الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) ٣٤.

منسك واحد في الجذور وآله واحد في كل العصور ، فأمة واحدة ذات رسالة واحدة مهما اختلفت القشور : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) (٢٢ : ٦٧).

والمنسك هو مصدر ميمي واسم زمان ومكان ، فهو نسك في زمان ومكان خاص ، وهو عبادة خاصة في زمانها ومكانها الخاص بها ، فهو هنا مناسك الحج كلها ، ومما يلمح له هنا (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ثم قرنه بعبادات أخرى : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (٢ : ١٩٦) ـ (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ...) (٦ : ١٦٣) ثم التماسه في موقف الحج كما في ابراهيم (وَأَرِنا مَناسِكَنا) (٢ : ١٢٨) ثم ذكره بعد سرد من مناسك الحج : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) (٢ : ٢٠١).

ولو كان المنسك هو العبادة ككل لكان صحيح التعبير عنه النسك دون المنسك ، فهو ـ إذا ـ مناسك الحج لا سواها.

وهذه الآية مما تدل على اممية المناسك عبر الرسالات والأمم منذ آدم إلى الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد وردت روايات في مناسكهم رسلا وامما.

وقد تمتاز المناسك الاسلامية بميّزات ، كما هي طبيعة الحال فيها قضية الخلود والكمال القمة المغنية ، ومنها (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) فانها مزيد على ما لكل امة (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ ..)! مهما كانت لهم منافع اخرى فيها من

١٠١

واجهات اخرى ، ولكنها ليست لتبلغ مبلغ تلك المنافع الاخرى للشرعة الأخرى.

(فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وبيت عتيق واحد ، ودين واحد ، مهما اختلفت مناسك عن مناسك ، كما شرعة عن شرعة في مظاهر ، حيث الأصل صادر عن مصدر واحد ولغاية واحدة.

إذا (فَلَهُ أَسْلِمُوا) لا سواه ، من عادات مهما كانت لشرعة سابقة ، فالإسلام له ، يجعل من الأمم امة واحدة مسلمة لله ، دون تنازع في الأمر (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) وهو الدين الحق التي تشرعت منه وتصدرت منه الشرائع.

(فَلَهُ أَسْلِمُوا) حيث الإسلام لله يوحد المشاعر والشعائر وكل الاتجاهات فيهما وسواهما.

(وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) إلا خبات مفسّرة بالآية التالية وهي لغويا من الخبت : المتّسع المطمئن من الأرض ، والإفعال منه هو النزول إلى ذلك المتسع خروجا عن كل ترفع وارتفاع ، فالمخبت هو اللاصق بأرض العبودية اللازق بالخرور والخضوع والخشوع.

وهنا المعني منها الإخبات إلى ربهم ، في تلك الساحة المتسعة من العبودية بكل صورها ، في كل شرعة شرعة ، دون إخلاد إلى ارض واحدة وساحة خاصة من شرعة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (١١ : ٢٣).

فمهما كان أصلها الإخبات إلى الأرض ، ولكنه ليس إلا له تعالى ، فمن مخبت إلى الأرض للحياة الارضية (لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٧ : ١٧٦) (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ

١٠٢

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) (٢٢ : ٥٤) فبشر المخبتين (١) إلى ساحة متسعة من ارض العبودية «له» لا سواه :

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ٣٥.

فللإخبات إلى الرب وللرب قوائم اربع من مظاهر العبودية وسرائرها ، وفاقا بين السر والعلن دون نفاق :

١ (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) والوجل هو استشعار الخوف ، من نفسه لمعاصيه ومآسيه ، ومن الله رهبة وهيبة ، فهو أحض من الخوف ، ووجل القلب يحلّق على كل كيان الإنسان بمشاعره وشعائره ، بأقواله وأفعاله وأحواله.

٢ (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) في جنب الله ، فيحتسبون عند الله عنائهم ، دون ان يعييهم او يخفف عن وطأتهم في عبادته ، وتنمّرهم في ذاته.

٣ (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) اقامة لائقة بجنب الله ، فائقة كل قيام آخر وإقامة ، ولا فحسب هذه الثلاث من العلاقات الشخصية بالله ، بل وعلاقة جماهيرية خلقية كما امر الله:

٤ (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في سبيل الله ، من كل نفس ونفيس ممكن الإنفاق في الله ، ومن ذلك ما علّمهم الله حيث منه يبثّون.

__________________

(١) تعليقات احقاق الحق في آية المخبتين «علي منهم» نقله وصححه القرطبي في عداد من نزلت هذه الآية في حقهم (الجامع لأحكام القرآن ١٢ : ٥٩) وابن مردويه في المناقب قال : علي منهم وسلمان.

١٠٣

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٣٦ لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) ٣٧.

هنا «البدن» وهناك (بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ذكرا لاسم الله عليها واكلا وايكالا منها ، فهما ـ إذا ـ سيان ، في أنهما (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) وكما لحقت آية الشعائر الاولى الانعام وبهيمة الانعام أضحيات.

إذا فالأضاحي هناك كلها من شعائر الله ، فلنعرف واجهات هذه الشعيرة ما هيه؟

هذه الشعيرة وهي (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) بدنا وهي أفضله ، ام سواها كما استيسر ، إنها «هدي» من الحاج لله تقوى وإشارات ، ولعباد الله الفقراء وهم ضيوف الله، إطعاما.

فمن شعيرة الهدي اشعار المهدي بمدى تضحيته في الله ، انه لولا نهي الله لكان ينتحر فهو ـ إذا ـ نفسه أضحية تقديما لله ، ولكنه ـ لمنعه ـ يقدم بديلا عن نفسه (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) اشعارا بذلك الشعار انني يا رب حضّرت حالي فداء لك ، وذلك الهدي كما استيسر اشارة مني ظاهرة إلى تلك الحالة الباهرة غير الظاهرة ، ولكي يعلم العالمون انني تخطيت النفس والنفيس ، فانا رهن الإشارة من ربي ، متى أمرني ان أكون من الضحايا في سبيله!.

وهذه الشعيرة البارعة ماخوذة مما فعله ابراهيم بديلا عن اسماعيله المأمور بذبحه امتحانا ، وقد كان عنده أنفس من نفسه ومن كل نفيسه ، فقد أمر في المنحر أن يذبحه إبرازا لمدى تسليمه لربه : (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى

١٠٤

(فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى. قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ، فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ... وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (٣٧ : ١٠٧).

فذلك الهدي المتواتر منذ ابراهيم وإلى يوم الدين ، انه ذبح عظيم ، إعلانا جاهرا واشعارا باهرا من الحاج ، أنني اذبح كما ذبح ابراهيم ، بديلا عما امر بذبحه ، فهذه شعيرة عظيمة في الهدي على مر الزمن ومنعطفات التاريخ ، منذ خليل الله إلى حبيب الله وإلى يوم لقاء الله.

ذلك «ذبح عظيم» ما أعظمه ، ابتداء من هذه الشعيرة العظيمة ، إذاعة للحجاج في مذياع الحج اننا وصلنا في مدرسة الشعائر المناسك إلى حد التضحية لأنفسنا في الله.

ثم حشرا لمسرح ومعرض الدم ، سيول الدماء تسيل بأمر الله وفي سبيل الله واطعام اهل الله ، ولكي تتعود العيون ان ترى لون الدم ، والأيدي والأرجل ان تنغمس في سيل الدم ، ولكي لا يهابوا ويخافوا الدم ، حيث تجب اراقتها في سبيل الله ، في خطوط النار ومسارح الحرب حفاظا على حرمات الله ، قاتلين اعداء الله او مقتولين في سبيل الله.

وهذه اشعارة ثانية في هذه الشعيرة ، أنّنا امة الدم ، فلا نخافه حين يطبّق امر الله ، حفاظا على شرعة الله.

ومن ثم اشعارة ثالثة هي القاعدة الظاهرة لذلك المثلث في آيات الهدى ، وهي : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ـ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) أكلا وإيكالا من هذه الهدية العظيمة ، إشباعا لبطون الجياع ، الوافدين إلى البيت العتيق ، حيث هم ضيوف الله ، ف «لن ينال الله لحومها ولا دماءها ولكن يناله التقوى منكم»!

١٠٥

فإطعام البائس الفقير ، والقانع والمعتر ، في ذلك المسرح العظيم ، هو القاعدة المتينة والضابطة الركينة ، المصرّح بها في آياتها ، لا فقط : الزاوية الاولى والثانية ، اللتان لا يعرفهما الا اهلوهما ، ولو كانت فيهما الكفاية فليختص الهدي بقلة قليلة يعرفونهما ، ام لتجب معرفتهما لكل مهدي يقدم أضحيته لكي لا تذهب هباء منثورا!.

هنا (التَّقْوى مِنْكُمْ) ـ في هذه الزوايا الثلاث ـ تنال الله ، وان كانت أخيرتها وهي القاعدة الظاهرة إطعاما لعباد الله ، ثم (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) خلاف ما كان يزعمها المشركون :

«فقد كان اهل الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدم وجه الكعبة وشرحوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يحل لنا ان نأكل شيئا جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير فلما جاء الإسلام جاء الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا : شيئا كنا نصفحه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فانما هو لله (١).

فالآن ـ وقد ابتلي المسلمون بمثل هذه الفعلة المنكرة ، والتبذير الموحش الوحشي ، بل واجتازوا فعلة المشركين ، حيث المذبح أصبح نتنا وعفنا لحد لا يقر به حتى السباع لتأكل من اللحوم ـ فمن هو المسؤول هنا إلا الفقهاء ، حيث ظلوا يفتون بوجوب الذبح في محشر منى ، دون ان يفكروا في علاج لهذه المشكلة العويصة من تبذير منقطع النظير في تاريخ الوحش والإنسان ، إحراقا او دفنا بالجرّافات والبولدوذرات لآلافات

__________________

(١) آيات الأحكام للجصاص ٣ : ٢٩٠ روى يونس بن بكير عن أبي بكر الهذلي قال : ...

١٠٦

الأطنان من هذه اللحوم الركام كالاتلال في ساحة منى ، مما يضحك الأعداء ، ويبكي او يشكك الأصدقاء.

فحين يحذّر القرآن عن السرف والتبذير و (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ! وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (٧ : ٢٧) فهل من الممكن ان نؤمر في مؤتمر الحج وشعائره أمام العالمين ، ان نبذّر ذلك التبذير المنقطع النظير في تاريخ التبذير ، وأما منافي العالم الاسلامي بطون غرثى وجياع بالملايين الملايين لا عهد لها بالشبع ولا طمع لها في القرص؟!

وقد حصر القرآن مناسك الحج وشعائره في (مَنافِعَ لَهُمْ) ومنها لحوم الاضاحي ، فحصرت آياتها منافعها الظاهرة لكل العالمين في إشباع الفقراء والمساكين ، وكما يروى عن الرسول الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) «انما جعل الله هذا الأضحى لتشبع مساكينكم من اللحم فأطعموهم» (١) لا ليشبع أعداءنا أغنياء وفقراء من الضحك علينا في ذلك التبذير العامد ، او تشبع ديدان منى او سباعها من أكلها ، والسباع متنفّرة منها ، حيث لا تدنوا منها!.

هنا الآيات من نواحي شتى ، والروايات من أخرى ، تفرض علينا ان نطعم الفقراء الجياع من لحوم الأضاحي ، وإليكم درسا فصلا هنا وهناك ليشبع دعوانا من أدلتها كتابا وسنة ، اضافة إلى ادلة اخرى يعرفها كل ذي حجى :

«والبدن» جمع بدنة وهي الإبل البدين الثمين ـ كسائر الانعام ـ (جَعَلْناها لَكُمْ) : الحجاج (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) شعائر حكيمة معقولة تعريفا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ١٤٧ ح ٢٢ من لا يحضره الفقيه قال قال (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

١٠٧

بمدى كمال الإسلام ونبوغه وعظم المسلم وبلوغه ـ

فهل ان ذلك التبذير الحاضر في تلك الساحة الفسيحة من منى ، ذلك من شعائر الله ، ام من شعائر الجاهلية الجهلاء وأضل منها وأنكى؟!

(لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) حية وأضحية ، وهل ان من خيرها اضحية ان تبذر وتهدر هكذا أمام عالم من البطون الجائعة الغرثى التي لا عهد لها بلحوم وسواها؟ كلا! وان ذلك شرّ ما أنحسه وأتعسه ، ف «لكم فيها شر» حيث تقدمونها للديدان والمحرقات والجرافات ، وتعفّنون بها جوّ منى ، جاعلين ساحة البيتوتة الذكر ، والمشاورة بين الجموع ، ساحة محرجة مهرجة ، كلّ يعد الساعات والدقائق للفرار!

(فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) حال كونها «صوافّ» مصطفة للنحر ـ او الذبح ـ (فَإِذا وَجَبَتْ) وسقطت «جنوبها» وظلت ميتة صالحة للأكل منها (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

اجل «كذلك» المذكور المأمور به المشكور ، ان تختاروا خيرها ، وتذكروا اسم الله عليها وتأكلوا منها وتطعموا .. لا أن تختاروا شرها النّكر ، فتذكروا سوى اسم الله عليها كما المشركون ، ام لا تذكروا عليها اسما كما الملحدون فتصبح ميتة لا توكل ولا تطعم.

او ان تذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها تذروها في محالها وتهدّروها فتعفّنوا الأجواء بها ، او تحرقوها ام تدفنوها!.

كذلك المعقول المشكور (سَخَّرْناها لَكُمْ) لا هكذا اللامعقول المكفور (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على ما رزقكم من بهيمة الانعام «لا» «لعلكم تكفرون» بنعمته ، إزهاقا لأرواحها ، وإفناء جنونيا وحشيا للحومها ،

١٠٨

فتكفرون أنتم كفرا او كفرانا ، ثم يكفر العالمون الناظرون إلى ذلك المسرح اللعين ، كفرا بشرعتكم ، زعما انها هي التي تأمركم او تسمح لكم بهكذا تبذير وحشي لا يعرفه الوحوش في الغابات والفلوات!

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) كما كان يزعمه المشركون ، ملطخين البيت بدمائها ، مهدّرين لحومها للسباع لأنها قدّمت لله فلا توكل! ـ.

(وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) اتقاء عن ان تذكروا اسم غير الله عليها ، ام تبخلوا عن هديها ، ام تهدروا لحومها ـ «كذلك» الذي ذكرناه (سَخَّرَها لَكُمْ) ذبحا شرعيا واكلا وايكالا للجياع ، على تقوى من الله في هذه الساحة الدامية ، دون طغوى منكم بتبذير وحشي موحش ، بحرمان أهليها الفقراء.

كذلك (سَخَّرَها لَكُمْ) ربكم (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) تكبيرا بتقواكم ، وتكبيرا باطعام الفقراء من عباده ، لا تصغيرا لله بتلك الطغوى والتهدير والتبذير (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) في هديهم ، حيث يراعون فيه تقوى الله ، دون المسيئين في هديهم تلك الإساءة المخزية المزرية.

ذلك ، وقد عدت بهيمة الانعام الاضاحي من منافع الحج الجماعية العالمية للمسلمين (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ ... لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ).

فحين تجمل (مَنافِعَ لَهُمْ) تلك المنافع الهامة المنقطعة النظير ، ثم يفرد منها بالذكر (ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أكلا وإطعاما ، اعتبارا انها من أهم المنافع مادية ومعنوية ، فهل ان ذلك التهدّر في لحومها من (مَنافِعَ لَهُمْ) الشاخصية؟ فما هي (مَنافِعَ لَهُمْ) في ذلك التبذير المنقطع النظير اقتصاديا ، وما هي في ذلك الإعلان الجاهر بسماح ام فرض واجب على

١٠٩

ملاء العالمين ، أن ذلك التهدير الكبير هو من احكام الإسلام ، الذي لا يسمح باي إسراف او تبذير حتى في نواة تمر!.

وهل عليهم ان «يذكروا (اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ) هكذا ، ان يقدموا الأثمن الأسمن منها للحرق والتدفين والتعفين ، بديلا عن ان يأكلوا منها ويطعموا البائس الفقير والقانع والمعتر؟!

او هكذا (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) سماحا أمميا لذلك التبذير النكير؟

ويكأن دين الله بشرائعه هو دين الإسراف والتبذير ، فعلى المتشرعين بكل شرعة ان يدرسوا في مدرسة منى كيف لهم او عليهم ان يبذروا رزق الله وبأمر الله؟!

أفهكذا دعى ابراهيم الخليل (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣ : ١٢٦)؟ ففي الحق انها دعوة عليهم لا لهم ، ان يرزقوا من ثمرات الأنعام ثم يؤمروا بذبحها مهدّرين لها؟!

أو هكذا يكون الهدي والقلائد مع البيت الحرام والشهر الحرام (قِياماً لِلنَّاسِ) حيث :

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٥ : ٩٧).

فهل ان في ذلك التهديد الهدير الشرير النكير قيام للناس ، قياما روحيا ام سياسيا واقتصاديا ، ام إنه قيام للنسناس الذين يعارضون شريعة الناس.

انه قيام رمزا للتضحية في سبيل الله ، وشهودا لسيول الدماء المهراقة

١١٠

في الله ، واطعاما لعباد الله ، ولكنا بدلنا قيامه سقوطا وإسقاطا لهذه الشعيرة الغالية عن أعين الناس ، واثباتا لوحشية منقطعة النظير في شرعة الناس أمام النسناس.

أو هكذا يكون ذلك البيت العتيق بمناسكه (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ .. وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (٣ : ١٦) فحتى الحشرات حيث لا تؤذى ، وأما بهيمة الانعام فتؤذي هكذا دونما نفع إلا ضرا راجعا إلى أصل الإسلام والإسلام الأصل.

وما هي هذه البركة والهداية للعالمين ، وتلك الساحة الدامية المدمية في منى دركة وضلال للعالمين؟!

أم هكذا يكون البيت مثابة للناس وأمنا : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) (٢ : ١٢٥) أمثابة في مثل ذلك التهدير التبذير ، ولكي يدرس المسلمون كيف عليهم ان يبذروا أرزاقهم أمام الملايين من الجياع ، وكما يفعله الاستعمار الكافر ، فقد نرى السلطة الامريكية كيف تلقي ملايين الاطنان من الحنطة والشعير في البحر ، لكي يبقى الجياع جياعا ، وان وراءه سياسة ابليسية؟.

فما هي سياستنا الإسلامية السامية في ذلك الإسراف العجيب والتبذير الرهيب؟!

تلك الاضاحي المهداة والأتلال من اللحوم الزكية ، هي ـ فقط ـ للبائس الفقير والقانع والمعتر ، وما الأمر بالأكل منها للمهدين إلا ادبيا تأديبيا ليصطفّوا هناك في صفوف الفقراء دون تميّز عنهم ، ومحقا للسنة الجاهلية حيث كانت تحرّم الاكل منها وإيكالها ، وقد يكفي هذا وذاك رفعا للحظر عن الاكل منها لأنها ـ فقط ـ للفقراء ، وهم الركن الركين والمتن المتين في هذه

١١١

الساحة الدموية دون سواهم ، اللهم الا على هوامشهم ، والتقسيم كما كما يأتي ثنائي بين المهدين والفقراء ، وليس ثلاثيا ثالثه الأصدقاء غير الفقراء.

لذلك يحصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الأضحى في المساكين قائلا : «انما جعل الله هذا الأضحى لتشبع مساكينهم من اللحم من اللحم فأطعموهم»(١).

ويخطب علي (عليه السلام) في الأضحى قائلا : «وإذا ضحيتم فكلوا وأطعموا واهدوا واحمدوا الله على ما رزقكم من بهيمة الأنعام» (٢).

ولقد كان من رعاية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حقوق الفقراء فيها لحد «نهى (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يعطى الجزار من جلود الهدي وجلالها شيئا» (٣). ويقول حفيده الكاظم (عليه السلام) «لا يصلح ان يجعلها جرابا الا ان يتصدق بثمنها»(٤).

وفي متظافر الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ١٤٧ ح ٢٢ من لا يحضره الفقيه قال قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ....

(٢) المصدر ح ٢٣.

(٣) المصدر ١٥١ : ١ بسند متصل عن حفص البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ...) ومعاوية بن عمار عنه (عليه السلام) وصحيح البخاري ٢ : ٢١٢ وصحيح مسلم ٣ : ٥٩٤ قال : نحر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدنة ولم يعط الجزارين من جلودها ولا قلائدها ولا جلالها ولكن تصدق به ولا تعط السلاخ منها شيئا ولكن أعطه من غير ذلك.

(٤) المصدر الصدوق عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال : سألته عن جلود الاضاحي هل يصلح لمن ضحى بها ان يجعلها جرابا؟ قال : ...

١١٢

اهل بيته (عليهم السلام) انه لا يجوز للمهدي ان يدّخر من لحوم الاضاحي شيئا ، وانما قدر يومه.

ذلك فكيف يجوز هضم حقوق الفقراء كما نفعله نحن في منى ، هدرا ساحقا للحوم ، وحيلة شرعية! إعطاء لثلث الثمن اللاشيء ـ في تقدير ذلك المسرح الذي لا قيمة فيه للحوم ـ للفقراء ، واي فقير يرضى ان يعطي من خمسمائة ريال عشرة؟!

وقد نتساءل فكيف ـ والحال هذه ـ يأمرنا الله تعالى بما استيسر من الهدى ، وقد نحر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحيانا ستا وستين بدنة ، مزيدا في الفضل ، وتطبيقا لما استيسر من الهدى؟

ولكن يأمرنا هكذا لنأكل منها ونطعم البائس الفقير والقانع والمعتر ، واما إذ لا فقير هناك ، وإذا كان فاللحوم هي ملايين اضعاف نصيب الفقراء الحضور ، إذا فلا هدي إلا على قدرهم ، أتراك حين تؤمر بإحضار طعام لتأكل ويأكل معك الف من الجياع ، فهل تحضّره على نفس القدر حين لا تقدر ان تأكل ، ولا ان هناك الف ولا مائة ولا عشرة من الفقراء؟.

بطبيعة الحال ليس القصد من إحضار طعام إلّا ليطعم قدر الطاعمين ، لا ليهدر حين لا يؤكل ام يؤكل منه جزء قليل ، ثم البقية في تسعة وتسعين بالمائة تهدر؟!.

ولقد نحر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع ذلك العدد الهائل لكثرة الفقراء ، حيث كانت الاكثرية ممن حج معه مشاة وفقراء ، فقد كان هديه قدر الحاجة والمكنة.

ورعاية لحقوق الفقراء الحضور في منى ، كان إخراج اللحوم منه ممنوعا

١١٣

بعد ثلاثة ايام ، ثم سمح فيه لقلة الفقراء فيها ، فقد «كنا ننهى عن إخراج لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام لقلة اللحم وكثرة الناس ، فأما اليوم فقد كثر اللحم وقل الناس فلا بأس بإخراجه» (١).

وهكذا ترون أن الأمر والنهي حول اللحوم دائر مدار الحاجة حيثما دارت ، دونما هدر أعمى بتضحية جزاف فوضى دون رعاية لحقوق الفقراء!

وهنا نتساءل : فما ذا علينا في ظروفنا الحالية واللحوم مئات اضعاف الفقراء الحضور في منى؟

هنا طرق شرعية نتطرقها حفاظا على أمر الاضحية وحقوق الفقراء فيها :

أولا : تأسيس معامل لتعليب اللحوم الزائدة عن حاجة الفقراء الحضور والذين يمكن إيصالها إليهم حالا ، ام بعد زمن ، حفاظا لها في البرّادات على مدى الحاجات ، فتبعث هذه المعلّبات إلى أكناف العالم الاسلامي الأقرب إلى الحرم فالأقرب ، والأحوج إليها فالأحوج ، رعاية لكامل حقوق الفقراء فيها ، توزيعا بينهم دون ثمن إلا قدر تكاليف التعليب والتوزيع.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٤٩ ح ٦ قال الصدوق وقال ابو عبد الله (عليه السلام) وفيه ح (٤) * عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى ان تحبس لحوم الاضاحي فوق ثلاثة ايام من اجل الحاجة فاما اليوم فلا بأس به و (٥) عن جميل بن دراج قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن حبس لحوم الاضاحي فوق ثلاثة ايام بمنى؟ قال : لا بأس بذلك اليوم ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انما نهى عن ذلك أولا لان الناس كانوا يومئذ مجهودين فاما اليوم فلا بأس.

١١٤

ثانيا : ـ والحال عدم وجود هذه المعامل ـ ان يذبح قدر الحاجة يوم النحر ، ثم يذبح قدر الحاجات في البقية الباقية من ذي الحجة الحرام ، كما يمكن إيصالها إلى الفقراء ، حفاظا عليها في البرّادات حسب الإمكانيات ، ومن ثم توزيعا بين فقراء الحرم وما والاه من مملكة الحج وسواها ، ثم القدر الزائد من كل ذلك لا يذبح وانما تدفع أثمانها حسب السعر الحالي للفقراء في منى وسائر الحرم وسواه ، تقديما للأقرب فالأقرب ، وهذا هو «ما (اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) حيث لا يمكن في صورة الذبح ، انتقالا الى أثمانها العادلة.

وان ثمن الهدي كله للفقراء ، دون استثناء لما تأكلون حين تذبحون حيث السماح مختص بخصوص اللحم دون الثمن ، وإذا اختلفت الأثمان حسب تصاعد السوق وتنازله فالقسم العادل بين الأثمان هو العدل المستحق للفقراء ، ف «انظروا إلى الثمن الاول والثاني والثالث ثم تصدقوا بمثل ثلثه» (١).

هذا ـ وبأحرى من فقدان الاضحية فقدان من يأكلها من الفقراء ام عدم إمكان إيصالها إليهم فليتصدق عليهم أثمانها العادلة المعتدلة.

فما أمكن إيصال لحومها إلى الفقراء فالذبح يوم النحر ، وإلا فالي ايام أخر حتى آخر ذي حجة الحرام ، ومن ثم تنتقل الاضاحي إلى أثمانها ،

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٧٢ ح ١ محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال : كنا بمكة فأصابنا غلا في الاضاحي فاشترينا بدينار ثم بدينارين ثم بلغت سبعة ثم لم توجد بقليل ولا كثير فرفع هشام المكاري رقعة إلى أبي الحسن (عليه السلام) فأخبره بما اشترينا ثم لم نجد بقليل ولا كثير فوقع : انظروا ... ورواه الصدوق باسناده عن عبد الله بن عمر والشيخ باسناده المتصل الصحيح ايضا عنه.

١١٥

رعاية في كل المراحل الثلاث كامل حقوق الفقراء ، دون ان ينتقص منها شيء ولا نقير ، الا ما يشارك في أكلها مع الفقير ، لحما دون بديله الثمن ، وكل ذلك تشمله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وللتفصيل يراجع آيتها.

وقد نتساءل كيف نخرج من الإحرام دون ذبح بتلك الأعذار؟ والجواب بصورة عامة ان الضرورات تبيح المحظورات ، وخصوص النصوص فيمن لم يجد الاضحية بدفع ثمنها ، ام توديعه عند من يذبحها بعد ذلك ام في سنة قادمة (١) فهل يبقى الحاج محرما حتى السنة المقبلة حيث تذبح عنه ، وليس من الممكن في ظروفنا الحالية الذبح الصالح في عشرات من السنين المستقبلة.

ذلك ، وهل هنا لك عذر عن الذبح اكثر من هدره هضما لحقوق الفقراء العزّل المظلومين؟!

ولان التقسيم عند الذبح ثنائي حسب النص (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ـ الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) فلا نصيب إذا لغير الفقراء جيرانا وأصحابا ، لا سيما وان أصحابك من غير الفقراء لهم أن يأكلوا من أضحياتهم ، فالتقسيم الثلاثي ، ولا سيما الأثلاث المتساوية ، يجعل نصيب الأغنياء ثلثي نصيب الفقراء ، وهذا منكر من القول وزور من الفتوى ، المخالفة لنص الكتاب والسنة (٢) وقضية الحال في الهدي وطبيعتها انه ـ فقط ـ للفقراء.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ١٥٣ باب أفرد لذلك فيه اربعة أحاديث ومنها صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) في متمتع يجد الثمن ولا يجد الغنم؟ قال : يخلف الثمن عند بعض اهل مكة ويأمر من يشتري له ويذبح عنه وهو يجزي عنه فان مضى ذو الحجة أخر ذلك إلى قابل من ذي الحجة.

(٢) المصدر ١٠ : ١٤٢ صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إذا ذبحت او نحرت فكل واطعم كما قال الله : فكلوا منها وأطعموا القانع ـ

١١٦

ولم يسمح للأغنياء الا مشاركتهم في اكلة اليوم مواساة معهم ونقضا لسنة جاهلية قاحلة ، ثم وفي الأثلاث حيث يحسب القانع والمعتر اثنين ، لا يعني ثلثك واقع الثلث المحدد ، وانما قسم من الثلاثة يكفيك ام ولأهلك يومك ، وكما فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أتراه اختص بنفسه واهليه اثنين وعشرين من هديه الستة والستين ، ثم البقية لسائر الفقراء والمساكين (١)؟

والرواية القائلة بالاثلاث ، وان منه صديقك ام جارك (٢) مؤولة بالصديق او الجار الفقير ، ام مطروحة بخلاف نص القرآن. كما والقائلة بهدية ثلث قد تعنيها لغير البائس الفقير ، من قانع او معترّ (٣).

__________________

ـ والمعتر ، فقال : القانع الذي يقنع بما أعطيته والمعتر الذي يعتريك والسائل الذي يسألك في يديه والبائس الفقير ، ومثلها صحيحة سيف بن تمار قال ابو عبد الله (عليه السلام) ان سعيد بن عبد الملك قدم حاجا فلقي أبي فقال اني سقت هديا فكيف اصنع؟ فقال له أبي اطعم أهلك ثلثا واطعم القانع والمعتر ثلثا واطعم المساكين ثلثا فقلت المساكين هم السؤال؟ فقال : نعم وقال : القانع الذي يقنع بما أرسلت اليه من البضعة فما فوقها والمعتر ينبغي له اكثر من ذلك هو اغنى من القانع يعتريك فلا يسألك.

(١) الوسائل ١٠ : ١٤٢ ح ٢ عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) انها قالا ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امر ان يؤخذ من كل بدنة بضعة فامر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فطبخت فأكل هو وعلي وحسوا من المرق ...

(٢) المصدر ١٠ : ١٤٥ صحيحة أبي الصباح الكناني قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لحوم الاضاحي فقال : كان علي بن الحسين وابو جعفر يتصدقان بثلث على جيرانهم وثلث على السؤال وثلث يمسكانه لأهل البيت.

(٣) المصدر عن شعيب العقرقوفي قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) سقت في العمرة بدنة فأين أنحرها؟ قال : بمكة ، قلت اي شيء اعطي منها؟ قال : كل ثلثا واهد ثلثا وتصدق بثلث.

١١٧

ونص القرآن لا يسمح بالأكل منها الا في الهدي ، واما الكفارة فهي ـ فقط ـ للفقراء حسب الضابطة العامة وكما في روايات مستفيضة (١).

فمن المضحك المبكي جدا دمج كفارات الإحرام ـ التي هي من خالص حقوق الفقراء ـ في هدي الأضحى هدرا في هدر ، رغم التوسعة القطعية في مكانها وزمانها (٢).

ولان السلطة تمنع عن الذبح في منى بعد الأيام الثلاثة ، وان مكة ـ بل والحرم كله ـ منحر ، يجوز الذبح في مكة وفي أي الحرم شاء.

ومن الراجح او المتأكد جدا ان يشترك الحجاج ، كل جماعة منهم في هدي واحد جمعا في شعيرة الهدي ، قدر الحاجة في منى ، ثم ما تبقّى عليهم ، حكمه حكم المعذور كما قدمناه.

ثم «البائس الفقير والقانع والمعتر» هم شركاء ثلاث في هذه اللحوم قدر حاجياتهم ، وبعد ما تأكل منها قدر يومك ، فالبائس الفقير هو

__________________

(١) المصدر (١٤٣) صحيحة عبد الرحمن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن الهدي ما يأكل منه أشيء يهديه في المتعة او غير ذلك؟ قال : كل هدي من نقصان الحج فلا يأكل منه ، وكل هدي من تمام الحج فكل ، وفيه عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال : إذا أكل الرجل من الهدي تطوعا فلا شيء عليه وان كان واجبا فعليه قيمة ما أكل.

(٢) الوافي ج ٢ ص ١١٩ ب ٨٧ من أبواب الحج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال من وجب عليه هدي في إحرامه فله ان ينحره حيث شاء إلّا فداء الصيد فان الله عز وجل يقول : هديا بالغ الكعبة ، أقول وفي أحاديث عدة ان هدي الصيد إذا كان من العمرة فمكة وان كان من الحج ففي منى ، واما كفارة غير الصيد فحيث شاء. وفي صحيحة إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له الرجل يخرج من حجه شيئا يلزمه في دم يجزيه ان يذبحه إذا رجع الى اهله فقال نعم.

١١٨

أحوجهم ومن ثم القانع والمعتر ، ثم القانع هو «الذي يرضى بما أعطيته ولا يسخط ولا يكلح ولا يرتد شدقه غضبا ، والمعتر المار بك تطعمه» (١) و «لا ينبغي له اكثر من ذلك هو اغنى من القانع ، يعتريك فلا يسألك» (٢).

وعلى أية حال فليكن التقسيم لحما وثمنا عادلا حسب الحاجة وقدر الأقدار ، فالسائل بالكف يعطى اقل من غير السائل ك «للفقراء الذين لا يسألون الناس إلحافا يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف» فقد لا يسألون ، واخرى لا يجعلون أنفسهم معرض السؤال وهم اعفّ من أولاء.

فالبائس الفقير الذي لا يسأل ولا يعرض نفسه معرض الحاجة والسؤال ـ فهو اخفهم سؤالا وأكثرهم سؤلا ـ يعطى اكثر ممن هو في معرض السؤال كالمعتر ، أمن يسأل كالسائل بالكف ، مهما كانوا على سواء.

فيا جماهير المسلمين ، مقلّدين ومقلّدين ، الى كتاب الله وسنة رسول الله (ص) دون رعاية للشهرات وكل ما هو آت خلاف الكتاب والسنة ، تطبيقا للمنى الاسلامية السامية في منى ، رميا على شيطان التبذير والإسراف سبعا سبعا ، وتوزيعا لحقوق الفقراء بينهم دون تبذير ولا تهدير.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٩٩ صحيحة سيف التمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث التقسيم ....

(٢) مضت هذه الجملة عن صحيحة سيف التمار الاخرى.

١١٩

بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها

١٢٠