنة ، وان طبيعة الحال اسلاميا هي الأمور الجنسية بين المتخالفين في الجنس في المستثنى ، مهما شمل المستثنى منه غيرهما تحريما ، ثم «هم» في الأصل لا يعني إلا الرجال وليس لحوق النساء بهم في (الَّذِينَ آمَنُوا) إلا بقرينة ، وهنا القرينة ضدها.

وبنفس الحجة تخرج الصورة الثانية فلا يحل مملوك لمالكته ، وتبقى الصورة الاولى هي المستثناة من تلك الضابطة المحرّمة ، اللهم إلا في حل نظره إليها ونظرها إليه كما فصلناها في آية النور : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) لولاها نصا لما كان داخلا في نطاق الاستثناء.

فما ملكت أيمان الرجال من النساء حلّ لهم كزوجة ، وما ملكت أيمانهن من الرجال هم حل لهن كمحرم من المحارم إلا الزوج ، على شروط مسرودة في محلّها.

ثم الأصل المفهوم من (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) بديل «أزواجهم» هن

٢١٠

النساء للرجال وكما في آياتها (١).

إلا (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) كما في النور (٣١) والأحزاب (٥٥) فهم الرجال للنساء او الأعم منهم.

فهنا (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) بديل «أزواجهم» ليست لتعني الا النساء المملوكات للرجال ، اللهم الا المحرمات نسبيا او سببيا ام في حالات خاصة كالحيض والنفاس والإحرام والصوم ، فالقصد من الاستثناء هو الخروج عن أصل الحرمة ولا ينافيه الموارد المستثناة كما في أزواجهم.

ولماذا (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ..) دون «لأزواجهم»؟ عله اعتبار بالعلو في ذلك الحق للأزواج على زوجاتهم ، فانه ليس مجرد حق مسموح ، بل هو حق مستعل ، مفروض عليهن التمكين في موارد الطلب حيث هي حلّ خارج عن مستثنيات التحريم.

فقد تحرم «أزواجهم» حالة الإحرام والصيام والحيض والنفاس ، وحين نكحت امرأة ولما تدخل عليها ثم تنكح ربيبتك منها فتحرم أمها دون طلاق ، وان لم تصدق عليها زوجة بعد ، فهي ـ اذن ـ خارجة عن نطاق الأزواج.

كما تحرم من (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) المحرمات النسبية والسببية والرضاعية وأمتك وهي حامل من غيرك حتى تضع ، والمزوجة من غيرك حتى تسرح ، والتي لك فيها شريك ، والمحرمة والصائمة والحائض والنفساء.

__________________

(١) فان خفتم الا تعدلوا فواحدة او ما ملكت ايمانكم ٤ : ٣ والمحصنات من النساء الا ما ملكت ايمانكم ٤ : ٢٤ فمن ما ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات ٤ : ٢٥ وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ٣٣ : ٥٠ ولا ان تبدل بهن من ازواج ولو أعجبك حسنهن الا ما ملكت يمينك (٣٣ : ٥٢).

٢١١

فكما في حل أصل الزواج وملك اليمن شروط ، كذلك في الحل بعد الزواج وملك اليمين شروط ، والآية انما هي في مقام البيان لأصل الضابطة تحريما وتحليلا ، ان الحل في الفروج يختص بالأزواج والمملوكات ولا ثالث لهما (١).

(فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) في هذين الحقلين ، مهما اختلفت الحالات والظروف معهن وجوبا واستحبابا وإباحة وكراهة ، ثم هم ملومون في موارد الحرمة مثل ما في المستثنى منه.

وترى كيف يستبيح الإسلام ملك اليمن دون نكاح ، أليس في ذلك هتكا لحرمة الإنسان مهما كان كافرا أن يستباح عرضه وبضعه بصورة طليقة خارجة عن شروطات النكاح المشروع عند كل قوم ، مهما اختلفت صوره؟.

نقول : النكاح بحاجة إلى سبب ، فقد يكون لفظة تقال مع رعاية الأحوال ، صيغة دائمة او مؤقتة ، وأخرى معاطاة كما في سائر المعاملات ، ونفس الاسترقاق بحرب وأشباهها هو من اسباب النكاح قائما مقام صيغة النكاح.

ثم وذلك الاستمتاع ، الملحوظ فيه تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن ، يمنعهن عن التبعثر ، كيلا يشبعنها من طريق الفوضى في المخالطة الجنسية.

وفيما إذا لا ترضى أمة تلبية الجنس مع مالكها قد لا تجبر على أسر

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٢١ عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام) تحل الفروج بثلاثة وجوه نكاح بميراث ونكاح بلا ميراث ونكاح بملك يمين.

٢١٢

الجنس هكذا ، فتتزوج بمن تراه ويراه المالك صالحا ، وعلى أية حال فهذه الاستباحة بشروطها سياج على تخلف الجنس وتحرير عن حبسه.

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) ٧.

وذلك وراء الأزواج بالنسبة للشهوات الجنسية بأضلاعها الأربعة نظرا ولمسا ووقاعا ، واستيلادا بإفراغ المني في الأرحام دون وقاع ، فان ذلك تجاوز عن الحق المرام وخروج عن حدود الله الملك العلام.

كما ووطيء البهائم أمّا ذا من غير الأزواج وما ملكت ايمانهم داخل في «وراء ذلك» اللهم إلا نظرا ولمسا دون شهوة ، بل وهما عن شهوة خارجان عن المستثنى منه ، حيث الناظر إلى فرج حيوان او اللامس له بغير فرجه نفسه لم يترك الحفاظ على فرجه ، فليدل على حرمتها عن شهوة دليل آخر.

فقد حصرت حرية الشهوة في هاتين بحدودها وإياهما ، فمن ابتغى وراءهما أية بغية شهوانية فقد عدا الدائرة المباحة ووقع في المحظور واعتدى على الأعراض المحترمة المحرمة غير المستحلة بنكاح ولا جهاد ، وحينئذ تفسد النفس الراعية في غير مرعاها ، وتتفسخ حرمة العائلة المشروعة المحددة ، وتفسد الجماعة المؤمنة.

٥ و ٦ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) ٨.

والأمانات تعم أمانات الله تكوينا وتشريعا ، وأمانات الخلق حالا ومالا وعرضا أمّا هي ، وكذلك العهد الذي عاهد الله عليهم في فطرهم وعقولهم وشرعتهم او الذي عاهدوا له ، او المعاهدات بينهم أنفسهم ، فالعهد كما الأمانة لزام المتعهد والمؤتمن أيا كان ، اللهم الا أمانة أو عهد في غير مرضات الله ، كسارق يأتمنك على ما سرق ، او متعهد يتعهد لك ان يقترف

٢١٣

إثما ، فالأمانات والعهود الواجبة الرعاية محدودة بحدودها دون فوضى جزاف.

وهنا النص يجمل التعبير دون تفصيل عن كل امانة ب «أماناتهم» وعن كل عهد ب «بعهدهم» وعلّ الإفراد في «عهدهم» يتبنى عهد الفطرة الذي يتبناه كل عهد.

٧ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) ٩.

الخشوع في الصلاة أمر ، والحفاظ عليها امر آخر بهما تكمل الصلاة ظاهرا وباطنا ، قلبا وقالبا ، فهنا صلاة بأصلها ، وهناك خشوع فيها ، وهنا لك شروطها من «أوقاتها وحدودها» (١) ومقدماتها ومقارناتها بقبلتها والطهارة عن حدث ، او خبث في الأبدان والألبسة ، وكل هذه ونظائرها داخلة في نطاق (عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) ، ف «في» ناظرة إلى نفس الصلاة ، و «على» تنظر إلى ما يحلّق على الصلاة من أوقات ومكانات ومقدمات ومقارنات.

هذا ولكن المحافظة في آية البقرة : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٢٣٨) وكذا الانعام (٩٢) والمعارج (٣٤) هي أعم مما هنا حيث لم تقرن بسابقتها (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)

ولماذا الإفراد للصلاة في «خاشعون» والجمع في «يحافظون»؟ علّه حيث الخشوع هو لزام جنس الصلاة ، والمحافظة هي على الجمع ، سواء جمع الشروط والأجزاء ، ام جمع الركعات او الصلوات عدا لها ، ام جمع

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٣١ عن تفسير القمي في الآية قال : على أوقاتها وحدودها وعن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هي الفريضة و (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) قال هي النافلة.

٢١٤

الأوقات ، فالمحافظة هي عن التبعثر والتفرق في الصلاة ، والخشوع هو قلبها على جمعها ، ثم و «في صلاتهم» هي حالة المصلي فيها و «على صلواتهم» أعم مما فيها وما قبلها وبعدها.

ولقد بدأت شروطات الايمان بخضوع الصلاة وختمت بالحفاظ عليها تدليلا على عظيم مكانتها في بناء الإيمان ، والذي لا يحافظ على صلاته كصلة دائبة بربه لا ينتظر منه ان يحافظ على سائر صلاته ، وصلاته الصالحة تضمن صالح كل صلاته ، حياة ادبية منضبطة على أية حال.

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) ١٠.

(هُمُ الْوارِثُونَ) شرعة الله حيث يحملونها تطبيقا لها ودعوة ودعاية إليها بعد نبيها ، أئمة وعلماء ربانيين : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (٣٥ : ٣٢).

و (هُمُ الْوارِثُونَ) السلطة الزمنية إضافة إلى الروحية يوم الدولة الإسلامية العالمية : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢١ : ١٠٥).

و (هُمُ الْوارِثُونَ) بين هؤلاء وأولاء : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) (٧ : ١٣٧) (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) (٤٠ : ٥٣).

وعلى اية حال (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (٧ : ١٢٨) وطبعا الأتقى منهم فالأتقى ولكي يحافظوا على وراثة الله.

ومهما كانت الوراثة الارضية غير تامة ولا طامة لهم اللهم إلا في الدولة الأخيرة ، لكنها خالصة لهم يوم القيامة ، فإنهم هم :

(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ١١.

٢١٥

و «الفردوس» هي «أعلى الجنان» (١) و «هي مقصورة الرحمن» (٢) وهي «ربوة في الجنة وأوسطها وأفضلها (٣) هذه! وفي أخرى أضيفت إليها الجنات مما يدل على اختصاصها من بينها : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (١٨ : ١٠٨) ويا لها من جنة «سورها نور والغرف التي فيها هي من نور رب العالمين» (٤) وكما ان النار دركات أسفلها لمن يصلونها إيقادا لها ، كذلك الجنة درجات أعلاها للمؤمنين القمة حسب الدرجات.

وتراهم عمن يرثون الفردوس؟ عن الله؟ وهو الوارث للسماوات والأرض ولا يتحلل عن ملكه حتى يورث المؤمنين به! أم عن سائر خلقه؟ واهل الجنة منهم يدخلونها دون توريث ، واهل النار ليس لهم منها نصيب حتى يورثوه!

اهل الفردوس يرثونه عمن دونهم من المؤمنين إذ كان لهم منها نصيب

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٣ : ٨٢ روى ابو امامة عنه عليه السلام انه قال : سلوا الله الفردوس فانها أعلى الجنان وان أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش.

(٢) المصدر روى ابو موسى الاشعري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار.

(٣) الدر المنثور ٥ : ٦ ـ اخرج عبد بن حميد عن انس ان الربيع بنت النضر أتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان ابنها الحارث بن سراقة أصيب يوم بدر واصابه سهم غرب فقالت اخبرني عن حارثة فان كان أصاب الجنة احتسبت وصبرت وان كان لم يصب الجنة اجتهدت في الدعاء فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يا ام حارثة انها جنان في جنة وان ابنك أصاب الفردوس الأعلى والفردوس ربوة ..

(٤) نور الثقلين ٣ : ٥٣٢ في من لا يحضره الفقيه في خبر بلال عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر فيه صفة الجنة قال الراوي فقلت لبلال : هل فيها غيرها؟ قال : نعم جنة الفردوس ، قلت وكيف سورها؟ قال : سورها نور قلت الغرف التي هي فيها؟ قال : هي من نور رب العالمين».

٢١٦

إن كانوا كما هم ، ويرثونه عن اهل النار إذ كان لكلّ منها نصيب حرموا أنفسهم منه.

فكما وراثة الأرض للمؤمنين في الدولة الحقة لم تكن الا احتلالهم في السلطة عليها عنهم وهو حقهم بما عملوا ، كذلك الجنة وأحرى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣ : ٧٢) وهذا لأهل الجنة كلهم ، ولأهل الفردوس ميراثان ، عمن دونهم من المؤمنين ، وعن الكافرين ، حيث قدّر لكلّ نصيب لو عملوا كما عمل هؤلاء ، وكذلك منازل النار «فيورث هؤلاء منازل هؤلاء ويورث هؤلاء منازل هؤلاء» (١).

هذا وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما منكم من احد الا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله: (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ)(٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٦ ـ اخرج سعيد بن منصور وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... أقول وقد مضى حديث حارثة انه أصاب الفردوس.

(٢) وفي نور الثقلين ٣ : ٥٢١ عن تفسير القمي حدثني أبي عن عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ما خلق الله خلقا الا جعل له في الجنة منزلا وفي النار منزلا فإذا اسكن اهل الجنة الجنة واهل النار النار نادى مناد : يا اهل الجنة أشرفوا فيشرفون على اهل النار وترفع لهم منازلهم فيها ثم يقال لهم : هذه منازلكم التي في النار لو عصيتم الله لدخلتموها ، قال : فلو ان أحدا مات فرحا لمات اهل الجنة في ذلك اليوم فرحا لما صرف عنهم العذاب ثم ينادي مناد : يا اهل النار ارفعوا رؤسكم فيرفعون رؤسهم فينظرون الى منازلهم في الجنة وما فيها من النعيم فيقال لهم هذه منازلكم التي لو أطعتم ربكم لدخلتموها قال : فلو ان أحدا مات حزنا لمات أهل النار حزنا فيورث هؤلاء منازل هؤلاء ويورث هؤلاء منازل هؤلاء وذلك قول الله (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

٢١٧

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)(٢٢)

٢١٨

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ١٢.

هذه واللتان بعدها هي اشمل الآيات واجمعها تفصيلا لخلق الإنسان تناسليا.

أترى هذا «الإنسان» يعم الإنسان الاول وذريته؟ وليس خلق الأول مرحليا كذريته! ام هو ـ فقط ـ ذريته؟ فما هو دور الطين في مراحله الجنينية!

الإنسان هو الإنسان ككل ، وخلقه من سلالة من طين يعم كل انسان ، ومفرق الطريق بينه وبين ذريته هو المرحلية الجنينية في نشوءه وارتقاءه.

فالإنسان الاول مخلوق (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) قفزة دون ان تخطو هذه المراحل ، ونسله مخلوق من سلالة من طين بهذه الخطى بعد البداية حيث المني ينتهى إلى طين.

ومهما اختلف طين الإنسان الاول عن طين ذريته في التخلق كيانا فقد يشتركان في (سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) وان كان هنالك اختلاف بين سلالة وسلالة.

واما آية السجدة (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٨) فقد تعني ذلك البدء الخاص قفزة دون كل بدء ، فهنالك بدء قريب يختص بالإنسان الاول ، وهنا بدء بعيد يعم أنسا له.

ف (سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) بدء للأول هي الطين الخاص الخالص المنسلّ من سائر الطين ، المقتفز إلى خلق آدم (عليه السلام) دون مراحل ، حيث

٢١٩

السلالة هي المنسلّة المنفصلة خفية كصفوة مختارة

وقد انسل الإنسان ـ ككل ـ من الطين واستخرج من صفوه وسره ، من خلاصته وكلاسته ، حيث السلالة هي محض الشيء ومصاصه وصفوته ولبابه.

والبشرية لم تعرف حتى الآن كيف يتسلل المني من الطين ، والنطفة كيف تتسلل من المني ، اللهم الا إشرافا على أشراف بعيدة من ذلك المنظر المبين.

و (سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) نسله ، هي الخلاصة السرية المنوية المنسلة المختارة عن صفوة المواد الطينية ـ أغذية واشربة ـ وكلها سلالات من طين ، وهنا (سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) تعني منيا يمنى ، وهناك تعني طينة آدم المنسلة عن سائر الطين.

ف (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) الأول (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ثم هو الإنسان دون ان يخطو مراحل.

و (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) الذرية (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) هو المني (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ...) حيث النطفة مجعولة من المني ، فانها جزء من البحر المنوي.

فالطين إذا هو المصدر الاول المتكرر ذكره في الذكر الحكيم : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً) (٦ : ٢) (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (٣٧ : ١١) (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٣٢ : ٧).

وقد يعبر عنه بالتراب وهو اصل الطين : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (١٨ : ٣٧) (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) (٢٢ : ٥) (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) (٣٥ : ١١)

٢٢٠