الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (١٦ : ٧٠)(١).

فلا يعني التوفي هنا ـ فقط ـ الإماتة فانها تعم من يرد إلى أرذل العمر ، بل هو التعمير بحالة الأشد ، ثم الإماتة عنها ، خلاف من يردّ إلى أرذل العمر ، إذ لم يتوفّ من الناحية الأولى ، ام هدّمت أشده التي تخطاها بارذل العمر.

ولان العمر هو منذ الولادة حتى الموت ، إذا فأرذل العمر هو عمر الوليد الجديد ـ :

(لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) فمحور الرذالة هو اللّاعلم عقليا ومعرفيا ، دون النكسة البدنية ، وهما الشدّان الإنسانيان ، والثالثة البدنية هي الحيوانية المستخدمة المقارنة لهما زمنيا في الاكثرية المطلقة.

فيا ويلاه حين يرد إلى أرذل العمر ، مرتدا الى طفولته الطفلاء ، في عواطفه وانفعالاته ، في وعيه ومعلوماته ، في تقديراته وتدبيراته ، اقل شيء يضحكه ويرضيه ، واقل شيء يسخطه ويبكيه ، ناسيا أوائل الأمور قبل انتهاءه إلى أواسطها وأواخرها ، فالتا عن عقله الناضج وعلمه الهائج ، المتخايل بهما المتطاول فيهما ، ثم :

(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) : عوانا بين الموت والحياة ، مستعدة للحياة فالهامد هو الحيوان الذي همد وسكن بعد حراكه ، وخشع بعد تطالّه واشرافه لعلة طرأت عليه فأصارته إلى ذلك ، ثم أفاق من تلك الغمرة وصحا من هذه السّكرة فتحرك واستهب بعد هموده وركوده.

__________________

(١) هنا قول فصل في تفسير أرذل العمر فراجع سورة النحل.

٢١

وكذلك حال الأرض إذا أماتها الجدب واهمدها المحل ، ثم حالها إذا نضحها الغيث بسجاله ، وبلّها القطر ببلاله ، واهتزت بنابتاتها ناضرة ، وربت بعد الجفوف متزيلة ، وذلك تقدير العزيز العليم!

وهكذا التراب المخلوق منه الإنسان في المبدء والمعاد ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) أحييت ف (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) فتراها في حركة اهتزازية رابية نامية ، وكأنها حيوانة عطشانة تشرب الماء وتهتز بعد همود وتفزّ بعد جمود (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) بهجة مختلفة الحيويات النباتية والحيوانية فان (اللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) (٧١ : ١٨).

ف «كل زوج» لا اقل من ان تعني كل الأزواج النباتية والحيوانية والانسانية النابتة من الأرض ، اضافة إلى معادن نابتة نتيجة نزول الماء ومزيجه ثم (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) تعم كافة جنبات الحياة النابتة عن الماء.

ذلك ، وبالتالي تستنتج من هنا وهناك خلفيّات ولزامات خمس لا نكير لها إلا المتجاهل عن ذلك الخلق المتواصل الذي يعيشه طول حياته :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٦ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ٧.

«ذلك» الإحياء المتواصل لميتات الإنسان والأرض بكل نابتاتها (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) «هو الحق» لا سواه ، وكل حق سواه يتمحور الله الحق ، فلا باطل منه أو اليه ، وقضية الحق الطليق طلاقة الرحمة المتمركزة على الإحياء بغية بلوغ الاشدّ للإنسان ، وسائر البلوغ لسواه ، ولو ان الحياة انحصرت في

٢٢

هذه الدانية الفانية كان الخلق عبثا باطلا (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٣٨ : ٢٧).

(وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) في المعاد كما يحيي هنا ، فلو لا الإحياء الآتي لكان الإحياء الآن باطلا ، (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) سواء فيه شيء الإحياء الاول وسواه ، ام اي شيء صالح للخلق والإحياء أيا كان وأيان.

فكما الحكمة في القدرة الطليقة تقتضي الإحياء في الخلق الاول ، كذلك وبأحرى في الثاني (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٥٠ : ١٥).

(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) قضية الحق في الخلق والخلق الحق ، ساعة يحاسب فيها اهل التقوى والطغوى (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (٢٠ : ١٥) وإتيان الساعة هو قضية السنة الحقة المستمرة ، ان لكل عملية ساعة تظهر فيها كما هيه ، ساعة غير مجازية ولا مجازفة.

(وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وهم الأموات حيث البعث حقهم العادل برحمة الرحيم الرحمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

فحين تثبت امكانية الإحياء مرة الاخرى بكرور الإحياءات في حياتنا الدنيا ، وان الخلق حق دون اي باطل ، فلولا البعث لكان الخلق باطلا ولعبا حين لا يقتص للمظلوم من الظالم ، ولا تظهر حقائق حقائق المساعي لكل ساع.

وهذه الإمكانية باولويتها الذاتية ، هي ضرورية التحقق بدليل ان الله هو الحق فخلقه حقّ ، وان كتابات الوحي مخبرة بتلك الضرورة ، وحتى لولاها لكان دليل العقل بالعدل فيه الكفاية لإثباتها.

٢٣

أترى ان الحق يطوّر الإنسان من تراب إلى نطفة وإلى اكتماله ليبلغ أشده في هذه الأدنى ، وما هو ببالغها تماما سعيا ونتيجة قضية العرقلات والزحامات ، ثم لا يطوّره بعد موته إلى حياة ارقى ليبلغ أشده بمبلغ ما بلغها في الدنيا ، حين (يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى)؟.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ٩ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ١٠.

مقابلة (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ب (وَلا هُدىً وَلا ..) تدلنا ان القصد منه هو العلم الذاتي ، عقليا او فطريا او سواهما ، فلتعن «هدى» العلم المكتسب من مكسب الحق اليقين تلقينا ، ثم (كِتابٍ مُنِيرٍ) هو كل كتاب ينير الدرب على كل متحر للحق ، وطبعا هو كتاب الوحي.

والمجادلة في الله ـ إذا صحت وسلمت ـ لا تخرج عن هذه الثلاث ، بعلم هو حجة الحق وأفضله الوحي المكمل لعلم الفطرة والوحي ، ام هدى من اصحاب الوحي مشافهة حاضرة ، ام بالأخير (كِتابٍ مُنِيرٍ) فيه العلم والهدى ، وهذه تشرك في انها حجة الحق دون ريب ، وقد عبر عنها في آية مضت ب «علم» وحقا هو التعبير الصالح عن كل حجة صارمة ، وهي كل ما يفيد علما ، دون ان يعارضه ما ينقضه او ينقصه ، وقد تتفارقان ان الاولى بشأن المقلّدين لمكان «يتبع» والثانية بشأن المقلّدين لمكان «ليضل» بعدها كفاية لأصحابها.

وذلك ترتيب رتيب في الحجة بدء بالعلم ، ففيه الكفاية لمن يعلم ، ثم هدى لمن ليس له علم فيهتدي بعلم غيره ، ومن ثم (كِتابٍ مُنِيرٍ) فيه كل علم ذاتي ومستفاد.

٢٤

وقد تعنيها الآية (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (١٧ : ٣٦) وان كان ترتيبها غير ترتيبها ، فالسمع هو هدى ، والبصر كتاب منير ، والفؤاد هو العلم المتفئد في القلب.

«ثاني عفطه» حال انه يثني ويكسر عطفه ، ليّا بشدقه وعنقه ، كبرا متعجرفا ، واعراضا ونأيا بجانبه ، اعراضا عن سماع الرشد واتباع الحق ، يصرف دونه بصره وينثي عنه عطفه وعنقه بكل رعونة ودلال ، رغم انه ليس الا في ضلال ، مخيلا اليه كأنه يملك ما يعوضه الحق ، فهو ـ إذا ـ أحق من كل حق ، (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : يجادل .. ليضل ، وثاني عطفه ليضل ، قرنا لإعراض الحال بإعراض المقال ، ليحق الباطل والضلال بحال بعد مقال ، وذلك أوقع في الإضلال ، ان المجادل في الله بغير حجة ، يثنى عطفه متظاهرا انه يملك الحق كله ، بل هو الحق كلّه ، وسواه باطل كله! «وليس احد أشد عقابا ممن لبس قميص النسك بالدعوى بلا حقيقة ولا معنى» (١).

(لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) معنويا أمام دعاة الحق واهله ، وأمام اصحاب العقول في كل الحقول ، وخزي بعذاب الاستئصال والمعيشة الضنك رغم كل دلال (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) كما احرقوا هنا عقول الناس بحريق الجهل والتجاهل جزاء وفاقا ، ويقال له حينذاك :

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) يد الروح والجسم ، يد الجدال بغير علم وثني العف ، يد العقل المدخول ، والنفس الامارة بالسوء ، وقد تعني «يداك» كافة الطاقات التي كان يملكها ، سلبية وايجابية. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)

__________________

(١) مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (عليه السلام).

٢٥

فمن كونه ظلّاما للعبيد ان يجبرهم على الضلال والإضلال ثم يخزيهم بعذاب الدارين ، ومنه الا يعذبهم كما لا يعذب عباده الصالحين ، تسوية بين المحسن والمسيء ، او يعذب المضلّلين دون المضلّلين ، او يعاكس أمرهما أمّاذا من ظلم هو بالنسبة لرب العالمين ان يكون ظلاما للعبيد.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ١١.

ذلكم الناس مقلّدين ومقلّدين كانوا هم النسناس المشركين ، لا يعبدون الله على اية حال ، وهؤلاء ناس موحدون ولكنهم لانحرافهم في حرفهم لعبادة ربهم خاسرون ، فما هو ذلك الحرف الهارف الجارف الذي يزلّ به الأقدام ويضل به أقوام؟

حرف الشيء طرفه وجانبه وهامشه ، دون أصله ومتنه ، ولكنه جانب له يربطه بغيره عند عدم الارتباط ، إذا فهو في أصله لا اصل له ولا معنى في ذاته ربطا وسواه ، ولذلك سمى الحرف في الكلام حرفا لأنه جانب غير اصيل يربط أصيلا باصيل ، اسما باسم ام بفعل ، فلا معنى له في نفسه.

وعبادة الله كسائر الأفعال قد تكون متأصلة في حياة العابد ، متعرقة في قلبه وإلى جوارحه ، فسائر أفعاله حرف ، وسائر حيوياته هامشية على ذلك المتن المتين المكين ، فلا ينحرف او ينجرف عن عبادة ربه مهما قاست الظروف وعرقلت الحياة ، بل وتزدهر وتنبهر تحت الضغوط وتلك عبادة الأحرار.

وتقابلها العبادة الحارفة المحترفة ، التي هي حرف وأداة لما يهواه من حياته وشهواته ، فأصله في حياته ما يهواه ، فإن يعبد الله فهي على حرف وطرف وهامش من الحياة ام وجه واحد من وجوه العبادة ، وهو وجه

٢٦

التجارة الدنيوية ، فلا يعبد ربه على كل الوجوه ، عبادة طليقة عن هواه ورضاه ، فانما اتخذ إلهة هواه يهوى منه كما يهوى من هواه ، إذا فهو عابد هواه دون الله.

فهي تزداد إذا زادت فيها نزوات الحياة ، وتنقص ام تنقض إلى ضدها إذا نقصت او نقضت فيها نزوات ، فليست عبادة الله له أصلا يهدف ، فانما هي حرف يحرف ويهرف.

يحترف بها لحيونة الحياة وشهواتها ، ام إذا قارنتها فنعما هي ، وإذا فارقتها فبئسما هي:

(فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) بحرف العبادة ام في ظرفها (اطْمَأَنَّ بِهِ) بخيره لا بعبادته إلا كأداة وقرين ، فعبادته إذا ذريعة اطمئنانه بخير يهواه ، فان كانت المعصية توصله إلى ذلك الخير انقلب إليها لنفس الاطمئنان.

(وَإِنْ أَصابَتْهُ) بها او في ظرفها «فتنة» وابتلاء (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) وعلّه حرفه الذي كان يعبد الله عليه حيث كانت العبادة وجها ظاهرا حارفا لحياته دون اصالة ، فهو ينقلب على حرفه ويترك العبادة حيث يراها ـ بزعمه ـ سبب الفتنة ام قرينة لها.

وهذه صفة الإنسان المضطرب الدين ، الضعيف اليقين ، الذي لم تثبت في الحق قدمه ، ولا استمرت عليه مريرته ، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد بقيادها ، ويفارق دينه لها ، كالقائم على حرف مهواة ، فادنى عارض يزلقه ، وأضعف دافع يطرحه.

وقد أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم بالإسلام فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : اقلني فقال : ان الإسلام لا يقال ، فقال : لم أصب في ديني هذا خيرا ذهب بصري ومالي ومات

٢٧

ولدي ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا يهودي! الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة ، ونزلت الآية» (١).

و «كان ناس من الاعراب يأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فان وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا ان ديننا صالح فتمسكوا به ، وان وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا ما في ديننا هذا خير فانزل الله الآية (٢).

ثم (يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) قد تعم اصل العبادة وفرعها ، فالاولى هي العبادة الطليقة عن طقوس مقررة في الشرعة المرضية ، والثانية هي المرضية ، ومن الأول «هم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله فخرجوا من الشرك ولم يعرفوا ان محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله فهم يعبدون الله على شك في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وما جاء به فاتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا : ننظر فان كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا انه صادق وانه رسول الله ،

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٤٦ ـ اخرج ابن مردويه من طريق عطية عن أبي سعيد قال : اسلم رجل ...

(٢) المصدر اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس قال كان ناس ...

وفيه عن الحسن كان الرجل يأتي المدينة مهاجرا فان صح جسمه وتتابعت عليه الصدقة وولدت امرأته غلاما وأنتجت فرسه مهرا قال والله لنعم الدين وجدت دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا ما زلت اعرف الزيادة في جسدي وولدي وان سقم بها جسمه واحتبست عليه الصدقة وأزلقت فرسه واصابته الحاجة وولدت امرأته الجارية قال والله لبئس الدين دين محمد هذا والله ما زلت اعرف النقصان في جسدي واهلي وولدي ومالي.

٢٨

وان كان غير ذلك نظرنا ...» (١).

هؤلاء الأغبياء ، بعبادتهم الجوفاء الخواء قد يخسرون الآخرة والاولى بترك الدنيا للدنيا ، متذرعين بعبادتهم والتظاهر بزي الصالحين لذّات هذه الأدنى كالرئاسة الباطلة (٢) يفضلونها على سائر اللذات وهيهات هيهات من هذه الهوّات ، التي هي اركس من كافة الحيونات والشهوات ، يترك لذات ظاهرة لأخرى متخيلة مزخرفة باطنة ، (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) وظلّ على ظاهر تقشفه وعبادته (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) ترك الظاهر الى متروك الباطن (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).

ف «السائر في مفاوز الاعتداء ، والخائض في مراتع الغي وترك الحياء باستحباب السمعة والرئاء والشهوة والتصنع إلى الخلق ، المتزيي بزي الصالحين ، المظهر بكلامه عمارة باطنه وهو في الحقيقة خال عنها ، قد غمرتها وحشة حب المحمدة ، وغشيتها ظلمة الطمع ، فما افتنه بهواه وأضل الناس بمقالته؟ ..» (٣).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٧٣ عن الكافي بسند متصل عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سألته عن هذه الآية قال : هم قوم .. قال الله عز وجل «فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ» يعني عافية في الدنيا «وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ» يعني بلاء في نفسه «انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» انقلب على شكه إلى الشرك ...

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤٧٤ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن الرضا (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : فان في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ويرى ان لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك اجمع طلبا للرئاسة الباطلة.

(٣) المصدر عن مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (عليه السلام): واما السائر ...

٢٩

ذلك بالرغم من ان العقيدة الصالحة هي الركيزة الثابتة الدائبة في حياة المؤمن ، يدأب في تكميلها ، ويعبد الله بحبها قدر المستطاع كالأصل القمة أو الوحيد في حياته ، تضطرب الدنيا وأهلوها من حوله وهو ثابت لا تزعزعه أو تتجاذبه الأحداث ، وتتهاوى حوله الأسناد وهو مستند في كل ذلك إلى قاعدة الايمان القائمة على أية حال.

ليس الايمان والعبادة هنا له رأس مال يتجربهما لمتعة الحياة الدنيا ، فلا يعبد الله نظرة جزاء في هذه الأدنى ، مهما كان ناظرا إلى الاخرى ، بل هي هنا في ذاتها جزاء فانها الحمى الذي يلجأ اليه ولا يفجع لديه (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)!

أليس ذلك جزاء انه الثابت المطمئن في مهب الرياح ، ومن دونه من تتجاذبهم الرياح ، وتتقاذفهم الأرباح ، وهو كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف ، ثابت الصلة بالله راضيا بمرضات الله؟.

والعبادة على حرف هي بصيغة اخرى عبادة التعابد ، يعبد ربه إذا عبده وأطاعه ربّه في هواه ، كأنه يقول في ذلك الحرف : أعبدك حين تعبدني ، ولا أعبدك حين لا تعبدني ، تجارة فاجرة في العبادة ، وهي في الحق عبادة الهوى ، المتظاهرة بالهدى ، وهي انحس من تركها ، حيث التارك لها كافر ، والعامل لها على حرف منافق أشر من كافر.

ان اصابة الخير الرخاء والفتنة البلاء عند العبادة كلتاهما فتنة وبلاء (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) بل الفتنة في الرخاء افتن وابلى منها في البلاء ، فكيف عبر هنا عن فتنة الرخاء بالخير واختص التعبير بالفتنة للبلاء؟

ذلك ، لأن من هذه عبادته لا يرى الخير بلاء إذ لا يثقل على طبعه ، والبلاء في مقياس الأغفال هو ما يثقل على الطبع ، والمنافق لا يرى الخير الا ملائم طبعه وموصل شهوته.

٣٠

وتراه إن أصابته فتنة كيف ينقلب على وجهه ، ولم تكن عبادته عبادة من اوّل امره؟

ذلك لأن وجهه هو حرفه في عبادته ، فان اصابته فتنة ترك ذلك الحرف الظاهر ايضا كما كان تاركا لحق العبادة منذ كان (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).

لقد كان يدعو الله في ظاهر الحال في إصابة الخير ، ثم يجاهر في دعوة غير الله عند الفتنة :

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) ١٢.

وهنا (لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) قياسا إلى بغيته من دنياه ، إذ لا ضار ولا نافع إلّا الله لا سواه ، والانقلاب من دعاء الله الضارّ النافع إلى دعاء غير الله غير الضار ولا النافع (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) فان ترك أية دعوة كان ضلالا قريبا علّه ينتبه فيدعوا الله ، ولكن الانقلاب من دعاء الله إلى دعاء غير الله ضلال بعيد ما أبعده! وليس فحسب انه لا يضره ولا ينفعه ، بل

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) ١٣.

ومن ضره الأقرب خسار الدنيا والآخرة ، وليس نفعه إلا تخيلا لا يملك أية حقيقة وواقعية ، فان من يدعوه من وثن او شيطان او طاغ او سند من بني الإنسان ، ضرّه في عالم الضمير إذ يتوزع القلب أثقالا بالوهم والذل ، وضره في عالم الواقع ولا سيما إذا وقعت الواقعة انه (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) قربا واقعيا على اية حال ، مهما كان نفعه المتخيل اقرب زمنيا في الخيال.

ذلك ، واما المؤمن الذي يعبد الله أصلا ـ لا حرفا ـ وعلى أية حال ، ولا يتخذ مولى ولا عشيرا الا الله ، فهو رابح في كل الأحوال :

٣١

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ١٤.

وليست هي فقط جنات الآخرة ، بل وجنة الاطمئنان والرضوان هي عشيرته في دنياه وإلى عقباه ، بل المؤمن هو جنات في عقليته ونفسيته ، في عقيدته وعمليته ، جنات في حياته كلها مهما اعترضته البلايا والرزايا ، فانها ليست بشيء بجنب رضوان من الله واطمئنان بالله.

ذلك ل (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ولا يريد الا خيرا ، عدلا او فضلا ، ومن دون الله ليس (يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ان كان ممن يريد ، إذ لا تحلّق قدرته على كل مراده ، فضلا عمن لا يريد من أوثان وأصنام!.

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) ١٥.

هذه الآية من معارك الآراء بين المفسرين فهي حريّة بتدبر لائق بالغ علّنا نفسرها كما هي دون تحميل ولا تأويل ، سردا لمحتملات ثم سبرا وتقسيما لكي نحصل على المعنى الأليق بلفظ الآية وموقفها.

الذي يبدو من جو الآية انه كان هنالك غيظ من ظن لعدم النصرة الإلهية في الدنيا والآخرة ، ثم تعجيز بسبب ظاهر مقترح كيدا لإذهاب ذلك الغيط ولن يذهب باي كيد حيث الله هو الفاعل للنصر في الدنيا والآخرة وهو التارك له.

والسبب في اصل اللغة هو الحبل الذي يصعد به النخل ، ثم كل ما يتوسل به الى شيء ماديا ومعنويا ، فاعليا ام ظرفا معبّدا لفعل ، فهو ـ إذا ـ يعم كل وسيلة لكل ما يتوسل اليه كما (تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (٢ : ١٦٦).

٣٢

ومن الأسباب ما هي ظاهرة ، ومنها غير ظاهرة يمكن التوسل إليها ، ومنها ما لا يمكن التوسل إليها وبها الا بما يسببها الله تعالى كما (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (١٨ : ٨٤).

ثم هنا اسباب ارضية من ذلك المثلث واخرى سماوية أكثرها من الثالث (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) (٤٠ : ٣٧) وقد تأتي في مسرح التعجيز (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) (٣٨ : ١٠) وهي طرق السماء بوسائلها الغيبية.

والسبب في الآية هو الممدود الذي يحاول مادّه ان يقطع ، قطعا لما يمد به ، ام قطعا لمسافة سماوية فيه ، فكل منهما قطع ، وكلاهما مما لا يتأتى لناس عاديين غير مؤيدين بنصرة إلهية خاصة.

انه ليس حبل الخنق (١) إذ لا يمدّ إلى السماء ، وانما إلى سقف ولا يسمى سماء ، ثم حبل الخنق لا يقطع ، بل يربط بشيء عل ثم يعلّق عليه لكي يخنق ، مهما تصح عنايته ضمن المعنى الصالح فيعني القطع قطع نفسه بخنقه.

انما هو سبب ممدود من الأرض الى السماء قصدا لعملية في أمر سماوي ، قطعا لرزق آت منها ، ف (فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) رزق

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٧٩ محمد بن العباس بسند متصل عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) حدثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ذات يوم ان ربي وعدني نصرته وان يمدني بملائكته وانه ناصري بهم وبعلي خاصة من بين أهلي فاشتد ذلك على القوم ان خص علينا بالنصرة وأغاظهم ذلك فانزل الله الآية قال : ليضع حبلا في عنقه إلى سماء بيته يمده حتى يختنق فيموت هل يذهبن كيده ما يغيظ.

٣٣

الآخرة والاولى ، ام قطعا لتلك المسافة الممدودة بسبب حتى يرقى مادّه إلى السماء ليقطع ، ثم هو بذلك الكيد يذهب ما يغيظ ، حيث أغاظته النصرة الإلهية سلبا او إيجابا ، قطا لسلبها حتى توجب ام لا يجابها حتى تسلب.

وهناك في الآية محاور ثلاثة : ظن فمد وغيظ ، والظن كما يلوح هو الظن السوء بالله بإحالة نصرته في الدنيا والآخرة ، والمدّ كوسيلة مقترحة تعجيزية تثبيتا لتلك الإحالة ، وإذهابا لذلك الغيظ.

فهنا احتمالان اثنان في مرجع الضمير الغائب ل (لَنْ يَنْصُرَهُ) انه «من» المذكورة قبله نصا ، ام هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وجوّ الآية يناسبهما كليهما.

فالذي (يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ .. وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ .. يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) انه يبلغ به انقلابه على وجهه لحدّ الظن ان ناصره غير الله ف (لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) وكما اختلج في بعض الخواطر الضعيفة كأن الله لا ينصر المؤمن لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وذلك حينما اصابته فتنة فانقلب على وجهه آيسا في الضر من عون الله ، فاقدا كل نافذة مضيئة ، وكل نسمة رخيّة بهيّة من روح الله ، فيستبد به الضيق والضنك ويستطيره إلى إياس مطلق عن رحمة الله ، فيؤمر حينئذ تعجيزا (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) مسافة بينه وبينها كيدا لإيجاب النصرة له ، فيزول بذلك غيظه (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) به ومنه من عدم النصر؟!

وليعرف هؤلاء الأغفال ان ليست النصرة الإلهية الا بيد الله ، وهو ناصر من نصره وتارك من تركه.

ثم المشركون الذين كانوا يظنون ان الله لا ينصر محمدا في الدنيا والآخرة في مسرح الجو المكي ، حيث كان في أضيق الضيق ، قياسا لغائب الآخرة إلى حاضر دنياه في مكة ، وسنادا إلى ان من آمن ابتلي ، إذا فهناك ضابطة لهم ـ هابطة ـ (أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي

٣٤

الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) كما (كانَ يَظُنُّ) تشير بمضيه البعيد إلى ذلك الظن البعيد البعيد ، ثم رأوه بعد الهجرة منصورا معززا ـ والسورة مدنية ـ اخذتهم الغيظة الخانقة لما لمسوا الواقع المدني خلاف ظنهم المحيل لنصرته ، فهنا الله يحملّهم كيدا لقطع تلك النصرة العظيمة كما هو دأبهم الدائب ، ومن قبل حاوله فرعون وأضرابه (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى).

(فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) فان رسول السماء منتصر من سماء الربوبية ، بجند من السماء ووحي من السماء ورزق من السماء (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) هذه النصرة عن الرسول ، ام (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) تلك المسافة إلى الملإ الأعلى ، ولكي يقطع هناك سبب النصرة الإلهية لرسول السماء (١).

«فلينظر» إذا (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) هذا المستحيل «ما يغيظ» من تلك النصرة الإلهية؟!

إذا ف (لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) تعم الرسول المظنون فيه ، والظان ، كلّا لحدّه ، ولفظ الآية تحتملهما ، والآيات السابقة عليها تلائمهما ، والقرآن حمال ذو وجوه فاحملوه إلى احسن الوجوه ، وهما من ذلك الأحسن ، استنباطا ـ دون أي تحميل ـ من نفس الآية بجوّها ، مهما كان خنقه من الصالح ضمن المعنيين ، فالقطع هنا قطع نفسه بخنقه (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٤٧ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال : من كان يظن ان لن ينصر الله نبيه ويكابد هذا الأمر ليقطعه عنه فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه فان أصله في السماء ثم ليقطع اي عن النبي الوحي الذي يأتيه من الله ان قدر.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٣٤٦ ـ اخرج بعدة طرق عن ابن عباس في الآية قال : من كان يظن ان لن ينصر الله محمدا في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب قال فليربط حبلا الى السماء قال : الى سماء بيته السقف ثم ليقطع قال : ثم يختنق به حتى يموت.

٣٥

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) ١٦.

«وكذلك» العظيم العظيم ، البعيد المدى ، العميق المعنى «أنزلناه» القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ) لمن يتبين ويتحرى عن الهدى ، دون المتجري عليها (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) الهدى ، فيريد الله له الهدى ، دون فوضى في ارادته الهدى ، فانها ارادة ربانية لمن يريد الهدى ، فلا تفيد ارادة الهدى للمهتدي ما لم تؤيد بارادة الله ، ولا يريد الله الهدى الا لمن يريدها.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ

٣٦

الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ١٧.

فرق ست متفارقين في العقيدة ، سادستهم (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) مما يلمح ان الخمس الاخرى غير مشركين تماما ، فقد ينجون إذا كانوا صالحين أيا كانوا من الخمس ، وكما تسانده : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٦٢) ومثلها (٥ : ٦٨) حيث حلقت الأجر على المؤمنين منهم وسواهم ، إذا فليسوا هم من المشركين.

وهنا (اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) لأن فيهم مشركين (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) فصلا

٣٧

في الجزاء كفصلهم في عقائدهم. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) لا يعزب عن علمه شيء فانه عليم بذات الصدور.

ف (الَّذِينَ آمَنُوا) هم المؤمنون بهذه الرسالة الجديدة المسمون بالمسلمين ، (وَالَّذِينَ هادُوا) هم اتباع التوراة «والنصارى» اتباع الإنجيل ، فامّا «الصابئين والمجوس» فما الصابئون ـ خلاف ما قيل ـ من عبده الكواكب إذ قوبلوا كما المجوس ب (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) فليسوا هم ـ لأقل تقدير ـ ممن محض الشرك محضا مهما انحرفوا عن حق التوحيد كفريق من اليهود والنصارى وفريق من المسلمين ، فعلّهم قوم بين اهل الكتابين كما تلمح له توسطهم بينهما في الذكر ، صبأوا من الدين الكتابي إلى شيء من غير الكتابي مع الحفاظ على عقيدة التوحيد كما ذكرناهم في آية البقرة.

والمجوس هم الزرادشت وكتابهم المقدس «اوستا» وهم يقدسون النار دون ان يعبدوها كأصنام ، ومهما يذكر في كتابهم اهورا مزدا وأهرمن كمبدئين للخير والشر ولكنهم ينهون كل شيء الى اهورا موجد الكل ، إذا فليسوا من الوثنيين الممحّضين الشرك ، وكما يلمح له مقابلتهم كالصابئين بالذين أشركوا.

والذين أشركوا هم الذين محضوا الشرك محضا ، تاركين عبادة الله إلى عبادة الأصنام والأوثان.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ١٨.

«ا لم تر» خطاب لكل راء مهما اختلفت درجات الرؤية باختلافهم فيها ، والمرئي لهم كلهم ، بامعان النظر ولمعان الفكر (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ) لا سواه ، فهو مسجود الكل على الإطلاق في ذوات اكوانهم ، خاضعين غايته

٣٨

ونهايته أمام مشيئته دون امكانية التخلف ولا قيد شعرة ، من عقلاء ك (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) عامة ، أم سواهم من جماد ك (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ) ام نبات ك «الشجر» وهو كل ما يتشجر من قائم على سوقه وغير قائم ، ام حيوان : «والدواب».

فهذه سجدة كونية ذاتية للكائنات كلها ، مهما كانت ساجدة باختيار ف (إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) وأفضل التسبيح عمليا هو السجدة ، فهي إذا تعم الكل.

ذلك الكل ، واما الناس ، (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) فلهم سجدة باختيار اضافة الى كونية بشعور وسواه في أجزائهم الكونية (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ولكنهم لا يسجدون باختيار ، بل الاوليان : كونيا أمام مشيئة الله ، وتسبيحا لأجزاء ذواتهم كسائر ذوات الكائنات ، فهم (كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) بتركهم السجدة باختيار.

ففي مثلث السجدة نجد (كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) يترك الزاوية المختارة ، ولا تنفصم به الضابطة التي تعم الكائنات كلها ، فالكون ـ إذا ـ محراب واسع يسجد فيه الكائنات لربها طوعا او كرها : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ) (١٣ : ١٥) أفليس يجدر بالإنسان وهو أفضل الكائنات كونا وكيانا ان يجاوبهما في ذلك السجود العام طوعا كسجدته كرها ، واية مهانة أرذل وأذل ان يترك هذا الإنسان السجود المختار لربه فيهينه الله كما أهان هو نفسه : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) دون الله (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).

فهذه الآية توبيخة قارعة على تاركي السجود لله لو انهم انتبهوا عن غفوتهم ، ومن الراجح جدا او الواجب ان تسجد عند قراءتها او استماعها ، وكما مضت أحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

٣٩

حين سئل : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضّلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال : نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرءهما» (١).

ثم الارادة و «المشية من صفات الأفعال فمن زعم ان الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد» (٢) حيث الأفعال على اية حال حادثة كسائر الحادثات ، ثم وليست مشيئة الله تابعة لمشيئة خلقه أيا كانوا (٣).

وقد يتساءل ان كثيرا من الناس لما يعرفوا معنى سجود الكائنات فضلا عن واقعه ، فكيف يتساءلون «ألم تر» كأنهم يرون سجودها رأي العين ام رأى العلم؟

والجواب ان النظرة المجردة الفاحصة عن حالة الكائنات ككل تجاه ارادة الله ، يريهم كلهم انها خاضعة لارادة واحدة ، فلو كانت هنالك كثرة لفسدت بمختلف الإرادات ، فتلك الوحدة الكونية بنضدها ونسجها بمسير

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٤٢ وفي نقل آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلت على القرآن بسجدتين ، وفي ثالث عن علي وأبي الدرداء انهما سجدا في الحج سجدتين.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤٧٦ عن التوحيد للصدوق وباسناده إلى سليمان بن جعفر الجعفي قال قال الرضا (عليه السلام) : ...

(٣) المصدر عن التوحيد باسناده إلى عبد الله بن ميمون القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام) قال : قيل لعلي (عليه السلام) ان رجلا يتكلم في المشية فقال : ادعه لي قال فدعاه فقال له : يا عبد الله خلقك الله لما شاء او لما شئت؟ قال : لما شاء ، قال : فيمرضك إذا شاء او إذا شئت؟ قال : إذا شاء ، قال : فيشفيك إذا شاء او إذا شئت قال : إذا شاء قال : فيدخلك حيث يشاء او حيث شئت قال : حيث شاء ، قال فقال له علي (عليه السلام) : لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك.

٤٠